لبس السواد في العزاء

لبس السواد حزناً على سيد الشهداء “ع”.. نقاش و ردّ / المرجع الديني آية الله صافي الكلبايكاني

الاجتهاد:: هل أنّ لبس السواد في عاشوراء حزناً على الإمام الحسين (عليه السلام)، أمر مستحب أو راجح شرعاً؟ وهل يتنافى ذلك مع ماهو معروف في فقهنا من كراهة لبس السواد؟

الجواب:

نعم انّ لبس السواد في عزاء سيد الشهداء وعزاء سائر المعصومين- صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين- من الأعمال الراجحة، ومن مصاديق تعظيم شعائر الله، ومن مظاهر إعلان الولاية للنبي وآله والبراءة من أعدائهم وظالميهم، وقد كان هذا المظهر وغيره من مظاهر الحزن شعاراً لمحبي أهل بيت النبي الطاهرين من صدر الاسلام إلى يومنا هذا.

أمّا فتوى عدد الفقهاء بما ينافي ظاهرها ذلك فهي أوّل الكلام، وأمّا الروايات الواردة في كراهة لبس الثياب السواد، فهي إن تمّت لا تشمل لبس السواد حزناً في مناسبات عزاء المعصومين (عليهم السلام)،

وخلاصة الكلام في ذلك:

أوّلًا: أنّ عمدة دليل الفتوى بكراهة لبس الثياب السود هو دعوى الإجماع، وهو إجماع غير محصّل، وعلى فرض أنّه محصّل لا يكون كاشفاً عن قول المعصوم (عليه السلام)، لاحتمال استناده إلى الاخبار الواردة في هذا الباب.

أمّا الأخبار التي قد يستدلّ بها فعمدتها مراسيل وضعاف، وإنّما تمسّك من أفتى بالكراهة اعتماداً على التسامح في أدلّة السنن بناء على شموله لأدلّة المكروهات أيضاً.

لكن يرد عليه أنّ من المشكل شمول دليل التسامح في أدلّة السنن والمستحبات لأدلّة المكروهات، لأنّ غاية ما يستفاد منه أنّ من بلغه من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) شي‏ء من ثواب ففعل ذلك طلب قول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان له ذلك، وإن كان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يقله.[1]

فكيف يمكن تعميم ذلك إلى أدلة ترك العمل برجاء الثواب إلّا باعمال عناية بأن يفترض أنّ المقصود منها (من بلغه ثواب على عمل أو على ترك عمل) وهو محل إشكال وتأمّل.

ثانياً: أنّ القول بجبران ضعف الأخبار الدالّة على كراهة لبس السواد بعمل الأصحاب لايتم إلّا إذا ثبت استنادهم في فتواهم بالكراهة إليها، لكن يحتمل استنادهم إلى قاعدة التسامح في أدلّة السنن، فلا يتم المطلوب.

ولو سلّمنا تمامية انجبار ضعف الأخبار بالعمل، فإنّ دلالتها على كراهة لبس السواد مطلقاً محل إشكال، بل منع كما سيأتي.

ثالثاً: لو سلّمنا تمامية الأخبار المذكورة وقبول الفتوى بكراهة لبس السواد، فإنّ إثبات حكم موضوع لموضوع آخر، أو إثبات حكم موضوع ذي خصوصية لموضوع فاقد الخصوصية، لا يصح إلّا مع اليقين بتساوي الموضوعين في موضوعيتهما للحكم، وبعدم دخالة الخصوصية في الحكم، وإلّا لكان قياساً وحكماً بغير علم.

ومن أين لنا العلم بأنّ لبس السواد حزناً لمناسبات عزاء المعصومين (عليهم السلام) لا خصوصية له؟! فيبقى لبس السواد فيها على حكمه الأولي، وهو الاستحباب والرجحان، لأنّه من مصاديق إعلان الولاية والبراءة، ومصاديق تعظيم شعائر الله تعالى، ومصاديق «يحزنون لحزننا …»[2] وغيرها من الأدلّة المعتمدة.

الظروف السياسية لأخبار لبس السواد

من الثابت تاريخياً وفقهياً أنّ بني العباس جعلوا شعارهم في حركتهم الرايات السود، والظاهر أنّ هدفهم من ذلك محاولة تطبيق أحاديث النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في المهدي (عج) وظهور الرايات السود التي تمهّد له، على حركتهم وراياتهم!

ثم اتّخذوا لبس الثياب السود شعاراً لهم وعلّلوا بأنّه شعار حزن على قتل الإمام الحسين (عليه السلام) وغيره من شهداء أهل البيت (عليهم السلام)، وبأنّه أكثر هيبة.

وبعد سيطرتهم ألزموا أعضاء دولتهم به ثم ألزموا عامّة الناس بلبس السواد! ثم بلبس القلانس‏[3] السوداء الطولية!! .. الخ.

وهذه نماذج من أخبارهم في ذلك:

روي ابن شهر آشوب في كتاب «مناقب آل أبي طالب» عن «تاريخ الطبري»: أنّ إبراهيم الإمام أنفذ إلى أبي مسلم لواء النصرة وظل السحاب، وكان أبيض طوله أربعة عشر ذراعاً مكتوب عليها بالحبر (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ)[4]، فأمر أبو مسلم غلامه أرقم أن يتحوّل بكلّ لون من الثياب، فلمّا لبس السواد قال: معه هيبة، فاختاره خلافاً لبني أمية، وهيبة للناظر. وكانوا يقولون: هذا السواد حداد آل محمد، وشهداء كربلا، وزيد، ويحيى.[5]

وروي أبو الفرج الاصفهاني في كتابه «مقاتل الطالبيين».

