سعت الرسالات في أول ما سعت إلى نبذ التطرف والعنف اللذان كانا ساندين في حياة الأمم وتعاملاتها، ودعت هذه الرسالة السماوية إلى أن يتعامل الإنسان مع الإنسان على أنه أخ له في الخلق، ولعل ما عبّر عنه الإمام علي عليه السلام هو خلاصة لفلسفة هذه الديانات وتلخيصاً لجهود الأنبياء جميعاً حيث قال: (الخلق صنفان إما أخٌ لك في الدين أو نظيرٌ لك في الخلق).
الاجتهاد: المقصود من فقه الحوار الدعوة إلى الإسلام قبل القتال كما هو الإجماع عليه، بل ظهر منهم الوجوب كما في خبر مسمع بن عبد الملك عن الصادق عن آبائه عليهم السلام قال أمير المؤمنين عليه السلام: بعثني رسول الله صلى الله عليه وآله إلى اليمن فقال: يا علي لا تقاتلن أحدا حتى تدعوه إلى الإسلام و ايمُ الله لأن يهدي الله على يديك رجلا خير لك مما طلعت عليه الشمس وغربت، ولك ولاؤه يا علي.
ورواه الكليني بإسناده عن علي بن إبراهيم عن أبيه عن النوفلي عن السكوني عن أبي عبد الله عليه السلام مثله.
وإن كان ظاهره الندب والإرشاد إلى فعل الأولى، فهو يرشد إلى أن الدعوة قبل القتال لمن سمع ووعى، نعم القتال من غير دعوة أصلاً خلاف الداعي وهو نشر الإسلام وتأكيد الحجة.
وما عن الجواهر: وكيف كان فلا يبدؤون أي الكفار الحربيون بالقتال مع عدم بلوغ الدعوة اليهم إلاّ بعد الدعاء إلى محاسن الإسلام وهي الشهادتان وما يتبعهما من أصول الدين وامتناعهم عن ذلك وعن إعطاء الجزية إن كانوا من أهلها بلا خلاف أجده بل ولا إشكال…
وفي تعليقه على خبر مسمع السابق قال بعد وروده النص: ونحوه غيره من النصوص، مضافا إلى الأصل وغيره بعد ظهور الأدلة في الأمر بجهادهم وقتلهم كي يسلموا، فلابد من إعلامهم أن المراد ذلك لا طلب المال والملك ونحوهما مما يستعمله الملوك، ولكن لو بدر أحد من المسلمين إلى أحد من الكفار وقتله قبل الدعوة أثم ولا ضمان، خلافا للشافعي فحكم بالضمان للقياس على الذمي الذي هو مع بطلانه في نفسه عندنا مع الفارق، بل ربما حكي عن الشيخ نفس الأمرين معاً، ولكن فيه أنه مناف لما عرفت من عدم جواز قتالهم قبل الدعوة إلى الإسلام.
ولعل النهي عن الجهاد من غير أمر الإمام أو معه هو أحد أسباب الحث على الدعوة قبل القتال فإن بعض علة الجهاد هو الدعوة إلى الإسلام وهو ما يطلق عليه بعضهم بالجهاد الابتدائي، فإن الإمام أولى بحفظ هذا الداعي وعدم العبث في تجاوزه وتخطيه فضلاً عن تشخيص المصلحة من قبل الإمام والظفر بمقتضيها الناجم عن علم الإمام دون الركون إلى جهل غير العادل وإيكال الأمر إليه.
فعن علي بن إبراهيم عن أبيه عن بن أبي عمير عن الحكم بن مسكين عن عبد الملك بن عمرو قال: قال لي أبو عبد الله عليه السلام: يا عبد الملك ما لي لا أراك تخرج إلى هذه المواضع التي يخرج اليها أهل بلادك؟ قال: قلت وأين؟ قال: جدة وعبادان والمصيصة وقزوين، فقلت: انتظارا لأمركم والاقتداء بكم فقال: أي والله لو كان خيرا ما سبقونا إليه، قال: قلت له: فإن الزيدية يقولون ليس بيننا وبين جعفر خلاف إلاّ أنه لا يرى الجهاد فقال: أنا لا أراه؟! بلى والله إني لأراه ولكن أكره أن أدع علمي إلى جهلهم.
