الاجتهاد: الكتاب الذي بين أيدينا ( المذاهب الإسلامية الخمسة: تاريخ وتوثيق ) مؤلف من خمسة أقسام، خصص كل قسم منه للحديث الفكري والتاريخي عن مذهب من المذاهب الإسلاميّة. لذلك ستكون البداية باستعراض سريع ومكثف لمختلف أقسامه وبحوثه، ثم سنحاول تقديم رؤية تحليلية نقدية عامة موجزة لبعض طروحاته وأفكاره
تحظى مسألة التقريب بين المذاهب الإسلاميّة – التي تشكلت عبر عهود طويلة من الممارسة التاريخية الفكرية والاجتماعية والسياسية – باهتمام بالغ بين مختلف الأوساط والنخب الفكرية والثقافية العربية والإسلاميّة، ولا تزال هذه القضية – وستبقى – حارة وساخنة بامتداد الأيام وتقادم الزمن باعتبارها تمس اصل ومنتهى تطلع وغاية كل مسلم على هذه البسيطة.
ونحن نشعر بأن مسألة التقريب المطلوبة – كمقدمة ضرورية وأساسية تمهد الطريق الشاق والطويل امام مسألة الوحدة الإسلاميّة – هي خيار المسلمين الذي يفرض على الفعاليات المختلفة في العالم الإسلامي، أن تتوافر على دراسته ووعيه بعمق ومسؤولية لتضع الركائز الثابتة والصلبة التي يمكن أن تصنع منها قاعدة فكرية وروحية وسياسية للوحدة، وأن لا تكون مسألة التقريب مسألة خطاب انفعالي أو حماسي يعيش في أجواء المجاملات والاستهلاك الشعبي.
أن المشكلة التي لا تزال قائمة بين المسلمين، في ما يتصل بمسألة التقريب والوحدة الإسلاميّة، هي انهم يتخاطبون ويتحاورون – إذا تخاطبوا أو تحاوروا – عن بعد من خلال التاريخ الذي يكتبه هذا الفريق عن الآخر وبالعكس.
من هنا كانت الحاجة الماسة إلى مسألة اللقاءات الفكرية والعلمية العملية التي تتخذ معنى كبيرا وأهمية ملحة في ضرورة إيجاد ساحة للتعارف، والتواصل، والتفاعل بين الأفكار والمعارف التي يحملها المسلمون في خصوصياتهم المذهبية، وللتفاهم على كثير من المشاكل ونقاط الخلاف التي يلتقون على حلولها وفهمها أو يختلفون في حلولها، والتحضير لأجواء ومناخات حوارية عقلانية هادئة ومتوازنة يمكن أن تنتج لقاءات على اكثر من قضية، وتفاهماً على اكثر من مسألة من مسائل الخلاف والتباعد.
ضمن هذا السياق يأتي هذا الكتاب كمحاولة فكرية جادة على طريق بناء بعض أجواء الثقة والتقريب الواقعية، ومحاولة توليد واثارة نوازع اللقاء والحوار والتعارف بين المسلمين، وتقليص أسباب الوحشة والتباعد الروحي والعملي في ما بينهم.
والكتاب الذي بين أيدينا ( المذاهب الإسلامية الخمسة: تاريخ وتوثيق ) مؤلف من خمسة أقسام، خصص كل قسم منه للحديث الفكري والتاريخي عن مذهب من المذاهب الإسلاميّة. لذلك ستكون البداية باستعراض سريع ومكثف لمختلف أقسامه وبحوثه، ثم سنحاول تقديم رؤية تحليلية نقدية عامة موجزة لبعض طروحاته وأفكاره.
المذهب الإمامي
يستعرض مؤلف هذا القسم الدكتور عبد الهادي الفضلي [١]، في بحثه هذا عن المذهب الإمامي، الارهاصات الأولى لبداية نشوء وتكون وتطور مذهب أهل البيت – عليهم السلام -، محاولا إثبات اقدمية هذا المذهب الفقهي والعقائدي، ومؤكداً على أن التاريخ لنشأته بعامة، يعني – في الوقت نفسه – التاريخ لنشوء مذهب السنة كاتجاهين تشريعيين اطلق على الأول منهما – وهو منهج علي – عليه السلام – (منهج النص)، وعلى الثاني منهما – وهو منهج عمر – (منهج الرأي).
ومعنى هذا – كما ذهب إليه الدكتور الفضلي – أن المفكرين المسلمين وقفوا من نصوص الكتاب والسنة، كمصدرين للتشريع الفقهي، موقفين هما:
١ – أن رأي بعضهم أن آيات القرآن الكثيرة، وأحاديث الرسول صلى الله عليه وآله الواردة في مجال التشريع وبيان الأحكام الفقهية وافية بذلك، ولا تحتاج معها لإضافة مصدر آخر إليها (مدرسة النص).
٢ – بينما ذهب آخرون إلى عدم وفائها، والى حاجة الفقيه للرجوع إلى مصدر آخر يضاف إليها (مدرسة الرأي) [٢].
بعد ذلك يقوم الكاتب بإجراء مقارنة فكرية (عملية) بين المنهجين الفقهيين السابقين، فيعرض في البداية لبعض المسائل (حوالي ٢٠ مسألة) التي اخضعها بعض الصحابة لاجتهاد الرأي، حسماً للخلاف والجدل القائم في فهم معنى الرأي، وتحديد مفهومه، واطاره الخاص والعام.
وفي مرحلة تالية ينتقل الكاتب إلى بسط أدلة مدرسة الرأي، ومناقشتها، ونقد ركائزها وقواعدها [٣].
يخلص المؤلف بعد ذلك إلى نتيجة مفادها: أن الاختلاف في الدراسات الفكرية بين العلماء المسلمين بدأ في إطار الطابع العلمي في النقاش والحوار ثم تحول إلى منهج علمي، فمدرسة علمية، فكان ما عرف بمدرسة أهل البيت – عليه السلام – ومدرسة الصحابة… واستمر الوضع علـى هذا حتّى عهـد معاوية الـذي كـان مسؤولاً، بشكل مباشر، عن تحويل المدرستين الفكريتين السابقتين إلى طائفتين: طائفة السنة وطائفة الشيعة [٤].