أخبرنا يحيى بن علي قال: حدّثنا عمر بن شبة قال: حدّثنا علي بن الجعد قال: رأيت أهل الكوفة أيام أخذوا بلبس السواد حتى أنّ البقّالين إن كان أحدهم ليصبغ الثوب بالأنقاس‏[6] ثم يلبسه.[7]

وقال: عن عبد الله بن الحسين بن عبد الله بن إسماعيل بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب: امتنع من لبس السواد، وخرقه لمّا طولب بلبسه، فحبس بسر من رأى حتى مات في حبسه، رضوان الله عليه.[8]

عن القاسم بن عبد الله بن الحسين بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (عليه السلام): كان عمر بن الفرج الرخجي حمله إلى سر من رأى، فأمر بلبس السواد فامتنع، فلم يزالوا به حتى لبس شيئاً يشبه السواد، فرضى منه (بذلك) وكان القاسم رجلًا فاضلًا.[9]

وقال ابن الاثير في «البداية والنهاية» عن الأوزاعي: «وقد اجتمع الأوزاعي بالمنصور حين دخل الشام ووعظه وأحبّه المنصور وعظّمه، ولمّا أراد الانصراف من بين يديه استأذنه أن لا يلبس السواد فأذن له، فلمّا خرج قال المنصور للربيع الحاجب: الحقه فاسأله لم كره لبس السواد؟ ولا تعلمه أنّي قلت لك، فسأله الربيع؟ فقال: لأنّي لم أر محرماً أحرم فيه، ولا ميتاً كفن فيه، ولا عروساً جليت فيه، فلهذا أكرهه».[10]

وقال: «وفيها بايع المأمون لعلي الرضا بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمد بن الحسين الشهيد بن علي بن أبي طالب أن يكون ولي العهد من بعده، وسمّاه الرضا من آل محمد، وطرح لبس السواد وأمر بلبس الخضرة، فلبسها هو وجنده، وكتب بذلك إلى الآفاق والأقاليم، وكانت مبايعته له يوم الثلاثاء لليلتين خلتا من شهر رمضان سنة إحدى ومائتين، وذلك أنّ المأمون رأى أنّ علياً الرضا خير أهل البيت، وليس في بني العباس مثله في علمه ودينه، فجعله ولي عهده من بعده …

فلمّا كان يوم السبت الآخر (سنة 204 ه-) دخل (المأمون) بغداد حين ارتفع النهار لأربع عشرة ليلة خلت من صفر، في أبّهة عظيمة وجيش عظيم، وعليه وعلى جميع أصحابه وفتيانه الخضرة، فلبس أهل بغداد وجميع بني هاشم الخضرة، ونزل المأمون بالرصافة ثم تحوّل إلى قصر على دجلة، وجعل الأُمراء ووجوه الدولة يتردّدون إلى منزله على العادة، وقد تحوّل لباس البغاددة إلى الخضرة، وجعلوا يحرقون كلّ ما يجدونه من السواد، فمكثوا كذلك ثمانية أيام.

ثم استعرض حوائج طاهر بن الحسين‏[11]، فكان أوّل حاجة سألها أن يرجع إلى لباس السواد، فإنّه لباس آبائه من دولة ورثة الأنبياء. فلمّا كان السبت الآخر وهو الثامن والعشرين‏

من صفر جلس المأمون للناس وعليه الخضرة، ثم إنّه أمر بخلعة سوداء فألبسها طاهراً، ثم ألبس بعده جماعة من الأُمراء السواد، فلبس الناس السواد وعادوا إلى ذلك، فعلم منهم بذلك الطاعة والموافقة، وقيل: إنّه مكث يلبس الخضرة بعد قدومه بغداد سبعاً وعشرين يوماً، فالله أعلم.[12]

حكم لبس السواد

الروايات التي استدل بها على كراهة لبس السواد

نورد فيما يلي أهم الروايات التي ربّما يستدلّ بها للفتوى بكراهة لبس السواد، فمنها:

ما رواه الحر العاملي في «وسائل الشيعة»:

1- عن عدة من أصحابنا، عن أحمد بن عبد الله، عن بعض أصحابه، عن صفوان الجمّال قال: حملت أبا عبد الله (عليه السلام) الحملة الثانية إلى الكوفة وأبو جعفر المنصور بها، فلمّا أشرف على الهاشمية مدينة أبي جعفر، أخرج رجله من غرز الرحل، ثم نزل فدعا ببغلة شهباء ولبس ثياباً بيضاء وكمة بيضاء، فلمّا دخل عليه قال له أبو جعفر: لقد تشبّهت بالأنبياء، فقال له أبو عبد الله (عليه السلام): «وأنّى تبعدني من أبناء الأنبياء …» الحديث.[13]

2- عبد الله بن جعفر «قرب الاسناد»: عن السندي بن محمد، عن أبي البختري عن جعفر بن محمد، عن أبيه (عليهما السلام) أنّ علياً (عليه السلام) كان لا يلبس إلّا البياض أكثر ما يلبس، ويقول: فيه تكفين الموتى.

3- وعن عبد الله بن سليمان، عن أبيه أنّ علي بن الحسين (عليه السلام) دخل المسجد وعليه عمامة سوداء قد أرسل طرفيها بين كتفيه.[14]

4- وعن معاوية بن عمار، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سمعته وهو يقول: «دخل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الحرم يوم دخل مكة وعليه عمامة سوداء وعليه السلاح».[15]

ما رواه الكليني في «الكافي»

5- عدة من أصحابنا، عن أحمد بن أبي عبد الله، عن بعض آصحابه رفعه قال: كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يكره السواد إلّا في ثلاث: الخف، والعمامة، والكساء.[16]

6- أبو علي الأشعري، عن بعض أصحابه، عن محمد بن سنان، عن حذيفة بن منصور قال: كنت عند أبي عبد الله (عليه السلام) بالحيرة، فأتاه رسول أبي جعفر الخليفة يدعوه،

فدعا بممطر أحد وجهيه أسود والآخر أبيض فلبسه ثم قال أبو عبد الله (عليه السلام): «أما إنّي ألبسه وأنا أعلم أنّه لباس أهل النار».[17]

7- عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن محمد بن عيسي، عن سليمان بن راشد، عن أبيه، قال: رأيت علي بن الحسين (عليه السلام) وعليه دراعة سوداء وطيلسان أزرق.[18]

8. عن علي بن محمد، عن سهل بن زياد، عن محسن بن أحمد، عمّن ذكره، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قلت له: أُصلّى في القلنسوة السوداء؟ فقال: «لا تصل فيها فإنّها لباس أهل النار»[19].

ما نقله الصدوق في «علل الشرائع»

9- وبهذا الاسناد عن محمد بن أحمد، عن الحسن بن الحسين اللؤلؤي، عن محمد بن سنان، عن حذيفة بن منصور قال: كنت عند أبي عبد الله بالحيرة فأتاه رسول أبي العباس الخليفة يدعوه، فدعا بممطرة له أحد وجهيه أسود والآخر أبيض فلبسه، ثم قال أبو عبد الله (عليه السلام): «أما إنّي ألبسه وأنا أعلم أنّه من لباس أهل النار».

