الاجتهاد: يتجذّر الحديث في الآونة الأخيرة عن “الفقه المعاصر” في أروقة المجاميع الفقهية والأكاديمية، حيث يتردد هذا المصطلح الجميل ويستعر وسط حلبات الاهتمام بالفقه في عصرنا.
يتطلع الفقه المعاصر إلى استحضار كمال وجماليات الشريعة، فهو يسعى إلى الدخول إلى الساحة المعقدة والمتقدمة للغاية في أيامنا، ويحاول استكشاف كيف يمكنه دمج أصالة الفقه مع تلك التطورات المدهشة التي أثرت في حياة البشر؟
لذلك، يجب أن نرحب به بحرارة، ولكن ما هو بالضبط تعريفه؟
فكما يتألق الفقه المعاصر بجماله، يظل تعريفه غامضًا، لذا، علينا أن نخوض رحلة للكشف عن جوهره وتوضيحه.
🔺️ هناك ثلاثة افتراضات حول طبيعة الفقه المعاصر وتحديد متطلبات واحتياجات النهج الفقهي المعاصر:
الافتراض الأول: اعتبار كلمة “المعاصر” وصفا لعمل الاستنباط.
وفقاً لهذا الافتراض يكون تعريف الفقه المعاصر ما يلي:
“الفقه المعاصر يعني تضمين عنصر المعاصرة وتفعيله في عملية الاستنباط في المجالات المهمة تتعلق بهذه العملية، بهدف تطوير الفقه والتلبية لاحتياجات الإنسان والمجتمع المعاصر”.
وأهم هذه المجالات: الموضوع، والمنهج، ونوع العلم بالشريعة.
الافتراض الثاني: اعتباره وصفاً لعلم الفقه.
إن علم الفقه له دائرة أوسع مما يشكل النواة الأساسية للفقه، وهي عمل الاستنباط.
وعلم الفقه يعتبر واقعًا خارجيًا له تاريخه وتفاعله مع العلوم الأخرى والظواهر الاجتماعية، كما أن له هيكل وجوانب مختلفة مثل التعليم والبحث.
عصرنة علم الفقه، تتطلب تغيير هيكل الفقه بشكل معاصر، وإحداث تفاعل بين الفقه والعلوم المختلفة المعاصرة، خاصة علم القانون، كما تتطلب إعادة بناء وتجديد نظام التعليم والبحث الفقهي مع النظر في احتياجات الإنسان المعاصر ومتطلباتها، وما إلى ذلك.
بناءً على هذا الافتراض الثاني، يتم تعريف الفقه المعاصر كما يلي:
“الفقه المعاصر هو تجسيد للتحديث الشامل للفقه كعلم، في إطار بعديه الاجتماعي والتاريخي.
يتركز هذا التحديث أولاً على تعميق تعامل الفقه مع العلوم العصرية، ولا سيما علم الحقوق، من خلال إعطاء قولبة حقوقية لأجزاء مهمة منه، بمراجعة وتحليل المفاهيم والأطر القانونية القائمة بما يتوافق مع الظروف والتطورات الحديثة.
ثانياً، على تطوير تفاعل الفقه مع الظواهر الاجتماعية، من خلال تحليل وفهم تلك الظواهر وإعادة تعميق وتكميل منهجيته بناءً على التحديات والتطورات الراهنة.
ثالثاً، على إعادة بناء هيكل الفقه وفقا للحقائق والظروف الحديثة، مع إصلاح وتحسين التراكيب والمؤسسات القائمة لضمان تناسبها مع المتطلبات الراهنة.
رابعاً، على تحويل جوانب مختلفة من الفقه، مثل التعليم والبحث، وتكييفها وفقًا للوقائع والظروف الحديثة، مع التأكيد على الاستفادة من التكنولوجيا والتقنيات الحديثة في هذه العملية”.
الافتراض الثالث: اعتبار المعاصرة كوصف لإدارة معرفة الفقه.
والمقصود أنه في مجال إدارة معرفة الفقه، نواجه نقصًا وضعفًا، فمن الضروري أن يتم إنشاء إدارة معرفة الفقه وأن تستند هذه الإدارة إلى الظروف والاحتياجات المعاصرة.
ويمكن تعريف الفقه المعاصر وفقا لهذا الافتراض كما يلي:
“تحديث إدارة الفقه هو مبادرة شاملة تهدف إلى تطوير وتحسين عملية إدارة الفقه بشكل شامل بما يتلائم مع الزمن.
تشمل هذه الحركة عدة جوانب مهمة:
أولاً، تركز على توفير التسهيلات اللازمة للدراسات الفقهية، بما في ذلك استخدام التكنولوجيا المتقدمة لتسهيل البحث والاستفادة من المصادر الفقهية.
ثانياً، تسعى إلى إنشاء بنية تحتية متطورة تساعد في إيجاد تواصل فعّال بين الفقهاء والممارسين في المجال الفقهي، بهدف إنشاء شبكة اتصال تسهل تبادل المعرفة والخبرات وتعزز التعاون بين الأفراد المهتمين بالفقه.
ثالثاً، تقدم المعلومات العلمية والمنظمة التي تساعد الفقه في فهم الحقائق الاجتماعية واستيعاب تراثها بشكل أفضل.
رابعاً، تزود الفقهاء بنتائج الدراسات الميدانية بشكل منتظم، لمعرفة تفاعل الفتاوى والقرارات الفقهية في المجتمع وتقييم تأثيرها على حياة الناس، وذلك بهدف توفير البيانات والمعلومات الضرورية للفقهاء لمساعدتهم في أداء دورهم بفاعلية في المجتمع.
🔺️ وينبغي الإشارة إلى أن هذه الجهود التي جائت في التعريف تهدف إلى تحديث تسيير الفقه بشكل عام، تحسين عملية إدارة الفقه وتوفير الظروف المناسبة لنموه وتطوره في خدمة المجتمع، من دون التدخل في عمل الفقهاء.
🔺️ هذه عملية تحديات متتالية، وإذا لم يتم تحديث الفقه في هذه المجالات الثلاثة العريضة، فلا يمكننا استخراجه في عالمنا المعقد الذي يزداد تعقيدًا كل يوم.
فلا بد من أن نرفع رايات التحديث والإبداع في الفقه، في هذه الثلاثة، تتلمَّس بها أوجه الإشكالات وتُشقّ الدروب الوعرة. فبدون تحديث شامل للفقه في هذه المجالات الثلاث، لا نملك لحظور الفقه في هذا الزمان المُعقَّد، الذي يزداد تعقيدًا في كل لحظة، سوى حُضور باهت وتماهي ضعيف.