وظاهره الحذر من الوقوع في محذور الجهل ومغبة القتال دون الدعوة وإلقاء الحجة، وما ذهب إليه صاحب الجواهر من بيان الموجب لقتال الكفار هو إعلامهم أن المراد ليس طلب الدنيا والملك والمال، بل القتال لأجل نشر كلمة لا إله إلاّ الله وهو ما أكدته رواية الزهري عن علي بن الحسين عليه السلام فسألوه كيف الدعوة إلى الدين؟ فقال: تقول: بسم الله الرحمن الرحيم: أدعوك إلى الله عز وجل وإلى دينه وجماعهُ أمران:
أحدهما معرفة الله عز وجل والآخر العمل برضوانه، وأن معرفة الله عز وجل؛ أن يعرف بالوحدانية والرأفة والرحمة والعزة والعلم والقدرة والعلو على كل شيء، وأنه النافع الضار القاهر لكل شيء، الذي لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير، وأن محمّداً عبده رسوله وان ما جاء به هو الحق من عند الله عز وجل، وما سواه هو الباطل، فإذا أجابوا إلى ذلك فلهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين.
وعلق الحر العاملي بقوله: الظاهر أن هذه أفضل الكيفيات.
ومن ظاهر الحر وغيره أن الدعوة غير مقيدة بلفظ مخصوص أو بتعبير منصوص بل هو الأكمل والأفضل كما ورد، فللإمام أن يدعو ما يشاء بما يشاء نعم الدعوة ليس على عمومها تجب على الإمام عند بدء القتال، فقد تسقط في حق من عرفها سابقا إلاّ فيما يكون تأكيداً للحجة وتذكيراً للدعوة فيستحب وليس الوجوب على إطلاقه كما يظهر من الجواهر وما حكاه عن النهاية والسرائر والتبصرة.
وفي استحباب الدعاء بالمأثور تظهر الرغبة في استجلاب النفوس للدخول إلى الإسلام ودعوتهم إليه قبل قتالهم، ففي خبر ميمون عن أبي عبد الله عليه السلام أن أمير المؤمنين عليه السلام كان إذا أراد القتال قال هذه الدعوات: اللهم إنك أعلمت سبيلا من سبلك جعلت فيه رضاك، وندبت إليه أولياءك، وجعلته أشرف سبلك عندك ثوابا وأكرمها لديك مآباً وأحبها إليك مسلكا، ثم اشتريت فيه من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدا عليك حقا، فاجعلني ممن يشتري فيه منك نفسه، ثم وفى لك ببيعه الذي بايعك عليه غير ناكث ولا ناقض عهدا، ولا مبدل تبديلا بل استيجابا لمحبتك، وتقربا به إليك، فاجعله خاتمة عملي، وصير فيه فنا عمري، وارزقني فيه لك وبه مشهدا توجب لي به منك الرضا، وتحط به عني الخطايا، وتجعلني في الأحياء المرزوقين بأيدي العداة والعصاة تحت لواء الحق، وراية الهدى ماضيا على نصرتهم قدما، غير مول دبرا، ولا محدث شكا،
اللهم وأعوذ بك عند ذلك من الجبن عند موارد الأهوال، ومن الضعف عند مساورة الأبطال، ومن الذنب المحيط للأعمال، فاحجم من شك أو أمضى بغير يقين فيكون سعيي في تباب وعملي غير مقبول.
ومنه يظهر أن في أصل الدعاء بيان الداعي من القتال والدعوة إلى الإسلام وأن الإمام لا يسعه القتال دون الإرشاد إلى محبوبية الدين ومعرفة التوحيد لتكتمل الحجة وتتم الدعوة. وبهذا ظهر أن القتال ليس لأجله ذاتاً بل إن المصلحة هو الدعوة إلى الإسلام ودونها لم يتم الفرض ولم تتأت المصلحة.
إذا عرفنا فلسفة الديانات السماوية وما تسعى إليه، فإننا عرفنا المزيد من حركتها الرسالية وما تحّمله أبطالها الأوفياء لهذه الرسالات وكيف بلّغوا عنها أحسن تبليغ حتى دعتهم الضرورة إلى التضحية بكل ما يملكون لتكتمل هذه الرسالات ويتيقن مبلّغوها أنهم وفّوا إليها بأحسن التضحيات.
