الاجتهاد: الحكم بقتل المرتد من واضحات الإسلام ، ويقطع بثبوته، وليس من الصحيح التشكيك في ذلك بذريعة الدفاع عن الإسلام أمام هجمات غير المسلمين تأثراً بالثقافة التي يراد ترويجها لتغير معالم الإسلام، وجعله ديناً مدنيّاً ليبراليّاً بالمفهوم الناعم الذي يراد من خلاله غزو المسلمين وتبديل هويتهم بالتدريج.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على أشرف الخلق طراً ، محمد وآله الطاهرين، وبعد ..
في العصف الفكري الذي يعيشه المسلم اليوم ، و السيل الجارف المتدفق بألوان الرؤى و النظريات في حقول المعرفة المختلفة ، و في ظل عمل جهات متعددة تملك القوة المالية و الإعلامية و جيوش لا تمل ولا تكل العمل على تغيير ثقافة المسلمين ، و مسخ هويتهم ، و كبت صوت فطرتهم ، من خلال نشر الشبهات ، و بذل الشهوات ، وضرب المنظومة القيمة و الأخلاقية ؛ صار المسلمون يواجهون تحديًّا صعباً ، في الحفاظ على المعتقد، و الانضباط بأحكام الدين ، وكيفية تقديم الإسلام كدين واقعي فطري متوازن للسلمين أنفسهم ، قبل تقديمه لغير المسلمين.
وقد طفق المسلم يواجه صعوبة في أن يكون ثابتاً في مكانه، وكأن أعاصير الشبهات تأبى عليه الإقامة على دينه و الركون إلى فطرته ، ولن يستمر في الثبات إلا من ثقَّل نفسه بمعرفة ، وشدها إلى قاعدة الفطرة بالبصيرة ، والوعي ، و أما المنصرف عن تحصين نفسه و تقويتها فإنه سوف تأخذه الأعاصير إلى غير وجهة ومقصد،
كحبات التراب و أوراق الشجرة المنفصلة عنها إلا من عصم الله، ولم يشاهد الناس يوماً جبلاً تتقاذفه الرياح، فثبير في محله رغم محاولات أنواع الرياح المختلفة، كالبَليل والجَامِلة والدَّرُوج والنَّؤُوج والجَنوب والحاصِبة والحَصْبَاء والحَاصِب والحَرْجَف والحُرْجُوج والحَرور والبَارِح والحَنون والمِهْدَاج والخَريق والسَّجْسَج ورَيْدَة ورَيْدَانَة والرَّاعفة والسَّموم والسَّمْهَج ورياح الصبا والصَّرْصَر والخازِم والعَرِيَّة والعاصِف والهَيَج والنَّيْرَج والنَّوْرَج واللواقِح التي تلقّح الشجر والعَقِيم والمُتَنَاوِحَة والنافخة والنَكْباء والمِعْجَاج والهَبْوَة والهَجُوم والهَيْف والهَوْجَاء والشَّمَال والزوبعة ورَادَة والإعصار والسَّينهوج والسَّيْهَج والسَّيْهَجَة والسَّهُوج والسَّيْهُوج والزَّعْزاع والزَّعْزَع والزَّعْزَعَان، وما أكثر حبات الرمال التي انتقلت من النفوذ الكبير ، ولا زالت تتدحرج بين أحقاف الربع الخالي.
إن من أهم التحديات التي يواجهها المسلم اليوم تلك التحديات التي تفرض عليه قراءة واعية لأحكام الدين ومقدار انسجامها مع القيم الأخلاقية ، و قد كانت هذه التحديات سبباً لتقديم تنازلات كثيرة ، ولا سبب لها إلا التأثر بأطروحات غير المؤمنين بالإسلام ، وتوهم منظومة قيمية يزعم أصحابها منافات بعض أحكام الإسلام لها،
و أكثر الناس وقوعاً في الشَرك هم المثقفون الذي عاشوا في الغرب أو حصل بينهم وبين الثقافة الغربية نحو من التواصل، وبعضهم بصدق نية واخلاص يحاول أن يبرئ الإسلام بتقديم تنازلات، ويحاول ما استطاع أن يحفر الصخر بأظافره ليتخلص مما يتوهم أنه مناف للقيم، ولا ينسجم مع الفطرة، ولكن النتيجة هي وقوع المنهج العلمي والبحث المجرد وجملة من أحكام الدين ضحية عمليات البتر ، والتشويه غير المقصودة لا أقل ممن نعلم حسن نيتهم.
