الاجتهاد: يناقش المؤلف في كتاب ” التكفير والتكفيريون الجدد” بصورة علمية ومنهجية ظاهرة التكفير في المجتمعات المسلمة، وأسباب بروز جماعات تؤمن بالتكفير والتطرف، وخطورة الفكر التكفيري على المجتمع والأمة، وتزايد انتشار هذا الفكر الغريب عن منهج الإسلام ووسطيته. وقد أشار المؤلف في كتابه إلى ضوابط التكفير، وأسبابه، ومخاطره، وعلاجه بما يستثير العقل، وينمي الوعي تجاه هذه الظاهرة الانحرافية عن منهج الإسلام الأصيل. قراءة: لبنى بوشوارب؛ باحثة مغربية
قسم المؤلف (الشيخ الدكتور عبدالله اليوسف) الكتاب إلى أربعة فصول وهي:
الفصل الأول: ضوابط التكفير
الفصل الثاني: أسباب التكفير
الفصل الثالث: مخاطر التكفير
الفصل الرابع: علاج التكفير
وقال مؤلف الكتاب سماحة الشيخ عبدالله اليوسف في مقدمته للكتاب ما نصه:
إن ظاهرة التكفير في المجتمع الإسلامي ظاهرة قديمة ومتجددة، فقد نشأت في العصر الإسلامي الأول، وتعتبر حركة الخوارج أول حركة تكفيرية، وقد تبنت الرأي القائل بكفر أو شرك مرتكب الكبيرة من المسلمين، وعُرفت هذه الحركة التكفيرية بالقسوة والشدة والعنف، وانتهاك الأعراض والأموال والأنفس، ووصل بهم الجرأة إلى حد تكفير الإمام علي بن أبي طالب لأنه رفض التراجع عن قبول التحكيم، مما اعتبروه معصية كبيرة في نظرهم، وهو أمر يستوجب التكفير.
وتوالت بعد ذلك الحركات والتوجهات والتيارات التكفيرية في الأمة، فنشأت حركات تكفر المجتمع الإسلامي برمته، أو تكفر كل من يختلف معها في مذهب أو معتقد أو رأي أو منهج، ولم يقتصر التكفير على أصحاب المذاهب المختلفة كما كان بين المعتزلة والأشاعرة، أو بين السنة والشيعة، بل وصل الأمر إلى درجة تكفير حتى أصحاب المذهب الواحد لبعضهم البعض لمجرد اختلاف في بعض الآراء، أو المواقف السياسية، أو المناهج العلمية أو العملية.
وخطورة تكفير المسلم لا تأتي من كونه رأياً مجرداً وإنما لما يترتب على ذلك التكفير من استباحة الأنفس والأعراض والأموال، وتطبيق حكم الردة على المسلم لمجرد الاختلاف المذهبي أو الفكري أو السياسي، وهو الذي يدفع بالجماعات التكفيرية لممارسة الإرهاب والقتل ضد كل من يختلف معهم!
وما نشهده اليوم في عصرنا الراهن في العديد من البلدان الإسلامية من لجوء بعض حركات التكفير إلى استخدام العنف والقتل والذبح ضد من يعتقدون بكفرهم وارتدادهم عن الإسلام، والتساهل في قتل الأبرياء، وانتهاك الأعراض، وتدمير الممتلكات إنما يعود إلى بروز تيارات التكفير في العالم العربي والإسلامي، والتي تتسرع في إطلاق حكم التكفير ضد مخالفيها دون دليل شرعي أو عقلي، ومن ثم تلجأ إلى استخدام العنف ضدهم مما أدى إلى قتل الآلاف من المسلمين بدم بارد.
قراءة في كتاب التكفير والتكفيريون الجدد
تعدّ ظاهرة التّكفير في المجتمع الإسلاميّ ظاهرة قديمة ومتجدّدة، فقد نشأت في العصر الإسلاميّ الأوّل، وتُعدّ حركة الخوارج أوّل حركة تكفيريّة، جرّاء تبنّيها للرّأي القائل بكفر أو شرك مرتكب الكبيرة من المسلمين، وقد عرفت هذه الحركة التّكفيريّة بالقسوة والعنف وانتهاك الأعراض والأنفس.
