محمد غورمز

فقه الثوابت ومحكمات الشريعة بين التأصيل النظري والتطبيق العملي

أرمي من خلال طرح مفهوم فقه الأصول إلى التأكيد على خطورة بذل المزيد من الجهود لفقه الثوابت ومحكمات الشريعة ، أي علينا أن نهتمّ بفقه الأصول والثوابت ومحكمات الشريعة بقدر اهتمامنا بأصول الفقه التي تبين لنا كيفية استنباط الأحكام مــن مصادرها الأصلية، فهناك ارتباط وثيق بين أصول الفقه وفقه الأصول بحيث لا تُجدي قواعد الاستنباط نفعا إذا ما قصرنا في فهم وتحديد الثوابت ومحكمات الشريعة والكليات والجَلِيّات الشرعية.  / محمد غورمز رئيس الشؤون الدينية التركية

الاجتهاد: فقه الثوابت ومحكمات الشريعة بين التأصيل النظري والتطبيق العملي؛ كلمة أدلى بها محمد غورمز رئيس الشؤون الدينية التركية في إفتتاحية مؤتمر ” الاتجاهات الفكرية بين حرية التعبير و محكمات الشريعة ” في رابطة العالم الإسلامي / 19-21 مارس2017

بسم الله الرحمن الرحيم

إن الأصول والفقه هما مفهومان جوهريان بالنسبة للعلوم الإسلامية كلها حيث ابتكر العلماء المسلمون فناً لم يعهد تاريخ العلوم بمثله مضيفين كلمة “الأصول” إلى “الفقه” وضبطوا في بطون مؤلفاتهم القواعد التي يتوصل بها المجتهد إلى استنباط الأحكام العملية الشرعية في غاية الدقة والتمحيص مما أنتج تراثاً علمياً ذاخراً بالعطاء وفَتَحَ لنا آفاقاً فكرية رحبة . وكان غرضُهم من ذلك تحديدَ منهاجٍ موحدٍ يراعون به في استنباط الأحكام من النصوص ويحتكمون إليه عند الاختلاف. ولا يسعنا في هذا المقام إلا أن نذكر هؤلاء الأجلاء بالفضل والاحترام على ما بذلوا من مساعيهم المشكورة ونهوضهم بما عليهم من مهام و أدائهم وراثة الأنبياء خير أداء.
ومع ذلك أيها العلماء الأفاضل أَنتهز حضوري اليوم معكم في هذا المؤتمر لأُلْفِتَ انتباهَكم إلى تركيبة أخرى لكلمتي الأصول والفقه ألا وهي ” فقه الأصول ” وليس غرضي في ذلك الإسهامَ في قلب المفاهيم الإسلامية الأصلية، رأسا على عقب وتفريغها من مضامينها ، الأمر الذي نتذمر منه جميعا ، كما أنني لا أتحدث عــن ” فقـــه الأصول ” كبديل عن ” أصول الفقه ” ، ولا أقصد على الإطلاق التشكيك بعلم أصول الفقه ، أو بمصداقيته في فـهم النصوص الدينية ،
فإنما أرمي من خلال طرح مفهوم فقه الأصول إلى التأكيد على خطورة بذل المزيد من الجهود لفقه الثوابت ومحكمات الشريعة، أي علينا أن نهتمّ بفقه الأصول والثوابت ومحكمات الشريعة بقدر اهتمامنا بأصول الفقه التي تبين لنا كيفية استنباط الأحكام مــن مصادرها الأصلية، فهناك ارتباط وثيق بين أصول الفقه وفقه الأصول بحيث لا تُجدي قواعد الاستنباط نفعا إذا ما قصرنا في فهم وتحديد الثوابت ومحكمات الشريعة والكليات والجَلِيّات الشرعية.

1- عندما نتحدث عن فقه الثوابت ومحكمات الشريعة، لا ينبغي أن نحصر أنفسنا بشرح القاعدة الفقــهية القائلة ” لا ينكر تغير الأحكام بتغير الأزمان ” . بل إن الثوابت والمحكمات هي نافذة عريضة نطل من خلالها كمسلمين على مناحي الحياة النابضة بالتغير والتحول. إذ تمثل رؤيةً شاملةً للإسلام وبالتالي فإن فقه الثوابت والمحكمات ليست عبارةً عن موضوع فقهي ضيق النطاق فحسب، بل إنه يتجاوزه إلى حدود أبعد وأوسع من ذلك. ومن هذا المنطلق يجب على المسلمين اليوم أن يأخذوا الظروف الداخلية التي يعيشونها والظروف الخارجية التي تحيط بهم بعين الاعتبار، وأن يفكروا مجددا حول الثوابت ومحكمات الشريعة وتطوير الطرق والأساليب لوضع هذه الثوابت والمحكمات في بؤرة الواقع المعاش المتغير .