ولا شيء أعظم على الدين من تشويهه وتقديمه بصورة غير صورته، ليكون مقبولاً لأهله ، أو في الأوساط الثقافية العامة، فنكون قد قدمنا غير دين الله تعالى على أنه هو ، فينكره أهله بالتدريج ، فنكون ممن ساهم في طمس معالمه و نحن لا نشعر ، فنكون والعياذ بالله إن كنا مقصرين من الذين قال فيهم تعالى : {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} سورة الْكَهْفِ:آية 103-104،
ولهذا ينبغي أن نقترض من علم الأخلاق بحث ضابطة العمل الأخلاقي وملاك القبح فيه ، وتحديد المعيار الفطري بنحو دقيق ، ونجعل ذلك جزءاً من دراساتنا في علم الكلام الجديد ، ليكون منطلقاً لنا في كيفية تحقيق المسائل الفقهية و الأحكام الشرعية ، دون أن تشكل أطروحات المذاهب الفكرية المختلفة ضغطاً علينا ، فنفقد الاتزان المطلوب ، وهذا الفقد ـ و للأسف ـ هو ما وجدته في دراسات جملة من الباحثين المعاصرين الذين أثّرت عليهم رغبات و انطباعات وميولات نفسانية ، سببها عدم وضوح الضابطة الأخلاقية ،
فعلى سبيل المثال ، رأيت باحثاً يعتمد على روايات العامة في خرافة تأبير النخل ، فينسب إلى النبي (صلى الله عليه و آله) الجهل والدخول فيما لا يعلم ، في الوقت الذي يرفض فيه صحيحة داود ابن سرحان، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): إذا رأيتم أهل الريب والبدع من بعدي فأظهر والبراءة منهم وأكثروا من سبهم والقول فيهم والوقيعة وباهتوهم كيلا يطمعوا في الفساد في الاسلام ويحذرهم الناس ولا يتعلمون من بدعهم يكتب الله لكم بذلك الحسنات ويرفع لكم به الدرجات في الآخرة. الكافي : ج ٢ ص ٣٧٥، ومحتجاً بأن هذه الرواية لم ينقها إلا الشيخ الكليني (رحمه الله) ،
وهذا يوجب أن لا يحصل له الوثوق بصدورها! وهل يريد أدق من ثقة الإسلام الكليني (رحمه الله) ليحصل له الوثوق؟ وهل مضمون هذه الرواية إلا ما يوافق روح القرآن في الشدة على أعداء الإسلام والدين ؟! وهل السب إلا ذكر ما يفيد النقص و الازدراء ، وقد حكم الفقهاء بجوازه مالم يكن سباً لغير مستحق أو فحشاً أو قذفاً، وقد انتقص القرآن طوائف من الناس؟!
وفي نظري المشكلة ليس في نقل الكليني (رحمه الله) و كفاية وثاقته في حصول الوثوق النوعي والعقلائي ، و إنما في انطباع نفساني، سببه وجود خلل في مفهوم السب و حكمه الأخلاقي، ومثل ما ذكر هذا الباحث بعض الدراسات التي جانبت المنهج العلمي ، وأخذت تشرق وتغرب ، وتحاول بكل طريقة تعسفية ليّ الأدلة والشواهد لمنع وجود الجهاد الابتدائي في الإسلام ، تأثراً بدعوى الحرية المطلقة الشاملة للاعتقاد، و مبدأ كرامة الإنسان بالمفهوم الليبرالي ،
ولا ضير في نظري في أن يبحث الباحث النصوص الدينية والشواهد لمعرفة النتيجة منها مع توطين النفس على قبولها مهما كانت ، و إن كانت النتيجة حصر الجهاد في الدفعي ، وإنما الضير في أن تكون هنالك نتيجة مسبقة ويراد تطبيقها قهراً على النصوص كما يفعل كثيراً المهندس شحرور، و أمثاله.