ولم يكن التّكفير موقفًا يطلق على أصحاب المذاهب المخالفة للمذهب الذاتيّ؛ بل كان يجري – أيضًا – حتّى داخل المذهب أو الدّين الواحد، لمجرّد اختلاف في بعض الرّؤى، أو المواقف بين المنتمين إلى ديانة واحدة، أو مذهب واحد، أو فرقة واحدة، ويمكن تلخيص خطورته على المسلمين – بكلام مؤلّف الكتاب – في كونها “لا تأتّي من كونه رأيًا مجرّدًا، إنّما لما يترتّب على ذلك التّكفير من استباحة الأنفس والأعراض والأموال، وتطبيق حكم الرّدّة على المسلم لمجرد الاختلاف المذهبيّ أو الفكريّ أو السّياسيّ، وهو ما يدفع بالجماعات التّكفيريّة إلى ممارسة الإرهاب والقتل، ضدّ كلّ من يختلف معهم!”[1]، وهو ما تلوح مظاهره ونتائجه – اليوم – بوضوح، في العنف والقتل المنتشرين هناك وهناك بعلّة نشر الدّين الإسلاميّ، ومقاومة كلّ القوى والحكومات المهدّدة لوجوده.
لهذه الخطورة تصدّى المؤلّف – أوّلًا – لتحديد مفهوم التّكفير وضوابطه، فقرّر في هذا السّياق أنّ التّكفير حكم شرعيّ، لا يجوز إطلاقه على أحد من المسلمين ممّن ينطق بالشّهادتين، ويقرّ بالأصول الاعتقاديّة، ولا ينكر ضرورة من ضروريّات الدّين، من هنا، رأى أنّه يجب معرفة ضوابط التّكفير تفاديا للحكم على أحد المسلمين بالخروج عن الدّين، وحدّد من هذه الضّوابط، الآتي:
إنكار أصل أو ضرورة من الدّين: يذكر الكاتب أنّه ورد قطعيّات دينيّة من النّصّ القرآنيّ، للتّحذير والنّهي عن تكفير المسلم، أمّا ما تصدق عليه تسمية المسلم؛ فهو كلّ من نطق بالشّهادتين، وصدّق بالتّوحيد والرّسالة والمعاد، وبذلك يدخل الإنسان في عداد المسلمين، ويعصم دمه وماله وعرضه، وممّن يستشهد به في هذا الإطار: (جعفر السّبحانيّ)؛ إذ يقول: “لا يجوز تكفير المسلم المعتقد بالأصول الثّلاثة، إنّ المسلمين في عالمنا الرّاهن يتّفقون في الأصول الأساسيّة الثّلاثة، فليزم أن لا يكفّر فريق فريقًا آخر بسبب الاختلاف في بعض الأصول أو الفروع الأخرى، وذلك لأنّ الكثير من الأصول المختلف فيها، هي في الحقيقة من القضايا الكلاميّة الّتي طرحت على بساط البحث والمناقشة بين المسلمين، إنّ أفضل الطّرائق لحلّ هذا الاختلاف: هي الحوار العلميّ بمنأى عن العصبيّات الجافّة، والمواقف المتزمّتة وغير الموضوعيّة[2].
العلم بالمكفّرات: من أنكر الصّلاة – مثلًا – مع علمه بوجوبها، أو أنكر الأصول الثّلاثة: التّوحيد، النّبوّة، والمعاد، وثبت أنكاره لها، فهو محكوم بالكفر، وخارج عن الإسلام.
انتفاء الشّبهة: من الضّوابط يذكّر – كذلك – الكاتب ضابط انتفاء الشّبهة، ومعناه أن ينكر شخص أصول الدّين، ولكن من دون إنكار، أو لوجود شبهة لديه، فلا يحكم في هذه الحالة بكفره ولا بارتداده.
وتعليقًا على هذه الضّوابط، نلاحظ أنّ الكاتب ركّز على الأمور الاعتقاديّة الخاصّة بالمسلمين، دون الحديث عن التّكفير على أنّه ظاهرة متجاوزة للحدود الجغرافيّة، ومتجاوزة للدّين الواحد، فالأصوليّة الدّينيّة لا تقتصر على دين بعينه؛ إنّما هي ظاهرة عامّة منتشرة في الدّيانات الأخرى، لهذا تنتشر ظاهرة التّكفير عند غير المسلمين، وإن كانت تجري بصورة مضمرة، ولكنّها تؤدّي إلى العنف نفسه الّذي يغطّى بتبريرات غير دينيّة.