ينطلق الكاتب بعد هذا إلى الإجابة عن تساؤل هام يتعلق باعتماد الإمام زيد بن علي – في الكتاب المنسوب إليه (مجموع الفقه) – على مدرسة الحديث والرأي، وهو من فقهاء وعلماء آل البيت … حيث يقف المؤلف موقفا سلبيا من الكتاب المذكور بسبب منهجه الفقهي القائم على قواعد مدرسة الرأي والحديث معتبرا أن راوي الكتاب «أبا خالد عمرو بن خالد الواسطي» لم تثبت وثاقته [٥]
يعرض المؤلف بعد إجابته تلك لعاملين أساسيين ساهما مساهمة فاعلة أحدهما في رفض الرأي، والآخر في قبول الرأي، هما: تدوين الحديث وروايته، والمنع من تدوين الحديث وروايته.
حجية المذهب الإمامي
يعتمد الدكتور الفضلي في فهمه لأدلة الاعتقاد بصحة المذهب الإمامي على ركيزتين أساسيتين وهما: القرآن الكريم، والسنة الشريفة المروية عن طريق أهل البيت – عليهم السلام –
وأدلتهم هنا كثيرة … وقد اكتفى الكاتب باستعراض أبرز وأهم تلك الأحاديث: (الثقلين، الغدير، سفينة النجاة، الأثنا عشر…) ولا ينسى الباحث «د. الفضلي» أن يلفت نظر القارئ إلى ضرورة مطالعة بعض المدونات والكتب الأساسية السنية والشيعية التي أوردت بحوثاً كثيرة في صحة وحجية أسانيد الأحاديث السابقة [٦].
معتقدات المذهب الإمامي
يقوم المذهب الإمامي – في المشهور العام – على أصول عقائدية أربعة: ثلاثة منها يعتدونها أصول دين وهي التوحيد والنبوة والمعاد وواحد أصل مذهب، وهو الإمامة بمعناها الخاص، الذي يعني الاعتقاد بإمامة الأئمة الأثني عشر.
وعلى طريق استعراضه للعقائد الإسلاميّة عند الإماميين يمر الكاتب، بشكـل سريع عـلى بعـض مـا عـرفت به الإمامية واشتهرت مما له ارتباط معين بعقيدة التوحيد كنظرية البداء في علم الله تعالى، ونظرية الاختيار في إرادة الإنسان، أو مما له عـلاقة بقضية الإمامة في امتدادها الرسالي في حركة الحياة كفكرة وعقيدة المهدي المنتظر (عج)، وكذلك فكرة التقية وضرورة استعمالها في بعض الظروف التاريخية السياسية الضاغطة [٧].
في نهاية بحثه يشير الدكتور الفضلي إلى نقاط أساسية يراها مكملة لعناصر الدراسة، بل وضرورية لإظهار حقيقة المذهب الامامي وهي:
١ – موقف الإمامية الإيجابي المثمر من الفرق الإسلاميّة [٨]
٢ – المراكز الرئيسية للمذهب الإمامي، وأهم مدارسة الفقهية والتشريعية والعلمية [٩].
٣ – أهم مراجع وتصانيف ومدونات البحث الفقهي والكلامي والعقائدي في الإسلام عند كبار الفقهاء والمحدثين والأصوليين الشيعة [١٠].
يخلص المؤلف إلى تقديم تبويب عام ومشهور لموضوعات الفقه الإسلامي الإمامي لدى معظم مراجع وعلماء الشيعة، ويعرض – في الوقت نفسه – لتجديد وتطوير هذا التبويب على يد الامام الشهيد السيد: محمد باقر الصدر (رض) الذي قدم تبويباً جديداً مغيراً لمنهجية التبويب الفقهي القديمة المعروفة من خلال تصنيفه لموضوعات التشريع والفقه إلى أربعة أقسام:
١ – عبادات
٢ – أموال (خاصة وعامة).
٣ – سلوك خاص.
٤ – سلوك عام.
لكن، وبكل أسف، لم تمتد الأيام بشهيدنا السعيد (قدس سره) لأكمال مؤلفه القيم «الفتاوى الواضحة» الذي تضمن التبويب السابق حيث هوى (رض) من على منبره شهيدا كريما وعظيما.
المذهب الحنفي
يقسم الدكتور محمد وفاريشي [١١] موضوعه عن تاريخ المذهب الحنفي إلى ستة مباحث، يعطي في الأول منها لمحة موجزة عامة عن حياة مؤسس المذهب «النعمان بن ثابت بن المزربان»، وطبيعة ظروف عصره، وأهم شيوخه وتلامذته، ومكانته العلمية والتاريخية، وأبرز آرائه العلمية والفقهية [١٢].
وفي المبحث الثاني يستعرض المؤلف أصول المذهب الحنفي التي يراها قائمة تاريخيا على الأسس والمعطيات التالية:
١ – القرآن الكريم.
٢ – السنة النبوية.
٣ – الإجماع.
٤ – قول الصحابي.
٥ – القياس.
٦ – الاستحسان.
٧ – العرف (١٣).
أما في المبحث الثالث الذي حمل العنوان التالي (خصائص المذهب الحنفي وما تفرد به) فيرى الكاتب بأن للمذهب المذكور خصائص نوعية تميزه عن غيره وهي حسب رأيه:
١ – شوروية المذهب.
٢ – امتزاج الحديث بالرأي.
٣ – استقلاليته بمنهج خاص في أصول الفقه.
٤ – اعتداده بالفقه الافتراضي (محاولة التعرف على حكم الشيء أو الواقعة قبل الوقوع، للعمل بهذا الحكم عند اللزوم) [١٤].
وفي المبحث الرابع أراد المؤلف أن يعرض لأمر – يصفه بالمهم – وهو أن المذاهب الفقهية الإسلاميّة ليست مجرد آراء وأفكار ونظريات ظهرت في يوم من الأيام على لسان آحاد الناس، كمـا هو الشأن في كثير من المذاهب القانونية أو الاقتصادية أو السياسية أو الاجتماعية أو الفلسفية أو غيرها من المذاهب البشرية الوضعية [١٥].
