نطالع في هذا المقال بحث احدى المسائل الهامة التي تنعكس آثارها علي اكثر من باب فقهي … وهو بحث الاوراق النقدية وما تواجهه من مشكلة انخفاض وارتفاع القيمة التبادلية .. طرح فيه الباحث (دام ظله) – بل اسس – منهجية فذة في تكييف هذه الظاهرة الاقتصادية فقهيا .. فعند معالجته للموضوع علي ضوء ما تقتضيه القاعدة الاولية طرح السيد الاستاذ اثني عشر طريقا سابرا غورها يقلبها ظهرا لبطن بكل ما اوتي من حكمة وبراعة.. من اجل الوصول الي الحل الناضح واليقين او الاطمئنان بحكم الله عز وجل.
موقع الاجتهاد: المعروف بين الاعلام ان حكم النقود في الضمان حكم سائر الاموال المثلية والتي يكون ضمانها في الديون والغرامات بالمثل ، فلا يكون نقصان قيمتها حين دفعها عن زمان الاخذ او التلف مضمونا ، ونتيجة: ذلك ان من كان عليه دين لاحد قبل خمسين عاما مثلا بمئة تومان – وكانت ذات مالية وقوة شرائية عظيمة وقتئذ – يكفي ان يدفع له ورقة نقدية من فئة مئة تومان اليوم والتي لا تساوي شيئا بالنسبة لما كانت عليه في تلك الازمنة ! وهذا يعني عدم ضمان نقصان قيمة النقود وانما المضمون مثلها فقط ، وهذه مسالة مهمة لها ثمرات وآثار فقهية في ابواب متنوعة ،
وفيما يلي نورد البحث عنها في فصلين وخاتمة:
الفصل الاول – فيما تقتضيه القاعدة الاولية .
الفصل الثاني – فيما يستفاد من بعض الروايات الخاصة .
الخاتمة – في بعض المسائل والفروع الفقهية المرتبطة بهذه المسالة .
الفصل الاول
ان المعروف بل لعله المتسالم عليه ان الاموال التي يكون لها المثل وتكون افرادها متساوية الاقدام عرفا بالنسبة لعناوينها يكون ضمانها في باب الغرامات والديون بالمثل لا بالقيمة . ومدرك هذا الحكم هو السيرة والارتكاز العقلائي الممضي شرعا ، ولم يرد ذلك في لسان دليل شرعي .
نعم، حاول جملة من الفقهاء الاستدلال عليه بمثل قوله صلي الله عليه و آله وسلم: «علي اليد ما اخذت حتي تؤدي » (1) بتقريب ان ظاهره اشتغال الذمة بنفس ما اخذ فتكون العين الماخوذة بنفسها في الذمة حتي بعد التلف ، وهو يقتضي دفعها بخصوصيتها العينية الشخصية عند وجودها وبخصوصيتها النوعية والمثلية عند تلفها مع وجود المثل وامكان دفعه وبماليتها وقيمتها عند عدم المثل ، ولازمه ان يكون بقيمة يوم الاداء عند تعذر المثل او كونه قيميا .
الا ان هذا الحديث النبوي لا سند له فقد نقله العلامة في بعض كتبه مرسلا ، كما ان استفادة المعني المذكور منه مشكل فان ظاهره الاختصاص بفرض وجود العين الماخوذة ووجوب ردها ولا دلالة لفظية فيه علي اشتغال الذمة بها عند التلف اصلا ، وانما يستفاد ذلك من السيرة والارتكاز العرفي الممضي شرعا ، فمهم الدليل علي ضمان المثل هو الدليل اللبي المتقدم ذكره .
والمعروف عندهم ان ضمان المثل يشمل تمام الخصوصيات الذاتية والنوعية والعرضية للشي ء التي تكون دخيلة في ماليته والمرغوبة عند العقلاء فيجب علي الضامن ان يدفعها الي المضمون له . واما القيمة السوقية فقد ذكروا انه امر اعتباري لا ربط له بالعين المضمونة بل هي صفة للسوق ورغبة نوعية عند الناس ترتبط بمقدار حاجتهم الي السلعة وكمية وجودها وندرتها في السوق – عوامل العرض والطلب – وهذا اجنبي عن السلعة وليس من اوصافها ليكون مضمونا . ولهذا لا يضمن من يتسبب الي تقليل قيمة السلعة في السوق بكثرة عرضها او بالدعاية ضدها او اي سبب آخر ، ونتيجة ذلك: ان نقصان قيمة المال المضمون لا يكون مضمونا حيث يكفي دفع مثله سواء زادت قيمتها السوقية ام نقصت.
وهذا الذي ذكروه وان كان صحيحا في الجملة الا ان الاشكال في اطلاقه ، وفيما ياتي عدة محاولات لتخريج ضمان نقصان القيمة السوقية للنقود الحاصل من التضخم ، وقد يكون بعضها اوسع من باب النقود .
المحاولة الاولي: دعوي ان العقلاء انما لا يلحظون القيمة السوقية من اوصاف المثل اذا كان الاختلاف ومقدار نقصان القيمة قليلا او نادرا ، واما مع كونه فاحشا خطيرا او كونه كثير الاتفاق فالعرف يلاحظه من صفات المثل عندئذ ويراه مضمونا ، ويكون حاله حال ما اذا سقط المثل عن القيمة والمالية راسا من حيث ضمان قيمته عندئذ للمضون له .
وان شئت قلت: ان ضمان المثل عند العقلاء في المال المثلي انما يكون لاجل المضمون له ومزيد حفظ حقه في الخصوصية الجنسية والمثلية لماله زائدا علي ماليته ، فلا ينبغي ان يكون ذلك علي حساب مالية ماله بحيث يخسر مقدارا من ماله بالنتيجة ، فاذا كان التفاوت فاحشا او كان كثيرا ما يقع ذلك فالعقلاء والعرف لا يكتفون في مثل ذلك بدفع المثل الاقل قيمة مما اخذه منه . وهذا البيان لو تم لم يختص بباب النقود بل يجري في السلع ايضا اذا فرض نقصان قيمتها بمقدار خطير او كان في معرض النقصان كثيرا .
ويمكن الاجابة علي هذه المحاولة باحد جوابين:
الاول: ان موضوع الضمان اي ما يضمنه الضامن بحسب ظاهر ادلة الضمان الشرعية والعقلائية انما هو المال لا المالية والقيمة ; لانها وصف وحيثية تعليلية لصيرورة الشي ء مالا فيضمنه من اتلفه او اخذه في قبال مال آخر ، وعلي هذا يقال: لو اريد ضمان نقصان قيمة المثل بعنوان ضمان القيمة والمالية الناقصة ابتداء فهذا خلف كون المضمون هو المال لا المالية استقلالا . وان اريد ضمان ذلك من باب دخله في ضمان المال فمن الواضح ان النظر العرفي في باب الاموال المثلية يقضي بالمثلية فان منا من الحنطة الكذائية هي نفس ما اخذه من المالك لو رد عينها او مثلها لو تلف ، ونقصان المالية السوقية ومدي تنافس السوق ورغبته في المال لا يجعله مالا آخر غير ذلك المال الماخوذ او التالف عرفا فلا موجب لضمان نقصان القيمة .
الثاني: ان الضمان عند تحققه يعد عرفا وعقلائيا نحوا من التعويض والمبادلة القهرية بين المال التالف وبين ما يمتلكه المضمون له بالضمان علي ذمة الضامن من المثل او القيمة ، ولهذا تتحقق الملكية الفعلية له في ذلك المال الذمي الاعتباري وتترتب عليه آثارها ويجوز له التصرف القانوني فيه بالبيع والحوالة وغيرهما ، وهذا التعويض والمعاوضة القهرية تتحقق مرة واحدة عند تحقق موجب الضمان وهو زمان الاخذ او التلف ولا موجب آخر له ، فيكون نقصان قيمة المثل بعد تحقق الضمان واشتغال الذمة من باب نقصان قيمة مال مالكه كما اذا كان قد دفعه اليه فنقصت قيمته عنده بعد الدفع ، فلا موجب لضمان نقصان القيمة زائدا علي المثل .
وهذا الجواب مبني علي ان لا يعتبر العرف القيمة السوقية من صفات المثل فتتوقف صحته علي تمامية الجواب الاول ، مضافا الي ان كون الضمان من باب المبادلة القهرية قبل الدفع والوفاء محل منع وان قبلنا ذلك بعد دفع البدل .
المحاولة الثانية: دعوي ان العرف يتعامل مع الاموال المتخذة للتجارة والمبادلة معاملة القيمي اي يلحظون فيها ماليتها وقيمتها السوقية لا خصوصياتها الجنسية ، ومن هنا قيل بتعلق الخمس بها قبل بيعها ; لصدق الربح فيها بنفس ارتفاع قيمتها السوقية فيكون الضمان لقيمتها ايضا ولو من جهة صيرورة قيمتها السوقية من صفات المثل ، والنقود تكون كمال التجارة من حيث كونها متخذة للمبادلة محضا .