وبالصّورة نفسها من قصور تعريف التّكفير، لم يتطرّق الكاتب لقضيّة تكفير غير المسلم من قبل المسلمين أنفسهم، وهذا أمر أساسيّ ومهمّ؛ لأنّ العصر الحاليّ شهد اتّساع ظاهرة تكفير غير المسلمين، ونحن نشاهد ما يتولّد عنه من مزيد الكراهيّة والعنف والحروب نحو المسلمين، وعدّهم خطرًا حقيقيًّا يهدّد الغرب، وبوصفهم أبرز مموّل للإرهاب في العالم، ولئن كان في التّعميمات الّتي يدخل فيها الرّأي العامّ الغربيّ كثير من التّجنّي على الإسلام والمسلمين؛ فإنّ مبرّراتها قد تكون ماثلة في بعض الفكر الإسلاميّ الّذي يدّعي بعده عن التّكفير ومقاومته، لكنّه يحمل في داخله بذور هذا الفكر مضمرة فيه، كما يتجسّد ذلك في تعريف المؤلّف – هنا – لضوابط التّكفير.
أمّا في شرحه لأسباب التّكفير، فيقرّر المؤلّف أنّ من أسبابه ما يورده على التّرتيب الآتي:
قلّة العلم: وهي بادية عند أصحاب فتاوى التّكفير، وفي هذا يقول الكاتب: “فلو تتبّعنا زعماء الجماعات التّكفيريّة، ودققّنا النّظر في القائمين عليها، فسنجد أنّهم من أنصاف المتعلّمين والطّلبة وليسوا من العلماء، فضلًا عن أن يكونوا من الفقهاء المجتهدين، وعدم وجود الأهليّة العلميّة عند هؤلاء، أدّى إلى ظهور جماعات إسلاميّة مختلفة لا ترى الحقّ إلّا في نفسها، أمّا غيرهم فهم كفّار وفسقة، ولا يجوز التّعاطي والتّحاور معهم بأيّ شكل من الأشكال!”[3]، ومن هنا؛ فإنّ نتيجة آرائهم وفتاويهم ستكون بصورة آليّة شرعيّة، هي استباحة الدّماء والتّناحر بين المسلمين وغير المسلمين.
أمّا السّبب الثّاني: هو الفهم الخاطئ للنّصوص؛ فمن يتتبّع الآراء التّكفيريّة للجماعات الّتي تؤمن بالتّكفير، يجد أنّ أصحابها قد فهموا النّصوص الدّينيّة بصورة خاطئة؛ إمّا لفهمهم السّقيم للنّصوص، أو لتأويلها بغير مقصودها، أو للجمود على ظواهرها دون فهم مقاصدها، أو للأخذ بأقوال شاذة، أو لتحميل النّصوص ما لا تحتمل، وعلى هذا يعلّق الكاتب بقوله: “لقد أدّى التّمسّك بالفهم الخاطئ، أو التّأويل غير الصّحيح للنّصوص الدّينيّة، أو الأخذ بنصوص ضعيفة أو موضوعة، أو التّمسك بآراء اجتهاديّة شاذّة، إلى بروز الفكر التّكفيريّ، وهو ما أدّى إلى تأسيس تيارات وجماعات تكفيريّة، تمتاز بذهنيّة صداميّة تكفيريّة، لا تؤمن بالرّأي الآخر، ولا تعترف بإسلام أحد سواها، والحكم بفكر وردّة كلّ من يخالف فهمها للنّصوص أو الدّين”[4]، وعلى هذا الأساس يقرّ بالحاجة الماسّة إلى تنقيّة التّراث وغربلته وتوضيحه، حتّى يغلق المجال أمام التّكفيريّين عن الذّهاب بالتّأويل إلى مذاهب مناوئة لمقصوده الأصليّ، تحمّله ما لم يوجد فيه مطلقًا.
ويمثّل التّعصب والتّشدد سببًا آخر من أسباب التّكفير ومناشئه، هو: التّعصب المذموم، والتّشدّد في تطبيق أحكام الإسلام بما يخرج المرء عن مسار الاعتدال أو الاتّزان، ثمّ يؤدّي بصاحبه إلى الحكم على الآخرين بالكفر، والخطير – حسب الكاتب – في الجماعات التّكفيريّة: “أنّهم لم يقتصروا في التّشدّد والتّعصب على أنفسهم؛ بل هم يريدون أن يفرضوا نمط تفكيرهم المتشدّد على الآخرين، ويرون أنّ كلّ من لا يقبل أفكارهم المتعصّبة مهدورَ الدّم والمال والعرض”[5].