وإذا عرفنا أن هذه الرسالات تسعى إلى تكامل الإنسان والوصول إلى مصافي الرشد والتفوق، عرفنا سر تضحية حملتها حينما طوردوا من طغاة قومهم وعتاتهم، وعرفنا أنها كذلك تسعى إلى توفير أكمل الفرص للوصول إلى سبل التكامل الإنساني المنشود.
فالتكامل الذي تسعى إلى تحقيقه هذه الرسالات ينبثق عن قدرتها في توفير الأجواء المناسبة للحصول على أي درجة من درجات التكامل مع أنها تضع أولويات التفوق الإنساني في أطروحاتها وتتصاعد هذه الأولويات لتصل إلى خلق أنموذج متكامل يحمل معه مواصفات النجاح في الحياة والسعادة في الآخرة دار القرار.
وإذا كان التكامل الإنساني هو هدف الرسالات المنشود فإن توفير الأجواء الآمنة من خلال تعزيز سبل السلام وتأكيد مفاهيم السلام كان من أهم ما اتصفت به هذه الرسالات، لذا فإننا نجد أن الأنبياء جميعاً كانوا يدأبون إلى تحقيق فرص السلام والمحبة والمساواة بين الجميع حتى لا تكاد تجد فرقاً بين رسالة وأخرى وفلسفة سماوية وثانية في التأكيد على السلام وكونه المنهج الحقيقي الذي تسعى هذه الرسالات إلى تحقيقه، وسنجد أن الخلاف لا يتعدى سوى الآليات في تنفيذ أطروحة السلام من خلال الخطاب الذي تتبناه هذه الرسالات السماوية.
ومن الضروري الاشارة إلى أنها سعت في أول ما سعت إلى نبذ التطرف والعنف اللذان كانا ساندين في حياة الأمم وتعاملاتها، ودعت هذه الرسالة السماوية إلى أن يتعامل الإنسان مع الإنسان على أنه أخ له في الخلق، ولعل ما عبّر عنه الإمام علي عليه السلام هو خلاصة لفلسفة هذه الديانات وتلخيصاً لجهود الأنبياء جميعاً حيث قال: (الخلق صنفان إما أخٌ لك في الدين أو نظيرٌ لك في الخلق).
حيث كرّس الإمام في مقولته هذه كل الفلسفات السماوية وأثنى على الخلقة الإنسانية بأنها المشترك الأساس في التعامل الإنساني بين بني البشر، وأن لا فرق بين إنسان وآخر إلا بقربه إلى الله تعالى، وبغض النظر عن الانتماء الفكري فقد سعى الإمام أمير المؤمنين عليه السلام إلى تعزيز هذا المنحى الإنساني المهم الذي يجمع الجميع تحت مظلةٍ إنسانية واحدة وهما الأخوة والتي تعبّر عن اثنينية مهمة وهي الدين والخلق والشراكة بينهما أساس التعامل الإنساني،
لذا فإننا إذا استعرضنا هذا التاريخ الرسالي الحافل بجهود الأنبياء فإننا لا نجد إلا حالة السلام، ومفهوم المحبة، وداعي الأخوة، ونظرة المساواة، وصفة العدالة، تسود مفاهيم هذه الرسالات السماوية، وإذا أضفنا في تحقيقنا شيئاً آخر يعزز ما نذهب إليه فإن الأنبياء في تاريخهم الرسالي الحافل بالحركة والتحديات لم نجد ما يشير إلى التعامل بقوة السيف في تحقيق أهدافهم المباركة، بل كانت القوة هي الاستثناء فهي من باب الدفاع عن النفس حينما يتعرض النبي وأصحابه إلى تحديات تدفع بهم إلى ترك ما هم عليه وفناءهم والتنكيل بهم وقطع شأفتهم، بل كان الأنبياء يقودون حركة التغيير من خلال مبدأ السلام والتعامل الإنساني الذي شيّدته رسالاتهم،
ولابد أن ينعكس ذلك على تعاملهم ومنهجهم السلمي الذي لم نجد فيه ما سعى به الأنبياء إلى ايصال رسالاتهم من خلال القوة والحرب، بل كان ذلك من خلال الكلمة الطيبة والخطاب المعرفي الذي يتضمن سبل الوصول إلى معرفة الحقيقة حيث كان الأنبياء يرشدون الناس إلى رسالاتهم بكل وسائل المعرفة التي تتيح للإنسان للوقوف على الأسباب الموجبة لهذه الحركة التغييرية الفكرية التي يقودها النبي المصلح وذلك بتقديم الأدلة والبراهين المثبتة لصحة رسالته وفكرته.