بعد ذلك يحاول الدكتور محمد اعطاءنا اشارات وتلميحات سريعة عن أهم ما كان في المذهب الحنفي بعد وفاة أبي حنيفة، نافيا أن يكون – هذا الامتداد والتوسع في المذهب الحنفي وفي كثير من مفرداته وعناوينه هو ذاته ما كان تركه أبو حنيفة عند موته.
وهذا ما حدا بالمؤلف أن يمنهج مبحثه الرابع كما يلي:
أولاً: امتحان أصول المذهب الحنفي وفروعه عملياً.
ثانياً: ظهور الفقهاء المجتهدين في المذهب.
ثالثاً: ظهور الفقهاء المرجحين في المذهب.
رابعاً: نشأة القواعد الفقهية الكلية في المذهب وتطورها.
وهنا يطرح المؤلف إمامنا اكثر من مائة وخمسين قاعدة فقهية وردت في كتاب ,الفرائد البهية في القواعد والفوائد الفقهية’ للشيخ محمود حمزة (مفتي دمشق في عهد السلطان عبد الحميد)، وذلك للدلالة العملية على تطور القواعد والابنية الفقهية الحنفية، معتبراً انها تشكل عماد الفقه واساسه [١٦].
خامساً: صياغة الفقه الحنفي على وفق التقنيات الحديث.
سادساً: تطور منهج الاستدلال والعرض الفقهي في العصر الحالي.
سابعاً: نماذج من تطور المذهب الحنفي مراعاة لاختلاف البينات وظروف الحال (١٧).
وفي المبحث الخامس الذي يتضمن لمحة سريعة عن انتشار وذيوع هذا المذهب، يتعرض المؤلف إلى العوامل التي ساعدت وساهمت – بحسب رأيه – في انتشار المذهب [١٨].
أما المبحث السادس والأخير فقد افرده المؤلف للإشارة إلى أهم المصادر الفقهية الأصولية المعتمدة في المذهب الحنفي [١٩]، وبيان قواعد الترجيح ومصطلحاته عند الاختلاف في الروايات [٢٠].
المذهب المالكي
قسم الشيخ محمد سكحال الجزائري [٢١] محوره البحثي التاريخي عن الإمام مالك إلى ستة فصول رئيسية، وبنى كل واحد منه على مباحث عدة…
ففي الفصل الأول يقدم لنا المؤلف نبذة سريعة ومختصرة عن حياة مؤسس المذهب «الإمام: مالك بن أنس»، وعصره، وشيوخه، وتلامذته، ويعطي اشارات عامة لبعض أشهر آرائه الفقهية [٢٢].
وفي الفصل الثاني من هذا القسم (وهو بمثابة مركز البحث وقلبه) يتعرض الكاتب للأصول الفقهية العامة التي يتقوم بها المذهب المالكي، ممهدا لذلك باستعراض تاريخي مقتضب عن كيفية نشأة هذا المذهب.
يعتبر الباحث في هذا الفصل أن الأصول العامة للفقه الإسلامي لا تختلف بين المذاهب المتبعة بالنسبة لمصادر التشريع الأربعة: (الكتاب والسنة والإجماع والقياس) وإنّما وقع الخلاف – برأيه – في كيفية الاستثمار والاستفادة من هذه الأصول، وفي الأدلة التبعية الأخرى.
ويعتقد المؤلف هنا أن مذهب مالك يمتاز عن غيره من المذاهب بخصيب قواعده الفقهية العامة والخاصة التي ضمنت في مصنفات، وعبرت عن الخطط الاجمالية لفقه المذاهب … وأما الأدلة التي بنى عليها مالك مذهبه واجتهاده الفقهي فهي كما يقول المؤلف:
١ – القرآن الكريم.
٢ – السنة وشروط العمل بها عند المالكية.
٣ – الإجماع أو التحقيق في مسألة إجماع أهل المدينة.
٤ – القياس.
٥ – الاستحسان.
٦ – عمل أهل المدينة.
٧ – المصالح المرسلة.
٨ – سد الذرائع.
٩ – مذهب الصحابي.
١٠ – مراعاة الخلاف [٢٣].
أما في الفصل الثالث فقد سجل الكاتب أهم خصائص ومميزات المذهب المالكي، عارضا فيه – بشكل عام – للترتيب الفقهي للموضوعات والمصطلحات الأصولية المستخدمة، وعلم التوثيق المالكي، والقرائن الموجودة عند المالكية [٢٤].
وفي الفصل الرابع يتناول المؤلف تطور هذا المذهب من خلال الأدوار التي دخل فيها (نشأته، تدوينه، الاختصارات الفقهية، دور الجمود والضعف) [٢٥].
وفي الفصل الخامس يسجل الكاتب أسماء أهم المراجع والمظان الفقهية التاريخية المعتبرة في المذهب والخاصة بآيات الأحكام (أحكام القرآن، وأحاديث الأحكام، ومراجع الفقه المجرد) [٢٦].
وطالما أن البحث، أساساً، ذو بعد تاريخي لا ينسى المؤلف – في الفصل السادس والأخير من هذا القسم – أن يعرض لانتشار المذهب المالكي وامتداده إلى بعض البلدان العربية والإسلاميّة [٢٧].
المذهب الشافعي
في هذا القسم من الكتاب الخاص بالإمام الشافعي ومذهبه الفقهي، يقدم لنا الدكتور وهبة الزحيلي [٢٨] اضاءات تاريخية مكثفة وغنية عن مؤسس المذهب، وخصائص المرحلة الزمنية التي عاصرها، وطبيعة مذهبه الجديد في مصر،
كما ويطلعنا على مجموعة من آرائه الفقهية المستحدثة، ويعدد – في السياق نفسه – أسماء بعض شيوخه، وأساتذته، وتلامذته، مظهراً تأثيره في نهج التفكير الإسلامي في مقاومته للفكر الاعتزالي قديماً، والفكر العلماني حديثاً، وتبيانه منهج البحث عن المعرفة عند العلماء المسلمين، واعتباره أساساً لأصول الفكر العالمي بصورة عامة [٢٩]
بعد ذلك يتناول الكاتب الأصول العامة للفقه الإسلامي وفق التصور والرؤية الفكرية الشافعية (الكتاب، والسنة، والإجماع، وقول الصحابي، والقياس…) معتبراً أن الامام الشافعي قد أسس علم أصول الفقه على قواعد واضحة، ومنهج معروف يتميز به عن غيره بالجدة، والاستقلالية، والوضوح، [٣٠] وشدة التزامه بالضوابط الفقهية والقواعد الكلية، والاحتياط في الدين، وتمحيص الأحكام الشرعية، والتدقيق في جميع الآراء والأقوال الفقهية… الخ (٣١).
