جاء الإسلام وكان في كل بيت أو أكثر البيوت تصنع الخمور ويتعاطاها السواد الأعظم من الناس في مجالسهم الخاصة والعامة، بحيث أصبح الإدمان في تعاطي المسكرات مرضاً اجتماعياً مزمناً لايمكن القضاء عليه بغتة، بل لابد لمكافحته واستئصال جذوره من اتباع طريقة التدرج واستخدام الحكمة.
الاجتهاد: لذا مهّد القران الكريم لمواجهة هذا المرض المزمن الخبيث الفتاك، الطريق المعبد والسبيل الميسر، باتخاذ اربع مراحل لمنعه بالنهي عنه نهيا مقتضاه التحريم القطعي، وهذا لا يعني أن الإسلام أقر اباحة تعاطي المسكرات في أية مرحلة من هذه المراحل، كما زعم الكثير من الجهلة، فذهبوا إلى هذا الرأي الساقط وخلطوا بين التدرج والنسخ، فاعتبروا المرحلة اللاحقة ناسخة للسابقة.
ووجه خطأ هذا الرغم اللامعقول هو تعليل التحريم والتجريم لتعاطي المسكرات في جميع الآيات الواردة بصدد هذا العمل الجرمی تعليلاً واضحاً صريحاً في كل مرحلة من المراحل الأربع الأتية :
1- في المرحلة الأولى قال سبحانه وتعالى مخاطبا الإنسان في كل زمان و مكان [ومن ثمرات النّخيل والأعناب تتخذون منه سكراً ورزقاً حسناً إن في ذلك لآية لقوم يعقلون ](١) فالقارئ الدقيق يجد في هذه المرحلة لمسة خفية وإشارة عقلية ذكية إلى أن المسكرات بكافة أنواعها قبيحة لذاتها وأساس هذا القبح هو الضرر العقلي والصحي والاجتماعي والاقتصادي المكنون في المادة المسكرة وتعاطيها، ومن البديهي أن مدار حسن وقبح تصرفات الإنسان في كل زمان ومكان هو النفع والضرر، فكل نافع لذاته حسن لذاته ، (۲) وكل نافع لغيره حسن لغيره، (۳) وكل ضار لذاته قبیح لذاته (٤) وكل ضار لغيره قبيح لغيره(٥).
الحسن والقبيح في الآية المذكورة مأخوذان من عطف (رزقاً حسناً) على سكرا) والعطف للمغايرة يدل على أن السكر قبيح، لأنه لا يوجد شق ثالث بين الحسن والقبح. فهذه الآية لا تدل من قريب أو بعيد على إباحة تعاطي المسكرات، للمنافاة الواضحة بين إباحة الشيء وتقبيحه في نفس الوقت، لأن هاتين الصفتين لا تجتمعان في شيء واحد، غير أن في ميزان الشريعة الإسلامية لا يمكن أن يكون شيء واحد حسنا لذاته في وقت وقبيحاً لذاته في وقت آخر.
ومن زعم أن هذه الآية أقرت إباحة تعاطي المسكرات ثم سخت بالمرحلة الأخيرة فقد ارتكب خطأ لا يغتفر.
۲– في المرحلة الثانية غير القرآن الكريم أسلوب خطابه في تحريم المسكرات، فاعتمد مقابلة أخرى وأحال عقل الإنسان إلى الموازنة بين النفع والضرر اللذين يجنيهما الشخص من تعاطي المسكرات، أو بين الربح والخسارة في ممارسة هذا العمل المشين، فقال تعالى [ يسئلونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما].(٦)
والمراد بالإثم في هذه الآية هو الضرر بقرينة مقابلته بالنفع، والآية لا تدل على تحريم الخمر والميسر (القمار) فحسب، وإنما تدل صراحة وبوضوح على تحريم كل ما يكون ضرره أكثر من نفعه، لأن السؤال كان لمعرفة حكم الخمر والقمار، لكن الله سبحانه لم يجب ببيان هذا الحكم، وإنما أجاب بعلة الحكم (التحریم)، وهي إن ضرر هاتين المادتين اكثر من نفعهما، وهذه العلة في ضوء قواعد أصول الفقه تسمى العلة المنصوصة ومرتبتها في الدلالة على الحكم كمرتبة النص الصريح، والدليل على ذلك أن من ينكر حجية القياس لا ينكر حجية العلة المنصوصة، لأنها بمثابة النص الصريح.
وبناء على ذلك ارشدنا القران الكريم إلى قاعدة عامة وهي إن كل ما كان ضرره اكثر من نفعه فهو محرم كحرمة الخمر والقمار، وبذلك يشمل النص التدخين بنفس الدرجة من التحريم، لأن ضرره اكثر من نفعه، بل لا نفع فيه أصلاً بإجماع علماء الطب، ثم إن خطر التدخين اكثر من خطر الخمر والقمار كما هو ثابت بالطب الحديث. (٧)
وجدير بالذكر ان المراد بالخمر في هذه الآية وغيرها كل ما يخمر العقل ويحدث فيه الخلل، فيشمل كافة المسكرات أيا كانت مادتها الأولية وأيا كان نوعها، فلا حاجة إلى استعمال القياس بالنسبة لإثبات تحریم مسکر آخر، وقياس النبيذ عند بعض الأصوليين(٨) على الخمر في التحريم، لاشتراكهما في علة الحكم وهي الإسکار، خطأ من وجهين:
أحدهما: إن تعاطي المسكرات من جرائم الحدود وهي لا تثبت بالقياس، لأن من ميزات جرائم الحدود أن التجريم يثبت بالنص والعقوبة تحدد بالنص أيضاً. لكن بالنسبة لتحديد العقوبة وهي ثمانون جلدة، أربعون منها حدية ثبت بالسنة النبوية، وأربعون منها تعزيرية ثبت بالقياس على القذف.