ومن المسائل التي وقعت ضحية التشويه في مقدار ثبوتها مسألة (حد المرتد) ، فقد واجه فيها بعض الباحثين مشكلة المصادمة مع مبادئ الليبرالية المعاصرة من حيث لم يشعروا بتأثرهم بها ، و ابتناء المشكلة في أدمغتهم على هذا التأثر ، فأخذوا يصورونها على أنها مجرد رأي فقهي لا يُعلم بمطابقته للواقع ، وبالتالي لا يمكن أن ننسبه إلى الإسلام ،
وهذا الكلام غير مستقيم لعدة أسباب:
السبب الأول
1: قبل التشكيك في ثبوت حد المرتد لا بد أن نطرح على أنفسنا السؤال التالي و هو : هل سينجو الإسلام من الشبهة و يندفع عنه السب والشتم ولن ينظر إليه بعين النقص و الازدراء من الليبراليين و غيرهم من الكفار إذا شككنا في حد المرتد ، وقلنا بأنه لا يعلم حكمه ؟
الجواب : كلا ؛ لأن في الإسلام حكم بالقتل في أصناف من الناس لا يقبل الليبراليون قتلهم ، فمن أحكام الإسلام ـ مثلاً ـ قتل اللائط، والزاني بمحارمه ، وهذا ما يراه المشرّع الليبرالي ـ أو بعض المشرّعين الليبراليين ـ في عصر ما بعد الحداثة حقاً طبيعيّاً ، والغرب اليوم يصطف بكل ما لديه خلف الشواذ ، ويدعمهم ، و يحاول أن يعطينا فلسفة أخلاقية لكي يقنعنا بقبول هتك النبي (صلى الله عليه وآله) و ازدراء الأديان تحت عنوان حرية الفكر ، و قبول الشواذ و نكاح الحيوانات و قتل الأجنة تحت عنوان حرية العمل ، وتجريم قطع يد السارق و قتل المرتد!
السبب الثاني2️⃣ : إن قتل المرتد ليس مجرد رأي فقهي ، وإنما هو من واضحات الإسلام ، وعليه نصوص كثيرة ، فقد قال الشیخ المفید في المقنعة ص: 801 : (و من كان على ظاهر الملة ثم استحل بيع الخمور و الأشربة المسكرة و الميتة و الدم و لحم الخنزير و التجارة في ذلك استتيب منه فإن تاب و راجع الحق لم يكن عليه سبيل و إن أقام على استحلال ذلك كان بحكم المرتد عن الدين الذي يجب عليه القتل كوجوبه على المرتدين) .
وقال الشيخ الطوسي (رحمه الله) في الخلاف: ج4، ص: 333: (مسألة 111 [في حكم المرتد] المرتد على ضربين: مرتد عن فطرة الإسلام، فهذا يجب قتله و تبين امرأته في الحال و عليها عدة المتوفى عنها زوجها. و الآخر: من كان أسلم عن كفر ثم ارتد و قد دخل بزوجته فإن الفسخ يقف على انقضاء العدة، فإن رجع في العدة إلى الإسلام فهما على النكاح، و ان لم يرجع حتى انقضت العدة وقع الفسخ بالارتداد. و به قال الشافعي، إلا أنه لم يقسم المرتد . و قال أبو حنيفة: يقع الفسخ في الحال، و لا يقف على انقضاء العدة، و لم يفصل أيضاً . دليلنا: إجماع الفرقة و أخبارهم).
وقال في المبسوط في فقه الإمامية ج7، ص 282 : (و عندنا أن المرتد على ضربين مرتد ولد على فطرة الإسلام، فهذا لا يقبل إسلامه، و متى ارتد وجب قتله، و الآخر كان كافرا فأسلم ثم ارتد فهذا يستتاب فإن رجع و إلا قتل).
وقال في النهاية في مجرد الفقه و الفتاوى ص: 731: ( و المرتدّ عن الإسلام على ضربين: مرتدّ كان ولد على فطرة الإسلام، فهذا جب قتله على كلّ حال من غير أن يستتاب. و مرتدّ كان أسلم عن كفر، ثمَّ ارتدّ، وجب أن يستتاب. فإن تاب، و إلّا ضربت عنقه.
و المرتدّة عن الإسلام لا يجب عليها القتل، بل ينبغي أن تحبس أبدا، و يضيّق عليها في المأكول و المشروب و الملبوس، و تضرب في أوقات الصّلوات)، ومثله من جاء بعده كما في المهذب لابن البراج ج2، ص: 314، و المؤتلف من المختلف بين أئمة السلف للطبرسي ج2، ص: 382، و الوسيلة إلى نيل الفضيلة؛ ص: 395، و شرائع الإسلام في مسائل الحلال و الحرام ج4 ص: 170.