أما الخصائص الأساسية لهذا المذهب، وما انفرد به فقد أوضحها المؤلف في النقاط التالية:
١ – بناء الفقه على الأصول (٣٢).
٢ – الجمع بين فقه الحجاز وفقه العراق، أو بين مدرسة الحديث ومدرسة الرأي (٣٣).
٣ – التزام القياس ورفض الاجتهاد بالرأي (٣٤)
٤ – العمل بظواهر الشريعة (٣٥).
اماما تبقى من هذا البحث الموجز في استعراضه «التاريخي – الفقهي» فقد خصصه المؤلف للحديث عن:
١ – تطور المذهب الشافعي بعد وفاة الامام الشافعي (٣٦).
٢ – المراجع الفقهية المعتبرة في المذهب (٣٧).
٣ – انتشار المذهب الشافعي في العالم الإسلامي، مع إظهار الأسباب الموضوعية والشخصية الموجبةـ برأي الكاتب طبعا – التي ساعدت على انتشاره وتوسعه (٣٨). ٤ – صفات الشافعي العقلية والعلمية والدينية والأخلاقية (٣٩).
٥ – الشافعي مجدد القرن الثاني (٤٠).
المذهب الحنبلي
اعد الدكتور إسامة الحموي (٤١) بحثه التاريخي هذا ضمن ستة مباحث رئيسية، اتبع فيها – كما يظهر – الأسلوب المنهجي نفسه الذي سار عليه الباحثون في الأقسام السابقة.
ففي المبحث الأول من هذه الدراسة يتحدث الدكتور الحموي عن المذهب الحنبلي معرفا بمؤسسه الإمام أحمد بن حنبل (مولده، نشأته، معيشته)، وأسماء بعض أساتذته، وتلامذته، ومستعرضا لبعض آرائه في العقائد، والسياسة، ومكانته في الفقه والحديث (٤٢).
في المبحث الثاني يتعرض الكاتب لأصول الفقه عند الإمام احمد من خلال إعطاء وصف تمهيدي عام وشامل للفقه الحنبلي، مع تعداد وذكر أهم أصول وخصائص الاستنباط الفقهي عنده. وهي كما يوردها المؤلف:
١ – الكتاب والسنة (النصوص). ٢ – السنة.
٣ – فتوى الصحابي.
٤ – فتوى التابعي.
٥ – الإجماع.
٦ – القياس.
٧ – الاستصحاب.
٨ – الصالح.
٩ – الذرائع (٤٣).
أما المبحث الثالث فيدور حول خصائص المذهب الحنبلي وما تفرد به من مزايا وسمات خاصة.
وعن تطور المذهب الحنبلي حدثنا المؤلف في مبحثه الرابع معتبراً أن هذا المذهب – الذي أخذ بالمصالح المرسلة وبالذرائع والاستصحاب وعمل بها، فكان ذلك أحد أسباب نجاحه وتطوره وخصوبته – من أوسع المذاهب الفقهية في إطلاقه الحرية التعاقدية بسبب اخذه بمبدأ الاستصحاب، واصل الحل العام في الأشياء، مالم يرد دليل من النصوص على المنع (٤٤).
أما المبحث الخامس فقد خصصه الكاتب للحديث عن الانتشار القليل للمذهب الحنبلي بسبب تشدد أصحابه في التطبيق، وابتعادهم عن السلطان والولاة، ايثاراً لجانب التعلم والتدريس، وبعدا عن مواطن الفتن (٤٥).
ينهي المؤلف عرضه التاريخي السابق بذكر سريع لأهم المؤلف والمراجع والكتب المعتمدة في هذا المذهب (٤٦).
رؤية نقدية تحليلية عامة مع نهاية مراجعتي لهذا الكتاب – الذي ازعم بأنه يشكل بادرة فكرية طيبة، لها اثر روحي بالغ وكبيرـ أرانئ مضطرا إلى تسجيل بعض النقاط النقدية الضرورية تعليقا على جملة الأفكار التي طرحت في سياق البحث ككل.
النقطة الأولى:
يشكل الكتاب – في عقيدتي – محاولة أولية جادة وجرئية في البحث الفكري التاريخي، وإضافة معرفية نوعية للفكر الإسلامي الأصيل الخاص بالتقريب بين المذاهب الإسلاميّة،
كما وأنه يؤسس – رغم التحفظات الفكرية والتاريخية التي يمكن أن تسجل عليه – لمرحلة جديدة من النشاط والفعالية الثقافية المطلوب العمل عليها – حالياً ومستقبلاً – في ما يتصل بضرورة تقليص الهوة الواسعة والتباعد القائم بين مفكري ومثقفي وعلماء المذاهب الإسلاميّة، ومحاولة إزالة الالتباس وسوء الفهم التاريخي والمعرفي الراسخ والقابع بقوة في داخل الذهنية الفكرية الإسلاميّة، شيعياً وسنياً على حد سواء
ونعتقد أن اللقاءات العامة والخاصة (في ندوة فكرية، أو في تأليف كتاب…. الخ) بين القيادات والفعاليات وبقية أفراد الأمة من المذاهب المختلفة يمكن أن تساهم مساهمة فاعلة وكبيرة في تذويب الجليد، وتوضيح بعض معالم الصورة الحسنة والإيجابية، وإزالة الغموض القائم، وتقريب وجهات النظر، وتأليف القلوب، ومدّ جسور الثقة، وقيام الاحترام المتبادل بين المدارس والمذاهب الفقهية الإسلاميّة.