فأمّا الغلوّ في الدّين، وهو من أسباب التّكفير الّتي يحصيها المؤلّف – أيضًا – فهو من المحاذير الّتي نبّه إليها القرآن في قول الله سبحانه: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ} [النّساء (4): 171].
يرى الكاتب – في شأن هذا السّبب – أنّ هناك مراتب في الغلوّ، فيقول: “والغلوّ في الدّين له مراتب ودرجات متفاوتة، لكنّ الجماعات التّكفيريّة عندهم غلوّ ساذج في علمائهم ومنظّريهم، فيقدّمون أقوالهم على أقوال أئمة الإسلام، وأفكارهم على ما تسالم عليه العلماء قديمًا وحديثًا، فيقعون نتيجة هذا الغلوّ في مزالق خطيرة، وانحرافات جسيمة؛ فيكفّرون مَن شاؤوا، ويحكمون بالرّدّة على من أرادوا، ولا يقيمون وزنًا لآراء الفقهاء؛ بل يتّبعون أهواءهم، وما يوسوس لهم شيطانهم، فيمارسون التّكفير من دون ورع ولا تقوى، ولا علم ولا هدى مبين!”[6].
وعلى أهميّة الشّرح الّذي قدّمه المؤلّف لأسباب التّكفير؛ فإنّ خطابه في هذا الشّأن لم يتجاوز المعهود والمألوف من الأفكار في هذا الموضوع، وإذا ما كانت الأسباب من أهمّ ما يجب معرفته لمقاومة الظّواهر الضارّة بالمجتمعات، فإنّ رصد هذه الأسباب بهذه الصّورة، قد لا يقدّم فائدة كبيرة، مادامت معرفتها منذ أمد بعيد لم تؤدّ – واقعيًّا – إلى الحدّ من ظاهرة التّكفير؛ بل يمكن القول: إنّ في بعضها ما يمدّ في نَفَس التّكفير، كاعتبار الجهل بالدّين سببًا من أسباب التّكفير، فتمامًا كما تمثّل مقولة الجهل بالدّين نعتًا للفكر التّكفيريّ؛ فإنّها تحتمل – ضمنيًّا – أنّ هناك معرفة “صحيحة” بالدّين، وعين هذه المقولة بدورها قد تكون علّة للتّكفير أيضًا، حين يرى المسلم أنّه يمسك حقيقة الدّين.
يتحدّث المؤلّف – أيضًا – عن مخاطر التّكفير، فله مخاطر جسيمة وآثار وخيمة على الأفراد والمجتمعات، وقد اكتوت المجتمعات المسلمة بنار التّكفير، وقُتل الآلاف من الأبرياء بذريعة الرّدّة عن الإسلام، ولهذا يثنّي المؤلّف ذكر هذه المخاطر بالرّدّ عليها، على النّحو الآتي:
– التّعدّي على الحرمات: إنّ من القواعد المهمّة في الإسلام؛ عصمة الدّماء والأموال والأعراض، بغضّ النّظر عن انتماء الإنسان المذهبيّ والدّينيّ والعرقيّ واللّغويّ؛ لأنّ الحفاظ على الأنفس والأموال والأعراض من أهم المقاصد في الإسلام، ولأنّ إراقة الدّماء وسلب الأموال وهتك الأعراض قبيح في نفسه، ومن أهمّ مداخل الظّلم الّذي نهى العقل والشّرع عنه، وقد جاء في القرآن الكريم، قوله تعالى: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم بَعْدَ ذَلِكَ فِي الأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ} [سورة المائدة (5): 32]، ويعلّق الكاتب على الآية بقوله: “لم تفد الآية الشّريفة قتل النّفس بأيّ قيد إضافيّ؛
فالإنسان محترم ما لم يكن مهدور الدّم، والآية الشّريفة تدلّ بوضوح على أهميّة احترام النّفس الإنسانيّة، وعدم جواز الاعتداء على الإنسان– أي إنسان – بغضّ النّظر عن دينه أو عرقه أو لغته، فالآية أشارت بوضوح إلى قتل النّفس {مَن قَتَلَ نَفْسًا}، ولم تقل من قتل نفسًا مسلمة، وفي هذا دلالة على العموم والإطلاق إلى وجوب احترام النّفس الإنسانيّة، وأنّ قتل أيّ إنسان– بغير حقّ – هو قتل الناس جميعًا”[7]، إذن، لا يمكن – بأيّ حال من الأحوال – الاعتداء على الآخر كيفما كان؛ فالعقل والدّين ضدّ العنف.