و ادعي الإجماع في عدة كتب ، ومن ذلك قول الشيخ (رحمه الله) المتقدم : (دليلنا: إجماع الفرقة و أخبارهم)، و قول ابن زهرة (رحمه الله) في غنية النزوع إلى علمي الأصول و الفروع ص: 380: (و هو على ضربين: أحدهما أن يكون مولودا على فطرة الإسلام، و الثاني أن يكون إسلامه بعد كفر.
فالأول تبين زوجته منه في الحال، و يقسم ماله بين ورثته، و يجب قتله من غير أن يستتاب، بدليل إجماع الطائفة، و يحتج على المخالف بما رووه من قوله عليه السلام: من بدل دينه فاقتلوه ، و قوله: لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: كفر بعد إيمان، أو زنا بعد إحصان، أو قتل نفس بغير نفس ، و لم يشترط الاستتابة، فمن اشترطها في هذا الموضع، فعليه الدليل.
و الثاني هو المرتد عن إسلام حصل بعد كفر يستتاب، فإن رجع إلى الإسلام، كان العقد ثابتاً بينه و بين زوجته، فإن أسلم ثم ارتد ثانية، قتل من غير أن يستتاب، و متى لحق بدار الحرب و عاد إلى الإسلام، و المرأة لم تخرج عن عدتها كان أملك بها من غيره.
و لا تقتل المرتدة، بل تحبس حتى تسلم أو تموت في الحبس، بدليل إجماع الطائفة)، وفي رياض المسائل ج14، ص: 227: (الخامسة: المرتدّ و هو الكافر بعد الإسلام أعاذنا اللّٰه تعالى ممّا يوبق الأديان إذا كان ارتداده عن فطرة الإسلام بأن ارتدّ عنه بعد أن انعقد و أحد أبويه مسلم، كما صرّح به الفاضلان و الشهيدان و غيرهم ، من دون خلاف بينهم يعرف، و يعضده ظواهر بعض النصوص الآتية المتضمن له مع حكمه من حيث التعبير فيه عنه بمن ولد على الإسلام كما في بعض، أو على الفطرة كما في آخر، و لا يصدق شيء منهما إلّا بما ذكروه يقتل، و لا يستتاب، و تعتدّ امرأته عدّة الوفاة مطلقاً، و لو لم يدخل بها، على قول قوي. و تقسم أمواله بين ورثته، و لو كان حيّاً.
بلا خلاف في شيء من ذلك أجده، و لا حكاه أحد من الطائفة، إلّا شيخنا في المسالك و بعض من تبعه ، فحكياه عن ظاهر الإسكافي، حيث لم يفصّل في الاستتابة و القتل بعدها مع عدم التوبة بين الفطري و الملّي، قال التابع بعد نقله: و هو شاذّ.
و هو ظاهر في انعقاد الإجماع على خلافه، و به صرّح في الروضة و غيرها ، و هو الحجة. مضافاً إلى المعتبرة المستفيضة، ففي الصحيح: «من رغب عن الإسلام، و كفر بما انزل على محمّد (صلّى اللّٰه عليه و آله) بعد إسلامه فلا توبة له، و قد وجب قتله، و بانت منه امرأته، و قسم ما ترك على ولده» )،
وفي جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام؛ ج41 ص: 605: (و كيف كان ف هذا أي المرتد عن فطرة لا يقبل إسلامه لو تاب و رجع إلى الإسلام و يتحتم قتله، و تبين منه زوجته، و تعتد منه عدة الوفاة، و تقسم أمواله بين ورثته و إن التحق بدار الحرب أو اعتصم بما يحول بين الامام و قتله بلا خلاف معتد به أجده في شيء من الأحكام المزبورة، بل الإجماع بقسميه عليها للنصوص المذكورة، مضافا إلى صحيح ابن جعفر سأل أخاه (عليه السلام) «عن مسلم ارتد، قال: يقتل و لا يستتاب، قال: فنصراني أسلم ثم ارتد عن الإسلام، قال: يستتاب، فان رجع و إلا قتل»و غيره خصوصاً المطلق المشتمل على الأحكام المزبورة المحمول بقرينة غيره و الإجماع على الفطري)،
وقال السيد الخوئي (رحمه الله) في مباني تكملة المنهاج ج41موسوعة، ص: 394: ( بلا خلاف ظاهر، و تدلّ على ذلك عدّة روايات: منها: معتبرة عمار الساباطي، قال: سمعت أبا عبد اللّٰه (عليه السلام) يقول: «كلّ مسلم بين مسلمين ارتدّ عن الإسلام و جحد محمّداً (صلّى اللّٰه عليه و آله و سلم) نبوّته و كذّبه فإنّ دمه مباح لمن سمع ذلك منه، و امرأته بائنة منه يوم ارتدّ، و يقسّم ماله على ورثته و تعتدّ امرأته عدّة المتوفّىٰ عنها زوجها، و على الإمام أن يقتله و لا يستتيبه» ،و هذه الصحيحة و إن كان موضوعها المسلم المتولّد من مسلمين إلّا أنّ الظاهر أنّ التقييد من جهة الغلبة و لو بقرينة سائر الروايات.