انني اتصور انه من الضروري جدا في عصرنا الراهن – الذي تواجه فيه امتنا الإسلاميّة تحديات سياسية، وفكرية، واقتصادية، وإعلامية خطيرة تحاول أن تربك كيانها واستقلالها، وتسقط وجودها وتلغي ثقافتها وحضارتها وقوة تأثيرها التبليغي الحيوي والأصيل – أن يتكامل المفكرون والمجتهدون والعلماء المسلمون في اعمالهم وطروحاتهم الثقافية والفقهية من أجل تقريب المضمون الإسلامي إلى وجدان الإسلام، وترتيب عناوينه الفكرية والثقافية الحضارية ومفرداته الاجتماعية لتركيز القاعدة الفكرية الواحدة في خط التنوع،
فلا تكون لدينا عدة اسلامات، كما يحاول البعض من أصحاب التيارات العلمانية الحديث عنه، بل أن يكون هناك اسلام واحد في الفكر والروح والالتزام والممارسة، لا تختلف عناوينه في خطوط الفكر والواقع إلاّ ببعض التفاصيل التي لا تمس الخط العام، لأن الاختلافات الكبيرة والواسعة قد تؤدي – كما أدت – إلى احداث ارتباك وخلل وفوضى في حركية التصور الإسلامي الروحي والمفاهيمي في وجدان الإنسان المسلم، ولاسيما عندما تختلط مقاييس الخطوط العقيدية في ماهو الإيمان والكفر… .
وقد استفاد الاستكبار العالمي – وبعض مواقعه الحليفة له في المنطقة – من هذا الواقع اللاوحدوي المأساوي المرير الذي يزداد انقساما وتفسخا يوما بعد يوم في طبيعة التمزق الوجداني المذهبي، أو عقلية النزاع المتجذرة في العمق اللاواعي من ذهنيتنا، والتخلف الثقافي والسياسي والاجتماعي في التصور والحركة والامتداد ونسيج العلاقات الخاصة والعامة،
فعمل على تحريك وإثارة القلاقل، والمشاكل، والخلافات المذهبية حتّى بين اتباع المذهب الواحد إلى درجة التقاتل والذابح – كما يحدث الآن في أفغانستان – وتعقيد العلاقات الحركية وإيصالها إلى مستوى القطيعة ونقطة اللاعودة، حتّى لم يعد لدينا عالم إسلامي متكامل بالمعنى السياسي أو الفكري الذي يمكن أن يلتقي عليه المسلمون – من شتى المذاهب – على قضاياهم الحيوية، وتطلعاتهم الثقافية، وأوضاعهم السياسية في كل علاقاتهم الواقعية ببعضهم ولعل البيت الشعري التالي يعبر اصدق تعبير عن الواقع الإسلامي ماضياً وحاضراً، وأخشى أن أقول مستقبلاً: وتفرقوا شيعاً فكل قبيلة فيها أمير مؤمنين ومنبر
إنني لا أريد أن أرسم إمامكم صورة سوداوية عن واقع الحال العربي والإسلامي، ولكنها الحقيقة الواقعية التي يجب أن نعترف بها ونقر بوجودها رغماً عنا فالاعتراف بالخطأ في الواقع فضيلة،
لكن الفضيلة الأكبر تكمن في محاولة رفع هذا الخطأ وإزالة السلب قولاً وفعلاً من خلال دراسة الواقع التاريخي بروح منفتحة وعلمية وموضوعية بعيدا عن الانفعال والتعصب للمبادئ والأشخاص.
وأنا اعتقد أن أول شرط للدخول إلى الواقع الحقيقي الشامل – في ما يتصل بقضية التقريب والوحدة بين المسلمين – هو في إحداث اختراق من زاوية التاريخ. أي القيام بخرق تاريخي نوعي، التاريخ كله بسلبياته وإيجابياته، خيره وشره، وتجنب النظرة الانتقائية التي تحاول إجراء عمليات انتقاء لحظات قصيرة متألقة من التاريخ، مع إغفال مقصود لقرون طويلة من التخلف، والظلم، والظواهر الخلافية المستحكمة والمستديمة.
النقطة الثانية:
لقد لاحظت – من خلال متابعتي للكتاب – وجود اتجاه سائد لدى العلماء الباحثين الخمسة جميعهم، في إظهار وتبيان وجاهة ونصاعة مبادئ التاريخ الفقهي للمذاهب الإسلاميّة وأشخاصها الذين تسمت المذاهب باسمهم مع تغافل شبه كامل – عدا بعض المحاولات الجريئة – عن البعد التاريخي الإجرائي الواقعي في طبيعة المعالجات النظرية والمبدئية التاريخية الموضوعية، وقد يصل الأمر – في بعض الأحيان – إلى حد تغييب كامل للواقع بكل إثقاله، وقيوده، وعوائقه، ووزنه، الأمر الذي يؤدي إلى تضييع الإمكانيات، وهدر الطاقات والمواهب.
أن امتلاك الباحث قدرة وإرادة فكرية وعملية واعية على التعاطي الإيجابي مع واقعة التاريخي – الذي يعمل على دراسته وتحليله والتنقيب فيه – يكسب دراسته وعيا وامتداداً وتجذراً في ساحة الواقع، من خلال الربط المنطقي الموضوعي المنتج بين المثال والواقع، والتعامل مع التاريخ بواقعيته، وجدلياته، وقوانينه وارتباطاته العلية والمعلولية، ومتطلباته – فكرا ومسلكا – وإلا فإن الأفق مغلق والطريق مسدود،
أو ربما تقودنا – أن فتحناها بقوة – إلى الفصل البائن والخطير بين مثل اعلى منتظر لا نملك بلوغه؛ لأنه خارج ارادتنا البشرية المحدودة، وخارج التاريخ، وبين واقع نسبي شائك لا نملك القدرة الكافية للتحكم بمساراته، لأن فكرنا المستقبلي يجد حرجا في التعامل مع آلياته الواقعية، فنبقى نعيش على هامش التاريخ ليحتله الآخرون.