ثم قال الصدوق: (قال مؤلّف هذا الكتاب: لبسه للتقية وإنّما أخبر حذيفة بن منصور بأنّه لباس أهل النار. لأنّه ائتمنه، وقد دخل إليه قوم من الشيعة يسألونه عن السواد ولم يثق إليهم في كتمان السر فاتّقاهم فيه).[20]

10- حدّثني محمد بن الحسين قال: حدّثني محمد بن يحين العطار، عن محمد بن أحمد، عن علي بن إبراهيم الجعفري، عن محمد بن الفضل، عن داود الرقي قال: كانت الشيعة تسأل أبا عبد الله (عليه السلام) عن لبس السواد؟ قال: فوجدناه قاعداً عليه جبة سوداء وقلنسوة سوداء وخف أسود مبطن بسواد قال، ثم فتق ناحية منه وقال: «أما إنّ قطنه أسود» وأخرج منه قطناً أسود ثم قال: «بيّض قلبك واليس ماشئت».

(قال محمد بن علي مؤلف هذا الكتاب:

فعل ذلك كلّه تقية، والدليل عل ذلك قوله في الحديث الذي قبل هذا: «أما إنّي ألبسه وأنا أعلم أنه من لباس أهل النار». وأي غرض كان له (عليه السلام) في أن يصبغ القطن بالسواد، إلّا لأنّه كان متهماً عند الأعداء أنّه لا يرى لبس السواد فأحب أن يتّقي بأجهد ما يمكنه لتزول التهمة عن قلوبهم فيأمن شرهم.[21]

11- حدّثنا محمد بن الحسين قال: حدّثنا محمد بن الحسن الصفار، عن العباس بن معروف عن الحسين بن يزيد النوفلي، عن السكوني، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «أوحى الله عزوجل إلى نبي من أنبيائه: قل للمؤمنين لاتلبسوا لباس أعدائي، ولا تطعموا طعام أعدائي، ولا تسلكوا مسالك أعدائي، فتكونوا أعدائي كما هم أعدائي»[22].

ما نقله الحر العاملي في «وسائل الشيعة»

12- وفي العلل، عن محمد بن الحسين، عن محمد بن يحيى، عن محمد بن أحمد، عن علي بن إبراهيم الجعفري، عن محمد بن المفضل، عن داود الرقي قال: … وأورد الحديث ثم قال: أقول: ويمكن حمله على إرادة الجواز ونفي التحريم بقرينة آخره.[23]

مناقشة دلالة الروايات على الكراهة.

بعد غضّ النظر عن سند هذه الروايات نكتفي بالمناقشه في دلالتها بشكل عام، فنقول:

أوّلًا: من الواضح أنّ النهي في هذه الروايات- بملاحظة روايات اتّخاذ العباسيّين شعار السواد- لم يرد على موضوع السواد بعنوانه الأوّلي، بل بسبب تعنونه بعنوان ثانوي، وهو أنّه شعار لبني العباس، وأنّ لبسه تشبّه بهم وموجب لزيادة نفوذهم في أوساط المسلمين. نعم منها رواية واحدة مرسلة عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وهي ضعيفة سنداً وتختص بهم ولا يحتج بها.

بل إنّ النهي في هذه الروايات عن لبسه من مصاديق النهي عن التشبّه بالظلمة ولبس الثياب التي هي شعارهم. ومثل هذا الحكم دائر مدار بقاء عنوانه على ذلك الموضوع .. فلو بقي بنو العباس وغيّروا شعارهم من لبس الأسود إلى لبس الأحمر أو الأصفر، أو انتهى بنو العباس وانتفى موضوع شعارهم كما حدث، وجاء غيرهم من الظلمة واتّخذوا شعاراً من لون آخر .. لتغيّر الموضوع وثبت الحكم على ماهو شعار الظلمة وأهل الباطل وأهل الكفر.

ثانياً: لو سلّمنا أنّ الحكم بكراهة لبس السواد ثابت في الشريعة بدليل الإجماع، فإنّ دخول لبس السواد في مناسبات العزاء بالمعصومين (عليهم السلام) في معقد الاجماع غير معلوم، خاصة بملاحظة أنّه كان متداولًا في عصور الائمة (عليهم السلام) وعصر الغيبة، فالقدر المتيقّن من الإجماع هو ما عدا مناسبات العزاء أو اللباس الذّي يصدق عليه أنّه شعار الأعداء.

وكذا لو سلّمنا بأنّ حكم الكراهة بلبس السواد ثابت بالروايات، فإنّ مناسبة حكمها وموضوعها تمنع من شمول ظهوراتها أو عموماتها للبس السواد في مناسبات العزاء.

ولذا فالأقوى استثناء ذلك من مفادها، وفاقاً لما ذهب إليه صاحب الحدائق والمجلسي- قدس سرهما- ومال إليه غيرهما، كما سيأتي.

أهم كلمات فقهائنا في لبس السواد

تناول كبار فقهائنا هذه المسألة في كتبهم الفقهية نأتي بنماذج منها.

(باب النوادر) قال والدي (رحمه الله) في رسالته إلىِّ: … واعلم أنّ غسل الثياب يذهب الهم والحزن وهو طهور للصلاة، وعليك بلبس ثياب القطن، فإنّه لباس رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ولباس الأئمة (عليهم السلام)، واتّق لبس السواد فإنّه لباس فرعون. ولا تلبس النعل الأملس فإنّه حذو فرعون، وهو أوّل من اتّخذ الملس.[24]

وقال الشيخ المفيد في «المقنعة»: وتكره الصلاة في الثياب السود، وليس العمامة من الثياب في شئ، ولا بأس بالصلاة فيها وان كانت سوداء.[25]

وقال أبو الصلاح الحلبي في «الكافي في الفقه»: وتكره الصلاة في الثوب المصبوغ، وأشدّ كراهية الأسود، ثم الاحمر المشبع والمذهب والموشح والملحم بالحرير والذهب، وما عدا ذلك جائز. وأفضل الثياب البياض من القطن والكتان.[26]

وقال الشيخ الطوسي في «النهاية»: وتكره الصلاة في الثياب السود كلّها ما عدا العمامة والخف، فإنّه لا بأس بالصلاة فيهما وإن كانا سوداوين.[27]

وقال أيضاً في «الخلاف»: تكره الصلاة في الثياب السود. وخالف جميع الفقهاء في ذلك.