إن الإمام الشاطبي كعالم امتاز بحرصه على استعمال المفاهيم بشكل صحيح استخدم كلمة الأصول وعنى بها ما نسعى إلى استعراضه بكلمة الثوابت اليوم حيث قال:” إن أصول الفقه في الدين قطعية لا ظنية ، والدليل على ذلك أنها راجعة إلى كليات الشريعة ، وما كان كذلك ؛ فهو قطعي ” .
ويوضح محمد عبد الله دراز محقق كتاب ” الموافقات ” كلام الشاطبي كما يلي : ” تطلق الأصول على الكليات المنصوصة في الكتاب والسنة كـ ” لا ضرر ولا ضرار ” ، (وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) ، (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) ، ” إنما الأعمــــــال بالنيات ” ، ” من مات لا يشرك بالله دخل الجنة ” وهكذا ، وهذه تسمى أدلة أيضا ” .

وبناء على ذلك ، فإن القيم الإنسانية بالإضافة إلى المبادئ أو الأسس الاعتقادية والعبادية والأخلاقية تعتبر من جملة الثوابت ومحكمات الشريعة من الناحية الدينية . فلا نستطيع مثلا أن نضع خارج نطاق تفكيرنا الثابتة التي بينها الله سبحانه وتعالى بقوله : ( وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ ) . فعلى كل اتجاه فكري أو مذهب ديني عنى بالإنسان أن يأخذ كرامته وعصمته بعين الاعتبار كما يجب على الفقهاء الذين يعملون على سبر أغوار النصوص واستنباط الأحكام. منها أن يضعوا كرامةَ الإنسان وعصمةَ الآدمي بالآدمي نصبَ أعينهم كثابتة دينية ومحكمة شرعية.

فما أمس حاجتنا إليها في عصر نشهد فيه يوميا دماءً تُسفك وحرماتٍ تُنْتهك وحقوقا تغتصب في مختلف بقاع الأرض . فإن الحفاظ على كرامة الإنسان وعصمته ثابتة فقهية وعالمية على حد سواء . والحق يقال ، إن قصر الفقه على علم الفقه هو عدم الفقه لمعنى الفقه . وهناك ثابتة عالمية أخرى نستمدها من قول الله عز وجل” وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ” وهي ليست مبدأً من مبادئ التشريع الجنائي يتمثل في المسؤولية الشخصية فقط بل إنها ثابتة يجب على كل مسلم أن يجعلها أساسا فـــي حياته الاجتماعية أيضا . فإن قضية الثوابت ومحكمات الشريعة ليست إلا قضية الهوية التي تشمل مقومات الشخصية الإسلامية من عقيدة وشريعة وأخلاق .

2- إن إرجاع الثوابت ومحكمات الشريعة إلى السكون والجمود والركود والخمول انطلاقا من معناها اللغوي خطأ فادح وجهل فاضح حيث ينبغي ألا يفوتنا أن الثوابت مشتقة من الثبوت والثبات، أي إن المبادئ التي تبنيناها كثوابت لها ثبوت من حيث المصدر لأنها نبعت من عينها الصافي ووردت إلينا كما هي.

ومن جهة أخرى، إن هذه المبادئ تتسم بالثبات ضد كافة التأثيرات الخارجية الهدامة والمفسدة كما أنها قادرة على تحويل هذه التأثيرات السلبية إلى تأثيرات ايجابية . والثوابت ليست مفهوما دفاعيا سلبيا يقف حائلا ضد التآكل والفساد الذي قد ينتاب العقيدة فقط بل هي وسيلة مرشحة لتصحيح الاتجاهات الخاطئة أيضا . هذا وقد ضرب الباري عز وجل في سورة إبراهيم مثالا بديعا للإنتاجية الناجمة عن الثبات :

” أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء (24) تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (25) وَمَثلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ (26) يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللّهُ مَا يَشَاء (27) ” (سورة إبراهيم )
ويتضح من الآية الكريمة بجلاء ، إن الله عز وجل شبه الإسلام والمسلم بشجرة طيبة أصلها ثابت في الأرض وفروعها مزدهرة وممتدة نحو السماء تُؤتي ثمارَها باستمرار … كما شبه الكفر بشجرة خبيثة لا ثبات لجذورها ولا فائدة لها فضلا عن ضررها . وفي الآية الأخيرة جاء تأكيد في غاية الأهمية بالنسبة لما نحن فيه حيث قال : ” يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ ” . إذ بين الله سبحانه وتعالى في هذه الآية إن قوله “الثابت” هو العامل الحقيقي الذي يمنح للمؤمنين ثباتا يعود عليهم بالخير في دنياهم وعقباهم .

3- يمكن فهم العلاقة بين الثابت والمتغير من خلال استعارة ” الطريق ” التي استخدُمت في القرآن الكريم في كثير من المواضع في معرض بيان حقيقة الهداية الإلهية . فإن الإسلام في التصوير القرآني هو صراط مستقيم ليس منزلا من منازل الطريق، والطريق الذي شقه النبي صلى الله عليــه وسلم سنة سنية . وحياته التي نتأسى بها سيرة نبوية، والاتجاه الذي يسلكه المسلمون شريعة إلهية . فإن كل هذه الكلمات ، كما لا يخفى عليكم تدور حول مفهوم ” الطريق “. روي عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه أنه قَالَ : خَطَّ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا خَطًّا ، ثُمَّ قَالَ : ” هَذَا سَبِيلُ اللَّهِ ” ، ثُمَّ خَطَّ خُطُوطًا عَنْ يَمِينِهِ ، وَعَنْ شِمَالِهِ ، ثُمَّ قَالَ : ” هَذِهِ سُبُلٌ عَلَى كُلِّ سَبِيلٍ مِنْهَا شَيْطَانٌ يَدْعُو إِلَيْهِ ، ثُمَّ تَلَا : {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} سورة الأنعام آية 153 ” .

كما أن السبيل والمنهاج والعقبة والهجرة والضلالة والهداية والمعراج هي مفاهيم ذات صلة وثيقة بمفهوم الطريق والسفر والحركة . وإذا عرَّفْنا الإسلام باختصار بأنه البقاء على الصراط المستقيم نكون قد عرَّفْناه بغاية الشمول والإحاطة . فالمسافر الذي يثبت قدميه على الطريق الذي يسلكه يشاهد أثناء رحلته أماكن متعددة ومناظر مختلفة وآفاقا جديدة ، فالطريق لا تجافي المعالم الطبيعية للأرض من جبال وسهول وبحار بفضل مرونتها ، يمر بشواهق الجبال الوعرة تارة وبقيعان الأودية تارة أخرى ليؤدي مسافريه إلى غايتهم القصوى. غير أن الطريق الذي يسلكه يبقى على ما كان عليه دون تغيير ما لم ينحرف عنه ، وهو يتجنب الخوض في الطرق الجانبية ولا يصغي لمن يود إغواءه .

بناء عليه أن الإسلام يتكون من مجموعة من المبادئ والكليات والثوابت والمحكمات والمثل العليا التي خرجت إلى حيز الوجود واكتملت بالتدريج مع نزول الوحي لمناسبات إنسانية متغيرة ومتطورة .. فالحياة في الفكر الإسلامي ليست راكدة ولا جامدة بل هي ظاهرة حية ومفعمة بالحركة المستمرة ، والإسلام طريق، وصراط، وشريعة وليس محطةً أو منزلةً من منازل الطريق لأن المحطات والمنازل عرضة للتغيير باستمرار في حين أن حدود الطريق (أي حدودَ الله ) و معالمه (أي الآياتِ القرآنيةَ والكونية) واتجاهَه (أي الجهادَ و لاجتهاد) والغاية القصوى والهدف المقصود منه (أي التوحيدَ و العدالةَ و الأخلاق والحقيقة) ليست عرضة لأي تغيير .