و المراد كلّ من كان مسلماً من أوّل أمره، فتشمل المسلم المتولّد من أبوين أحدهما مسلم. و منها: صحيحة الحسين بن سعيد، قال: قرأت بخطّ رجل إلى أبي الحسن الرضا (عليه السلام): رجل ولد على الإسلام، ثمّ كفر و أشرك و خرج عن الإسلام، هل يستتاب، أو يقتل و لا يستتاب؟ فكتب (عليه السلام) «يقتل».
و منها: صحيحة علي بن جعفر عن أخيه أبي الحسن (عليه السلام)، قال: سألته عن مسلم تنصّر «قال: يقتل و لا يستتاب» قلت: فنصراني أسلم ثمّ ارتدّ؟ «قال: يستتاب، فإن رجع و إلّا قتل». و هذه الصحيحة تدلّ على أنّ من كان مسلماً من أوّل أمره ثمّ تنصّر يحكم عليه بالقتل من دون استتابة، فيشمل من كان متولّداً من أبوين أحدهما مسلم.
و بها يقيّد إطلاق صحيحة محمّد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) في حديث «قال: و من جحد نبيّاً مرسلًا نبوّته و كذّبه فدمه مباح» الحديث . و كذلك صحيحته الثانية، قال: سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن المرتدّ «فقال: من رغب عن الإسلام و كفر بما انزل على محمّد (صلّى اللّٰه عليه و آله و سلم) بعد إسلامه فلا توبة له، و قد وجب قتله، و بانت منه امرأته، و يقسّم ما ترك على ولده»، فتحملان على المرتدّ الفطري.
كما أنّ بها يقيّد ما دلّ على أنّ المرتدّ يستتاب فإن تاب و إلّا قتل، كصحيحة ابن محبوب عن غير واحد من أصحابنا عن أبي جعفر و أبي عبد اللّٰه (عليهما السلام) ، فتحمل على المرتدّ الملّي).
وعليه ، فالحكم بقتل المرتد من واضحات الإسلام ، ويقطع بثبوته، وليس من الصحيح التشكيك في ذلك بذريعة الدفاع عن الإسلام أمام هجمات غير المسلمين تأثراً بالثقافة التي يراد ترويجها لتغير معالم الإسلام، وجعله ديناً مدنيّاً ليبراليّاً بالمفهوم الناعم الذي يراد من خلاله غزو المسلمين وتبديل هويتهم بالتدريج.
إن فتح الباب للتشكيك في قضية واضحة بهذه المثابة سوف يجعل تقريباً جميع المسائل الفقهية المجمع عليها والمشتملة على نصوص متعددة في دائرة التشكيك و احتمال عدم الثبوت ، وانتهائها إلى توهم الفقهاء العظام ، وهذه ما يقلل من قيمة منهجنا الفقهي و جهود العلماء ، وينسحب على المعتقدات مع مرور الوقت ، فيكون ما في يدنا مجرد مذهب حق في رأي العلماء ، ومن المحتمل أن تكون الحقيقة ضائعة ، وإن كانت المسائل مجمع عليها و تظافرت فيها النصوص.
و إن كنا نشك في كون قتل المرتد حكماً واقعياً فهل نشك في حجية فتوى الفقهاء الذين يفتون بالقتل في مذهبنا ؟! و إذا كنا لا نشك و قلنا لليبرالي وغير المسلم: إننا لا نعلم بأن حد المرتد واقعي ، ولكن نعلم بحجية فتوى الفقيه ، ونحن ملزمون بها ، فهل سيحقق ذلك دفاعاً عن الإسلام وتلميعاً لصورته؟!
