الاجتهاد عند علماء الأصول: فقد اختلفت عباراتهم ما بين معرِّف له بإدراكِ قواعده والتصديق بها، أو مُعرِّف له بملَكَةِ الاستحضارِ الحاصلةِ من مزاولته، وقد استفتح علمَاءُ الأصول تعريفاتِهم بألفاظِ (بذل الطاقة) وبذل المَجهُود، وبذل الوسع، واستفراغِ الوسع واستفراغ الوسع أو المجهود، ولا تخرج تعريفاتهم عمَّا جاء في لغة العرب(1)(2). الشيخ نصر فريد محمد واصل
موقع الاجتهاد: الاجتهاد في اللغة: من مادة: (ج. هـ .د) والاجتهاد والتجَاهُد بمعنى واحد، وهو بذلُ الوسعِ والمجهود. والجهْدُ بفتح الجيم وضمِّها: الطاقة، وقُرِئَ بها قوله تعالى: (لا يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ) (التوبة: 79)
والجَهْدُ بفتح الجيم: المشَقَّة، يُقال جَهدَ دابَّتَه وأجهَدَها إذا حمل عليها في السَّيْر فوق طاقتِها. وجَهَدَ الرجُل في كذا أي جدَّ فيه وبَالغ. وجُهِدَ الرجل بضمِّ الجيم وجرِّ الهاء على ما لم يُسَمَّ فاعله فهو مَجهُودٌ من المشقة، وجاهَدَ في سبيل الله مجاهدة وجهادا. [مختار الصحاح للرازي].
أمَّا تعريفُ الاجتهاد عند علماء الأصول: فقد اختلفت عباراتهم ما بين معرِّف له بإدراكِ قواعده والتصديق بها، أو مُعرِّف له بملَكَةِ الاستحضارِ الحاصلةِ من مزاولته، وقد استفتح علمَاءُ الأصول تعريفاتِهم بألفاظِ (بذل الطاقة) وبذل المَجهُود، وبذل الوسع، واستفراغِ الوسع واستفراغ الوسع أو المجهود، ولا تخرج تعريفاتهم عمَّا جاء في لغة العرب(1)(2).
أمَّا تعريفُ الاجتهادِ عند الفقهاء: كما جاء في تعريف حُجَّةِ الإسلام أبي حامد الغزاليِّ الفقيهِ الأصوليِّ المُتكلم: «هو بذلُ المُجتَهِدِ وسْعَهُ في طلبِ العِلْمِ بأحْكامِ الشَّرِيعَةِ»، وبذلك يكون الاجتهادُ بمفهومه العلميِّ الخاصِّ يكون مقتصرًا على بَيانِ الأحْكَامِ الشرعيَّة في المسائل الاجتهاديَّة من العلماء المجتهدين في الإسلامِ لبَيَانِ الأحْكَامِ الشرعية فيها بأدلتِها الشرعيَّة: أمَّا الاجتهادُ بمعناه العام اللغويّ فيشمَلُ بذل الوسْعِ والاجتهادِ من العلماء في كلِّ التخصُّصات العلميَّةِ البحثيَّةِ النظريَّةِ والعمليَّةِ.
والاجتهادُ في الأحكَامِ الشَّرعيَّة من المجتهدِ يشمَلُ الأحكَامَ العمليَّة، وهي الأحكامُ الفقهيَّة التي تشمَلُ الحَوَاسَّ الخمْسَ للإنسانِ وتدْرِكها بأيِّ منها، كما يشمَلُ الأحكامَ الاعتياديَّة قطعيَّةً كانت أو ظنِّية. ومنه يعلم أن طلب العلمِ بأحكامٍ غيرِ الشريعة لا يُعدُّ اجتهادًا شرعيًّا.
أنواع الاجتهاد:
الاجتهادُ عند علماءِ أصولِ الفقهِ من حيث الإطلاقِ والتقييد ينقسمُ إلى قسمين:
الأول: اجتهاد مُطلق. الثاني: اجتهاد مُقيَّد.