ثانيا: إن المراد بالخمر في هذه الآية معناه اللغوي، بغض النظر عن نوعها وطبيعتها وموادها الأولية.
3. في المرحلة الثالثة ضيق الشارع الوقت على متعاطي المسكرات، حتى يتهيأ للترك النهائي، فقال سبحانه وتعالى :[ يأيها الذين ءامنوا لا تقربوا الصلوة وأنتم سكری حتى تعلموا ما تقولون](٩)، وهذه الآية لا تدل على إقرار إباحة تعاطي المسكرات خارج الصلاة، وهذا بمثابة إرشاد الطبيب إلى تقليل التدخين بالنسبة للمريض المدمن على التدخين، فإرشاده إلى التقليل في حالة عدم استطاعة المريض على الترك دفعة واحدة، لا يدل على انه يقره على التدخين القليل ويؤمنه على عدم ضرره.
4– في المرحلة الرابعة والأخيرة التي هي قمة التدرج والاستقرار التام للحكم والخضوع الكامل له وامتثال النهي بصورة نهائية، قال سبحانه وتعالى
[ أيها الذين ءامنوا إنما الخمر و الميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون] ، [إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدّكم عن ذكر الله وعن الصلوة فهل أنتم منتهون]. (١٠)
و هذه الآية تدل دلالة قطعية على تحريم كافة أنواع المسكرات تحريما باتا من سبعة أوجه وهي:
١- وضع الخمر والقمار في مصاف الأنصاب (الأصنام ) والخضوع للأصنام قمة الكفر.
٢- وصف المسكر بانه رجس والرجس غير قابل للإزالة بخلاف النجس ، فالنجاسة قابلة للإزالة.
٣- وصف تعاطي المسكرات بانه من أعمال الشيطان ، ولا يعقل أن يكون عمل الشيطان مباحاً.
٤- أمر سبحانه وتعالى بالاجتناب عن تعاطي المسكرات، وتعبير (فاجتنبوه) اقوى وابلغ في الدلالة على النهي والتحريم من تعبير صيغة النهي أو الحرمة ومشتقاتها، لان الاجتناب لا يستعمل إلا لما فيه الخطورة وسرعة العدوی کالطاعون (الكوليرا).
٥- وصفه سبحانه وتعالى بأنه مصدر الشر والعداوة والبغضاء، بسبب ما يتفوه به السكران حين سكره وفقد وعيه واختلال عقله.
٦- وصفه سبحانه وتعالى بانه يصد عن التفكير فيما يجب فيه التفكير بالعقل، مما يتطلب المساهمة في تطوير الحياة الشخصية والحياة العامة للمجتمع.
۷- طلب إنهاء المراحل المذكورة لتعاطي المسكرات بالاستفهام الإنكاري (فهل أنتم منتهون؟)، والاستفهام الإنكاري يدل على المنع دلالة اقوى من صيغة النهي أو صيغة التجريم.
وتعاطي المسكرات رغم انه عمل شنيع، إلا انه قابل لان يصبح مباحا لمن أكره عليه إكراهاً ملجئاّ، وفي حالات الضرورة كحالة الجوع والعطش الشديدين ونحوهما اللذين يعرضان حياة الإنسان للخطر، لأن تعاطي المسكرات اعتداء على حق الله وهو يصبح مباحاً بإذن الشارع، لكن لا للتداوي وعلاج المرض، لأنه نجس والله سبحانه وتعالى لم يخلق الشفاء في النجس.
وجدير بالذكر أن تعاطي والمسكرات محرم في كافة الأديان، لأنه ضارّ وقبيح لذاته، و لايتصور العقل أن يبيحه الله في شريعة ويحرمه في شريعة أخرى.
الهوامش
(١) سورة النحل: ٦۷.
(۲) کالعدل.
(۳) کالكذب النافع الذي ينقذ حياة مظلوم مطلوب من ظالم.
(٤) كالظلم
(٥) كالصدق الضار يلحق الضرر بالغير دون مبرر.
(٦) سورة البقرة، ٢١٩.
(٧) خطر التدخين يشمل كل من يكون قريبا من حيث المكان من المدخن وهذا ما يسمى التدخين السلبي ، ثم إن التدخين من أهم أسباب إصابة الإنسان بالسرطان في الفم والحنجرة والمثانة والرئة، إضافة إلى تسببه في إصابة الإنسان بتصلب الشرايين… نظر مولفنا (التدخين أضراره وتحريمه في القرآن) (٨) منهم أستاذنا الدكتور عبدالكريم زيدان في كتابه الوجيز في أصول الفقه.
(٩) سورة النساء : ٤٣.
(١٠) سورة المائدة: ٩٠ – ٩١.
المصدر : كتاب فلسفة الشريعة للمؤلف: مصطفى ابراهيم الزلمي/ الصفحة: 239 – الناشر: مكتب التفسير للنشر والتوزيع.