السبب الثالث 3️⃣: إن القول بأن حكم قتل المرتد غير معلوم الثبوت في الإسلام لا معنى له في مقام الدفاع، لأننا من الناحية الأخلاقية.. إما أن نقبل بقبح قتل المرتد عقلاً وبحسب الفطرة، فيلزمنا أن ننفي ذلك عن الإسلام، كما ننفي صدور الإضلال القبيح والظلم عن الله تعالى، ولا نكتفي بقول: لا ندري؛ لأن المخالف لنا سوف يقول: إن قتل المرتد قبيح بالقطع واليقين، وأي دين يحتمل اشتماله عليه فهو باطل؛ لأن دين الحق لا يحتمل اشتماله على ما يعلم بطلانه، و إما أن لا نقبل القبح، ونرى لله تعالى حق الحكم بقتل المرتد كما له حق الحكم بقتل اللائط والقاتل و الزاني بمحارمه ، و الحكم بجواز ذبح الأنعام ، وبالتالي نرد بكل قوة على شبهات غير الإسلاميين بأن الحكم بالقتل ليس قبيحاً ، فلا مانع عندنا من ثبوته في الإسلام ـ كما هو الواقع ـ و بهذا ننقد منطلق السؤال ، ونوضح خطأه المنهجي ، فتنحل المشكلة من جذورها.
نعم ، الحكم بالقتل ليس أمراً عشوائيّاً ، وإنما له شروطه وأحكامه المقررة فقهيّاً ، وقد تترتب عناوين ثانوية تقتضي عدم القتل.
والمقصود من كل هذا هو أن من الضروري جدًّا أن نعي القواعد الأساسية في تقييم التشريع الإسلامي ، ومنها النظام الأخلاقي والقيمي، وعلى بصيرة من ذلك ينبغي تقديم الإسلام كما تقتضيه الأدلة دون تشويه و تحريف ، ولو على مستوى التشكيك في ثوابته ، فإن لهذا آثار وخيمة، ونتيجتها ولو على المدى البعيد اندراس معالم الدين.
ينبغي على جميع المؤمنين أن يمتلكوا القدرة الكافية على فهم موافقة جميع الأحكام القطعية للعدل والحكمة ، ولو على نحو الإجمال، وهذا يتطلب دراسة أحكام العقل العملي ، و معرفة ما لله تعالى ، وهو الحكيم المالك المطلق ، الذي بيده الكون تكويناً وتشريعاً ، كما عليهم أن يعلموا أنه كما لله تعالى مشروع هداية وإصلاح بيد خلفائه و أوليائه ، فإن للشيطان مشروعاً مقابلاً ، يشوه ما زينه الله تعالى ، و يزين ما بين الله تعالى قبحه ، وقد قال تعالى مبيناً مشروع الشيطان و مبيناً قوله :
{ وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ ۚ وَمَن يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِّن دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُّبِينًا } سورة النساء : آية 119، فمن المتوقع جدّاً أن يكون صراع فكري بين معسكر الحق ، ومعسكر الشيطان ، و يستخدم فيها سلاح اللعب على المفاهيم ، و كبت الفطرة ، و بأساليب مختلفة ، منها أسلوب التحضر و التطوير ، و طلب الكرامة والحرية ، وجعل الإنسان محور الكون ، و تشويه رسالة السماء.
دفع التشكيك في روايات قتل المرتد
قد يشكك في اعتبار روايات قتل المرتد ، و لكن هذه التشكيك في غير محله ، فقد عقد الحر العاملي (رحمه الله )أبواباً في حد المرتد، وذكر فيها أكثر من 22 رواية تدل على أصل الحكم وهو قتل المرتد ، وهي متعددة الأسانيد و نقلها المشايخ الثلاثة ، وبعضها لا شك في صحته كصحيحتي محمد بن مسلم و معتبرة الحسن بن محبوب وموثق السكوني و معتبر عباد بن صهيب و صحيحة علي بن جعفر وموثق عمار و صحيحة الحسين بن سعيد ، وعلى أصل مضمونها الإجماع ولم ينقل الخلاف إلا عن إبراهيم النخعي و رواه عنه سفيان و قال:
هذا الذي نأخذ به، وكما ذكر الفقيه النبيه السيد محمد رضا السيستاني (حفظه الله) : هذا قول شاذ لم يعبأ به فقهاء الإسلام ، بحوث في شرح مناسك الحج ج5 ص 447 ، و هي معتضدة بما رواه العامة ، كرواية البخاري ( من بدل دينه فاقتلوه ) .
