الاجتهاد: رحل أمس عن عالمنا إلى الدار الآخرة صديقنا العلامة الشيخ محمد رضا حكيمي صاحب كتاب الحياة. عاش حكيمي ناسكًا متبتلًا أخلاقيًا عفيفًا مهذبًا، زاهدًا بكلّ ما لكلمة الزهد من معنى، لم يمتلك دارًا، ولا سيارةً، ولا هاتفًا شخصيًا، عاش كما يعيش الفقراء، فأصبح أسوةً لمريدين من صفوة الناس.
كان يستغني بحياة الكفاف، لم يكترث بمال، على الرغم من أنه غزير التأليف، وكان بوسعه أن يستثمر حقوق مؤلفاته للعيش بطريقة مترفة.
عُرِف حكيمي بأمانته وصدقه ونزاهته، وترفّعه عن العناوين والألقاب، وشجاعته في قول كلمة الحق بصراحة، وذلك ما شجّع المرحوم د. علي شريعتي أن يضع ثقته فيه، ويستأمنه وصيًا فكريًا، خصّه شريعتي بوصيته بعد وفاته، لفرط ثقته بعلمه وبصيرته ومصداقيته،كتب له في الوصية أن يدقّق أعماله من الهفوات والأخطاء. يفكران معا في الاشتراكية ويدعوان لإلغاء الطبقات. تتناغم أعمال شريعتي وكتابات محمد رضا حكيمي في ذلك، وتشترك آثارهما في شحّة الحديث عن الحرية والديمقراطية والتعددية.
نشر الصديق الأستاذ محمد اسفندياري وصية شريعتي لحكيمي. اسفندياري معروف بصلته الحميمة بالمرحوم حكيمي، فأعطاه الوصية لينشرها بعد نحو عقدين تقريبًا على وفاة المرحوم شريعتي.
أمضى حكيمي سنوات طويلة في حوزة مشهد، وحضر البحث الخارج كما بلغني مدة لا تقلّ عن 10 سنوات. تميّز حكيمي بإبداعه الأدبي، ولغته المكتنزة، فكان ممن أغنوا النثر الفارسي الحديث.
حاول محمد رضا حكيمي إعادة إنتاج الاخبارية عند الشيعة بتسمية بديلة، وهي: “المدرسة التفكيكية”، للتعبير عن موقف جماعة بدأت تتبلور في حوزة خراسان بمشهد في القرن الرابع عشر الهجري، تدعو للفصل الجذري أو “التفكيك” حسب مصطلح حكيمي، بين معارف الوحي والمعارف والعلوم البشرية، وكان في طليعة هذه الجماعة موسى زرآبادي قزويني (1294 – 1353 هـ )، وميرزا مهدي أصفهاني ( 1303 – 1365 هـ )، ومجتبى قزويني (1318 – 1386 هـ ). محمد رضا حكيمي حاول أن يصوغ الركائز الأساسية لهذه الرؤية ويرسم خارطة أفكارها ومفاهيمها في كتابه “المدرسة التفكيكية”.
“التفكيك” دعوة نظرية لم أجدها تنعكس بوضوح في كتابات حكيمي، لأن القطع الجذري الذي يبشّر به لم يتمكن هو من تحقيقه ولا غيره.
حكيمي ومن قبله أساتذة يفترضون عملية التفكير عملية حسابية ميكانيكية كمية، يستطيع الإنسان فيها أن يتخذ قرارًا يفرضه على عقله لحجب المنطق الأرسطي والفلسفة وعلم الكلام وأصول الفقه وكلّ معارف التراث التي تشبع وعيه ولاوعيه فيها في دراسته الحوزوية، ويصغي عقله لحديث أهل البيت “ع” بلا أية مؤثرات من تربيته وتكوينه التعليمي وبيئته وثقافته ومختلف الظروف والمتغيرات المتنوعة في مجتمعه الذي يعيش فيه. التفكير عملية ديناميكية لا ميكانيكية، تتوالد من عناصر واعية تشمل مختلف العناصر المشار إليها وغيرها، بموازاة عناصر لاواعية تنبع من البنى اللاشعورية الراسخة في أعماقه.
هناك تقارب بين رؤية حكيمي و “إسلامية المعرفة” لدى المعهد العالمي للفكر الإسلامي وأمثالها،كلاهما أراد أن يُصادر العقل ومكاسب العلوم والمعارف والخبرة البشرية. كلاهما خذلهما الواقع الذي يستبعد كلَّ رؤية لاواقعية عن الحضور فيه.كلاهما استبعدهما التاريخ من أن يكونا عاملًا فاعلًا في حركته، وتحولات الوعي والفكر والمجتمع في صيرورته.
لبثت دعوة محمد رضا حكيمي أُمنية أخفقت حتى كتاباته في تمثّلها. عندما نقرأ هذه الكتابات نراها لم تتخلص من تأثره اللافت بالاشتراكية، وتغلغل الفهم والتفسير الطبقي للمجتمع المعروف في الكتابات الماركسية في آثاره، كما في أعمال شريعتي.كان حكيمي انتقائيًا في تعامله مع معارف الوحي، ينتقي ما يدعم موقفه منها ويدع غيره.
لم يتردّد حكيمي في توظيف المنطق الأرسطي اليوناني وميراث المعقول في التدليل على موقفه وتبريره من حيث لا يشعر. أراد أن يغادر التراث اليوناني فغرق فيه،وكان يريد أن يصغي للأخبار والأحاديث الشريفة بمعزل عن كلّ خلفية لديه سابقة، لكن فهمه عقله خذله عندما اعتمد على أسس التفسير الطبقي، وظلّت أحلامه الرومانسية بمجتع لا طبقي يتنكر لها الواقع.
لم يمنع الاختلاف مركز دراسات فلسفة الدين من ترجمة كتابه “المدرسة التفكيكية”، ونشره للمرة الأولى للقارئ العربي سنة 2000، وكتابة مقدمة للطبعة العربية شرحتُ فيها رؤيته ما أمكنني بحياد، ثم ألحقتُه بنشر كتابين له.
لا يمكن لأيّ إنسان أخلاقي إلا أن يحتفي بنسك ونزاهة وطهارة وشجاعة محمد رضا حكيمي في الحق، وزهده الذي يبهر أي إنسان لم يمت في داخله الإنسان. كان مهذبًا يتسم بذوق رفيع، لم يُفسِد الاختلاف في الرؤية صداقتنا،كان يتكرّم رحمه الله بزيارتي إلى بيتي، على الرغم من أنه قليل التنقل والأسفار.
رحم الله مُعلِّم الأخلاق الشيخ محمد رضا حكيمي، وأسعده الله في الآخرة كما أسعده بسكينة الروح وطمأنية القلب في الدنيا.
“إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَذِكْرَىٰ لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ”، ق، 37.