وهذا التقسيمُ بِناءً على التقيُّد بمذهبٍ معيَّن في الاجتهاد أو عدمِ التقيُّد، وبِناءً على ذلك يكونُ الاجتهادُ المُطلقُ هو: الذي لا يَلتزِمُ فيه المُجتهدُ في اجتهادِه لبيان حُكمٍ شرعيٍّ في أمرٍ من الأمور المتعَلِّقة بأفعَالِ العبَاد والبلاد بمنهج لغيره، وإنما يضَعُ منهجه ويتَّخِذ أصوله وطرق استنباطِه للحكمِ الشَّرْعي من دليله الشَّرعي مع بذل أقصَى جهده العلميّ الشرعيّ في الوصُولِ إلى هذا الحكم الشرعيّ، وغير مقصر في بَذلِ هذا الجهد في أيِّ جانبٍ من الجَوانبِ العلميَّةِ الشرعيَّة.
وهذا الاجتهَادُ المُطلَقُ يشمَلُ كلَّ مسَائِلِ أحْكَام الفقهِ الإسلاميّ: العبادات، والمعامَلات، والجنايَات، والأحوال الشخصيَّة، والقضاء، والحُكم، والسياسة، وكلّ ما يخضَعُ لأفعالِ العبادِ الحِسِّيَّةِ التي تتَجَدَّدُ مع تجدُّد الحياة والأحداثِ وتخضَع للاجتهاد حسب الزمان والمكان.
وكلُّ مُكلَّف مُسلِم عنده أدواتُ الاجتهادِ، وقَادِرٌ على الوصُول إليه لبَيَان الأحكامِ الشرعيَّةِ من أدِلَّتِها التفصِيليَّة، هو مُكلَفٌ شرعًا من حيث الأصل للوصُول إلى دَرَجَةِ هذا الاجتهاد المطلق. إذا كُلِّف مكلف مسلم مطالب بالنَّظرِ في الأحكَامِ الشرعيَّة والنظر والتبصر فيها؛ لمعرفة ما يتعلَّق بها وبغيرها من الأحكام الشرعيَّة سواء كانت للهِ وحَده، أم للعبَادِ وحدَهم عامَّة أم خاصَّة، أم كانت مشتَركة بين الله سبحانه وتعالى وبين العباد، وسواء كانت هذه الحقوق تتعَلَّقُ بالإنسان حال حياته أم بَعدَ مَوته.
وذلك لقوله تعالى: (وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ) (الذاريات: 21)
وقوله تعالى: (هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنْ اللَّهِ فَأَتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمْ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ) (الحشر: 2)
ولإقرَاره ﷺ بالاجتِهَاد لمُعَاذ بن جبل حين قال «أجْتَهِدُ رَأيي ولا آلو» [رواه الترمذي وأبو داوود]. فقد سأل النبي ﷺ معاذًا عندما بعثه إلى اليمن.
– بِمَ تَحْكم؟
– فقالَ مُعاذ: أحكُمُ بكتَابِ الله.
– فقال ﷺ: فإنْ لمْ تَجِد؟
– فقال معاذ: بسنَّة رَسولِ الله ﷺ.
– قالَ فإنْ لمْ تَجِد؟
– قال مُعاذ أجتَهد رأيي ولا آلو.
– فقال ﷺ: الحمدُ لله الذي وفَّقَ رسول رسول الله لما يُرْضِي الله ورَسوله.
ودليلُ هذا الاجتهادِ من العُمُوم لكل مُجتَهد تَتَوفَّر فيه هذا الاجتهاد قوله ﷺ: «من اجتهدَ فأصَابَ فله أجرَان ومن أجتهد فأخطَأَ فله أجر» ولذلك اجتَهَد صَحَابَةُ رسول الله ﷺ فُرادى، وتَبِعَ طريقَهم التابعُون من بعدِهِم ثم سَار تَابِعو التَّابعين ومنهم ظَهَر الأئِمَّة المُجتَهدون أصحابُ المَذَاهِبِ الفقهِيَّةِ المشْهورَةِ، والتي دوَّنَت أصولَها وفروعَها الفقهية ولها أتبَاعُها ومقلِّدُوها في العالمِ والدُّوَلِ الإسلامية، وهي مذاهبُ أهلِ السنَّة والجَمَاعة: الحنفيُّ، والشافعيُّ، والمالِكيُّ، والحنبليُّ، والظاهريُّ أتباع الإمام: أبي حنيفة، والإمام الشافعي، والإمام مالك والإمام أحمد بن حنبل والإمام ابن حزم رضي الله عنهم ومذاهبُ الشيعَةِ: الزيدية والجعفريَّة، والإماميَّة، والاثنى عشريَّة، والإبَاضِيَّةِ أتبَاع المذهبِ الإبَاضِيّ.