والملفت أنه لا يوجد فيها ما يفيد أن القتل حكم سلطاني ، بل صرح بعضها بأن القتل وظيفة كل مسلم ، كما في معتبرة عمار الساباطي التي بينت ذلك ثم أوضحت أن وظيفة الحاكم طلبه وقتله بلا استتابة في ذيلها أيضاً ، ولا منافاة بين كون الوظيفة ثابتة للعامة و الحاكم ، و ذكر القتل في سياق بيان تقسيم الأموال و اعتداد الزوجة ، وهما مولويان يؤكد ذلك ، كما إن التفصيل بين الفطري والمليّ بالاستتابة في الثاني يؤيد ذلك ، وكذلك قتل من كان أحد أبويه مسلماً إذا بلغ ولم يختر الإسلام ، فإن جو الروايات يفيد بوضوح كون الحكم كلياً ، وهو الأصل مع عدم القرينة ، كما فهم الفقهاء العظام .
وقد يقال بمعرضة صحيحة أبان على رواية الصـدوق : أنّ أبا عبدالله (عليه السلام) قال في الصبي إذا شبّ فاختار النصرانيّة وأحد أبويه نصراني أو مسلمين «قال : لا يترك ولكن يضرب على الإسلام» لهذه الروايات ، فإنها لم تذكر القتل، مع أنه كان مسلماً وخرج عنه بعد البلوغ.
ولكن يلاحظ على هذه المعارضة المزعزمة :
أولاً : أنها لا تدل على كون الصبي مسلماً قبل أن يشب ثم رجع عن الإسلام بعده ، فمن المحتمل أنه كان غير متدين بدين أو نصرانياً و اختار النصرانية بعد البلوغ ، ولعل من توهم أنه كان مسلماً كان سبب توهمه ورود لفظ ( فاختار) ، ولكن لا ظهور فيها في حدوث الاعتقاد بالنصرانية ، إذ يحتمل إرادة الاستمرار، ولا أقل لا دلالة لها على كونه مسلماً سابقاً.
وثانياً : لو سلمنا دلالتها على كون الصبي مسلماً قبل أن يشب ثم اختار النصرانية فإن موردها خصوص الصبي الذي شب ، فتكون أخص ، ولا تعارض في مثل من شب مسلماً ثم اختار النصرانية.
وثالثاً : ولو سلمنا المعارضة ، فإن روايات ثبوت الحد قطعية لتعددها و احتفافها بالوضوح الفقهي ، وتفيد اليقين بكذب مضمون هذه الرواية لو كانت تدل على نفي الحد مطلقاً.
ولا بد أن أشير إلى أمور:
الأمر الأول : قد يقال إن قتل المرتد من المسائل الخطيرة التي لا تثبت إلا بالتواتر ، ولا يوجد تواتر في روايات حد المرتد.
والجواب : إن المسائل الخطيرة لا تثبت بخبر ظني يتفرد بنقله واحد أو اثنان ، وروايات أصل قتل المرتد من القطعي الظاهر في الكتب المشهورة ، والمحفوف بوضوح فقهي ، و تعضدها مضامين كالروايات الواردة في قتل من سب النبي(صلى الله عليه وآله ) المشهورة في كتب الفريقين ، ونحوها.
وقد تعرض المحقق الفقيه النبيه السيد محمد رضا السيستاني(حفظه الله) في بحوث في شرح العروة ج5 ص 450 لشبهة معارضة قتل المرتد لقوله تعالى { لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ } فقال : (وأما ما ورد في النقطة الثالثة من مخالفة الخبر أيّاً كان لقوله تعالى: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ}
فيمكن الجواب عنه بأن في مفاد الآية الكريمة وجوهاً واحتمالات ومن أقربها أن يكون المراد أنه لا يتحقق الإكراه في الدين بعد وضوح الرشد من الغي، فإن الإلزام بقبول فكرة إنما يكون إكراهاً عليها إذا لم يكن هناك دليل واضح ومقنع عليها وحيث إن الإيمان بالله تعالى أمر بيّن الرشد وتمسّك بالعروة الوثقى التي لا انفصام لها، والإيمان بالطاغوت من الأصنام وغيرها أمر بيّن الغي، فحينئذٍ لا يكون الإلزام بالإيمان بالله تعالى إكراهاً عليه.