دليلنا: إجماع الفرقة وطريقة الاحتياط. وروى عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنّه قال: يكره السواد إلّا في ثلاثة: الخف، والعمامة، والكساء، وروى عنه أيضاً أنّه سئل عن الصلاة في القلنسوة السوداء؟ فقال: «لا تصل فيها فإنّها لباس أهل النار».[28]

وقال أيضاً: لا يجوز للمحرم لبس السواد، ولم يكره أحد من الفقهاء ذلك. دليلنا: إجماع الفرقة، وطريقة الاحتياط.[29]

وقال المحقّق الحلّي في «المعتبر»: وتكره الصلاة في الثياب السود خلا العمامة، والخف، قاله الأصحاب: روي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال: «البسوا من ثيابكم البياض فإنّها من خير ثيابكم» وأمره (عليه السلام) بهذا اللون يدل على اختصاصه بالمصلحة الراجحة، فيكون ما يضاد غير مشارك في المصلحة، وأشدّ الألوان مضادة للبياض السواد. ويؤيد ذلك من طريق الأصحاب، ما رواه أحمد بن رفعه عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «يكره السواد إلّا في ثلاث: العمامة، والخف، والكساء».[30]

وقال العلّامة الحلّي في «تذكرة الفقهاء»: البحث الثالث: فيما يكره فيه الصلاة وهو أشياء:- آ- يكره في الثياب السود ما عدا العمامة والخف، لقول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) «البسوا ثيابكم البيض فإنّها من خير ثيابكم» وأمره (صلى الله عليه وآله وسلم) بهذه اللون يدلّ على اختصاصه بالفضيلة، فيكون أشد الألوان معاندة له وهو السواد مكروهاً.

ومن طريق الخاصة قول الصادق (عليه السلام): «يكره السواد إلّا في ثلاث: العمامة، والخف، والكساء»[31].

وقال الشهيد في «الذكرى»: الثالثة: تكره الصلاة في الثياب السود لما رواه الكليني عمّن رفعه عن أبي عبد الله (عليه السلام): «يكره السواد إلّا في ثلاثة: الخف، والعمامة والكسا».

وفي مرفوع آخر اليه (عليه السلام): «في القلنسوة السوداء لا تصل فيها فإنّها لباس أهل النار».

وقال ابن بابويه: ولا تصل في السواد فإنّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: «لا تلبسوا لباس أعدائي، ولا تسلكوا مسالك أعدائي، فتكونوا أعدائي». وروى عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): «البسوا من ثيابكم البياض فإنّها من خير ثيابكم». وفيه دلالة على أفضلية البيض للمصلحة فالمضاد لا يشاركها في المصلحة.[32]

وقال المحقّق الكركي في «جامع المقاصد»: ويستحب لبس الفاخر من الثياب، وأفضلها البيض، لقوله (صلى الله عليه وآله وسلم): «أحب الثياب إلى الله تعالى البيض، يلبسها أحياؤكم، ويكفن فيها موتاكم».[33]

وقال المقدّس الأردبيلي في «مجمع الفائدة والبرهان»: قوله: « (ويكره السود عدا العمامة الخ …)» دليل كراهة السود، عدا العمامة والخف، وكذا الكساء: هو الخبر المرفوع عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «يكره السواد إلّا في ثلاثة: الخف، والعمامة، والكساء». ولا يخفى أنّه يدلّ على الكراهة مطلقاً. وكأنّ القلنسوة أشدّ كراهة، لما روى عن الصادق (عليه السلام). قال: قلت له: أُصلّي في القلنسوة السوداء؟ فقال:

«لا تصل فيها فإنّها لباس أهل النار». وروى عن أمير المؤمنين (عليه السلام)، فيما علم أصحابه: «لا تلبسوا السواد فإنّه لباس فرعون». وفي رواية أُخرى: «انّه لباس أهل النار»[34].

وقال المحدّث البحراني في «الحدائق الناضرة»: وعن عمر بن علي الحسين (عليه السلام) قال: «لمّا قتل الحسين (عليه السلام) لبس نساء بني هاشم السواد والمسوح‏[35]، وكنّ لا يشتكين من حر ولا برد، وكان علي بن الحسين (عليهما السلام) يعمل لهنّ الطعام للمأتم».

أقول: الظاهر أنّ ذلك بعد رجوعه (عليه السلام) إلى المدينة.[36]

وقال أيضاً:

و (منها): أنّه يكره الصلاة في الثياب السود عدا العمامة والخف والكساء وهو ثوب من صوف ومنه العباء، كذا نقل عن الجوهري.

ويدل عليه ما رواه ثقة الإسلام في «الكافي» عن أحمد بن محمد، رفعه عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «يكره السواد إلّا في ثلاثة: الخف، والعمامة، والكساء».

وروي في كتاب الزي من الكتاب المذكور عن أحمد بن أبي عبد الله، عن بعض أصحابه رفعه قال: «كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يكره السواد إلّا في ثلاث: الخف، والعمامة، والكساء».

وعن حذيفة بن منصور قال: «كنت عند أبي عبد الله (عليه السلام) بالحيرة فأتاه رسول أبي العباس الخليفة يدعوه، فدعا بممطر أحد وجهيه أسود والآخر أبيض فلبسه، ثم قال أبو عبد الله (عليه السلام): «أما إنّي ألبسه وأنا أعلم أنّه لباس أهل النار».

أقول: في القاموس: الممطر والممطرة- بكسرهما- ثوب صوف يتوقّى به من المطر.

ثم أقول: يحتمل أن يكون لبسه (عليه السلام) له في تلك الحال لضرورة دفع المطر أو تقية، حيث إنّه المعمول عليه عند المخالفين يومئذ.

وروى الصدوق في «الفقيه» مرسلًا عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنّه قال في ما علم أصحابه: «لا تلبسوا السواد فإنّه لباس فرعون».

وروي باسناده عن إسماعيل بن مسلم عن الصادق (عليه السلام) أنّه قال «أوحى الله إلى نبي من أنبيائه قل للمؤمنين لا يلبسوا ملابس أعدائي، ولا يطعموا مطاعم أعدائي، ولا يسلكوا مسالك أعدائي، فيكونوا أعدائي كما هم أعدائي».

أقول: قال الصدوق في كتاب «عيون الأخبار»[37] بعد نقل هذا الخبر بسند آخر عن علي بن أبي طالب عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): قال المصنف (رضي الله عنه): لباس الأعداء هو السواد؛ ومطاعم الأعداء هو: النبيذ، والمسكر، والفقاع، والطين، والجري من السمك، والمارماهي والزمير والطافي وكل ما لم يكن له فلس من السمك، والأرنب والضب والثعلب، وما لم يدف من الطير، وما استوى طرفاه من البيض، والدبا من الجراد وهو الذي لا يستقل بالطيران، والطحال؛ ومسالك الأعداء: مواضع التهمة، ومجالس شرب الخمر، والمجالس التي فيها الملاهي، ومجالس الذين لا يقضون بالحق، والمجالس التي تعاب فيها الأئمة والمؤمنون، ومجالس أهل المعاصي والظلم والفساد. انتهى.