تشويه صورة الإسلام: إنّ من أضرار التّكفير ومخاطره تشويه صورة الإسلام السّمحة في نظر الرّأي العامّ العالميّ، بفعل ممارسة الإرهاب من قبل جماعات تكفيريّة أو أفراد ينتمون – أو يدّعون الانتماء – إلى الإسلام، وقد أدّى هذا الأمر إلى تشويه حقيقة الإسلام في نظر المجتمعات الأخرى، وأعطى هؤلاء صورة خاطئة عن الدّين الإسلاميّ، وعن مفاهيمه الأساسيّة، وعن الشّريعة السّمحة.
ويرى الكاتب في هذا السياق: أنّ القيام بأيّ عمل إرهابيّ ضدّ الأبرياء من النّاس، يعطي انطباعًا عميقًا وخاطئًا بأنّ الإسلام يدعو إلى العنف والكراهيّة، في حين أنّ الإسلام دين السّلام والمحبّة والتّسامح، فقد جاء رحمة للعالمين، كما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} [الأنبياء (21): 107]، لكنّ الأعمال الإرهابيّة الوحشيّة الّتي تقوم با الجماعات التّكفيريّة شوّهت صورته وحقيقته”[8].
التّصادم الاجتماعيّ: إنّ من أضرار التّكفير ومخاطره إيجاد الأرضيّة المناسبة للتّصادم بين الطّوائف والمذاهب الاجتماعيّة، فلا ترضى أيّة جماعة أو مجتمع أو طائفة أو مذهب أن يوصم بالكفر، والخروج عن الإسلام، وازدادت حِدَّة التّكفير – اليوم – فأصبحت تشكّل تحدّيًا كبيرًا أمام مختلف دول العالم، يقول الكاتب: “أصبح التّكفير سهلًا، وبدون ضوابط أو قيود شرعيّة، مع الاستفادة من التّقنيّات والوسائل الحديثة في إيصال رسائل التّكفير إلى الأتباع، وهو ما أدّى إلى سفك الدّماء، وقتل الأبرياء، وتدمير الممتلكات في العديد من البلاد الإسلاميّة، وهو ما تسبّب في انتشار الأحقاد والضّغائن بين المسلمين، وزيادة منسوب الكراهيّة والحقد بين أتباع المذاهب الإسلاميّة”[9].
اللّجوء إلى العنف: اللّجوء إلى العنف والقتل وسفك الدّماء أحد آثار التّكفير الخطرة جدًّا؛ إذ تلجأ الجماعات التّكفيريّة إلى استخدام العنف ضدّ مخالفيها، وتستهين بإزهاق الأرواح، وقتل البشر، واستباحة الأموال، وانتهاك الأعراض تحت ذريعة أنّهم كفّار، ومشركون، ومرتدّون عن الدّين، لذلك، يجب أن تتظافر كلّ الجهود لمعالجة فكر وثقافة التّكفير، والتّصدّي – علميًّا وعمليًّا – للمجموعات التّكفيريّة، وإشاعة روح التّسامح بين المسلمين، وبينهم وبين غيرهم من أصحاب الدّيانات الأخرى من أجل تعزيز العيش المشترك، وتنمية السّلم في العالم.
فما علاج التّكفير في نظر المؤلّف؟
إجابة عن هذا السؤال؛ يجعل المؤلّف الفصل الرّابع من كتابه خطّة لمقاومة التّكفير، وهي خطّة يمكن تبويبها في النّقاط الآتية:
نشر العلم والمعرفة: إنّ أوّل خطوة لمواجهة فكر الجماعات التّكفيريّة؛ هي نشر العلم والمعرفة الدّينيّة الصّحيحة بين النّاس، حتّى لا ينخدعوا بالشّعارات الّتي يرفعها التّكفيريّون لتضليل النّاس وإغوائهم عن طريق الحقّ، وحسب الكاتب؛ فالتّكفيريّون “يتميّزون بالقشريّة والسّطحيّة في فهم الدّين، نتيجة جهلهم بأحكام الدّين، وفهمهم الخاطئ لمبادئ الإسلام ومقاصده وأهدافه الكبرى، ولا علاج لهذا الحالة المرضيّة إلّا بنشر المعارف الدّينيّة الحقّة، وبيان مقاصد ومبادئ وقيم وأخلاق الإسلام”[10].