هذا: ولم يمنع هذا الاجتهاد الفرديُّ من الاجتهادِ الجَمَاعي إذ يُحسَب الاجتهاد على فَرديَّة المكلَّف من المسلمين وإنَّما هو مُوَجَّه إلى المسلمين مُجتمعين بحيث إذا تحقَّق هذا الاجتهادُ الجَمَاعيُّ يكونُ مُلزِمًا لجميع المسلمين ولا يَجُوزُ مخالفتُه وهو يُعدُّ بين الأدِلَّة الشرعيَّة في الأحكَام الشرعية بالإجمَاع الذي يَلي الكتابَ والسنَّة في أدلَّة الأحكام ويُعدُّ من المَصَادر الشرعية النصِّية لا القطعيَّة؛ لاعتمادِ الإجمَاع على نصُوص قطعيَّة الثبوت والدلالة لا العقل.
وصورة الاجتهاد الجماعي: أن يجتَمعَ فقهاءُ المُسلمين المُجتهدين جَمَيعًا فيتدارسوا ما يَستَجِدُّ من المسائِلِ التي تحتَاجُ إلى بَيَان حكم الشرْع فيها، ويدلي كلُّ مُجتهدٍ فيها بدليله الذي يؤيِّدُ رأيَه، فإن توافقت آراؤهم جميعًا واجتمعت على حُكم الله في المسألَة اجتهادًا كان ذلك توفيقًا من الله، وكان ذلك هو الحُكم الشرعيُّ في المَسْألة حسب مُراد اللهِ وحكمه، إذ لا تَجتمعُ أمَّة الإسلام في أمر ما على ضلالة، وذلك للحديث الصحيح «لا تجتمع أمَّتي على ضلالة» حيث يَتَحوَّل هذا الاجتهادُ إلى إجمَاعٍ يأخُذُ حُكمَ النصِّ الشرعيِّ قطعيِّ الثبوتِ والدلالة من حيث قوَّة الإلزَام في الحُكْمِ الشرعيِّ إفتاءً وقضاءً.
وذلك شَريطَة أن يَجتَمع كلُّ فقهاءِ المسلِمينَ الموْجُودين في عَصرِ هذا الاجتهاد، ولا يقتصر على بَعضهم دون بَعض، فإن اقتَصَر هذا الاجتهَادُ في عَصرٍ من العصور على بعض المجتهدين فقط -ولو كانوا هم الكثرَةُ أو الأغلبيَّة – فلا يُعَدُّ ما صَدَرَ عنهم من حُكم شرعيٍّ بِنَاءً على هذا الاجتهاد إجمَاعًا بل حكمٌ شرعيٌّ صحيحٌ بدليله، ويَجوزُ مخالفَتُه من مُجتهِدٍ آخر، ولكن لا يَجوز نقضُه لأن الاجتهادَ الشرعيَّ لا يُنقَضُ بمثله، ولأنَّ المُجتهد لا يَنقُضُ اجتهادَ مجتهِدٍ مثله؛ لأنَّ كلَّ مجتهدٍ مُصيبٌ بالحديثِ الصَّحيحِ، والاجتهادُ الذي لا يتحقَّقُ فيه إجماعُ جميع المُجتهدين من الفُقهاء المسلمين في عصر من العصور يُعدُّ اجتهادًا فرديًا، ومظاهِرُه العصرية: المجامعُ الفقهيَّة في الدول الإسلامية، حيث لم يتحقَّق لأحدٍ منها اجتماعُ جميع الفقهاء المجتَهدين للأمَّةِ الإسلاميةِ في الاجتماع والاجتهاد وإصدار الأحكام التي تخرج عنها، والاجتهادُ المُطلقُ سواء كان فرديًا أو جَمَاعيًا مفتوحٌ أمَام المُكلَّفين من المسلمين القائمين عليه في كلِّ عصر من العصور التاريخيَّة الإسلاميَّة.