وفيه: ان تعلق غرض تجاري او تبادلي بالمال لا يخرجه عند العرف والعقلاء عن كونه مثليا اي له المثل بحيث اذا تلف او ضمنه الغير اشتغلت ذمته بما هو مماثل له بحسب النظر النوعي للمال الذي هو الميزان في ضمانه ، وان شئت قلت: ان الخصوصية المذكورة من قبيل الدواعي ، ولهذا تختلف من شخص الي آخر ولا يكون منضبطا بخلاف الضمان الذي يكون بازاء نفس المال من حيث هو هو مع قطع النظر عن غرض من بيده المال ، فالحاصل: كون من بيده المال ينظر الي حيثية ماليته فقط لا اثر له علي ضمان المال من حيث هو مال .
المحاولة الثالثة: ان يقال بان النقود بالخصوص ليس ضمانها مثليا بل قيميا ; لانها ليست سلعة ولا منفعة استهلاكية لها ، وانما هي مجرد وسيلة للمبادلة ، وحساب المالية المحضة للاجناس والسلع والضمان بالمثل انما يكون في السلع والاموال الحقيقة . نعم ، النقود الحقيقية كالذهب والفضة لا مانع من ان يكون ضمانها بالمثل لانها سلع حقيقية . والحاصل: موضوع ضمان المثل السلع الحقيقية ، لا النقود التي هي مجرد وسيلة للمبادلة .
وفيه: ان موضوع الضمان عند العقلاء وكذلك في ظاهر السنة الروايات وكلمات الفقهاء انما هو المال لا السلعة او الجنس ، ولا اشكال في ان النقد حتي الورقي الاعتباري منه مال حقيقة وعرفا ; اذ ليس المراد بالمال الا ما يرغب فيه العقلاء ويبذلون بازائه مالا آخر وهذا صادق علي النقد الاعتباري في طول اعتباره ورواجه .
نعم ، هناك بحث آخر في علم الاقتصاد حول اعتبار النقود من السلع ام لا ، ولكنه من منظور آخر غير المنظور القانوني الفقهي حيث يقال هناك: ان مجموعة نقود البلد الواحد لا تضاف الي السلع والثروة الحقيقية الموجودة في ذلك البلد في حساب الثروة الكلية والدخل القومي للبلد ; لانه مجرد وسيلة للتبادل والمعاملة لتلك الثروة فمجموع الثروة الكلية عبارة عن مجموعة السلع الحقيقية والخدمات الثابتة في ذلك البلد لا اكثر . الا ان هذا منظور علمي آخر لا ربط له بالمنظور الفقهي الحقوقي حيث يكون النقد الرائج المعتبر مالا قانونا ، فالحاصل: تعريف المال الفقهي يختلف عن تعريف المال الاقتصادي فلا ينبغي الخلط بينهما .
وبناء عليه ، يكون النقد حتي الاعتباري منه مالا فقها وقانونا ويكون كسائر الاموال موضوعا لاحكام الاموال والتي منها ضمان مثلها اذا كان لها مثل ; لان المفروض ان كل مال يكون فيه ضمان ، وكل ما يكون فيه ضمان اذا كان له مثل كان ضمانه مثليا اي تشتغل الذمة بمثله وتنتقل ملكية المضمون له اليه وهو معني الضمان ، وكلتا هاتين الخصوصيتين متحققة في النقود الاعتبارية فضلا عن الحقيقية فيكون ضمانها بالمثل ايضا . ومما يشهد علي ذلك انه اذا ضمن نقدا من نوع معين كالتومان مثلا لا يجوز له ان يدفع له من نقد آخر بقيمته كالروبية مثلا او الدولار ، وليس هذا الا من جهة ضمان الخصوصية الجنسية الثابتة في المال المضمون .
المحاولة الرابعة: ان النقد عبارة عن القيمة والمالية المحضة لسائر السلع والاموال ; ومن هنا يكون ضمان الاموال والسلع القيمية به لكونه القيمة ، فكيف يمكن ان لا يكون ضمانها قيميا ؟ ! فالحاصل: اذا كان ضمان القيمي قيميا فضمان القيمة المحضة التي هي النقد قيمي لا محالة .
وفرق هذه المحاولة عن سابقتها انه في تلك المحاولة يدعي اختصاص ضمان المثل مما بالسلع الحقيقية والتي لها منفعة ذاتية حقيقية ، واما المدعي في هذه المحاولة فنكتة اخري هي ان حقيقة النقد هو كونه قيمة محضة للاموال الاخر فيكون ضمانها قيميا كالاموال القيمية بل هو اولي منها ، وهذه المحاولة لو تمت لجرت في النقد الحقيقي ايضا بخلاف المحاولة السابقة .
وفيه: ان هذا مجرد تعبير وتلاعب بالالفاظ ، والا فالنقد ليس مالية وقيمة محضة ، كما ان الضمان ليس للعين بما هي قيمة ومال ، بل للمال والنقد بل هو مال ايضا ، اي شي ء له المالية والقيمة كاي مال آخر غاية الامر باعتبار كونه مرغوبا لدي الكل وقابلا للبقاء وعدم الفساد وغيره من خصائص النقدية والرواج سواء في النقود الحقيقية او الاعتبارية اصبح هذا المال صالحا لان يقبل في قبال كل سلعة اخري فتكون مرغوبيته اوسع دائرة من اية سلعة اخري ، وهذا لا يغير حقيقته من حيث كونه شيئا له المالية والقيمة فاذا تلف او ضمنه الضامن اشتغلت ذمته بمثله ; لان له المثل في الخارج علي حد سائر الاموال المثلية بخلاف السلع القيمية كالفرس مثلا فانه عند تلفه وضمانه لا يكون له المثل عادة فيكون ضمانه قيميا .
المحاولة الخامسة: ان النقد الحقيقي كالدرهم والدينار مال مثلي فيكون ضمانه مثليا ايضا ، واما النقد الاعتباري فهو ليس الا مجرد سند عما اعتبرته الجهة المصدرة له وتعهدت به من القيمة المعادلة والرصيد المحفوظ بازائه عند تلك الجهة والذي يكون من الذهب عادة ، فيكون المضمون معادله من الذهب ، فلا بد وان يدفع الضامن نفس ذلك المقدار من الذهب او ما يعادله من ذلك النقد ، فيكون التضخم ونقصان قيمة النقد مضمونا بهذا الاعتبار . وفرق هذه المحاولة عن سابقتها هو انكار اصل المالية الاستقلالية للنقود الورقية واعتبارها مجرد سندات علي الدين والالتزامات .
وفيه: ان هذا ربما كان صحيحا في بعض الادوار التاريخية التي مرت علي النقود الورقية واما اليوم فلا اساس له من الصحة .
وتوضيح ذلك: ان النقد الورقي قد مر بادوار اربعة:
الدور الاول: دور نيابتها عن ارصدتها من ذهب وفضة التي كانت مودعة في خزانة الجهة المصدرة لها ، ولم تكن هذه الاوراق الا حاكية عن وجود تلك الودائع والارصدة وسندا محضا عليها .
الدور الثاني: حينما احس المصدرون لتلك الاوراق بانهم غير مضطرين الي الاحتفاظ بتلك الارصدة والودائع بمقدار الاوراق الصادرة ; لان اصحابها سوف لن يطالبوهم جميعا في وقت واحد بتسليمها فتبدلت بالتدريج فكرة الاحتفاظ بالارصدة والنقود الحقيقية كوديعة لصاحبها الي فكرة التعهد والضمان من قبل الجهة المصدرة لتلك الاوراق بدفع الرصيد لمن جاء بالورقة الي مصدرها فاستطاعت تلك الجهة ان تستفيد مما اودع عندها من الذهب والفضة اعني النقود الحقيقة ; لانها اصبحت ملكا لها فاعطتها لآخرين في معاملات تجارية وهم بدورهم ايضا اودعوها عند تلك الجهة في قبال اصدار سند لهم وهكذا امكن لتلك الجهة ان تتعهد باضعاف ما اودع عندها من النقود الحقيقية واصدار سندات عليها . وبذلك اصبحت الجهة المصدرة مدينة لصاحب الورقة بمقدار رصيده واصبحت الورقة كالشيكات اليوم سندا علي القرض ، فهي تحكي عن رصيد في الذمة لا رصيد خارجي ووديعة كما في الدور السابق.
الدور الثالث: حينما احست الدول باهمية وخطورة هذه الاوراق وقدرتها علي نيابة النقود الحقيقية من ذهب وفضة باكثر من واقعها فتدخلت في المنع عن اصدارها من قبل الجهات الشخصية قانونا فاصدرت بنفسها الاوراق وسنت القوانين لحمايتها ورسميتها وتعهدت بجعل مقدار الرصيد بازاء ما يصدر منها بالذهب او الفضة لكي تبقي معتبرة بين الناس وسائر الدول ، وعندئذ اصبح هذا التعهد تعهدا مستقلا عن ترجمة الورقة للرصيد بان من اتي بشي ء منها الي الجهة المصدرة قدمت له من الرصيد بقدره ، فلم تعد الورقة شيكا او سندا علي ذمة المتعهد ، بل اصبحت ذات مالية مستقلة وتعهد الدولة او القانون بالرصيد لم يعد الا حيثية تعليلية لاعتبار المالية لهذه الاوراق .