وقد سعت هذه الرسالات إلى تعزيز السلم الاجتماعي ومحاولات التعايش من خلال نبذ التشدد واستقطاب الآخر بكل ما يمكن من خلاله الإنسان أن يقتنص الحقائق بالكلمة والموقف والسلوك والسيرة والتي تعكس هدف الرسالة حيث يترجمها النبي المرسل، وأبعاد مفاهيم العنف والإقصاء والتهميش للآخرين وذلك من خلال إشاعة السلام في ربوع الأمة واشعارها بأهمية ذلك دون اللجوء إلى القوة والعنف المسلح والقاء الآخر وهذه هي الخطوة الأولى التي اتبعها جميع الأنبياء في سيرهم السلوكي العام وبذلك فقد تحقق الهدف الأسمى من رسالتهم وهو سعيهم إلى ايجاد سلوك انساني متكامل ينتهجه الإنسان ليحقق إنساناً متكاملاً يعيش هواجس التحرر من عبودية الذات ويحقق مستوى لا يمكن انكاره من الكمال، واشعار الإنسان بقيمة إنسانيته وأهمية وجوده وكرامة شأنه، وأن الله تعالى قد خلق الكون من أجل هذا الإنسان الذي كرّمه تعالى بالمعرفة من خلال بعثة الأنبياء وتحقيق أهدافهم الرسالية.
ولم تزل فكرة السلام تراود الجميع، بغض النظر عن انتماءاتهم الدينية والمذهبية، ويعني ذلك فإن مفهوم السلام لم يزل مفهوماً إنسانياً يشترك فيه جميع الناس وتدعوهم إلى ذلك الفطرة التي فطر الله الناس عليها، وإذا كان الإنسان بفطرته يتطلع إلى السلام في كل حركته الكونية والنفسية والذاتية، فإن داعياً آخر يدعوه إلى هذه الحاجة والتي عزّزها الفكر الديني الذي ينبثقُ من الرسالات السماوية السمحاء، والتي قدّمت قراءاتها في هذا المجال من أجل تعزيز مفهوم السلام.
ولعل المتابع لهذه الديانات السماوية المقدسة سيجد أن الحاجة إلى ترسيخ مفهوم السلام ينطلقُ من دواعٍ عدة واحتياجات ضرورية متنوعة، فهي تجعل في أولوياتها عبادة الله والدعوة إلى التوحيد الذي من شأنه أن يعزز العلاقة بين الخالق والمخلوق في فضاءات معرفية لا متناهية يجد من خلالها الإنسان أنه كائن حي عاقل يجيل النظر في هذا الكون العظيم الذي خلقه الله سبحانه، ونبذ أي فكرة شركٍ من شأنها أن تجعل لله شريكاً لا يتعدى عن تخيلات عقيمة غير مجدية تنطلق من أفكار ذات نظرة قاصرة في النظر والتفحص لهذا الكون اللا متناهي، من هنا فإن العبادة ستكون من أولويات هذه الرسالات التي سعت إلى التعريف بقدرة الله تعالى والربط بين الخالق والمخلوق، والرازق والمرزوق، والغني والفقير، والحي والميت، والباقي والفاني وهكذا تجذرت هذه المفاهيم لتنطلق إلى طقوس عبادية تشرعها هذه الرسالات لتجدد العلاقة بين الله تعالى وعباده،
ولابد أن تكون هناك فسحةً من الحركة في الأفق العبادي يأخذ مديات الطاعة والامتثال، ولابد من توفير الأجواء المناسبة لتحقيق هذا المدى العبادي المقدس ولا يتم ذلك إلا من خلال تحقيق الأمن والسلام والذي يتمتع به الجميع لإنجاز عمل عبادي موحد يتجه إلى الإقرار إلى عبودية الله تعالى.