أمَّا الاجتهاد المُقيَّدُ: فهو استفراغُ الوسع والجهدِ من المُجتهِد في الوصول إلى حُكمٍ شرعيٍّ من دَليلِه الشرعيِّ، مع تقييدِ المُجتهدِ في اجتهاده الشرعيِّ بمذهَبٍ مُعيَّنٍ وبقواعِدِه الأصوليَّة التي التزم بها إِمامُه مع تقيُّدِه بطرق استنباط الحُكم من دلِيله ووجه الاستدلال غير مُسْتَقِلٍّ بنفسه في استنباط هذه الأحْكَام بل مُقَيَّد بأصولٍ وقواعِدَ ارتضَاها إمَامُه في الاستنباط وفهم النصوص.
والمجتهد المقيد: إمَّا مُجتهد بالمذْهَب وإمَّا مُجتهِد في المذهب، وإمَّا مجتهد في الفتوى.
فالمجتهد في المذهب: هو من يختار أقوالَ إمَام بعينه في أصُوله الفقهيَّة لاستنبَاطِ الأحْكَامِ الشرْعيَّة من أدِلَّتِها، فينسب إليه الحكم المجتهد فيه لكونه سَلَكَ طريقَه في الاجتهاد وإن كانَ يخالفه في الفروع.
فابن القاسم وابن وهب من أتباع الإمام مالك، اكتملت فيهما شروطُ المُجتهِد المُطلق لكنهما يَلتزِمان بأصُول الإمام مالك، فيقدِّمان عَمَل أهلِ المدينةِ على خَبَر الواحد في الحديث مع مخالفتهما للإمامِ مالك في بعض الفروع الفقهية(3).
وأبو يوسف ومحمد بن الحسن صاحِبَا الإمام أبي حنيفة سَارَا على مذْهَب إمَامِهما لا على جِهَة التقليد له لكن اجتهادَهما في المذهَب حسب أصول الإمام فالتزَما بقطعيَّة دلالة العامِّ وتقديم القياسِ على خبَر الواحدِ إن كان الراوي للحديث صحابيًّا غيرَ فقيه؛ لأن هذا من أصول إمام المذهب، وإن خالفاه في بعضِ الفروعِ الفقهيَّة عند الاجتهاد واستنباط الأحكام الشرعية.
والمزني والربيع المرادي من أصحاب الإمام الشافعيِّ والمجتهدين في المَذهب بِنَاءً على أصُول وقواعِد إمَامهما في المذهب، ومع ذلك قد يُخَالِفَانِه في بعض الفروع الفقهيَّة.
وأما المُجتهد في المذهب: فهو الذي اتَّبَع الإمَام في الأصُول والفروع التي انتهى إليها بلا تَجَاوُزٍ مع أدِلَّته وقواعِدِه الفقهيَّة واتِّخَاذِ نُصُوص إمَامه هذا أصولا يستنبط منها ما يَفعله المُجتهِد المُستقِلُّ بنصُوص الشَّارع، وبذلك يكونُ عمَلُ هذا المُجتهِد في المذْهبِ تحقيقُ المَنَاط في الاجتهادِ، وذلك بتطبيق العِلل الفقهيَّة التي استخرجها إمَامُه واستنباط الأحكامِ الفقهيَّة التي لم يَنُصّ عليها إمامُه تطبيقًا لقواعِدِه الأصُوليَّة والفقهيَّة بشرطِ ألا يُخالِفَه فيما نصَّ عليه من أحكَام فيكونُ هذا المُجتهد في مَذهَبِ إمَامه مجتهدًا مُقيَّدًا، ولكن له ترجيح بعضِ الأقوَال في مَذْهبه على البعض الآخر، وقد يسْتقلُّ صاحبُ هذا الاجتهاد الخاصِّ في مَسألةٍ خَاصَّةٍ أو في بابٍ خَاصٍّ فيُفتي فيما لم يَجده من أحكام الواقِع منصوصًا عليه لإمامه بما يُخرجه على مذهبه(4).
أمَّا المجتهد في الفتوى: فهو الذي تفقَّه في مذهَب إمامِه، بأن عَرفَ الأدلَّة، وقام بتقريرها وتبصُّره مذهب إمَامه: يُصوِّر، ويُحرِّر، ويَجتَهِد، ويُقرِّر، ويُرجِّح، لكنَّه قصُرَ عن دَرجَة سابقيه، إمَّا لكونِه لم يبلغ في حِفظِ المذهب مَبْلَغَهم، وإمَّا لكونِه لم يرْتَقِ في التَّخريج والاستنباطِ، وإمَّا لكونه غير متبَحِّر في أصُول الفقه، وإمَّا لكونه مُقصِّرًا في غير ذلك من العُلومِ التي هي أدوات الاجتهاد، لكن عنده القُدرة على معرفة الأقوال التي ثبت رُجحَانها في المذهب والفتوى.