الدور الرابع: هو الدور المثبت اليوم عالميا حيث الغي التعهد من قبل الدول المصدرة لتلك الاوراق بدفع الرصيد او الاحتفاظ به بمقدارها نهائيا ، واصبح طبع تلك الاوراق المعتبرة قانونا علي اساس معادلتها مع واقع الثروة والامكانات الحقيقية التي تمتلكها الدولة طبقا لمعادلات وحسابات علمية دقيقة يشخصها الاقتصاد القومي .
وعلي هذا الاساس يعرف ان مفهوم الرصيد للاوراق النقدية في الوضع العالمي اليوم لم يعد ما كان سابقا من مبلغ معين في ذمة شخص او جهة وانما رصيد النقود الورقية لكل دولة عبارة عن مجموعة ما تمتلكه من القدرة الاقتصادية علي التعهد بسلع او اعمال وخدمات اقتصادية لا بمعني ان مبلغا معينا منها يكون محكيا بمبلغ معين من هذه الاوراق كما هو شان السندات ، بل بمعني ان هذه الاوراق تمكن صاحبها من امتلاك مبلغ من تلك الامكانات وفق ما تقتضيه قاعدة العرض والطلب ومدي ازدهار وتقدم الوضع الاقتصادي للبلد .
اي ان اي شي ء يفترض رصيدا لهذه الاوراق فهو محكوم لنظام التضخم وصعود قيمته او انخفاضها بالقياس الي الاوراق في حين ان شيئا ما لو كان رصيدا لهذه الاوراق – بمعني سندية الاوراق له وحكايته عن ثبوته في ذمة الدولة المصدرة للاوراق – لما كان من المعقول هبوط مبلغ ذلك الشي ء باستمرار او صعوده احيانا ، اي ان سندا ما اذا كان حاكيا عن مثقال من الذهب في ذمة احد لكان يبقي ما في ذمته المحكي بهذا السند دائما مثقالا من الذهب لا يزيد ولا ينقص ، والحال ان ارصدة الاوراق النقدية ليست كذلك ، ولهذا نجد انه كلما تزدهر وتتقدم الاوضاع الاقتصادية للبلد المصدر لتلك الاوراق وتكثر فيه الثروات والامكانات الاقتصادية قويت اوراقه المالية في تجارة خارجية او داخلية وبالعكس كلما ضعفت امكانات البلد وثروته الاقتصادية ضعفت اوراقه المالية وانخفضت قيمتها .
فلم يعد خافيا اليوم ان الاوراق النقدية الرائجة في العالم تعتبر هي الاموال بالاستقلال ولا تعتبر سندات حاكية عما في الذمم ، وان مسالة الرصيد لها لا تعني ذلك اصلا .
ومما يشهد او يدل علي ذلك الاحكام القانونية المرتبة علي هذه الاوراق حيث انه يتعامل معها بما هي اموال مستقلة لا بما هي سندات عليها فمثلا اذا تلف او اتلف مقدار منها كان ذلك تلفا للمال لا للسند فلا تبقي ذمة الجهة المصدرة لها مشغولة برصيدها وما يعادلها لمالكها ، كما ان اقباضها يكون اقباضا للمال وليس حوالة علي الجهة المصدرة لها كما في التعامل بالسندات الي غير ذلك من الاحكام والآثار الحقوقية المترتبة .
المحاولة السادسة: ان النقد وان كان مالا مستقلا بل ومثليا ايضا اي ضمانه بالمثل الا ان حقيقة النقدية حيث انها تتمثل في القوة الشرائية والقيمة التبادلية فيكون الداخل في عهدة الضامن تلك القوة الشرائية ; لان النقد ليس الا عبارة عن القوة الشرائية المتجسدة في الخارج فيكون المضمون مماثل تلك القيمة والقوة الشرائية لا محالة .
وفيه: اولا: ان لازمه ان لا يجب علي الضامن دفع الزيادة اذا ارتفعت قيمة النقد وقوته الشرائية ; لان الضامن قد ضمن القوة الشرائية المحضة المتجسدة في الورقة لا غير .
وثانيا: ان القوة الشرائية بهذا المعني امر معنوي انتزاعي لا يفهمه العرف ولا يعتبره هو المال الخارجي ، وانما المال الخارجي نفس الورقة النقدية والضامن يضمن مثلها لا محالة ; لان قيمتها وماليتها او قل قوتها الشرائية حيثية تعليلية اجنبية عن صفات المثل كغيرها من المثليات .
المحاولة السابعة: ان النقود اذا كانت حقيقية كالدرهم والدينار فقد يقال بعدم ضمان نقصان قيمتها ; لان ماليتها بجنسها الحقيقي والذي هو مال مثلي كسائر الاموال المثلية ، واما النقد الاعتباري فحيث انه لا منفعة ذاتية استهلاكية له اصلا وانما منفعته بجعله للتبادل فتكون هذه الخصوصية اعني قيمته التبادلية وقوته الشرائية ملحوظة عرفا وعقلائيا كوصف حقيقي ، فتكون مضمونة كضمان سائر صفات المثل ، بل هذه الحيثية قد تعد قوام النقد وحقيقته بالمقدار المرتبط باعتبار النقد نفسه لا بارتفاع او انخفاض قيمة السلع الاخري في السوق بتاثير عوامل العرض والطلب عليها .
فاذا تغيرت قيمة النقد من هذه الناحية كما اذا قل اعتبار الدولة المصدرة له وضعفت قوتها الاقتصادية او نشرت الدولة كميات اكثر منه بلا رصيد حقيقي بازائه كان هذا التغيير كالتغير في الاوصاف العرضية للمثل كالثلج في الصيف والماء في المفازة مضمونا عرفا ; لاهميته وخطورته وملحوظيته عرفا في خصوص النقود الاعتبارية فلا يكون اداء معادله الاسمي وفاء واداء للمثل ، وانما مماثله المعادل لنفس القيمة والمالية المعتبرة له سابقا من نفس الجنس ، فيكون هناك ضمان للخصوصية الجنسية وضمان للقيمة والقوة الشرائية فيه باعتبارهما معا من اوصاف المثل ; ومن هنا ايضا لا يصح دفع عملة اخري من جنس آخر كما ان ارتفاع المالية والقيمة لذلك الجنس من النقد يكون للمضمون له ; لانه ارتفاع لمالية جنس النقد وخصوصيته المضمونة ، فلا يجوز للضامن دفع الاقل منهما اذا ارتفعت ماليته ، وفي نفس الوقت يكون نقصان القيمة والقوة الشرائية مضمونا ايضا .
وبهذا يكون ضمان النقد مثليا اي يضمن جنسه كما يضمن سائر المثليات ولا يضمن عنوان القوة الشرائية الذي قلنا في المحاولة السابقة بانه امر معنوي انتزاعي ، الا ان مثليته تتقوم بخصوصيته الجنسية وبقيمته وقوته الشرائية معا ولكن بالمقدار المرتبط به لا بقيمة السلع الاخري من سائر النواحي اي من ناحية مقدار العرض والطلب عليها في نفسها من غير ناحية ارتباطها بقيمة النقد ، فاذا كان هبوط قيمة النقد من جهة غلاء الاجناس الاخري او اكثرها لندرتها او غير ذلك من اسباب ارتفاع قيمة السلع – ومؤشره ان اسعارها ترتفع بلحاظ جميع العملات وانواع النقود الاخري ايضا لا خصوص النقد الرائج في البلد – فهذا لا يكون مضمونا لصاحب النقد ; لان هذه المالية الزائدة لم تكن مربوطة بالمالية التي كان يمثلها النقد المضمون ، وان كان هبوط قيمة النقد من ناحية تغير سعر النقد نفسه لضعف الجهة المصدرة له اقتصاديا كان مضمونا .
نعم ، تبقي مشكلة كيفية محاسبة القوة الشرائية للنقد من تلك الناحية ، ولعل افضل طريقة ان يقاس بالنسبة للعملات الاخري الثابتة مالياتها او الاجناس الثابتة في ماليتها نوعا وعادة كالذهب والفضة او بالقياس الي متوسط سعر السلع في السوق في كل فترة من الزمن .
وهذه المحاولة وان كانت قريبة من النفس الا ان هناك ايرادات واشكالات عليها لا بد من ملاحظتها وتمحيصها وهي كما يلي:
الاول: ان هذه الخصوصية كما هي ملحوظة في الاوراق النقدية كذلك ملحوظة في الدرهم والدينار من النقود الحقيقية ; لان حيثية نقديتها كنقدية الاوراق من حيث ملاحظة العرف لقوتها الشرائية ، ومجرد كون ذلك علي اساس المنفعة الحقيقية في جنسها لا مجرد الاعتبار لا يوجب فرقا من هذه الناحية ، ولازم ذلك جواز اخذ الزيادة في الدرهم والدينار لدي نزول قوتها الشرائية ، ولا اظن التزام احد بذلك .