ويناسب هذا المعنى ما هو المنساق من الآية الكريمة من وجود ارتباط بين نفي الإكراه وبين تبيّن الرشد والغي. ويحتمل أيضاً أن يكون المقصود بالآية الكريمة نفي الإكراه في مرحلة عقد القلب فإنه يكتفى من الشخص بإظهار الإسلام وإن علم أنه غير معتقد به بشرط أن لا يبدي ذلك، فإذاً لا يمكن رفع اليد عما دل على كون حد المرتد هو القتل بأنه مخالف للآية الكريمة… .. بحسب مذهبنا فرواياتنا متضافرة بل متواترة في أن حكم المرتد هو القتل مع عدم التوبة، وحينئذٍ لا محيص من الأخذ بها وتأويل الآية المباركة بنحو من الأنحاء لو سلّم ظهورها في حد نفسها في خلاف ذلك.
وبعبارة أخرى: ليس في ما يقابل ظاهر الآية الكريمة ــ لو سلّم ــ خبر واحد ليدّعى لزوم رده وطرحه، بل أخبار كثيرة يطمأن بصدور بعضها من المعصوم (عليه السلام) . فلا مناص من البناء عليها وحمل الآية الكريمة على ما لا ينافيها).
الأمر الثاني : قد يقال بعدم وضوح حكم المرتد في زمن المعصومين(عليهم السلام) ، و يستشد بأن محمد بن مسلم سأل الإمام الباقر (عليه السلام) عن المرتد في رواية الشيخ الكليني (رحمه الله) ، فقال له: ( من رغب عن الإسلام وكفر بما انزل على محمد (صلى الله عليه وآله) بعد إسلامه فلا توبة له ، وقد وجب قتله ، وبانت منه امرأته ) ، ولو كان الحكم واضحاً ما سأل العالم الكبير محمد بن مسلم إذ يبعد خفاء الحكم عنه.
ولكن يلاحظ عليه : أولاً : لا يعلم أن محمد بن مسلم وقت سؤاله كان بعد كسبه العلم والمعارف ، فإنه من أصحاب الباقر والصادق (عليهما السلام) ، ومن المحتمل أن السؤال في أوائل صحبته للباقر (عليه السلام).
وثانياً : ليس في الرواية ما يدل على عدم وضوح أصل الحكم ، فقد يكون السؤال بسبب مخالفة بعض العامة أو نقل اختلاف عنهم في بعض التفاصيل ، فأراد أخذ حدود المسألة من الإمام (عليه السلام).
الأمر الثالث: الروايات الواردة في حكم المرتد على طوائف ، وهي بمجموعها تتفق على مضمون واحد ، وهو أصل القتل ، و كان حديثنا ناظراً إلى هذا ، وليس بيان أن كل تفاصيل الحكم قطعية أو يوجد فيها إجماع ، و أردنا بيان أن القول بأن الحكم مجرد رأي يحتمل غير مطابقته للواقع غير سديد ، فينبغي التنبه إلى هذه النقطة ، كما إن بعض الروايات ضعيفة ، فلا تثبت ما تفردت به ، وبعضها قد تشتمل على فقرات نعلم بعدم حجيتها ، فلا تضر في حجية الفقرة المشتملة على أصل الحكم بالقتل.
الأمر الرابع : حاول البعض أن يجعل القتل حكماً سلطانياً لا مولوياًّ عامّاً ، والبعض حاول تخصيص تنفيذه بعصر الظهور أو الإمام (عليه السلام) ونائبه الخاص أو زمان لم تنتشر فيه الشبهات ، أو لا أقل التشكيك في دليل كون الحكم مولويًّا أو عامّاً و شموله لغير الإمام ونائبه الخاص أو زمان الشبهات .
وكما ذكرت سابقاً مثل هذا الكلام لو تم في نفسه فلا يعالج مشكلة إتهام الإسلام بتقييد الحريّة أو تجويز قتل المخالف في المعتقد ، لهذا ينبغي أن نعالج المشكلة من جذورها ، ببيان أن لله تعالى الحكم بقتل المرتد ، بل وبقتل صبيّ لم يرتكب جناية ، وقد قال تعالى : { انطَلَقَا حَتَّىٰ إِذَا لَقِيَا غُلَامًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُّكْرًا } سورة الكهف : آية 74 ، وقال : { فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَىٰ فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَىٰ ۚ قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ ۖ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ } سورة الصافات : آية 102، و ينبغي أن نثقف المسلم على ذلك ، ونروج قيمة أن للمالك المطلق أن يفعل في ملكه ما يوافق الحكمة.
الحمد لله رب العالمين