وبالتالي فان التوقف في أي محطة أو منزلة والانشغالَ بها ضلالة في حد ذاته ونوع مـن أنواع الضياع والانحراف عن الطريق . } تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا ۚ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (سورة البقرة: 229) { }تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا (سورة البقرة: 187) {

4- إن المسلمين اليوم يواجهون تحديات عديدة . وكثيرا ما نتحدث في إطار فقه الثوابت ومحكمات الشريعة عن الموقف الذي يتوجب على المسلمين اتخاذه إزاء هذه التحديات . بمعنى أن الثوابت ومحكمات الشريعة لها طابع خارجي يتعلق بموقفنا من القضايا العالمية ، ولكن الثوابت والمحكمات في الوقت ذاته قضية داخلية للمسلمين تحدد مسارات تفكيرهم فيما يعنيهم من أحكام دينهم.

مع أن الثوابت ومحكمات الشريعة هي قاسم مشترك بالنسبة للمجتهدين والمفكرين والمثقفين بشكل عام فثم من يتخذ مواقف متطرفة فيما يخص الثوابت ومحكمات الشريعة بين الحين والآخر. هناك من يجعل الحياة وظروفها المتغيرة قسطاسا ومعيارا أساسيا بحجة البحث عن الروح الكامنة في خلفية الثوابت ومحكمات الشريعة ويتخلون عن معطيات التراث والثوابت والمحكمات كولد بذر ميراث أبيه بلا مبالاة . } وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَّمًّا (سورة الفجر: 19) { هذا من جهة و من جهة أخرى هناك موقف متطرف آخر. وأصحاب هذا الموقف يعاملون التغير وكأنه معدوم ويبخلون على الناس بالتيسير الذي جعله الشارع تعالى من خصائص الحنفية السمحة ونص عليه في غير موضع من القران الكريم وفي كثير من الأحاديث النبوية .

وان بدا للوهلة الأولى فرق شاسع وتباين واسع بين هذين الموقفين إلا أنهما متشابهان في التطرف والابتعاد عن الوسطية . } يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (142) وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ (سورة البقرة: 143) {
إن أصحاب الموقف الأول الذين يعملون على تمييع الثوابت والمحكمات وإلحاقها بعالم المتغيرات يتعرضون للضياع والانحراف عن الطريق ويضلون دون ضالتهم المنشودة ، وأما أصحاب الموقف الثاني الذين جمدوا عند النصوص بل وجمدوها كذلك ، فيغيب عنهم أن المسلمين قد استفادوا من التيسير وحرية التعبير والاجتهاد منذ صدر الإسلام مع أن الحاجة إليه كانت غير ملحة ويضيقون اليوم على الناس أمورهم وهم في اشد حاجة إلى التيسير .
عندما نتناول الثوابت والمحكمات من الناحية الأصولية يجب علينا أن نتنبه لنقطة هامة جدا : إن الثوابت او المحكمات هي القطعيات بعينها والسؤال الذي يطرح نفسه هو : ما هي ضوابط القطعية وما مدى قابلية النصوص لوجهات نظر مختلفة .

إن الحضارة الإسلامية هي حضارة كلام والكلام لباس للمعنى والمعنى نواة للفكر والفكر دعامة يبتني عليها صرح الحياة بكل جوانبها . إذا يمكننا القول بأن فهم النصوص متوقف على فهم صحيح لألفاظها ، ولهذا السبب بالذات تناول الأصوليون المباحث اللفظية بإسهاب وقتّلوها بحثا وكان كل همهم تحديد إمكانيات الدلالات اللفظية . إلا أن الدلالات عملية تستهدف وصول المعنى إلى المخاطــب.

وبمعنًى آخر، إن عدم وصول المعنى إلى المخاطب يعني عدمَ تحقق الدلالة. لان الله عز وجل وضع الشريعة للإفهام وبما أن الإفهام هو من جملة مقاصد الشارع يتضح لنا مدى أهمية ما فهمه المخاطب من النصوص . ولذلك يهمنا ما فهمه المخاطبون الأوائل من النصوص بقدر ما تهمنا بنيتها اللفظية . فان إضفاء القطعية على الأحكام من خلال المعطيات اللفظية بصرف النظر عن الفهم الذي تكوّن لدى المخاطبين يعني جعل النصوص الدينية حقائق مجردة لا تمت/ لا تمتد إلى الإنسان والحياة بصلة وهذا أمر ينافي المقاصد التي وجدت الشريعة من أجلها والذي أريد قوله من خلال الحديث عن العلاقة بين الإنسان والنصوص هو إن ما فهمه الناس من النصوص منذ عصر التشريع وكيفية ترجمتهم إياه إلى حياتهم الواقعية من تفريعات وتطبيقات أمر هام لا ينبغي أن نتغافل عنه عندما نبحث قضية الثوابت ومحكمات الشريعة أو القطعيات.