ويمكن الاجابة عليه بالفرق بينهما من ناحية ان اعتبار العرف للقوة الشرائية في النقد من صفات المثل التي تدخل في الضمان انما يكون في النقد الاعتباري لا الحقيقي ; لان نكتته عرفا ليست مربوطة بحيثية النقدية وكون الشي ء وسيلة للتبادل ليقال باشتراكه بين النقدين بل مربوطة بحيثية اعتبارية ماليته حيث ان النقد الاعتباري انما يضرب ليكون تعبيرا عن المالية والقوة الشرائية المحضة التي يعتبرها القانون ، فتكون تلك القوة ملحوظة فيه بنحو المعني الاسمي بخلاف النقد الحقيقي حيث يمكن ان يقال فيه بان قوته الشرائية ملحوظة فيه بنحو المعني الحرفي وبما هي من آثار خصوصيته الجنسية الحقيقية فلا تلحظ عرفا من صفات المثل زائدا علي الجنس الحقيقي ، وان شئت قلت: ان وجود المنفعة الذاتية والجنس الحقيقي في النقد الحقيقي وكونه هو الملاك الاساس في ماليته ونقديته يجعل العرف يتعامل معه كما يتعامل مع الاجناس الحقيقية من حيث الضمان .
الثاني: ان القيمة السوقية والقوة الشرائية للنقد وان كانت حيثية تقييدية عرفا اي قوام النقد وحقيقته بذلك حيث لا منفعة ذاتية له ، الا ان مجرد هذا لا يكفي لضمان التضخم ونقصان قيمته السوقية من قبل الضامن له ; لان هذه الصفة اعني القيمة السوقية للنقد من الصفات الاضافية النسبية التي لها طرف آخر وهو السوق ومدي رغبة الناس في النقد وتنافسهم عليه ، والصفات النسبية ان كان تغيرها وزوالها بتغير صفة او منشا لها قائم بنفس المال كما اذا قلت رغبة الناس فيه لزوال طعمه او لونه او تاثيره فمثل هذا يكون مضمونا ومن صفات المثل ; لان تلك الحيثية والمنشا القائم بالمال يكون متعلقا لحق المالك ايضا ، واما اذا كان تغيرها لتغير طرف الاضافة الذي هو اجنبي عن المال وخارج عنه فلا معني ; لان يكون مضمونا لان ذلك الطرف لم يكن مملوكا لمالك المال او متعلقا لحقه كما اذا تصرف المتصرف في الجو فاصبح باردا فلم يرغب الناس في شراء الثلج مثلا او عالج الناس بلا دواء بحيث لم يرغب احد في شراء دواء معين فانه لا يكون ضامنا لمالية مالهم ، وكذلك الحال في القيمة السوقية للنقد فان نقصانها يعني ان السوق والناس قلت رغبتهم فيه ولو لضعف الجهة المصدرة له الا ان المفروض ان تلك الجهة لا تزال متعهدة ومعتبرة للنقد كالسابق وانما قلت رغبة الناس في اعتبارها كما تقل في السلع الحقيقية ، فهذا تغير في جهة اجنبية عن حق المالك للمال فلا وجه لان يكون من صفات المثل ويكون مضمونا ،
والشاهد عليه: انه لو سبب بالدعاية او باي سبب آخر الي ان تقل رغبة الناس في تلك العملة فقلت قيمتها ، بل حتي لو سبب ضعف الجهة المصدرة لها لم يكن ضامنا لنقصان قيمة النقود التي بايدي الناس جزما مع ان هذه الصفة والخصوصية لو كانت من صفات المثل ومضمونة بضمان المثل لزم ان يكون التسبب الي زوالها عن العين المملوكة لمالكها موجبا لضمان قيمتها ايضا ، كما اذا تسبب الي فساد اموال الناس او تغير صفة من صفاتها الحقيقية المرغوب فيها .
فالحاصل: هناك تلازم بين الحكم بضمان وصف من اوصاف العين المضمونة من باب كونه من صفات المثل في فرض ضمان العين وبين الحكم بضمانه مع بقاء العين اذا تصرف تصرفا مؤديا الي زوال الوصف فلا بد من الحكم بضمان نقصان القيمة في الفرض المذكور – وهو مما لا يلتزم به – او الحكم بعدم ضمانه في فرض التلف ايضا ; لان نكتة الضمان فيهما واحدة ، وهي كون تلك الصفة في المال متعلقا لحق المالك فاذا كان له هذا الحق فالضمان في الفرضين والا فلا ضمان فيهما ايضا .
والجواب: بالفرق عرفا في الاوصاف النسبية الاضافية بين التصرف في طرف الاضافة والتصرف في العين فان الاول لا يكون موجبا للضمان ; لانه ليس من التصرف في حق الغير وملكه ، بخلاف الثاني فانه تصرف فيه حتي بلحاظ وصفه النسبي وما يوجبه من المالية فيه ، فمثلا اذا كان مال في سوق معين اكثر مالية وقيمة منه في مكان آخر فتارة يتصرف المتصرف في المال بان ياخذه الي مكان آخر ويخرجه عن ذلك السوق فيكسد فانه يحكم بضمانه ، واخري يتصرف في السوق بان يرغب من فيه بالانتقال الي مكان آخر فيكسد المال بعد ذلك فانه لا يكون ضامنا ; لانه لم يتصرف في مال الغير وحقه .
ومقامنا من هذا القبيل فانه اذا اتلف النقد الذي له مالية وقيمة سوقية معينة او اخذه من مالكه علي وجه الضمان فانه يعد اتلافا او اخذا لقوته الشرائية من مالكه فيضمنه بماله من القيمة والمالية ، بخلاف ما اذ اثر علي السوق فغير من رغبة الناس وتنافسهم علي النقد او اثر علي الجهة المصدرة له فحاربها اقتصاديا مثلا فاثر ذلك في قوة النقد عالميا فان هذا لا يعد تصرفا في مال مالكي ذلك النقد .
نعم ، لو غصب النقد غاصب ثم ارجعه بعينه الي مالكه بعد ان نقصت قيمته وقوته الشرائية نتيجة التضخم الناشئ من هبوط قيمة النقد كان لازم هذا التحليل ان يكون ضامنا للنقصان ، كما اذا غصب جنسا فارجعه فاسدا او ناقصا في بعض اوصافه الدخيلة في المالية ، ولا يبعد صحة الالتزام بذلك فقهيا .
لا يقال: فلماذا لا يحكم بضمان نقصان القيمة السوقية في السلع والاجناس الحقيقية المثلية اذا نقصت قيمتها بعد التلف او الغصب ، كما اذا اتلف منا من حنطة فضمنها ثم نقصت قيمتها فانه لا يجب عليه اكثر من دفع من من تلك الحنطة ؟ !
فانه يقال: ان الحكم بعدم ضمان ذلك ليس من الجهة المذكورة في الاشكال ، بل لجهة اخري وهي كون القيمة حيثية تعليلية لمالية الاجناس الحقيقية لا تقييدية بمعني ان منا من تلك الحنطة يعد عرفا نفس ذلك المال التالف لا اقل منه الا اذا فكرنا بعقلية تجارية حسابية لا تكون ميزانا للاحكام العرفية والعقلائية ، فلو اريد ضمان نقصان قيمة السلعة زائدا علي من من تلك الحنطة من باب دخل ذلك في المثلية فليست القيمة السوقية دخيلة في ذلك في الاجناس الحقيقية كما اشرنا ، وان اريد ضمانه بعنوان ضمان القيمة السوقية مستقلا وابتداء فالضمان لا يتعلق الا بالمال لا بالمالية وانما المالية حيثية تعليلية في المال المضمون فان هذا هو المستظهر من ادلة ضمان الاموال الشرعية والعقلائية ، وهذا بخلاف النقد الاعتباري المحض فان قيمته وقوته الشرائية تمام حقيقته وقوامه فتكون حيثية تقييدية فيه اي ان مالية النقد الاعتباري تكون بقيمته التبادلية والشرائية لا بجنسه الحقيقي ; اذ لا قيمة له ، ولا باعتباره ; لان الاعتبار بما هو اعتبار ليس مالا وانما المالية بما وراء ذلك الاعتبار من القوة الاقتصادية في الجهة المصدرة والتي تجعل الورقة النقدية فيها قوة شرائية تبادلية حقيقة ، وهذا يعني ان مالية هذه الاوراق انما تكون بنفس قوتها التبادلية والشرائية لا بشي ء آخر فلا محالة يكون مثل النقد الماخوذ او التالف اولا ما يعادله من نفس النقد في قوته الشرائية التبادلية ، وبهذا يدعي الفرق بين النقود الاعتبارية والاموال الحقيقية .
الثالث: ان ضمان نقصان قيمة النقد – التضخم – يستلزم تجويز الربا والفائدة بمقدار سعر التضخم ، فاذا اقرضه مثلا عشرة آلاف تومان لسنة فاصبحت قيمتها الشرائية عند حلول الاجل نصف ما كانت عليه في السابق استحق الدائن علي المدين عشرة آلاف اخري اضافية ، وهذا مصداق للربا المحرم ، بل قد يكون سعر التضخم اكثر من سعر الفائدة الربوية اليوم ، فكيف يمكن الالتزام بذلك ؟ !