وهذا القسم من الاجتهاد بأنواعِه وهو الاجتهادُ المقيد لا يتحقَّقُ فيه الإجْمَاعُ بحالٍ من الأحوال؛ لأن الإجمَاع يقتَضي اجتهادًا مُطلقًا من فقهاءِ الأمَّة جميعًا في عصرٍ من العصُور على أمْرٍ من الأمُور، وهذا لا يُتَصوَّرُ في الاجتهاد المقيَّد لا عقلًا ولا شرعًا.
الشروط الواجب توافرها في المجتهد:
لا يتحقَّقُ الاجتهادُ للمُجتهِد في الأحكام الشرعيَّة والعلمِ بأحكَام الشريعَة الإسلاميَّة في هذه الأحكَام وطُرُقِ إثباتِها ووجوه الترجِيح بينها عند التَّعَادُلِ إلا بتَحقُّقِ صِحَّة الإيمان، وأن يكونَ مُحيطًا بالمَدَارِكِ التي تُستَنبط منها الأحكامُ الشَّرعيَّة ومتمَكِّنًا من استخرَاجِها على الوَجه المُرَاد منها شرعًا، وهذا لا يتحقَّقُ إلا بالشروط الثمانية الآتية:
الشرط الأول: معرفة كتابِ اللهِ فقهًا ومعنى وحكمًا لأنَّه أساسُ الأحكَامِ الشرعيَّة ومنبع تفاصيل الإسلام، فيَعرِفُ صيغَته وما وُضِعَ له الخطابُ في اللغة، وفي العُرف وفي الشَّرع ليحملَ عليه، ويَعرِفَ مجازَه، فيَعدِل بالقرائِن إليه، ويَعرِف حال المتكلِّم ما يَثقُ به من حصول مدلول خطابه.
ويعرف من كتاب الله ما يَتَعلَّقُ بالأحكَام الشرعيَّة وهو (خمس مئة آية) على ما ذكره حُجَّة الإسلام الإمام الغزالي، والرازي، وابن العربي، وابن قدامة المقدسي.
ويَرَى نجْمُ الدين الطوفي الحنبلي أنَّ أدلَّة الأحكامِ غيرُ مُنحصِرَة، فكمَا تُستنبَط من الأوامِر والنواهي، كذلك تُستَنبَط من الأقاصيص والمواعظ، فقَلَّ أن يوجد في القرآن آية إلا واستنبَط منها شيءٌ من الأحكَام، ولا يُشتَرَط حفظُ آياتِ الأحكَامِ عن ظَهر قلب، بل يَجوزُ الاقتصارُ على الطلَب والنظر فيها، ويكفي أن يكون المُجتَهِد عارفًا بمواقِعِ الآياتِ حتى يَرجِع إليها في وقت الحاجة.
ونقل القيروانيُّ أبو عبد الله: محمد السَّامِرِي الحنبلي: عن الإمَام الشافعيِّ أنه يَشتَرِط حفظ جميع القرآن للمجتهد، لأنَّ الحافظ أخطب لمعانيه من الناظر فيه(5).
والشرط الثاني: معرِفة المُجتهِد سنَّة رسولِ اللهﷺ بأن يَعرِف طُرُقَ الأحاديث التي تَتَعلَّق بها الأحكَام، فيعلم معنَاها، ودَرَجَتها في الرواية من التَّواتُر والشُّهْرة والسَّنَد الذي رُويَت به أحادًا، مع العلم بحالِ الرُّوَاةِ ولو بالنقلِ عن الأئِمَّةِ أصحابِ الشأنِ في ذلك كالإمام البخاري ومسلم وأحمد بن حنبل وغيرهم، فيعتمد عليهم في التعديل والتَّرجِيح لتعذُّرهما في زماننا إلا بواسِطة أو هم أولى من غيرهم. وإنَّما شرط بمعرِفَة السنَّة ليتميَّز عند المُجتهِد في الأدلَّة الصحيح من السَّقيم ودرجاتُ الحديثِ الصَّحيح، وبدون ذلك لا يظهرُ للمُجتهد مأخذُ الحكمِ الشرعيِّ مما قَبِلَته الأمة لا حاجة إلى النظَرِ في إسنَاده إذا توافر بين الأمَّة وأصبَح عندهم معلومًا من الدِّين بالضرورة كحديث: «إنَّما الأعمَالُ بالنيَّاتِ وإنَّمَا لكلِّ امرئ ما نَوَى» وإن كان من أحاديث الآحاد.
كما يُشترط في الحديث من حيث المتن هل الروايةُ بلفظِ الرسولِ أو نُقلَت بالمعنى ووجوه معانيها لغةً وشرعًا، وقد بيَّن الإمَامُ البُخاريُّ في كشف الأسرار معرفة السنة وشروطها(6).
ولا يلزم حفظ الأحاديث عن ظَهرِ قلب بلْ يكفي المُجتهِد أن يكون عنده أصلٌ مصحّح لجميع الأحاديثِ المتعلِّقةِ بالأحكام، ويكفيه أن يَعرِف مواقِعَ كلِّ باب فيراجِعه وقت الحاجةِ إلى بيَان الحكمِ الشرعيِّ، وإن كان المجتهدُ يقدِرُ على الحفظِ فهو أحسنُ وأكمل(7).
الشرط الثالث: من شروط المجتهد: أن يكون خبيرًا بمواقع الإجماع فيعرف المسائِل المُجمَع عليها كي لا يخرِقَ الإجمَاع، والمسائِل المُختَلَف فيها بأدِلَّتِها، ولا يشترط حفظ تلك المسائل بل يكفي معرفة الوصول إليها ومكانها والعلم بها ليعلمَ أنَّ فتواه ليست مخَاِلفة للإجماع، ويكفيه الرجوعُ إليها في مَرَاتب الإجمَاع: لابن حزْم، وابن المُنذر، وغيرهما من الكتب التي حكت الإجمال في مَسَائل الإجماع(8).
الشرط الرابع: أنْ يكونَ المُجتهِد عارفًا بالقياسِ وشرائطه المقيدة وتحقق مناطه التي يُبني عليها ومَنَاهج السلفِ في مَعرفة عِلل الأحكامِ والأوصَافِ التي اعتبروها أسَاسًا لبناء الأحكامِ الشرعيَّة لأيةِ قاعِدَة والموصِّل إلى تفاصِيل الأحكَام التي لا حَصْر لها.
الهامش:
(1) الاجتهاد ومدى حاجتنا إليه في هذا العصر: للدكتور سيد محمد موسى. رسالة دكتوراه والدكتور جلال عبد الرحمن: الاجتهاد وضوابطه وأحكامه.
(2) المستصفى: للغزالي, والاجتهاد: للدكتور جلال عبد الرحمن والاجتهاد في الأحكام الشرعية من المجتهد يشمل الأحكام العملية وهي الأحكام الفقهية التي تشملها الحواس الخمس للإنسان وتدركها بأي منها. كما يشمل الأحكام الاعتقادية قطعية كانت أو ظنية ومنه يعلم أن طلب العلم بأحكام غير الشريعة لا يعد اجتهادًا شرعيا.
(3) الاجتهاد ضوابطه وأحكامه، والاجتهاد في الشريعة د. محمد سعاد جلال، والاجتهاد: للدكتور: سيد محمد موسى، والاجتهاد والتقليد لرضا الصد.
(4) الاجتهاد ضوابطه وأصوله. د. جلال عبد الرحمن.
(5) المرجع السابق، والمستصفى: للغزالي. والمحصول: للرازي، والأحكام: للمدعي.
(6) كشف الأسرار للبخاري والاجتهاد وضوابطه.
(7) الأحكام: لابن حزم والآمدي والمستصفى للغزالي.
(8) الاجتهاد وضوابطه.
المصدر: مجلة الأزهر
عن الكاتب:
الشيخ نصر فريد محمد واصل (1937- )، هو رئيس الهيئة الشرعية للحقوق والإصلاح ومفتي الديار المصرية السابق في الفترة من ۱۱ نوفمبر ۱۹۹٦م وحتى عام ۲۰۰۲م