إننا لا نريد لكتاباتنا التاريخيةـ خصوصا في مجال الفقه العملي – أن تعمل على كتابة التاريخ من خلال الرؤية الساذجة التي تعتقد أن بوسعها حل خلافات التاريخ بطريقة النوايا الحسنة، والإرادة الطيبة، والبلاغة اللغوية الإنشائية، كما إننا – في الوقت نفسه – لا نرغب في أن تكون، تلك الكتابات، مجرد بيانات تاريخية مثالية تعيش خارج نطاق الزمان والمكان، تماما كما حدث مع كثير من الأخوة الباحثين في الكتاب المذكور،
بل يجدر بنا أن نفكر بعقلية تاريخية قريبة إلى واقع الإنسان النسبي نفكر بأن التاريخ الثقافي والسياسي المعقد – الذي عايشناه في تجاربنا السابقة ولا يزال قائماً حتّى اللحظة في طبيعة الجدل التاريخي الدائر بين علماء المسلمين في مذاهبهم المتعددة – قد يكون ناتجا عن فقدان الروحية الحوارية الواقعية في فهم التاريخ بفكره، ومعارفه، واشخاصه، وتياراته…
لأن هذه الروحية هي من أهم وسائل اكتشاف الحقيقة بالتعاون مع الآخر الذي هو أنت أو انا، وذلك بالاستماع – لا السمع – إلى وجهة نظر التاريخ الذي نريد معالجته أو نقده ودراسته، بفكر منفتح، وعقل بارد. وكذلك القيام – من خلال هذه الروحية بإجراء بحوث ودراسات تاريخية وفقهية مقارنة جادة كمحاولة علمية عملية يمكن أن تساهم في احتواء آثار وأخطار الخصومات والنزاعات المذهبية التاريخية، وإزالة سوء الفهم، كما قد تكشف عن سلامة القصد وصحة المبنى، واستقامة الأدلة، وتصويب المسارات.
وحينئذ يمكن اكتشاف مدى أصالة وصحة الدليل، وهذا بدوره يسهم – بصورة واعية – في التآلف والاحترام الروحي والفكري المتبادل.
إننا ندعو الجميع إلى دراسة التاريخ بأفكاره ومبادئه، واشكالياته كلها من موقع الفكر، والعقل، والروح المستقلة والواعية، والتحلل من الجمود الذهني والتقوقع الطائفي. وهذه – لعمري – مهمة ومسؤولية رسالية إسلامية جسيمة، تحتم على المعنيين بالشأن والتاريخ الإسلامي استثمار المواهب، وتوظيف الطاقات، وتحشيد القدرات لابراز المعارف والآراء النضيجة والعميقة لمواجهة التحدي الكبير على مستوى التاريخ والفكر والعقيدة والتشريع.
نحن نريد أن نفكر بوعي لا أن نجعل التاريخ السلبي يفكر لنا، ويتحكم بمصائرنا، وادوارنا الرسالية الراهنة والمستقبلية وعندما نقول ذلك فإننا نؤكدها – للمرة الألف – نحن لا نخترن في داخلنا آية عقدة فكرية أو نفسية من التاريخ ولا من أشخـاصـه،
بـل – علـى العكـس من ذلك – نحن نحترم التاريخ المشرق والشخص الذي يكون عنوانا ورمزا كبيرا واعيا لجماليات تاريخه، ولفكره ورسالته الإسلاميّة الصحيحة، ونقدسه عندما يتماهى ويذوب – بوعيه المنفتح، وفكره العقلاني، وأرادته الواعية – في داخل رسالته… ليعبر اصدق تعبير عن قيمه والتزاماته الرسالية الحقيقية.
وهذا هو القرآن الكريم – كتابنا المقدس الذي نجل ونكبر – قد مارس عملية النقد الموضوعي الهادف لكل تجارب وأفكار الأمم السابقة وبخاصة الماضي الذي كانت تعيشه امتنا الإسلاميّة… وهو تأكيد ودرس لنا أن نبقى في حالة انفتاح فكري متحرك، وتوجيه للجيل الحاضر بضرورة أن يكسب فكره ومعارفه بنفسه (تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون) (٤٧).
لذلك علينا – كمسلمين رساليين – أن نواجه خلافاتنا، وننقد أوضاعنا السلبية المتخلفة من موقع الفكر لا من موقع الذات أي أن نكون موضوعيين في تناولنا لمسألة النقد وفض النزاعات والخلافات الفكرية، والاشباكات التاريخية، لأن الذات – عندما تفرض نفسها على الفكر – تطغى عليه فلا يستطيع أن يتحرك بحرية عند ذلك من الناحية الذاتية أو من الناحية العملية.
النقطة الثالثة:
هناك حقيقة تاريخية موضوعية حاول بعض الباحثين في الكتاب إغفالها، والبعض الآخر تقصد نفيها عن مذهبه، وهي أن مذاهب أهل السنة والجماعة عموما قد نمت وترعرعت في ظل نعيم السلطة السياسية، وتغذت بطعامها وشربت من مائها، كما يقولون، وقد أدى ذلك إلى سعة انتشارها، وفرضها على الجماهير المسلمة من خلال تولي رموزها، ودعاتها، والمؤمنين باجتهاد أصحابها لمناصب سلطوية وحكومية كان أهمها منصب الإفتاء والقضاء (٤٨).
لقد كانت السلطات السياسية في العهود التاريخية الإسلاميّة الماضية (والحاضرة أيضاً) تتدخل لنصرة هذا المذهب أو ذاك، وتقف إلى جانبه بقوة السلاح والحديد والنار، لذلك كان انتشار هذه المذاهب، وسعة الإقبال عليها لا يعبر، بالضرورة، عن القوة الروحية الذاتية الكامنة في داخل البنية الروحية والفكرية للمذهب نفسه، بمقدار ما يعبر عن قوة تدخل وانخراط السلطة السياسية في نصرة المذاهب وانتشارها.