ويمكن الاجابة علي هذا الاشكال ايضا:
اولا: بانه لا باس بالالتزام بذلك ; لانه ليس ربا ، اذ ليس كل زيادة عينية او اسمية ربا في باب القرض وانما الربا هو الزيادة علي راس المال اي زيادة مال علي اصل المال المسلف ، وهذا لا يصدق في المقام فلا يشمله اطلاق الآية او روايات حرمة الربا ; اذ الزيادة ان كانت من جهة المالية والقيمة التبادلية فالمفروض مساواتها مع الاصل نتيجة التضخم وهبوط قيمة النقد ، وان كانت من جهة الزيادة الاسمية وان عشرين تومان ازيد من عشرة فالاسم او الاعتبار بما هو اسم او اعتبار ليس مالا كما اشرنا وانما ماليته بلحاظ قوته التبادلية والشرائية وهي معادلة للاصل ، وبهذا ظهر الفرق بين النقد الاعتباري والاجناس الاخري فان منين من الحنطة مال ازيد من من واحد ولو نقصت قيمته السوقية ، فيصدق فيه الزيادة في المال علي راس المال فيكون ربا محرما .
فالحاصل: المستفاد من ذيل آية الربا ومما ورد في تفسير الربا وان كل شرط جر نفعا فهو ربا ان الميزان والمقصود من الربا – الذي يعني لغة الزيادة – ليس مطلق الزيادة حتي اذا لم تكن لها مالية ونفع كما لو زاد شيئا لا مالية له كالميتة مثلا ، بل الزيادة في المالية وبلحاظ راس المال وهذا يصدق في مورد الجنس الحقيقي بمجرد زيادة كميته عرفا ولو نقصت قيمته كما يصدق كلما كان الجنس مساويا ولكن اشترط شرط زائد له مالية ونفع واما اذا لم تكن الزيادة الا عنوانا واسما من دون جنس حقيقي زائد كما في النقد الاعتباري فلا تصدق الزيادة في راس المال ولا النفع ، فلا تشمله ادلة الربا ولا دليل كل شرط جر نفعا فهو ربا ; لانه لا يصدق عليه انه شرط يجر نفعا له ، اذ لا نفع فيه له مع فرض التساوي في القيمة التبادلية ، وانما هو حفظ لنفس راس ماله ، كيف ! والا قد ينسد باب القرض الحسن علي الناس مع التضخم المستمر اليوم في باب النقود الاعتبارية في عالمنا الثالث ; لانه يؤدي الي خسران اصحاب الاموال المقترضة لاصل رؤوس اموالهم عما اسلفوها !
وثانيا: لو تنزلنا عن ذلك وقلنا بعدم جواز اخذ النقصان حتي بالشرط فغايته عدم ضمان سعر التضخم في عقد القرض لا في سائر عقود الضمان فضلا عن ضمان الغرامة بالتلف والاتلاف . نعم ، في العقود لو جعل المقدار والمعادل الاسمي للنقد ثمنا وعوضا اي لوحظ النقد الاعتباري بما هو نقد اعتباري لا بما هو طريق الي قدرته الشرائية وقيمته التبادلية لم يستحق المضمون له اكثر من معادله الاسمي ، فكيفية ملاحظة النقد تختلف من مقام الي مقام ، فقد يلحظ بما هو هو ويجعل عوضا في العقد فلا ضمان لنقصان قيمته ، وقد يلحظ بما هو طريق الي القيمة التبادلية والسوقية ويجعل ثمنا فيكون مضمونا بقيمته الشرائية لا محالة .
الرابع: ان مقدار التضخم وهبوط قيمة النقد لو كان مضمونا فهذا يؤدي الي الارتباك والتردد في مقدار الديون والاثمان في عقود الضمان ، بل وكذا في الضمانات القهرية ; لان التضخم في النقود الاعتبارية اليوم امر واقع لا محالة وهو تدريجي مستمر ، فلا بد للديان من محاسبة مالهم علي المدينين في كل يوم ويطالبونهم بمقدار اكثر حسب تغير سعر العملة التي تعاملوا بها ، وهذا مما لا يمكن الالتزام به فقهيا ، ولا تلتزم به القوانين المدنية اليوم ايضا . خصوصا اذا لاحظنا ان اسباب التضخم وانواعه ودرجاته مختلفة ومتعددة فهل يحكم بالضمان فيها جميعا او في بعض دون بعض ؟
ويمكن الجواب علي هذا الاشكال بالتفصيل بين ضمان الغرامة بالتلف والاتلاف ، وبين الضمان العقدي اي ضمان المسمي ، ففي الاول يلتزم بضمان نفس القوة الشرائية والقيمة التبادلية التي كانت للنقد في زمان تلفه ، ولا محذور فيه ويكون نظير ضمان القيميات علي القول بكون الميزان فيه بقيمة يوم الاداء فتحسب القيمة والقوة الشرائية المعادلة يوم الاداء ، وفي الثاني لا مانع من الالتزام بان النظر العرفي في الاثمان ملاحظة النقد بما هو هو اي بماله من القيمة الاسمية ، فاذا اشتري شيئا بالف تومان نسيئة يكون ظاهر الحال ان الثمن هو الف تومان لا ما يعادله في القوة الشرائية من التوامين الا اذا اشترط ذلك صريحا او ضمنا بنحو لا يلزم منه الجهالة في مقدار الثمن كما اذا اشترط ضمان نقصان قيمتها ، ولا يبعد وجود شرط ضمني نوعي في موارد التغير والنقصان الفاحش .
واما بالنسبة الي اسباب التضخم وانواعه فقد اشرنا في المحاولة السابعة الي انه تارة يكون التضخم ونقصان قيمة النقد لارتفاع قيمة السلع الاخري بسبب قلة عرضها وانتاجها فمثل هذا لا يبعد كونه كالقيمة السوقية للسلع الحقيقية ليس من صفات المثل فلا يكون مضمونا الا بالشرط في ضمن عقد لازم . واخري يكون سببه ضعف اعتبار الجهة المصدرة للنقد وضعف امكاناتها الاقتصادية او اصدارها للنقود بكميات زائدة من دون وجود قدرة حقيقية وراءها فهذا يعتبر من صفات المثل للنقد فيكون مضمونا علي القاعدة .
وهكذا يتلخص من مجموع ما تقدم ان ضمان نقصان قيمة النقود الاعتبارية يتوقف علي الجزم بان العرف قد ينظر الي النقد الاعتباري بما هو مال تتقوم ماليته بماله من القوة الشرائية والقيمة التبادلية لا بماله من القيمة الاسمية او الاعتبار القانوني فيكون مماثله ما يعادله من نفس النقد الاعتباري في قيمته التبادلية ، فاذا تم ذلك ثبت الضمان علي القاعدة والا كان مقتضي الاصل عدم ضمان الاكثر من معادله الاسمي .
وربما يستدل علي الضمان بطرق واستدلالات اخري غير هذا الطريق الذي سلكناه نشير الي بعضها بعنوان محاولات اخري .
المحاولة الثامنة «التمسك بقاعدة العدل والانصاف لاثبات حق للمضمون له وان حرمانه من القوة والقيمة الشرائية التي كانت لنقوده سابقا ظلم عليه .
ويلاحظ عليه: اولا: بالنقض بالجنس اذا فرض نزول قيمته كذلك كما اذا كان قد اعطاه او اتلف عليه الف مثقال من فضة سابقا حينما كانت تساوي مئة مثقال من الذهب وهي اليوم لا تساوي عشرة مثاقيل ذهب فهل يلتزم فيه ايضا بالضمان ؟ !
وثانيا: بالحل وحاصله: ان اريد بقاعدة العدل والانصاف التمسك بادلة حرمة الظلم وسلب حق الغير عنه فمن الواضح ان هذا فرع ثبوت حق للمضمون له في ضمان مالية ماله من قبل الضامن في المرتبة السابقة فيكون اثباته به مصادرة ، علي ان حرمة الظلم او قبحه لا يثبت الضمان الذي هو حكم وضعي . وان اريد به ما ورد في بعض الروايات الخاصة من الحكم بالتنصيف في موارد التردد واشتباه مال بين اثنين وليس لاحدهما يد عليه او حلفا جميعا عليه ونحو ذلك – كما في معتبرتي غياث واسحاق بن عمار (2) والسكوني (4) – والتي قد يدعي استفادة كبري كلية ارتكازية منها وان الحكم بالتنصيف بينهما في فرض تساويهما من حيث ادلة الاثبات انما هو بملاك العدل والانصاف بينهما فمن الواضح ان مورد تلك الروايات وذلك الارتكاز – لو ثبت – انما هو الشبهة الموضوعية اي تردد مال خارجا ودورانه بين شخصين لا الشبهة الحكمية والشك في ان الضامن هل عليه اكثر من المثل ام لا فان الشك هنا في اصل الحق لا في تردده خارجا بين اثنين فلا معني لاستفادة هذا من ذاك المفاد ، اللهم الا بدعوي ان العقلاء يرون هذا الحق للمضمون له ، وهذا رجوع الي ضمان المالية عقلائيا ابتداء ، ولا ربط له بقاعدة العدل والانصاف المصطلحة .