وحاصله يرجع إلى التخصيص بالمحرّمات في ماعدا اللباس حملًا للنهي على التحريم. والأظهر الحمل على ماهو أعم من التحريم أو الكراهة، مثل لباس اليهود والنصارى ومأكلهم، وكذا لباس المخالفين ومآكلهم المعلومة مخالفة ذلك للسنن النبوية والشريعة المحمدية (صلى الله عليه وآله وسلم) ويؤيّده وقوع المناهي في الاخبار عن جملة من الأشياء من حيث دخولها في مضمون هذا الخبر، مثل النهي عن البرطلة لأنّها من زي اليهود، وإسدال الرداء لأنّه من زيهم، وشمّ النرجس في الصوم لأنّه من فعل المجوس، والأكل بالملاعق كما يفعله الروم والمخالفون لمخالفته لسنة الأكل باليد، وجر الثياب على الأرض كما يفعلونه أيضاً لمنافاته التشمير المأمور به، وجز اللحي وإعفاء الشوارب كما يفعلونه لمخالفته للسنّة النبوية في العكس، وأمثال ذلك. فإنّ الظاهر دخول الجميع تحت الخبر.

ثم أقول: لا يبعد استثناء لبس السواد في مأتم الحسين (عليه السلام) من هذه الأخبار لما استفاضت به الأخبار من الأمر بإظهار شعائر الاحزان.

ويؤيّده مارواه شيخنا المجلسي 1 عن البرقي في كتاب «المحاسن» أنّه روي عن عمر بن زين العابدين (عليه السلام) أنّه قال: «لمّا قتل جدي الحسين المظلوم الشهيد لبس نساء بني هاشم في مأتمه ثياب السواد، ولم يغيرنها في حر أو برد، وكان الإمام زين العابدين (عليه السلام) يصنع لهن الطعام في المأتم». الاستفادة من هذه القضية مبني على اقرار الإمام (عليه السلام) لبس النساء السواد في ماتم الحسين والحديث منقول من كتاب «جلاء العيون» بالفارسية ولكن هذا حاصل ترجمته.[38]

وقال صاحب الجواهر في «جواهر الكلام»: المسألة (الثامنة: تكره الصلاة في الثياب السود ما عدا العمامة والخف) بلا خلاف أجده في المستثنى منه، بل ربّما ظهر من بعضهم الإجماع عليه، بل عن الخلاف ذلك صريحاً، وهو الحجة، مضافاً إلى استفاضة النصوص في النهي عن لبسه الذي ربّما قيل باستفادة الكراهة في خصوص الصلاة منه، إمّا لدعوى اتّحاد الكونين كما سمعته في المغصوب، أو لأنّ إطلاق الكراهة يقتضي شمول خصوص الصلاة، ولا ينافيه شمول غيرها، إذ ليس المراد اختصاص الصلاة بذلك من بين الأفراد، بل المراد الكراهة فيها بالخصوص وإن كان غيرها من الأفراد كذلك، وقد سمعت نظيره في استحباب خصوص بعض الأذكار في الصلاة، لكن لا يخفى عليك أنا في غنية عن هذا التكلّف- خصوصاً الأخير الذي يمكن دعوى ظهور العبارات بخلافه- بما سمعت من الإجماع المحكي المعتضد بما عرفت.

وبالمرسل في «الكافي» أنه «روي لا تصل في ثوب أسود، فأمّا الكساء والخف والعمامة فلا بأس».

بل وبالمستفاد من بعض النصوص في القلنسوة من كراهة لباس أهل النار في الصلاة، ففي مرسل محمد بن سليمان «قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): إنّي أصلّي في القلنسوة السوداء قال: «لا تصل فيها فإنها لباس أهل النار» ولا ريب في ظهور التعليل فيه بكراهة الصلاة في كلّ ماكان كذلك. وقد ورد في السواد أنّه لباس فرعون، وأنّه زي بني العباس، وفي الممطر منه أنّه لباس أهل النار، ففي مرسل الفقيه قال أمير المؤمنين (عليه السلام) فيما علّم أصحابه: «لا تلبسوا السواد فإنّه لباس فرعون».

وفيه أيضاً: «رروي أنّ جبرئيل (عليه السلام) هبط على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في قباء أسود ومنطقة فيها خنجر، فقال: يا جبرئيل ما هذا؟ فقال: زي ولد عمك العباس، يا محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) ويل لولدك من ولد عمك العباس».[39]

وفي خبر حذيفة بن منصور قال: «كنت عند أبي عبد الله (عليه السلام) بالحيرة فأتاه رسول أبي العباس الخليفة يدعوه، فدعا بممطر أحد وجهيه أسود والآخر أبيض فلبسه، ثم قال: أما إنّي ألبسه وأنا أعلم أنّه لباس أهل النار». بل من المعلوم كون ذلك من حيث السواد لا خصوصية الممطر؛ كما أنّ من المعلوم كون لبسه للتقية، فيتجه حينئذ كراهة الصلاة فيه للتعليل المزبور.

بل منه تنقدح المناقشة فيما ذكر غير واحد من الأصحاب من شدة الكراهة وتأكّدها في القلنسوة السوداء للخبر المزبور، ضرورة أنّه بعد تعليل الكراهة فيه بالعلّة المشتركة بين الجميع لم يبق حينئذ خصوصية لمورد التعليل، سيّما مع كونه من كلام السائل، ولعلّه لذا أطلق الباقون.

أمّا المستثنى فقد يقضي عدم الاستثناء في كلام كثير من الأصحاب على ما في الذكرى بعدمه، لكن فيه أنّ النصوص صريحة في الاستثناء، منها مرسل الكليني السابق، ومنها قول الصادق في مرسل أحمد بن محمد «يكره السواد إلّا في ثلاثة: الخف والعمامة والكساء». ومنها المرسل الآخر: «كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يكره السواد إلّا في ثلاثة: الخف والكساء والعمامة».

وكذا الفتاوى بالنسبة للخف والعمامة، بل عن «المعتبر» نسبة ذلك إلى الأصحاب، و «المنتهى» إلى علمائنا، ومنه يعلم حينئذ ما في اقتصاد المفيد وسلار وابن حمزة والشهيد في «الدروس» على استثناء العمامة، اللّهم إلّا أنّ يكون لعدم دخول الخف في المستثنى منه، لانّه ليس من الثياب.