وقد أوضح الكتاب الكرام – في بحوثهم السابقة عن المذاهب الإسلاميّة – أن مذاهب أهل الجماعة والرأي كانت تختلف في القوة والانتشار، لكنهم لم يدرسوا أسباب ذلك بموضوعية وحياد. فقد رأينا أن المذهب الحنفي هو اكثر المذاهب انتشارا، وأعظمها إقبالا، لقوة أنصاره ومؤيديه، وكثرة دعاته ومبلغيه،
ولعل الفضل الأساسي في ذلك كان يعود إلى القاضي أبي يوسف «قاضي قضاة الدولة العباسية»، فهو ناشر المذاهب وداعيته الأساسية، أو مؤسسه الفعلي – إذا صح ذلك تاريخيا -، وقد كان هذا القاضي مقربا من الخلفاء، ومقبولا جدا عندهم، ولا يشاركه في منزلته أحد. لذلك كانت له تأثيرات قوية جدا في عملية نشر المذهب الحنفي، حتّى انه كان لا يولي قاضيا إلاّ من انتسب إلى مدرسة أبي حنيفة،
واستمر في نشر مذهبه في جميع الأقطار والأمصار، حتّى أصبح هذا المذهب هو المذهب الرسمي للدولة.
والأمر نفسه حدث مع مالك بن أنس الذي أعلنته الدولة العباسية مفتيا لهـا. وقـد نـودي علـيه، غـير مـرة علناً، إلاّ يفتي الناس إلاّ مالك (٤٩).
أما المذهب الشافعي فقد ارتبط انتشاره بكثير من المدارس النظامية الحكومية الرسمية التي تبنتها الدولة لتدريسه وأشهرها نظامية بغداد، وقد تخرج منها كبار فقهاء وعلماء الشافعية.
ويبدو الأمر مختلفا بالنسبة للمذهب الحنبلي، الذي كان أقل المذاهب الإسلاميّة انتشارا نظرا لخشونة أصحابه، وإفراطهم في إشعال الفتن والاضطرابات المذهبية والطائفية هنا وهناك، فهم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وفق رؤيتهم وعقيدتهم الخاصة. إضافة إلى تأخر هذا المذهب في تكوينه ونشأته وتكامله،
كما لم يعترف كثير من العلماء بكون أحمد بن حنبل فقيها أصولياً، وإنما عرف لديهم كمحدث فقط، لذلك لم يجرؤ أصحابه للتقدم إلى مناصب القضاء والإفتاء الرسمي عند الدولة، ولم تعرض الحكومات عليهم هذه المناصب إلاّ في سنين متأخرة، كانت المذاهب الفقهية الأخرى قد سبقته وانتشرت واستحوذت على الجمهور العريض في تقليده لها، والتزامه بمسلكها الفقهي (٥٠).
وفي العصور المتأخرة انطلق هذا المذهب بقوة على يد «محمد بن عبد الوهاب النجدي» بعنوان جديد هو «السلفية»، قامت سلطات نجد الحاكمة في السعودية بدعمه، وتقويته، وصرفت عليه أموالا طائلة لنشره، وبعث كتبه والدعوة إليه. طبعاً لن ننسى دور ابن تيمية في القرن السابع الذي تدارك هذا المذهب بعد أن قل اتباعه وكاد يندرس.
إذا… نستنتج أن السلطات الحاكمة على طول المسار التاريخي الإسلامي قامت بصناعة وتفصيل أكثرية المذاهب، ودعمها، وتقويتها، وفرض ابتاعها على المجتمع المسلم، والوقوف إلى جانب (تأليب) بعضها ضد البعض الآخر، حتّى أن هذه الحكومات نفسها قد منعت الاجتهاد، وأغلقت أبوابه وسدت منافذه، وجعلته حكرا على من مضى «السلف».
كما وفرضت على «الخلف» التقليد، والامتثال، والطاعة العمياء، وحفظ مسائل وأجوبة هؤلاء الأئمة من السلف.
وهناك ملاحظة هامة تتعلق بالحديث السابق حول علاقة السلطات السياسية الحاكمة بالمذاهب الإسلاميّة لأهل الجماعة؛ وهي إننا عندما نتحدث عن العلاقة بين السياسة (٥١) والمذهب فإننا لا نتحدث عن مسألة تسييس هذا المذهب ضد المذهب الآخر ليقمعه ويلغيه،
وهذه مشكلة قائمة وموجودة على مستوى الواقع السياسي والاجتماعي. ونحن – في هذا المجال – لا نقف موقفا سلبيا من حكم آية جماعة تتبنى – باقتناع ووعي كاملين – مذهباً معيناً بذاته، لأن معنى ذلك هو حكم الإسلام في هذا البلد ولو بطريقة معينة، ولكن علينا هنا أن ندخل في عملية توعية وترشيد هذه الجماعة، وتوجيهها بأن تكون للمسلمين جميعاً، ولا تحاول فرض عصبيتها المذهبية على الواقع الإسلامي كله.
النقطة الرابعة:
من المعلوم بالنسبة للجميع أن للتاريخ في حياة كل شعب أو أمة – تريد أن تتطور وتتقدم في المسيرة الحضارية المتصاعدة – دوره الحيوي والحركي الهام في نموها، وتقدمها، وتطورها، وخلودها في مدى الزمان كله، كونه يمثل نقطة الانطلاق الأساسية في عملية البناء الحضاري لا متنا الإسلاميّة في معركتها الحاسمة ضد مواقع التخلف والانقسام الروحي والمفاهيمي
لكن التاريخي المعني بهذه الحقيقة هو التاريخ الذي يجنب الأمة كثيرا من المزالق، والمخاطر، والأخطاء، والتجارب المرة، بما يقدمه لها من تجاربها الماضية في مراحل نموها الأولى، وما تخترنه – تلك التجارب – في داخلها من دروس عملية كثيرة مفيدة، تستطيع أن تضع يديها – من خلال ذلك – بوعي على مواقع الضعف، ومراكز القوة في شخصيتها، وفكرها، ورسالتها التي عاشتها في تلك الأدوار.
وهناك يكون الطريق أكثر وعياً، وإشراقاً، وأرحب آفاقاً وامتداداً في ساحة الحياة مما لو انطلقت – تلك الأمة – فيه على غير هدى التاريخ.