المحاولة التاسعة: اثبات ضمان نقصان مالية النقود الاعتبارية بملاك الضرر وان الضامن لو لم يجب عليه اكثر من المعادل الاسمي لما اخذه من المضمون له لزم تضرره ، ولا ضرر ولا ضرار في الاسلام .
وهذا مرجعه الي انا لو لم نتمكن من اثبات ضمان نقصان المالية من باب كونها من صفات المثل في خصوص النقد امكن اثباته بقاعدة لا ضرر ، حيث يقال بان العرف في باب الاجناس والسلع الحقيقية لا يري صدق الضرر اذا ما ارجع له نفس الجنس الذي اخذه منه فمن يرجع منا من الحنطة لمن اخذه منه لا يصدق في حقه انه اضره وانقص ماله اذا تغيرت قيمته زمان الاداء عن زمان الاخذ ; لان ماليته متقومة بمنفعته الاستعمالية الحقيقية الثابتة فيه بالتمام كما كانت في الماخوذ منه ، الا اذا فكرنا بعقلية وذهنية تجارية خاصة ليست ميزانا في صدق عنوان الضرر في الادلة .
واما في باب النقد فحيث ان قوامه وحقيقته بقيمته التبادلية السوقية حيث لا منفعة اخري فيه فيصدق الاضرار عرفا بمجرد نقص ماليته في زمان الاداء عن زمان الاخذ .
نعم ، قد يقال:
بان هذا الوجه لا يجري في موارد العقود التي اقدم فيها الشخص بنفسه علي جعل مقدار معين من ذلك النقد الاعتباري الي اجل معين في ذمة الضامن بدلا عن ماله ، فانه اذا نزلت قيمته مع فرض عدم التخلف من قبل الضامن في الاداء لم يكن ضامنا ; لانه ضرر قد اقدم عليه المالك بنفسه ، فيثبت ضمان نقصان المالية في غير هذه الحالة كما في حالة التلف والاتلاف – ضمان الغرامة – او الغصب او التاخير عن الاداء ، فيضمن النقصان الحاصل في زمان التاخير لا اكثر ; لكونه اضرارا منه علي المالك .
المحاولة العاشرة: دعوي صدق الاتلاف للمال في مورد نقصان قيمة النقد حين الاداء عن زمان الاخذ فيما اذا كان اخذه بدون رضي المالك واذنه كما في موارد الغصب او الاتلاف بل والتلف بدون اذنه بل وفي موارد التاخير عن الاداء للدين مع استحقاقه فتنزل قيمته ، فانه في كل ذلك يمكن ان يقال بصدق اتلاف مال الغير في خصوص النقود ; لكون القيمة والمالية فيها حيثية تقييدية لا تعليلية بخلاف سائر السلع ، فالحاصل: يدعي في هذه المحاولة ان عنوان اتلاف المال الذي هو موضوع ضمان الغرامة صادق في النقود اذا تحقق موجبه ; لكون المالية والقيمة فيها ملحوظة عرفا كحيثية تقييدية لا تعليلية فيشملها اطلاق ادلة الضمان بالتلف او الاتلاف .
وهذه المحاولة تتوقف صحتها علي قبول هذه الدعوي وعرفية التفصيل بين السلع الاخري والنقود من هذه الناحية ، وعهدتها علي مدعيها .
المحاولة الحادية عشرة: ان يدعي ثبوت حق الفسخ او التعويض في موارد هبوط قيمة النقد هبوطا فاحشا في العقود والالتزامات التي لم يستلم فيها الطرف الثمن لكونه نسيئة او لاي سبب آخر: اما بملاك وجود شرط ضمني ارتكازي بحق الفسخ في مثل هذه الحالات الاستثنائية فيكون كالشروط الارتكازية الاخري كعدم الغبن والعيب فيرجع الي خيار الشرط ، او بقاعدة لا ضرر بناء علي امكان نفي اللزوم الضرري الحاصل من العقد عن الطرف المتضرر بنكتة غير راجعة الي تقصيره ، ومنه المقام فان الضرر المذكور ليس راجعا اليه ، ولو كان يعلم به لما كان يقدم علي البيع مؤجلا بذلك المقدار من النقد جزما وانما كان ذلك نتيجة عدم علمه بما سيؤول اليه النقد ، فهو انما اقدم بانيا علي بقاء المالية لذلك النقد وعدم انخفاضها الفاحش ، وهذا ليس باقل من الغبن الذي اثبتوا فيه الخيار بقاعدة لا ضرر . وهذه المحاولة لو تمت صغراها فهي تجدي في موارد العقود والالتزامات لا الديون والضمانات ، كما هو واضح .
المحاولة الثانية عشرة: اثبات ضمان نقصان القيمة للنقد في الديون ، بل والعقود ايضا اذا كان دفعه بعنوان اشغال ذمة المدين بحيثية ماليته وقيمته بالقياس الي السلع او العملات الاخري لا بحثية مثليته سواء اعتبرنا ذلك من باب اقراض المثلي بقيمته نظير قرض القيمي – بناء علي جوازه وصحته في المثلي ايضا حيث لا دليل علي المنع عنه الا شبهة حصول الربا القرضي الذي اجبنا عليه سابقا فيمكن ان يملكه النقد علي ان تشتغل ذمته بقيمته وماليته وقوته الشرائية من نفس الجنس من النقد في ذمته – او ارجعنا ذلك الي معاملة اخري غير القرض كالبيع مثلا . فلا محالة يجب علي المدين اداء معادله في القيمة من ذلك النقد عند الوفاء .
الا ان هذه المحاولة بحاجة الي اعمال مثل هذه العناية التي لا تكون ملحوظة في اقراض النقود عادة . كما انه بناء عليه سوف لن يستحق الدائن ارتفاع قيمة نقده ايضا كما في قرض القيمي فان الميزان فيه بقيمة يوم القرض . اللهم الا اذا قلنا بجواز تضمين الجنس والقيمة معا وان الاقراض للمثلي يجوز فيه ذلك فتكون النتيجة ضمان النقصان والزيادة معا .
لا يقال: علي هذا يثبت الضمان ايضا فيما اذا سبب نقصان قيمة النقد بالدعاية ضده مثلا في السوق او عرض كميات كبيرة منه بحيث اوجب نقصان قيمته ، كما انه يلزم ان تكون الدولة المصدرة للنقد ضامنة لنقصان قيمة نقدها بيد المالكين اذا سببت ما يوجب نقصان اعتبار نقدها ، وهذا ما لا يمكن الالتزام به فقهيا .
فانه يقال: بالفرق بين هذه الموارد وبين مقامنا ; اذ يمكن ان يمنع صدق الاضرار فيها ; لان تصرف الغير كان من حقه وفيما يرجع اليه لا الي مالك النقد فلا يصدق الاضرار ، بخلاف ما اذا كان قد غصب او اتلف عليه ماله او اخر اداءه اليه فانه بلا حق فيصدق عليه الاضرار عرفا .
وهذا الوجه – لو سلمنا ما فيه من المصادرة والدعوي العرفية – يتوقف علي اثبات ان ملاك الضمان وموضوعه فقهيا انما هو الاضرار وان الضمان ضمان مقدار الضرر الواقع علي الغير لا تلف المال وضمان بدله مثلا او قيمة ، وقد تقدم في بحث آخر الاشكال في امكان اثبات ذلك بقاعدة لا ضرر او بالروايات الخاصة .
اما القاعدة واثبات الضمان بها ، فالاشكال فيه اما من ناحية انها تنفي الحكم الضرري ولا تثبت حكما يلزم من عدمه الضرر ، او لان الضمان تدارك للضرر الواقع خارجا والقاعدة لا تثبت تدارك الضرر وانما تنفي الضرر بنفي منشاه وسببه التشريعي .
واما الروايات الخاصة ، فلان الوارد فيها وفي كلمات الفقهاء ضمان ما يتلفه من مال الغير ، واما الاضرار بالغير فقد ورد النهي ، عنه وهو ظاهر في الحكم التكليفي لا الضمان . نعم ، ورد في بعض الروايات «من . . . حفر شيئا في طريق المسلمين فاصاب شيئا فعطب فهو له ضامن » (5) وهو مجمل من هذه الناحية قابل للحمل علي انه يضمن المال الذي يصيبه بضمان المثل اذا كان مثليا او القيمة اذا كان قيميا فيكون مساوقا مع اتلاف المال ، وهكذا يكون اثبات الضمان للمالية في باب النقود بملاك الضرر والاضرار مشكلا .
هذا كله في البحث علي مقتضي القاعدة ، وبه ينتهي البحث عن الفصل الاول .
الفصل الثاني
واما البحث عن الروايات الخاصة ، فهناك عدة روايات متعارضة في المقام فينبغي التعرض لها:
احداها: معتبرة يونس قال: «كتبت الي الرضا عليه السلام ان لي علي رجل ثلاثة آلاف درهم وكانت تلك الدراهم تنفق بين الناس تلك الايام وليست تنفق اليوم فلي عليه تلك الدراهم باعيانها او ما ينفق اليوم بين الناس ؟ قال: فكتب الي: لك ان تاخذ منه ما ينفق بين الناس كما اعطيته ما ينفق بين الناس » (6) .