لكن فيه أوّلًا انّ المحكي عن «المقنعة» عدم كون العمامة من الثياب أيضاً، كما عن جماعة من الأصحاب في بحث الحبوة.

وثانياً: بقاء المناقشة بالنسبة إلى الكساء، بل في «كشف اللثام» أنّه لم يستثنه أحد من الأصحاب إلّا ابن سعيد إلى أن قال: «وكأن إعراضهم جميعاً عنه لكونه من الثياب، مع إرسال أخبار الاستثناء، وعموم نحو قول أمير المؤمنين (عليه السلام)» مشيراً به إلى ما سمعت، قلت: قد يؤيده أيضاً خبر الممطر السابق بناء على أنّه من الأكسية، لكن فيه أنّا لم نجد الخف مستثنى إلّا مع الكساء، أمّا العمامة فقد يفهم استثناؤها من قول الباقر (عليه السلام) في خبر علي بن المغيرة «كأنّي بعبد الله بن شريك العامري‏[40] عليه عمامة سوداء ذوابتاها بين كتفيه مصعداً في لحف الجبل بين يدي قائمنا أهل البيت (عليهم السلام) في أربعة آلاف يكبرون ويكررون».[41] وخبر عبد الله بن سليمان المروي عن مكارم الأخلاق «انّ علي بن الحسين (عليهما السلام) دخل المسجد وعليه عمامة سوداء قد أرسل طرفيها بين كتفيه».

وخبر معاوية بن عمار عن الصادق (عليه السلام) المروي عن الكتاب المزبور أيضاً قال: «سمعته يقول: دخل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الحرم يوم دخل مكة وعليه عمامة سوداء وعليه السلاح».

لكن الظاهر أنّ مستند الأصحاب في الاستثناء غيرها، بل ليس هو إلّا تلك النصوص، وحينئذ يقوي الاعتماد عليها، خصوصاً مع ما قيل من استثناء جماعة له كالخلاف والبيان واللمعة والموجز الحاوي وكشف الالتباس وجامع المقاصد وفوائد الشرايع وحاشية الإرشاد وحاشية الميسي والروض والروضة والمسالك ومجمع البرهان والكفاية والمفاتيح، بل عن ظاهر الخلاف اندراج هذا الاستثناء في معقد إجماعه، ومن ذلك يعلم ما في قوله: إنّه لم يذكر إلّا ابن سعيد.

كما «يعلم الحال منه» فيما عساه أن يقال في المقام: «إنّ النصوص هنا جميعها لا تخلو من ضعف مانع عن الحجّية، إلّا أنّه لمّا علم التسامح في الكراهة وجب قبولها بالنسبة إليها بخلاف الاستثناء منها، فإنّه محتاج إلى دليل معتبر، والفرض عدمه، وليس دليل الكراهة منحصراً في المشتمل على الاستثناء حتى يلتزم قبوله في المستثني والمستثني منه، لكونه هو الذي بلغنا، بل قد سمعت نحو قول أمير المؤمنين (عليه السلام) الظاهر في العموم بلا استثناء «إذ

قد عرفت أوّلًا اعتضاد أخبار الاستثناء بما تقدّم ونحوه ممّا لا يخفى على الفقيه الماهر من القرائن الدالّة على اعتبارها وإن ضعفت أسانيدها، وثانياً يمكن أن يقال- بعد اشتراك جميع النصوص في الضعف مطلقها ومقيدها-: إنّه ما بلغنا إلّا المقيد، ضرورة تساوي المطلق والمقيد في غير جهة التقييد، فيحكم حينئذ عليه، ويتجه الاستثناء المزبور، فكان على المصنف وغيره ذكره، بل هو أولى من الخف الذي لا يحتاج إلى الاستثناء، لعدم اندراجه في الثياب، بل والعمامة في وجه، وربما يؤيد ذلك كلّه سيرة من شاهدناه من العلّماء على لبس العباءة السوداء وعدم اجتنابها ومعاملتها معاملة غيرها من الثياب، ولعلها من الكساء عندهم، كما عن الميسي وتلميذه التصريح به، بل في المسالك نسبته إلى الجوهري، بل قيل: وفي القاموس أنّ العباءة ضرب من الأكسية.

وكيف كان فالمدار في السواد على مسمّاه عرفاً من غير فرق بين المصبوغ وغيره، نعم يمكن عدم اندراج الأدكن فيه عرفاً، بل عن المجمع أنّه لون بين الغبرة والسواد، فلا حاجة حينئذ إلى حمل ما في خبر جابر عن أبي جعفر (عليه السلام) «قتل الحسين بن علي (عليهما السلام) وعليه جبة خز دكناء»[42] على بيان الجواز ونفي التحريم، لكن عن المسالك «تكره الصلاة في غير السواد من الألوان» وهو- مع أنّه لاصراحة في الخبر المزبور أنّه كان يلبسها وقت الصلاة- لم نقف على دليل له في ذلك، واستفاضة النصوص بلبس الأبيض لا تقتضي كراهة غيره، وكان ما عن الميسي- من أنّ الصلاة في غير السواد من الألوان أيضاً على خلاف الأصل، لأنّ الأصل البياض- يريد به ما ذكرنا.

بل ولم نقف على ما يدلّ على ما عن الغنية من كراهة الصلاة في الثوب المصبوغ، وأشدّه الأسود، وإن قيل: إنّ ظاهره الإجماع عليه.

أمّا ما عن السائر- من الكراهة في الثواب المشبع الصبغ، وكأنّه بمعني ما عن الكاتب والمبسوط من الكراهة في الثوب المصبوغ المشبع المفدم «[43] بناء علي إرادة الأعم من الأحمر من المفدم فيه». فعن الجوهري يقال: صبغ أي خاثر مشبع، وكأنّ من خصّ الكراهة بالأحمر حمل المفدم- بكسر الدال- على المصبوغ بالحمرة المشبع كما عن الجوهري أيضاً، ولعل التعميم أكثر فائدة وأقرب إلى العرف، بل المغروس في الذهن منه المشبع الشديد.

أمّا المزعفر[44] والمعصفر[45] فقد نص على كراهة الصلاة فيهما في المحكي عن المعتبر والمنتهي ونهاية الأحكام والتحرير والتذكرة والذكرى والموجز الحاوي وكشف الالتباس، ولعلّه للمرسل عن يزيد بن خليفة عن أبي عبد الله (عليه السلام) «انّه كره الصلاة في المشبع بالعصفر والمضرج بالزعفران»[46] إلّا أنّه كان عليهم التعبير بمضمون الخبر المزبور، والأمر سهل في ذلك كلّه بعد التسامح، هذا.

وعن غير واحد من كتب الأصحاب التصريح باختصاص كراهة السواد في الرجل، ولعلّه لأنّه أبلغ من غيره في سترها، وظهور فحوي استثناء العمامة ونحوها فيه، إلّا أنّه كما ترى مناف لقاعدة الاشتراك وظاهر التعليل السابق، والله أعلم.[47]

وقال الطباطبائي اليزدي في «العروة الوثقى»:

(10 فصل فيما يكره من اللباس حال الصلاة) وهي أُمور: أحدها الثوب الأسود حتى للنساء، عدا الخف والعمامة والكساء، ومنه العباء والمشبع منه أشد كراهة، وكذا المصبوغ بالزعفران أوالعصفر، بل الأولى اجتناب مطلق المصبوغ.[48]

6- كلمات فقهاء المذاهب الأُخرى‏

تناول علماء المذاهب الأُخرى هذه المسألة في صحاحهم وسننهم المعتبرة نأتي بنماذج منها:

قال البيهقي في «السنن الكبرى»: (أخبرنا) أبو زكريا يحيى بن إبراهيم قال: ثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، أنبأ الربيع بن سليمان، ثنا الشافعي، أنبأ يحيى بن سليم، عن عبد الله بن عثمان بن خثيم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس (رضي الله عنه) أنّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: من خير ثيابكم البياض فليلبسها أحياؤكم، وكفّنوا فيها موتاكم.

(وحدثنا) أبو جعفر كامل بن أحمد المستملي، أنبأ بشر بن أحمد الاسفرائني، ثنا داود بن الحسين، ثنا يحيى بن يحيى، أنبأ بشر بن المفضل، عن عبد الله بن عثمان بن خثيم، فذكره بنحوه إلّا أنّه قال: البسوا من ثيابكم البياض فإنّها من خير ثيابكم.[49]

وقال أبو داود في سننه: حدّثنا محمد بن كثير، أخبرنا همام، عن قتادة، عن مطرف، عن عائشة- رضى الله عنها-، قالت: صنعت لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بردة سوداء فلبسها، فلمّا عرق فيها وجد ريح الصوف فقذفها، قال: وأحسبه قال: وكان تعجبه الريح الطيبة.[50]

ونقل الترمذي في سننه: حدّثنا أحمد بن منبع، أخبرنا يحيى بن زكريا بن أبي زائدة، أخبرني أبي، عن مصعب بن شبية، عن صفية ابنة شبية، عن عائشة قالت: «خرج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ذات غداة وعليه مرط من شعر أسود».

هذا حديث حسن وصحيح غريب.[51]

7- نتيجة البحث جواز لبس السواد في عزاء سيد الشهداء (عليه السلام).

في ختام البحث نأتي بالروايات التي تدلّ على جواز لبس السواد.

قال الحر العاملي في «وسائل الشيعة»: وعن الحسن بن ظريف بن ناصح، عن أبيه، عن الحسين بن زيد، عن عمر بن علي بن الحسين قال: لمّا قتل الحسين بن علي (عليه السلام) لبس نساء بني هاشم السواد والمسوح، وكنّ لا يشتكين من حر ولا برد، وكان علي بن الحسين (عليه السلام) يعمل لهنّ الطعام للمأتم.[52]

وقال المجلسي في «بحار الأنوار»: وفي رواية أُخرى … قال: فلمّا أصبح استدعى بحرم رسول الله فقال لهنّ: أيما أحب إليكن: المقام عندي أو الرجوع إلى المدينة، ولكم الجائزة السنية؟ قالوا: نحب أوّلًا أن ننوح‏

على الحسين، قال: افعلوا ما بدالكم. ثم أُخليت لهنّ الحجر والبيوت في دمشق، ولم تبق هاشمية ولا قرشية إلّا ولبست السواد على الحسين، وندبوه على ما نقل سبعة أيام، فلمّا كان اليوم الثامن دعاهن يزيد، وعرض عليهن المقام فأبين وأرادوا الرجوع إلى المدينة، فأحضر لهن المحامل وزينها وأمر بالأنطاع الإبريسم.[53]

وقال صاحب «وفيات الأئمة»: ثم رجع الحسن والحسين (عليه السلام) وأخوتهما من دفنه، وقعد في بيته ولم يخرج ذلك اليوم، ثم خرج عبد الله بن العباس بن عبد المطلب إلى الناس، فقال: إنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) قد توفّى وانتقل إلى جوار الله وقد ترك بعده خلفاً، فإن أحببتم خرج إليكم وإن كرهتم فلا أحد على أحد فبكى الناس وضجّوا بالبكاء والنحيب، فقالوا: بل يخرج الينا، فخرج إليهم الحسن وعليه ثياب سود وهو يبكي لفقد أبيه، فصعد المنبر فحمد الله وأثني عليه وذكر النبي فصلي عليه،

ثم قال: «أيّها الناس اتقوا الله فإنّا أُمراء كم وساداتكم وأهل البيت الذين قال الله فيهم: (إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً)[54] أيّها الناس لقد قبض في هذه الليلة رجل لم يسبقه الأوّلون ولا يلحقه الآخرون، لقد كان يجاهد مع رسول الله فيفديه بنفسه، لقد كان يوجهه برايته فيكنفه جبرائيل عن يمينه وميكائيل عن شماله، فلا يرجع حتّى يفتح الله عليه، ولقد توفّي هذه الليلة التي عرج فيها بعيسى ابن مريم، والتي توفّى فيها يوشع بن نون، وما خلف صفراء، ولا بيضاء إلّا سبعمائة دينار فضلت من عطاياه، أراد أن يبتاع بها خادماً لأهله. (2)

ونقل الشيخ عباس القمي في «الكنى والألقاب»: حكي عن تاريخ ابن كثير أنّه قال: في سنة 352 أمر معز الدولة أحمد بن بويه‏[55] في بغداد في العشر الأُول من المحرم بإغلاق جميع أسواق بغداد، وأن يلبس السواد ويقيموا

مراسم العزاء، وحيث لم تكن هذه العادة مرسومة في البلاد لهذا رآه علماء أهل السنّة بدعة كبيرة، وحيث لم يكن لهم يد على معز الدولة لم يقدورا إلّا على التسليم، وبعد هذا في كلّ سنة إلى انقراض دولة الديالمة الشيعة في العشرة الأُولى من المحرم من كلّ سنة يقيمون مراسم العزاء في كل البلاد، وكان هذا في بغداد إلى أوائل سلطنة السلطان طغرل السلجوقي. انتهى.[56]