في البدء لابد أن نحدد عناصر البقاء الإنساني الذي سعت جميع الأديان السماوية إلى تعزيزها والمحافظة على وجودها بل وتوفيرها، فإن الديانات السماوية كلها تتفق على المشترك الإنساني الذي من شأنه أن يدفع باتجاه وجود مجتمعاً إنسانياً يسعى إلى تحقيق حاجاته الإنسانية، وتوفيرها يعني أن الإنساني قد حقق قسطاً وافراً من أسباب وجوده وبقائه ليتحقق المفهوم العبادي الذي دعت إليه جميع الديانات السماوية.
وإذا كان الأمر كذلك فلابد من البحث عن توفير الحاجيات الإنسانية التي حدّدتها الفطرة المشتركة بين الجميع، وإذا تحددت هذه الأولويات الإنسانية فإننا سنعرف الداعي الأساس في سبب التأكيد على مفهوم السلام من قبل الديانات السماوية المقدسة، وتحقيق سُلّم أولويات الحاجة الإنسانية سعت إلى ايجاده الديانات السماوية في كل حركاتها وتوجهاتها لذا فقد سعينا إلى تحديد هذه الأولويات لتقف على دواعي السلم العالمي الذي يجمع هذه الرسالات المقدسة والتي ينشدها الجميع وإذا عرفنا هذه الحاجات استطعنا أن نعرف سبب التأكيد على تعزيز السلام في الديانات السماوية والتي يشترك فيها جميع الناس ومن هذه الحاجات:
أولاً: الحاجات الفسيولوجية
والتي تعني حاجات الإنسان إلى الطعام والشراب وكل ما من شأنه أن يكون سبباً لاستمرار الحياة الإنسانية.
ومن هنا لابد من توفير الأمن الغذائي الذي تدعو له جميع الديانات توفيرها وكذلك حاجة الجنس وتنظيم العلاقة بين الإنسان وقرينه لتحقيق الرغبة في التناسل وهي الحالة المقدسة التي دعت إليها جميع الديانات للحفاظ على النوع الإنساني.
ثانياً: الحاجات الكمالية
وهي تلك الحاجات التي يسعى الإنسان من أجل توفيرها لتحسين حياته المعاشية وتوسعة معيشته، وهذا الأمر بحاجة إلى أمن يضمن الأمن من أجل توفير فرص الحصول على هذه المتطلبات المعيشية.
ثالثاً: حاجات التملك المشروع
ولابد من احترام هذه النزعة الإنسانية في التملك وتوفير ما يضمن رغبة الإنسان في تحقيقها، ومن هنا فإن الأمن والسلام سيوفر فرصة هذا السعي في التملك المشروع الذي يسعى إليه الإنسان، وتهيئة سبل ذلك وحمايته وعدم الاعتداء على ممتلكاته وحفظها وعدم التفريط بها، وهذا لا يتحقق إلا بتحقيق السلام الذي يصبو إليه الجميع.
رابعاً: الحاجة إلى المعرفة
نزعة المعرفة والتطلع لدى الإنسان هي من النزعات الإنسانية، فهو حريصٌ على معرفة ما يدور حوله وتفاصيل مجريات الحياة، ولابد لهذا الجهد التعليمي من توفير أجواء آمنة يستطيع من خلالها المتلقي ممارسة تعليمه وحقه المعرفي، والعلم والتعلم هو طموح مشروع يتعهد بتقديمه وتوفير دواعيه كل الديانات السماوية، بل هي سعت إلى دفع الجميع إلى ممارسة الادراكات المعرفية، وتنشيط عملية التلقي من خلال الآيات والأحاديث والروايات التي تدعو إلى العلم ومكافحة الجهل بكل وسائل الإنسان الممكنة، ولابد أن يكون ذلك في ظرفٍ آمن وفي ربوع يعمها السلام ليتمكن الناس من ممارسة حق التعليم والاستزادة من المعرفة بقدر امكانياتهم المتاحة.