الثانية: معتبرته الاخري – بنقل الشيخ – قال: «كتبت الي ابي الحسن الرضا عليه السلام انه كان لي علي رجل عشرة دراهم وان السلطان اسقط تلك الدراهم وجاءت دراهم اعلي من تلك الدراهم الاولي ولها اليوم وضيعة فاي شي ء لي عليه الاولي التي اسقطها السلطان او الدراهم التي اجازها السلطان ؟ فكتب لك الدراهم الاولي » (7) .
الثالثة: معتبرة صفوان ، قال: «ساله معاوية بن سعيد عن رجل استقرض دراهم من رجل وسقطت تلك الدراهم او تغيرت ولا يباع بها شي ء ا لصاحب الدراهم الدراهم الاولي او الجائزة التي تجوز بين الناس ؟ فقال: لصاحب الدراهم الدراهم الاولي» (8).
فقد يستدل بالرواية الاولي علي ضمان الاوصاف الانتزاعية غير الحقيقية للمال حيث دلت علي ضمان خصوصية نقدية الدرهم ورواجه للانفاق والتعامل به وان الدرهم الذي اعطاه اذا سقط عن الرواج والانفاق كان له علي المدين الدرهم الرائج ; لانه اعطاه الرائج فتكون خصوصية الرواج والنقدية تحت الضمان مع انها خصوصية اضافية انتزاعية وليست حقيقية ، كما ان هذا يستلزم عادة نقصان قيمته عن الدرهم الرائج ، فتدل الرواية علي ضمان القيمة الزائدة التي كانت للدرهم المعطي حين رواجه .
وفيه: انه يقال بان الرواية معارضة برواية يونس الاخري الدالة علي انه ليس له الا الدراهم الاولي . وقد يجمع بينهما بحمل الاولي علي فرض السقوط عن الرواج والنقدية نهائيا ، والثانية علي مجرد نقصان القيمة والوضيعة مع بقائه نقدا رائجا حيث لم يصرح فيها الا بالوضيعة . الا ان هذا الجمع مما لا يمكن المساعدة عليه ; لان ظاهر التعبير في الرواية الثانية – بان السلطان قد اسقطها واجاز غيرها – سقوط الدرهم الاول عن النقدية ، وما ذكر فيها من الوضيعة لا يعني انه رائج كنقد ، بل يعني ان قيمته باعتباره فضة مسكوكة ولو كانت ساقطة عن النقدية اقل من الدرهم الفعلي ، هذا مضافا الي صراحة الرواية الثالثة – مضمرة صفوان – في انه ليس للدائن حتي في فرض السقوط عن الرواج الا دراهمه الاولي حيث عبر فيها «ولا يباع بها شي ء» .
والتحقيق ان يقال:
اولا: ان رواية يونس الاولي غاية ما تدل عليه ان خصوصية النقدية والرواج تدخل في الضمان ، وهذا لا يستلزم ضمان نقصان قيمة الدرهم الرائج ; لان النقدية وان كانت من الاوصاف الانتزاعية الا انها من الحيثيات المهمة التي تجعل الفضة المسكوكة نقدا يتعامل به كثمن في المبادلات والمعاملات بحيث يكون النقد عنوانا مباينا مع ما لا يكون نقدا من الاموال فتكون هذه الخصوصية من صفات المثل لا محالة عرفا ، وهذا بخلاف نقصان قيمة المال فانه لا بجعله عرفا مالا آخر ، ففرق بين زوال نقدية الفضة المسكوكة وبين نقصان قيمته من هذه الناحية ; ولعل نكتته ما ذكرناه سابقا من ان القيمة حيثية تعليلية في المال لا تقييدية . فالرواية الاولي اذن اجنبية عن بحث ضمان نقصان القيمة حتي لو لم يكن لها معارض الا بضرب من القياس وتنقيح المناط .
وثانيا: يمكن الجمع بين الرواية الاولي والاخيرتين بما ذكره الصدوق قدس سره والشيخ قدس سره من ان المقصود بالرواية الاولي ما اذا دفع له الدراهم وزنا لا بما هي من نوع معين بالخصوص ، فان التعامل بها علي ما يظهر من الروايات ايضا كان باعتبار ما فيها من المثاقيل من الفضة المسكوكة ; ومن هنا كانت توزن الدراهم والدنانير كثيرا في مقام التعامل والمحاسبة ، فاذا كان قد دفع له مقدارا من الدراهم بما هي فضة مسكوكة بسكة المعاملة من دون ملاحظة خصوصية السكة المضروبة كان له ان ياخذ منه في مقام الوفاء ايضا ما يعادله وزنا – كما هو ظاهر الصدوق – او قيمة – كما هو ظاهر الشيخ في الاستبصار – من الدراهم الرائجة لضمان وصف الرواج والنقدية ، وان كان قد دفع له الدراهم بما هي نقد معروف معين اي بخصوصية تلك السكة لم يكن له الا الدراهم من تلك السكة سواء كانت رائجة او راج غيرها ; لان هذا هو مقتضي اشتغال ذمة المدين بخصوص تلك السكة ، وهذا معناه ان النقد الحقيقي يمكن ان يلحظ تارة كسلعة فيكون مضمونا بخصوصية ، واخري يمكن ان يلحظ كنقد اي كفضة او ذهب مسكوكين للتعامل مهما كانت سكته ، فيكون المضمون ما يعادله من الفضة او الذهب الرائجين للتعامل .
وهذا التفصيل الذي ذكره العلمان معقول جدا الا انه لا بد من قيام شاهد جمع عليه من الروايات .
ولعل ما يمكن ان يكون شاهدا عليه: ان سياق التعبير في رواية يونس الاولي يناسب المعني الاول اي دفع الدراهم بما هي فضة مسكوكة بسكة التعامل لا بخصوصيته حيث عبر فيها السائل بقوله: «فلي عليه تلك الدراهم باعيانها او ما ينفق بين الناس » الظاهر في انه يري الفرق بين ما اعطاه وبين ما ينفق كالفرق بين الاعيان والمصاديق وبين كل ما ينفق بين الناس ، فكانه انما كان قد اعطاه ما اعطاه سابقا بعنوان كونه مما ينفق بين الناس في ذلك اليوم لا لخصوصية في سكته ، وهذا بخلاف التعبير الوارد في الروايتين الاخيرتين فان ظاهر التعبير فيهما ملاحظة كل من الدرهمين بسكته بالخصوص ، ولو فرض انهما مطلقتان تشملان الصورتين فتخصصان بالرواية الاولي بما اذا كانت خصوصية السكة ملحوظة ومطلوبة للدائن حين التعامل .
ثم انه يمكن ان يستدل ايضا علي عدم ضمان المدين لنقصان قيمة النقد بما دل من الروايات علي ان الميزان بسعر يوم الوفاء لمن كان له علي غيره دنانير او دراهم ثم يتغير السعر قبل المحاسبة:
ففي صحيحة عبدالملك قال: «سالت ابا الحسن موسي عليه السلام عن رجل يكون عنده دنانير لبعض خلطائه فياخذ مكانها ورقا في حوائجه ، وهو يوم قبضت سبعة وسبعة ونصف بدينار وقد يطلب صاحب المال بعض الورق وليست بحاضرة فيبتاعها له من الصيرفي بهذا السعر ونحوه ثم يتغير السعر قبل ان يحتسبا حتي صارت الورق اثني عشر بدينار ، هل يصلح ذلك له ، وانما هي بالسعر الاول حين قبض كانت سبعة وسبعة ونصف بدينار ؟ قال: اذا دفع اليه الورق بقدر الدنانير فلا يضره كيف كان الصروف ، فلا باس » (9) .
وفي صحيح الحلبي عن ابي عبدالله عليه السلام «في الرجل يكون له الدين دراهم معلومة الي اجل فجاء الاجل وليس عند الذي حل عليه دراهم ، فقال له: خذ مني دنانير بصرف اليوم ، قال: لا باس به » (10) .
وروايات اخري بنفس المضمون في نفس الباب .
وفي رواية يوسف بن ايوب – شريك ابراهيم بن ميمون – عن ابي عبدالله عليه السلام قال: «في الرجل يكون له علي رجل دراهم فيعطيه دنانير ولا يصارفه فتصير الدنانير بزيادة او نقصان قال: له سعر يوم اعطاه » (11) . وهي معتبرة ايضا ; لان يوسف هذا ينقل عنه ابن ابي عمير في شخص الرواية .
وتقريب الاستدلال بها انها جعلت الميزان والضابطة فيمن اراد وفاء ما عليه من الدينار او الدرهم بالآخر بصرف يوم الدفع والوفاء لا يوم المحاسبة ولا يوم اشتغال ذمة المدين بالدين اذا فرض تغير اسعار الصرف بالزيادة والنقيصة ، وهذا لازمه ان نقصان قيمة النقد المشتغل به الذمة لا يكون مضمونا ولا يجب علي المدين ان يدفع اكثر من قيمته يوم الوفاء بالنقد الآخر مهما كانت قيمته قبل ذلك .