 

الهوامش:

[1] . الوسائل: ج 1 ص 60، الباب 18 من أبواب العبادات، ح 4.
[2] . ذكر الشيخ الصدوق في خصاله في حديث الأربعمائة عن أمير المؤمنين( عليه السلام) أنّه قال: إن الله تبارك وتعال اطّلع إلى الأرض فاختارنا، واختار لنا شيعة ينصروننا، ويفرحون لفرحنا، ويحزنون لحزننا، ويبذلون أموالهم وأنفسهم فينا، أُولئك منا وإلينا. الخصال: 2/ 625؛ بحار الأنوار: 44/ 287 ح 26.
[3] . جمع قلنسوة وهو نوع من ملابس الرأس وهي على هيئات متعدّدة.
[4] . الحج: 39.
[5] . مناقب آل أبي طالب: 3/ 86.
[6] . الأنقاس: جمع نقس- بالكسر- المداد أو الحبر الذي يكتب به.
[7] . مقاتل الطالبيين: 212.
[8] . مقاتل الطالبيين: 393.
[9] . المصدر نفسه: 407.
[10] . البداية والنهاية: 10/ 127.
[11] . هو أبو الطيب أو أبو طلحة طاهر بن الحسين بن مصعب بن زريق بن ماهان الملقّب ب-« ذو اليمنين» والي خراسان، كان من أكبر قوّاد المأمون والمخلصين في تثبيت دولته في محاربة أخيه الأمين محمد بن زبيدة ببغداد. كان جده زريق بن ماهان أو باذان مجوسياً، فأسلم على يد طلحة الطلحات الخزاعي المشهور بالكرم والي سجستان، وكان مولاه ولذلك اشتهر بالطاهر الخزاعي. وبنو طاهر ينسب إليهم التشيع. رسالة في آل أعين: 12؛ مستدركات علم رجال الحديث: 289 برقم 8198؛ سير أعلام النبلاء: 10/ 108 برقم 7.
[12] . البداية والنهاية: 10/ 269- 273. وذكر شبيهاً لما تقدم اليعقوبي في تاريخه: 2/ 448، 453، والمسعودي في التنبيه والأشراف: 302.
[13]. وسائل الشيعة: 3/ 355، الحديث 2.
[14] . وسائل الشيعة: 3/ 378- 379، الحديث 9 و 10.
[15] المصدر نفسه.
[16] . الكافي: 6/ 449، باب لبس السواد، الحديث 1.
[17] . الكافي: 6/ 449، باب لبس السواد، الحديث 2.
[18] . الكافي: 6/ 449، باب لبس السواد، الحديث 3.
[19] . الكافي: 3/ 403.
[20] علل الشرائع: 2/ 37، الحديث 4.
[21] . علل الشرائع: 2/ 37، الحديث 5 و 6.
[22] . المصدر نفسه.
[23] . وسائل الشيعة: 2/ 379، الحديث 9.
[24] . المقنع: 194؛ الوسائل: الباب 16، كتاب الصلوة، ح 1.
[25] . المقنعة: 150.
[26] . الكافي في الفقه: 140.
[27] . النهاية: 97.
[28] . الخلاف: 1/ 175، المسألة 247.
[29]. الخلاف: 1/ 392، المسألة 80.
[30] . المعتبر: 2/ 94.
[31] . تذكرة الفقهاء: 1/ 99.
[32] . الذكرى: 147.
[33] . جامع المقاصد: 2/ 438.
[34]. مجمع الفائدة والبرهان: 2/ 87.
[35] . المسوح: كساء من شعر، وهو ما يلبس من نسيج الشعر على البدن تقشّفاً وقهراً للجسد.
[36] . الحدائق الناضرة: 4/ 160.
[37] . عيون أخبار الرضا: 1/ 26، الحديث 51.
[38] . الحدائق الناضرة: 7/ 116- 118.
[39] . من لا يحضره الفقيه: 1/ 252 برقم 769.
[40] . عبد الله بن شريك العامري يكنى أبا المحجل، روى عن علي بن الحسين وأبي جعفر( عليهما السلام) وكان عندهما وحبهاً مقدماً، وروى الكشي مدحه وأنّه من أهل الرجعة. وسائل الشيعة: 30/ 410، الفائدة الثانية عشرة.
[41] . بحار الأنوار: 53/ 76 ح 81.
[42] . الكافي: 6/ 452 ح 9، باب لبس الوشي.
[43] . الكافي: 3/ 402 ح 22، باب اللباس الذي تكره الصلاة فيه.
[44] . المزعفر: المصبوغ بالزعفران.
[45]. المعصفر: المصبوغ باللون الأصفر المأخوذ من العصفر وهو نبات اصفر معروف.
[46] . تهذيب الأحكام: 2/ 373 ح 550، باب ما يجوز الصلاة فيه.
[47] . جواهر الكلام: 8/ 230- 235.
[48] . العروة الوثقى: 1/ 572.
[49] . سنن البيهقي: 5/ 33.
[50] . سنن أبي داود: 2/ 264 برقم 4074، الباب 21 في السواد.
[51] . سنن الترمذي: 4/ 204 برقم 2966، الباب 82 ما جاء في الثوب الاسود.
[52] . وسائل الشيعة: 2/ 357، الحديث 10، نقلًا عن المحاسن للبرقي: 2/ 420، الحديث 195.
[53] . بحار الأنوار: 45/ 195- 197. والأنطاع جمع نطع وهو بساط من جلد.
[54] . الأحزاب: 2. 33. وفيات الأئمة: 85.
[55] . هو أبو الحسن أحمد بن بويه بن فنا خسرو بن تمام من سلالة سابور ذي الأكتاف الساساني، وكان من ملوك بني بويه في العراق فقد استولى على بغداد سنة 334 ه- وبايع المستكفي بالله وخلع الخليفة عليه ولقبه ذلك اليوم بمعز الدولة ولقب أخويه بعماد الدولة وركن الدولة، وأمرأن تضرب ألقابهم وكناهم على الدنانير والدراهم، وفي أيامه قويت شوكة آل بويه وهو أوّل من أمر الناس بإقامة المآتم للحسين( عليه السلام) في العشرة الأُولى من المحرم واستمرت عليها الشيعة إلى اليوم. توفّي ببغداد سنة 356 ه- ودفن في مقابر قريش. الفوائد الرجالية للسيد بحر العلوم: 3/ 96.
[56] . الكنى والألقاب: 2/ 471.

 

المصدر : كتاب الشعائر الحسينية، ص27ـ ص46

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Slider by webdesign

Clicky