لكن ذلك لا يمكن أن يتحقق أو يتحرك عملياً على الطريق الصحيح ليكتب لـه النجاح والتوفيق إلاّ بإجراء دراسة واعية لتاريخنا الماضي – برموزه، وعناوينه وأفكاره وشخصياته – دراسة استقرائية غائية تؤمن بضرورة تنقية أجوائنا التاريخية من التراكمات الذاتية والشعاراتية في إطار التعامل معها بلغة المنطق والعقل (لكل ظاهرة سببها الطبيعي).
وهذه أمنية موضوعية واقعية كنا نتمـنى لكـتابنـا المـوسوم لـو أنه أخذ بها والتزمها – تاريخا وتوثيقا – لا أن يكون مجرد بيان سردي تاريخي على طريقة قصص وروايات التاريخ الماضي.
الهوامش
* – صدر الكتاب عن مركز الغدير للدراسات الإسلاميّة، بيروت، لبنان ط: ١، ١٩٩٨. وقد قام باعداده كل من الدكتور: عبد الهادي الفضلي، الدكتور: محمد وفاريشي، الأستاذ: محمد سكحال الجزائري، الدكتور: وهبة الزحيلي، الدكتور: اسامة الحموي.
١ـ مفكرو فقيه من العربية السعودية.
٢ – الكتاب، ص: ١٧.
٣ – الكتاب، ص: ٤٩ – ٦٣.
٤ – الكتاب، ص: ٦٤ – ٦٠.
٥ – الكتاب، ص: ٦٦.
٦ – الكتاب، ص: ٧٧ – ١٠٦.
٧ – الكتاب، ص: ١١٤ – ١٣٨.
٨ – الكتاب، ص ١٣٨ – ١٣٩.
٩ – الكتاب، ص: ١٣٩ – ١٠٠.
١٠ – الكتاب، ص: ١٠٠ – ١٧٩.
١١ – اُستاد في كلية الشريعة بجامعة دمشق.
١٢ – الكتاب، ص: ١٩٧ – ٢٤٨.
١٣ – الكتاب، ص: ٢٤٩ – ٣٠٠.
١٤ – الكتاب، ص: ٣٠١ – ٣١٠.
١٥ – الكتاب، ص: ٣١١ ـ٣١٢.
١٦ – الكتاب، ص: ٣١٦ – ٣٢٦.
١٧ – الكتاب، ص: ٣٣٠ – ٣٣٣.
١٨ – الكتاب، ص: ٣٣٠ ـ٣٤١.
١٩ – الكتاب، ص: ٣٤٣ـ ٣٦٠.
٢٠ – الكتاب، ص: ٣٦١ـ ٣٦٣.
٢١ – من علماء دمشق.
٢٢ – الكتاب، ص: ٣٧١ – ٣٨٠.
٢٣ – الكتاب، ص: ٣٨١ – ٤٢٢.
٢٤ – الكتاب، ص: ٤٢٣ – ٤٣٤.
٢٥ – الكتاب، ص: ٤٣٠ – ٤٦٦.
٢٦ – الكتاب، ص: ٤٦٧ – ٤٧٣.
٢٧ – الكتاب، ص: ٤٧٠ – ٤٨٢.
٢٨ – رئيس قسم الفقه الإسلامي ومذاهبه في كلية الشريعة بجامعة دمشق.
٢٩ – ا الكتاب، ص: ٤٩١ – ٥٠٦.
٣٠ – الكتاب، ص: ٥١٠ – ٥٢١.
٣١ – الكتاب، ص: ٥٢٢.
٣٢ – الكتاب، ص: ٥٢٢ – ٥٢٥.
٣٣ – الكتاب، ص: ٥٢٦ – ٥٢٨.
٣٤ – الكتاب، ص: ٥٢٨ – ٥٣٠.
٣٥ – الكتاب، ص: ٥٣٠ – ٥٣٢.
٣٦ – الكتاب، ص: ٥٣٣ – ٥٣٦.
٣٧ – الكتاب، ص: ٥٣٦ ـ٥٤١.
٣٨ – الكتاب، ص: ٥٤١ – ٥٤٥.
٣٩ – الكتاب، ص: ٥٤٩ – ٥٥٧.
٤٠ – الكتاب، ص: ٥٥٧ – ٥٥٨.
٤١ – أستاذ في كلية الشريعة بجامعة دمشق.
٤٢ – الكتاب، ص: ٥٦٩ – ٥٨٨.
٤٣ – الكتاب، ص: ٥٨٩ – ٦٠٤.
٤٤ – الكتاب، ص: ٦٠٥ – ٦٠٦.
٤٥ – الكتاب، ص: ٦١١.
٤٦ – الكتاب، ص: ٦١٣ – ٦١٨.
٤٧ – الكتاب، ص: البقرة: ١٣٤.
٤٨ – يؤكد شاه ولي الدهلوي في كتابه (حجة الله البالغة، ج: ١، ص: ١٥١): «أن أي مذهب كان أصحابه مشهورين، واسند إليهم القضاء والإفتاء، واشتهرت تصانيفهم بين الناس، ودرسوا درسا ظاهر انتشر في أقطار الأرض، ولم يزل ينتشر كل حين. واي مذهب كان أصحابه خاملين، ولم يولوا القضاء والإفتاء، ولم يرغب فيهم الناس اندرس بعد حين».
٤٩ – راجع كتاب: اسد حيدر، الامام الصادق والمذاهب الأربعة ١ / ١٦٧، نقلاً عن تذكر الحفاظ ١ / ٣٠٦.
٥٠ – راجع: تاريخ العلامة بن خلدون، دار الكتاب اللبناني، بيروت: ١٩٩٣، ٣ / ٨٠٣.
٥١ – نقول هنا: أن مسألة السياسة أساسية ومركزية في الإسلام، لأنها تتعلق بقضية ومبدأ وقيمة العدالة التي ينطلق بها الإسلام في تشريعاته ومبادئه الفردية والجماعية كلها، ويجب أن يكون العنوان الحاكم سياسة العدل مع النفس، والعدل مع الله، والعدل مع الناس ومع الحياة
المصدر: مجلة رسالة التقريب – العدد ٣٣