وقد يناقش في هذا الاستدلال بان الروايات المذكورة ناظرة الي مسالة صرف الدينار بالدرهم وبالعكس فيكون المنظور اليه زمان تحقق بيع الصرف وما بعده ، واما تغير قيمة النقد الذي علي المدين قبل الصرف فلا ربط له بالصرف ولا يكون ملحوظا في جواب الامام عليه السلام في هذه الروايات ، فلا دلالة لها علي حكم نقصان قيمة النقد من تلك الناحية .
والجواب: ان الروايات وان كانت ناظرة الي صرف الدينار بالدرهم وبالعكس الا انه بعد ان كان حكم صرف احدهما بالآخر وباي سعر يتفق عليه الطرفان واضحا في نفسه وليس مورد السؤال في هذه الروايات ، فلا محالة يكون جهة السؤال فيها عن وفاء ما عليه من الدرهم او الدينار بالآخر من غير مصارفة ومحاسبة علي اساس ان يكون ذلك بسعره الواقعي ، وحيث ان سعره الواقعي يتغير ويختلف بحسب عمود الزمان بالزيادة والنقصان فيسال السائل عن المعيار الذي يمكن ان يكون عليه سعر المصارفة في المحاسبة ، والامام عليه السلام قد اجاب بان له سعر يوم الوفاء وانه لا يضره كيف كان الصروف .
وهذا معناه اعطاء ضابطة كلية هي: انه اذا اراد ان يستوفي دينه بالمصارفة فليس له الا سعر يوم الدفع والوفاء ; لان الوفاء يتحقق فيه ، وكون مورد السؤال في بعض الروايات في فرض تغير سعر الصرف بعد زمان الوفاء لا يجعل الضابطة الكلية المذكورة مخصوصة به دون فرض تغير السعر قبل زمان الصرف ، فان هذا خلاف النكتة الكلية المستفادة من هذه الروايات ، وهي تحقق الوفاء بالدفع والعطاء ووصول المال الي الدائن فيكون الميزان بسعر الصرف حينه ، وهذا لا فرق فيه بين تغير سعر الصروف بعد الوفاء او قبله . بل وهذا خلاف اطلاق صحيحة الحلبي المتقدمة وامثالها من الروايات .
فالحاصل: لا ينبغي الاشكال في دلالة هذه الروايات علي فتوي المشهور من ان النقد الذي تشتغل به ذمة المدين لو اراد الوفاء به بما يعادله من النقد الآخر فليس للدائن الا سعر يوم الوفاء ، وهذا لازمه ان النقد المذكور لو ارتفعت قيمته فلا بد للمدين ان يدفعه بالقيمة المرتفعة عند الوفاء ، ولكن لو نقصت قيمته فلا يجب عليه الا سعر يوم الوفاء فلا يكون نقصان القيمة مضمونا حتي في النقد .
الا ان الروايات المذكورة كلها واردة في النقد الحقيقي اي الدرهم والدينار ، وقد ذكرنا فيما سبق بانهما كالسلع والاموال الحقيقية الاخري لها مالية ذاتية قائمة بخصوصيتهما الجنسية بل والنقدية الخاصة بحيث تكون هذه الخصوصية ملحوظة عرفا وماخوذة تحت الضمان ، فلا يمكن ان يستفاد منها حكم النقد الاعتباري المتمحض ماليته في الجنبة النقدية الاعتبارية .
بل لا يمكن ان يستفاد منها عدم ضمان نقصان قيمة الدرهم والدينار اي النقد الحقيقي اذا لوحظ في مقام دفعه جنبة النقدية وقوته الشرائية محضا بان اقرضه مثلا الف درهم علي ان يوفيه قيمته اليوم بالقياس الي الدينار او السلع الاخري عند الوفاء بدرهم يوم الوفاء كما في قرض القيمي ، فان هذا لا يمكن استفادة عدم صحته من الروايات المذكورة ; لان هذا النحو من التعامل القيمي لم يكن متعارفا مع الدرهم والدينار ليتشكل اطلاق في الروايات المذكورة لنفي جوازه . نعم ، قد يستفاد بطلانه في النقود الحقيقية علي اساس صدق الربا القرضي والزيادة بلحاظ جنس الذهب والفضة الثابتين ، فيها وذاك بحث آخر تقدم تفصيله ، كما انه لا يمكن ان يستفاد من هذه الروايات حكم ضمان الغرامة بالتلف والغصب ونحوها.
الخاتمة
وهي فيما يرتبط بهذه المسالة الخطيرة حيث ان هناك عدة بحوث مرتبطة بمسالة التضخم او نقصان قيمة النقد الا اننا نقتصر علي اثنين منها:
الاول: ان للتضخم ونقصان قيمة النقد اثرا مهما في باب الخمس حيث يمكن ان يقال علي اساسه بعدم تعلق الخمس في مال التجارة اذا ارتفعت قيمتها وكان ذلك علي اساس التضخم فحسب ; لانه بحسب الحقيقة من نقصان قيمة النقد وهبوطه لا ارتفاع قيمة السلعة التجارية . ومن هنا تكون قيمتها بالقياس الي سائر السلع باقية علي حالها ; لانها جميعا ارتفعت اسعارها ، وهذا يؤدي الي ان لا يصدق عنوان الفائدة الربح او الغنيمة الذي هو موضوع تعلق الخمس ، فالتاجر وان كانت قيمة ماله التجاري آخر السنة تشكل رقما وعددا اكبر بالنقد الرائج كالتومان مثلا الا ان ذلك لو كان من جهة هبوط قيمة النقد بذلك المقدار في جميع السلع الحقيقية فلا ربح للتاجر اصلا ; اذ الربح والفائدة ليس قوامه بالرقم العددي والقيمة الاسمية للنقود ، بل بواقع ماليتها وقوتها الشرائية ، والمفروض انه لا ارتفاع فيها ، كيف والا قد يلزم ان يدفع التاجر بالتدريج تمام راس ماله خمسا كلما ازداد التضخم واستمر في كل سنة ، وهذا لعله واضح ، بل هو اوضح من مسالة ضمان قيمة التضخم .
الثاني: ومما يرتبط بهذا البحث ايضا ويكون من تطبيقاته راس مال المضاربة اذا كان نقدا – بناء علي صحة المضاربة به – فان نقصان قيمته نتيجة التضخم وان لم يكن مضمونا علي العامل لانه امين الا ان البحث في ضمان الربح له وعدمه حيث ان الربح وقاية لراس المال ، فاذا كان الملحوظ المالية والقوة الشرائية للنقد المدفوع كراس مال كان اللازم استثناء معادلها من الحاصل اولا ، ثم اعتبار الباقي ربحا يوزع بين العامل والمالك بالنسبة . فما جاء في مقال بعض الباحثين من ان مسالة المضاربة لا ربط لها ببحث التضخم في غير محله .
نعم ، يمكن ان يقال بان المضاربة باعتبارها عقدا من العقود فعندما يكون النقد فيه بعدد معين محلا للالتزام فظاهر الحال ملاحظة ذلك العدد المعين بخصوصية راس المال فيكون الميزان بمقداره الاسمي لا بقيمته وقوته الشرائية كما هو في سائر العقود والالتزامات .
الا ان هذا الامر لا يصح في مثل المضاربة التي هي من العقود الاذنية لا العهدية ; اذ المال باق فيه علي ملك مالكه ولا ينتقل الي العامل الا مقدار حصته مما يصدق عليه الربح ، وقد ذكرنا انه لا يصدق الربح بازدياد عدد النقد مع التضخم ، فالصحيح ان مقدار التضخم يكون مضمونا من ربح التجارة للمالك في المضاربة ويكون ما عداه بينهما كما ذكرنا في موضوع الخمس ; لان الربح لا يصدق الا فيما زاد علي راس مال المالك بماليته وقوته الشرائية لا بمقداره الاسمي . نعم ، لو حصل التضخم قبل شروع الاتجار والشراء براس المال امكن ان يقال بان راس المال هو المدفوع في المضاربة المالية الناقصة ، فتدبر جيدا .
والله الهادي للصواب
الهوامش:
1) المستدرك: 14: 8 ، ح 12 .
2) الوسائل 27: 250 ، الباب 12 من كيفية الحكم واحكام الدعوي ، ح 3 و2 .
3) الوسائل 18: 450 ، الباب 9 من الصلح ، ح 1 .
4) الوسائل 18: 452 ، الباب 12 من الصلح ، ح 1 .
5) الوسائل 29: 245 ، الباب 11 ، ح 335547 .
6) الوسائل 18: 206 ، الباب 20 من الصرف ، ح 1 .
7) الوسائل 18: 206 ، الباب 20 من الصرف ، ح 2 .
8) الوسائل 18: 207 ، الباب 20 من الصرف ، ح 4 .
9) الوسائل 18: 183 ، الباب 9 من الصرف ، ح 1 .
10) الوسائل 18: 172 ، الباب 3 من الصرف ، ح 2 .
11) الوسائل 18: 185 ، الباب 9 من الصرف ، ح 5 .
المصدر: المجلة الفقهية، الرقم 2 , الهاشمي، سيد محمود
تاريخ النشر : 2010