– بيان حرمة القتل والعدوان: ممّا يجب هنا – حسب المؤلّف – بيان أنّ قتل نفس الأبرياء من أشدّ الحرمات، فقد نهى القرآن عن ذلك، وفي السّنّة نفس الأمر؛ فقد استنكر النّبيّ على أسامة بن زيد تساهله في قتل إنسان نطق بالشّهادتين؛ ففي رواية أَبُي ظَبْيَان: “قَالَ: سَمِعْتُ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، يُحَدِّثُ قَالَ: بَعَثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الحُرَقَةِ مِنْ جُهَيْنَةَ، قَالَ: فَصَبَّحْنَا القَوْمَ فَهَزَمْنَاهُمْ، قَالَ: وَلَحِقْتُ أَنَا وَرَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ رَجُلًا مِنْهُمْ، قَالَ: فَلَمَّا غَشِينَاهُ قَالَ: لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، قَالَ: فَكَفَّ عَنْهُ الأَنْصَارِيُّ، فَطَعَنْتُهُ بِرُمْحِي حَتَّى قَتَلْتُهُ، قَالَ: فَلَمَّا قَدِمْنَا بَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: فَقَالَ لِي: (يَا أُسَامَةُ، أَقَتَلْتَهُ بَعْدَ مَا قَالَ لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ)، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّمَا كَانَ مُتَعَوِّذًا، قَالَ: (أَقَتَلْتَهُ بَعْدَ مَا قَالَ لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ)، قَالَ: فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا عَلَيَّ، حَتَّى تَمَنَّيْتُ أَنِّي لَمْ أَكُنْ أَسْلَمْتُ قَبْلَ ذَلِكَ اليَوْمِ”[11]، وفي رواية قَالَ: “قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّمَا قَالَهَا خَوْفًا مِنَ السِّلَاحِ، قَالَ صلى الله عليه وسلم: (أَفَلَا شَقَقْتَ عَنْ قَلْبِهِ حَتَّى تَعْلَمَ أَقَالَهَا أَمْ لَا؟”[12]. لكنّ المشكلة الّتي يعيشها العصر في نأي عن روح الدّين، أنّ النّوايا الّتي نهت السّنّة عن التّكفير بموجب جهلها، صارت تدخل – بدورها – في باب الكفر فلا ينظر إلى الإيمان بوصفه وضعًا نفسيًّا، قد لا تعبّر عنه الأحوال الظّاهرة، إنّما هو مختزل في ما ظهر من السّلوك والقول، هذا دون الحديث عن التّكفير حتّى بسبب اللّباس بدعوى أنّ ذلك لباس غير المسلمين.
– تبيين مشروعيّة الاختلاف: تحدّث الكاتب عن قضيّة الاجتهاد الّذي يعدّ إقرارًا بشرعيّة الاختلاف؛ إذ من حقّ كلّ مجتهد جامع لشروط الاجتهاد أن يعبّر عمّا توصّل إليه من فتاوى وآراء اجتهاديّة، وليس من حقّ أحد الاعتراض على من يجتهد، ما دام رأيه ضمن الإطار الشّرعيّ، ويؤكد الكاتب – هنا – على نقطة مهمّة، بالقول: “وإذا كان من السّائغ شرعًا الاختلاف في أمور الدّين الفرعيّة، حسبما تقتضيه اجتهادات الفقهاء، فمن الأولى جواز الاختلاف في أمور الدّنيا؛ كالقضايا السّياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة …إلخ، طبقًا لما تقتضيه اجتهادات المفكّرين والباحثين والعلماء المختصّين، وضمن إطار الضّوابط والثّوابت الشّرعيّة، وعليه، فلا يحقّ لأحد مصادرة رأي الآخر لمجرد مخالفته رأيه”[13].
في هذا الباب – أيضًا – يلوح ضيق الأفق الّذي ينطلق منه المؤلّف، فليس الاعتراف بالاجتهاد حقًّا ذاتيًّا لكلّ مجتهد، كافيًا لحلّ مشكلة التّكفير، مادام محكومًا بالضّوابط الشّرعيّة، ففي سياق غموض مدلول هذه الضّوابط؛ بل تصلّبها في مدلولات محدّدة تفقد فكرة ذاتيّة الاجتهاد أيّ معنى، هذا فضلًا عن ضيقها في فكر المؤلّف، مادام الاجتهاد عنده لا يصل إلى أن يتخلّص من حصار العلماء، ليصبح عملًا إنسانيًّا مباحًا للجميع.