خامساً: الحاجة إلى الحرية
وهي ما نادت به كل الديانات السماوية، حيث دعت أتباعها إلى ايجاد مستويات من التحرر تكفل حقوق الإنسان وتوجد له مناخاً من الحركة الحرة في هذا الفضاء الواسع دون أن يزاحمه أحد في حقوقه، وأن لا يزاحم الآخرين في حقوقهم، وضمانة تحقيق هذه الحقوق تضمنها الرسالات في تعاملاتها وتعاطيها مع الجميع، وبذلك فسيكون هذا الإنسان عنصراً ايجابياً من خلال حركته وتعاطيه مع كل الأمور.
كل ذلك لا يتوفر إلا من خلال خلق أمن وسلام يعم الجميع ولابد من ايجاد صيغ ضامنة لهذا السلام، ومن هنا فإن الديانة الإسلامية جعلت تعزيز فكرة المصلح العالمي الذي يسعى إلى توفير منطقة آمنة يستتب فيها الأمن والسلام ولم تقتصر فكرة المصلح على منطقة دون أخرى بل هي تفتح ذراعيها لجميع الناس الذين يعيشون في هذه المعمورة دون استثناء.
ومن الجدير بالذكر أن المنظومة العقائدية لفكر أهل البيت عليهم السلام تثقف على فكرة السلام من خلال واقع عملي تبني عليه مستقبل الأمم جميعاً والبشرية بدون استثناء، حيث أنها عمّمت فكرة السلام من خلال أطروحة المصلح العالمي الذي سيقيم العدل ويزيل الظلم حيث عبّرت هذه الأطروحة أن المصلح يظهر بعد أن تمتلأ الأرض ظلماً وجوراً فيملأها قسطاً وعدلاً، فاستخدام مفردة الظلم واستبدالها بمفردة العدل، والاتيان بمفردة الجور واستبدالها بمفردة القسط تدفع بالمكلفين إلى الاعتقاد بالعدل والغاء الظلم دليلٌ على شيوع مبدأ السلام وهو الذي تعمل عليه أطروحة أهل البيت عليهم السلام، وازالة مظاهر العنف والتطرف، والظلم والعدوان، والجور والطغيان كل ذلك يبعثُ على الأمل الحقيقي في أن الأرض قادمةٌ على حقبة من السلام الذي لابد أن يحل في هذه الأرض،
ومن الجدير ذكره أن هذه الأطروحة تشرك الديانات السماوية الأخرى في العمل سوية على استقبال هذا العصر الجديد، فقد وردت الروايات المتكاثرة حتى صارت عقيدة راسخة في أذهان الجميع أن الإمام المهدي والسيد المسيح عليه السلام هما من يقومان بهذه المهمة وهي مهمة السلام التي لابد من أن تشيع في ربوع هذه الأرض المقهورة،
وسيكون للسيد المسيح دوراً كبيراً في نشر العدالة والمساواة والمحبة في ربوع هذه الأرض، ومن جهتها فإن هذه الأطروحة تسعى إلى تربية أبنائها على واقع السلام العملي، وذلك من خلال نبذ الظلم، وإدانة الجور، والغاء العنف، وإبعاد التطرف، وبالمقابل العمل على احلال العدل، وتعميم السلام، وايجاد المحبة، وشيوع المساواة،
وفي الحقيقة فإن ترسيخ هذا المبدأ سيساعدنا كثيراً على التعاطي مع مبدأ السلام على أنه دين وسلوك ومنهج لابد من الالتزام به والعمل عليه، واشاعته، وتمتين العلاقة بين التكامل النفسي وترسيخ مبدأ السلام تأتي من خلال توطيد العلاقة بين العقل العملي والعقل النظري في ايجاد مخرجات هذه العلاقة الإثنينية وتعميمها نظرياً ومن ثم عملياً لإنتاج مجتمع سلام يؤمن بالمحبة ويلغي مظاهر العنف ويدين أسباب التطرف، ويدعو إلى العمل كفريق واحد من أجل تحقيق ما تصبو إليه أطروحة المصلح العالمي التي تسعى إلى تثقيف أتباعها على هذه التربية الراسخة في نفوس أتباعها لتنعكس على السلوك العملي، وهذا ما يشير إلى أن مظاهر العنف لابد أن تقل في مثل هذه المجتمعات التي تصبو إلى السلام وهي مجتمعات نبيلة أدانت في سلوكها كل أسباب الظلم والتطرف والعدوان.
_____________
كتاب: فقه الحوار.. ونبذ العنف في حركة الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف