الاجتهاد: هناك خلط كبير لدى جمهور كبير من المشتغلين على ظاهرة الإرهاب العالمي المعاصر بين: ” دراسة ظاهرة الإرهاب ” كحقل دراسي مستقل وحديث؛ وبين “مكافحة الإرهاب” التي تختص بها الأطراف الفاعلة من الدول، ومن اختصاص أجهزة الدولة التي تنفذها من خلال القوة الخشنة والقوة الأمنية والعسكرية، والتي ما زالت تتجلى في “الحرب العالمية على الإرهاب”، و”التحالف الدولي ضد تنظيم داعش” الإرهابي.
من نافل القول بأن مفهوم الإرهاب “معياري”؛ بمعنى أن هناك تفسيرات وتعريفات مختلفة ومتباينة حوله في كافة حقول المعرفة الإنسانية.
لكني لا أظن أن هناك ظاهرة في العلوم الإنسانية المعاصرة استحوذت على الاهتمام العالمي قدر الاهتمام الذي تحظى به ظاهرة الإرهاب العالمي، ومع ذلك بقيت ملتبسة وغير مؤطرة. وما من ظاهرة تنازعتها معاول القوم حتى أصبحت مشاعا ومخزنا للبطالة المقنعة لجمهور واسع من مدعي الخبرة والتحليل أكثر من ظاهرة الإرهاب العالمي.
قد يحاجج البعض أن هذا الوضع يبدو مقبولا ومفهوما بالنظر إلى تداخل وتقاطع العلوم الإنسانية والعلمية التي تدرس الظاهرة: من السياسة إلى الاقتصاد إلى الاجتماع إلى علم النفس والأعصاب، وصولا إلى التكنولوجيا الرقمية والذكاء الاصطناعي.
وهنا يبدو مفهوما أن هناك تعريفات كثيرة ومتعددة للإرهاب، حيث تجاوزت (200) تعريف يعتد به، عدا مئات التعريفات التي يطالعنا بها خبراء ومحللي الصحافة والفضائيات في اللقاءات الموسمية والمناسبات عقب كل عملية إرهابية تحدث في العالم([1]).
كما يبدو مفهوما أن يقدم خبراء ومحللون وأكاديميون وباحثون، مقاربات كل من ضمن حقله واختصاصه الدقيق مساهمات في التحليل والدراسة للأدوار التي تلعبها الحقول المختلفة في الظاهرة وكيف يسهم كل منها في بنية وسلوك الظاهرة.
لكنه من غير المقبول علميا – حسب اعتقادي – أن يتحول عالم نفس الأعصاب، وعالم الاقتصاد، أو الاجتماع، أو التكنولوجيا الرقمية إلى خبير في ظاهرة الإرهاب العالمي لمجرد أنه قدم مقاربة من ضمن حقله في فهم ظاهرة الإرهاب من خلال وسائل الإعلام التي يصفها باسكال بونيفاس بأنها “تتجه نحو الشخصي لا نحو الجماعي نحو الأحاسيس لا نحو العقل نحو الفردي لا نحو الكوني”([2]). وحتى أكون دقيقا، فإن هذا الخلط ينتشر بشكل معولم ولا يختص بمنطقة جغرافية محددة، لكنه يبدو بشكل أوضح وأعمق وأوسع في الدول العربية.
هل هناك نظرية للإرهاب العالمي؟
حسب معلوماتي المتواضعة؛ ليس هناك – حتى الآن – نظرية كُبرى ومتماسكة للإرهاب العالمي؛ هناك نظريات مفسرة للعنف بشكل عام والعنف السياسي الذي يعتبر الإرهاب جزءًا منه، في علم الاجتماع، وعلم النفس، وهناك مقاربات، وفرضيات متعددة من تخصصات وحقول إنسانية مختلفة لفهم الظاهرة لكنها لا تصل معرفيا لأن تشكل نظرية خاصة بالإرهاب.
وعلى الرغم من السيرورة الطويلة لظاهرة الإرهاب في التاريخ الإنساني التي وجدت محايثة للمقدس والمدنس، إلا أنها بقيت في معزلٍ عن التخصيص وظل ينظر إليها بمناظير من خارجها وإلى داخلها بداية من أسطورة الخلق البابلية حتى الثورة الفرنسية والحقبة التي سميت بفترة الرعب والرهبَة (1793-1795) وطوال هذا التاريخ بقي العالم ينظر إليها من منظار الدين وأشكال التدين وعلم الاجتماع وفلسفة السياسة. ولم يظهر الإرهاب للوجود كمفهوم إلا في القرن الثامن عشر عندما استخدمه الفيلسوف البريطاني المعارض للثورة الفرنسية أدموند بيرك، ليصف به زمرة اليعاقبة بزعامة مكسيمليان روبسبير، والذين تزعموا فترة الرعب والرهبة[3].
حتى القفزة الكبيرة التي حظيت بها الظاهرة من حيث الاهتمام جاءت متأخرة جداً، وجاءت هذه القفزة متزامنة مع فورة سيرورة العولمة المعاصرة بعد عام 1989م مع تفكك الاتحاد السوفياتي وانهيار جدار برلين وإرهاصات فقاعة التكنولوجيا الرقمية وثورة الإنترنت، ثم حدثت الصدمة التي دفعت الظاهرة إلى واجهة الأحداث العالمية عام 2001م عندما نفذ تنظيم القاعدة هجمات 11 أيلول الإرهابية ضد الأراضي الأمريكية. من هذا التاريخ بدأت الانعطافة المعرفية الثانية في الظاهرة – حيث كانت الأولى الثورة الفرنسية – وفي ثلاثة محاور رئيسة، الأول في مسألة التأريخ للظاهرة، الثاني في بِنية الظاهرة، والثالث في سلوك الظاهرة.
فقد شكلت هجمات 11 أيلول بداية مرحلة تاريخية جديدة في السياسة العالمية جهة كيفية التعاطي مع الإرهاب، ومع الأطراف الفاعلة من غير الدول وعلى رأسها الجماعات الإرهابية مثل تنظيم القاعدة. وفي كيفية مقاربة الإرهاب كجزء من العنف السياسي، وما هي الأدوار التي بات يلعبها في السياسة العالمية.
غير أن كل هذا الزخم الذي طال الظاهرة بقي ينحت في الصدفة الخارجية لقوقعة الإرهاب وظل البحث محبوساً في ربقة المقاربات الواقعية وسيطرة الدولة واستمرار النظر إلى الإرهاب كعنف سياسي يعجز عن تغير بنية وسلوك الدول، وبالتالي التقليل من شأنه وأهميته.
وذهب البحث الأداتَي باتجاه التركيز على جوانب مكافحة الإرهاب، وليس دراسة الإرهاب، ومعالجة أعراض الخلل والمرض، وليس أسباب الخلل والمرض. وتحوَل البحث في الإرهاب إلى عملية بحث في الاقتصاد الليبرالي وتحليل للمخاطر، وتحليل الكلف المالية، وتكلفة الفرصة البديلة وتطبيقات نظرية اللعب، وبناء المؤشرات، والنماذج الرياضية لاتجاهات الإرهاب المستقبلية. ولذلك بقي الإرهاب في الجوهر بعيدا عن التنظير والدراسة المعمّقة.
دراسة الإرهاب أم مكافحة الإرهاب؟
هناك خلط كبير لدى جمهور كبير من المشتغلين على ظاهرة الإرهاب العالمي المعاصر بين: “دراسة ظاهرة الإرهاب” كحقل دراسي مستقل وحديث؛ وبين “مكافحة الإرهاب” التي تختص بها الأطراف الفاعلة من الدول، ومن اختصاص أجهزة الدولة التي تنفذها من خلال القوة الخشنة والقوة الأمنية والعسكرية، والتي ما زالت تتجلى في “الحرب العالمية على الإرهاب”، و”التحالف الدولي ضد تنظيم داعش” الإرهابي.
وهذا الخلط العنيف والخطير يكاد يكون هو المسيطر على المشهد؛ فجل ما يتحدث به حاليا ً بشأن الظاهرة هو في الحقيقة حديث عن الشق الثاني من الظاهرة؛ الشق العملي-الأداتي (أعراض الظاهرة ومخرجاتها النهائية) حول مكافحة الإرهاب وأساليب مكافحة الإرهاب والقضاء على الإرهابيين غير عابئ بسؤال من أين، وكيف جاء هؤلاء الإرهابيين، وليس له علاقة بدراسة ظاهرة الإرهاب (أسبابه، دوافعه، أهدافه، المنفذين للعمل الإرهابي…إلخ) ورغم بعض الأصوات التي تدعو إلى إدخال الأدوات غير الخشنة في مكافحة الإرهاب من خلال الدعوة إلى ضرورة دراسة ملفات الإرهابيين وإعادة دمجهم وتأهيلهم، إلا أن هذه الدعوات لا زالت محدودة وخافتة مقارنة مع عنف المعارك على الأرض التي تكافح الإرهاب والإرهابيين اليوم في ساحات العراق وسوريا وليبيا واليمن وشمال إفريقيا والساحل.
إن نظرة سريعة على حجم ومحتوى الإنتاج البحثي الخاص أو الحكومي أو الممول من الدولة حول الظاهرة يعطينا مؤشر على اتجاهات البحث. وأستطيع القول إن 90% من الإنتاج البحثي (كتب ومقالات ومؤتمرات) خاصة في أوروبا وأمريكا مكرس لمسألة الشق العملي-الأداتي من الظاهرة، المتمثل في مكافحة الإرهاب، الأساليب والطرائق والفنيات.
وأعتقد بأن استمرار هذا الاتجاه الأداتي في فهم الظاهرة وتناولها هو الذي أسهم في عرقلة مسيرة البحث في صلب الظاهرة ومحاولة بناء نظرية كبرى خاصة بظاهرة الإرهاب العالمي المعاصر، وتركها نهبا ومشاعاً لمحللي وخبراء التلفزيون الفضائيات اليوم.
المراجع:
[1] -Burgeson, Mark (2004), Terrorism, explaining, religious terrorism, part1: the axis of good and evil, p1
2-بونيفاس، باسكال (2013)المثقفون المزيفون، ترجمة روز مخلوف، ورد للطباعة والنشر والتوزيع، دمشق، الطبعة الأولى، ص 19.
3- الشرفات، سعود (2016) الإرهاب العالمي والتطرف: صراع الظواهر وتضارب المسلمات في ظل العولمة، الأهلية للنشر والتوزيع، عمان الأردن، الطبعة الأولى، ص 99
1- الشرفات، سعود (2016) الإرهاب العالمي والتطرف: صراع الظواهر وتضارب المسلمات في ظل العولمة، الأهلية للنشر والتوزيع، عمان –الاردن، الطبعة الأولى، ص 99
[2]- بونيفاس، باسكال (2013)، المثقفون المزيفون، ترجمة روز مخلوف، ورد للطباعة والنشر والتوزيع، دمشق، الطبعة الأولى، ص 19.
[3]- Burgeson, Mark (2004), Terrorism, explaining, religious terrorism, part1: the axis of good and evil, p1.
المصدر: مؤسسة مؤمنون بلا حدود
سعود الشرفات
مالك ومدير عام مركز شُرُفات لدراسة وبحوث العولمة والإرهاب , عمان، المملكة الأردنية الهاشمية .
يحمل درجة الدكتوراه في فلسفة العلوم السياسية من هولندا ، وماجستير الاقتصاد السياسي الدولي وبكالوريوس الاقتصاد من جامعة اليرموك .
باحث ومحلل اكاديمي متخصص في قضايا العولمة والإرهاب العالمي ، وخبير أمني –استخباري في مكافحة الإرهاب والتطرف الديني ،والجماعات الإرهابية ، والعلاقات الدولية ، والاقتصاد السياسي الدولي ، والإعلام وقضايا الهجرة الدولية واللجوء .
عضو رابطة الكتاب الأردنيين. ومُحكّم معتمد لدى وزارة الثقافة الأردنية في مجال نشر الكتب والدراسات في حقول دراسات الإرهاب والعلوم السياسية ونظريات العولمة ، والإعلام الحديث .
صدر له كتابان : العولمة والإرهاب عالم مسطح أم أودية عميقة . الطبعة الأولى 2011 م والثانية 2015، وكتاب الإرهاب العالمي والتطرف : صراع الظواهر وتضارب المسلّمات في ظل العولمة ، 2016م عن دار الأهلية للنشر والتوزيع عمان الأردن . ونشر له أكثر من بحث ودراسة محكّمة.
نشر مجموعة من المقالات في معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى ،و صحف مثل يوميوري تشنبون اليابانية ، ووكالة شينخوا الصينية ، وعكاظ السعودية، و الغد الأردنية ، ومؤسسة مؤمنون بلا حدود، وصحيفة حفريات الإلكترونية.