وفضلًا عن هذه الخطوات الفكريّة؛ فإنّ من الخطوات العمليّة الّتي يطرحها المؤلّف على العلماء والمتصدّرين للشّأن الدّينيّ، تفنيد الشّبهات والإشكاليات؛ ففي هذا السّياق يبيّن أنّ التّكفيريّين يطرحون الكثير من الشّبهات والإشكاليّات، من أجل نشر أفكارهم التّكفيريّة المدمّرة، والتّبرير لمواقفهم العنيفة ضدّ الآخرين؛ لذلك يتوجّب على العلماء والفقهاء تفنيد كلّ شبهات وإشكاليّات الجماعات التّكفيريّة، من أجل التّأثير – أوّلًا – في أتباع هذه الجماعات، والسّعي نحو هدايتهم إلى الحقّ، وثانيًا: من أجل حماية المجتمع من فيروس التّكفير والإرهاب.
أخيرًا، يمكن القول: إنّ هذا الكتاب يعدّ مثالًا على الضّرورة الحارقة إلى التّصدّي للخطاب التّكفيريّ، يفيد – من هذا الجانب – في سياق الدّعوة إلى الاهتمام العاجل بمقاومة هذه المسألة، ويفيد، بالمقابل، بأنّه يعدّ مثالًا عن قصور بعض الخطابات المقاومة للتّكفير، وما تحمله في جوهرها من قِيَم لا تقاوم التّكفير؛ بل قد تسهم في صناعته.
إنّ تعيين ضوابط التّكفير وحصرها في المسلمين، وتعيين الاجتهاد بأنّه حقّ للقلّة في الإيمان دون الكثرة، يحمل في ثناياه إقرارًا بالتّفاضل بين النّاس في المعرفة والحقيقة، ويعدّ المبدأ الأوّل لنشأة التّكفير باسم الدّين، لذا؛ فإنّ معاجلة التّطرّف والتّكفير لا تقتصر على بُعد واحد للمواجهة؛ بل يجب أن تشمل كلّ الأبعاد: عليها أن تشمل توضيح أبعاد الدّين – وعلى رأسها البعد الشّرعيّ – ونقض الفكر التّكفيريّ علميًّا ودينيًّا، وتفنيد كلّ الشّبهات والإشكاليّات الّتي يطرحها التّكفيريّون، والتّصدي الحازم لهم بتطبيق عقوبات ضدّ من يمارس العنف والقتل، وعليها أن تشمل حتّى الخطابات المتصدّية لظاهرة التّكفير، فالكثير منها يقاومه، لكنّه يحمل في ثناياه عوامل امتداده.
لا يمكن حصر قضيّة التّكفير ومعالجتها داخل الوسط الإسلاميّ – كما فعل الكاتب إلى حدّ ما – بل يجب عدّ التّكفير ظاهرة خطيرة عابرة للحدود من خلال تكفير الغرب من قبل الأصوليّين.
غلاف الكتاب
كتاب التكفير والتكفيريون الجدد
المؤلف: الدّكتور عبد الله أحمد اليوسف
إصدار: منشورات ضفاف بيروت
الطّبعة الأولى: 2015م
عدد الصفحات: 91 صفحة
الهوامش:
[1]- التكفير والتكفيريون الجدد، عبد الله أحمد اليوسف، منشورات ضفاف بيروت، ط1، 2015، ص 8
[2]- التكفير والتكفيريون الجدد، عبد الله أحمد اليوسف، ص 14
[3]- التكفير والتكفيريون الجدد، عبد الله أحمد اليوسف، ص ص 27- 28
[4]- نفسه، ص ص 35- 36
[5]- نفسه، ص 39
[6]- التكفير والتكفيريون الجدد، عبد الله أحمد اليوسف، ص 43
[7]- نفسه، ص 48
[8]- التكفير والتكفيريون الجدد، عبد الله أحمد اليوسف، ص 51
[9]- نفسه، ص 54
[10]- التكفير والتكفيريون الجدد، عبد الله أحمد اليوسف، ص 62
[11]- أخرجه البخاري 6872
[12]- أخرجه مسلم 158
[13]- التكفير والتكفيريون الجدد، عبد الله أحمد اليوسف، ص 71