لأن السبب الذي جعل الثابتةَ ثابتةً هو ثبوتها في الأذهان والأفئدة والمجتمع عبر التاريخ . وفي هذه النقطة بالذات ، لابد أن أذكر الإمام الشاطبي بالرحمة مرة ثانية وأنقلَ لكم ملاحظاته القيمة التي وردت في المقدمة الثالثة من كتابه الموافقات :

“الأدلة العقلية إذا استعملت في هذا العلم؛ فإنما تستعمل مركَّبة على الأدلة السمعية، أو مُعِينة في طريقها، أو محققة لمناطها، أو ما أشبه ذلك، لا مستقلة بالدلالة؛ لأن النظر فيها نظرٌ في أمر شرعي، والعقل ليس بشارع, وهذا مبيَّن في علم الكلام ”
بين الشاطبي بهذه العبارة إن العقل ليس حجةً مستقلةً في التشريع فهذا النقد يمكننا أن نوجهه إلى الذين يحاولون هز الثوابت ومحكمات الشريعة المنصوص عليها .

ويستمر الإمام الشاطبي قائلا :
” فإذا كان كذلك؛ فالمعتمد بالقصد الأول الأدلة الشرعية، ووجود القطع فيها -على الاستعمال المشهور- معدوم، أو في غاية الندور (27)
“أعني: في آحاد الأدلة”؛ فإنها إن كانت من أخبار الآحاد؛ فعدم إفادتها القطعَ ظاهرٌ، وإن كانت متواترة؛ فإفادتها القطعَ موقوفةٌ على مقدمات جميعُها أو غالبها ظني، والموقوف على الظني لا بد أن يكون ظنيا؛ وإفادة القطع مع اعتبار هذه الأمور متعذر.
وإنما الأدلة المعتبرة هنا المستقرأة من جملة أدلة ظنية تضافرت على معنى واحد حتى أفادت فيه القطعَ؛ فإن للاجتماع من القوة ما ليس للافتراق، ولأجله أفاد التواتر القطعَ، وهذا نوع منه، (28)

ومن هذا الطريق ثبت وجوب القواعد الخمس؛ كالصلاة، والزكاة، وغيرهما قطعا، وإلا فلو استدل مستدل على وجوب الصلاة بقوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} [البقرة: 110] أو ما أشبه ذلك؛ لكان في الاستدلال بمجرده نظر من أوجه، لكن حَفَّت بذلك الأدلة الخارجية والأحكام المترتبة ، ما صار به فرض الصلاة ضروريا في الدين، لا يشك فيه إلا شاك في أصل الدين.

ومن ههنا اعتمد الناس في الدلالة على وجوب مثل هذا على دلالة الإجماع؛ لأنه قطعي وقاطع لهذه الشواغب. (29)
ويتضح مما ذكر بأننا إذا كنا نريد أن نفهم الإسلام فهما صحيحا لا نملك خيار إقصاء التراث والتقليل من شأن تجارب المسلمين التي اتخذوها على مدى القرون وتوخي الدلالة اللفظية للنصوص مباشرة .

وإذا لم يُثَبِّتْ رجالُ العلم والفكر أقدامَهم على أرضية التراث لا يجدون لصوتهم صدى ولا يستطيعون بناء المستقبل للأمة . والجدير بالذكر هنا إننا كلما نشهد ما يدور من نقاش وفوضى حول القضايا الجوهرية التي تهم البشرية جمعاء ندرك مدى أهمية امتلاكنا للثوابت فيها . وأن يكون لدينا سلم الأولويات نعمةً عظيمة يجب أن نشكر الله عز وجل عليها ، إذ أننا نرى العالم يفتقر إلى الثوابت ومحكمات الشريعة التي يرجعون إليها لحل المشاكل الكبرى التي تجتاح الإنسانية بأسرها .

أختتم كلمتي هذه باقتراحين ملموسين هما :
أولا: علينا أن نعيد النظر في ترتيب الأحكام الشرعية والتسلسل الهرمي للقيم وقائمة الحلال والحرام . وفي هذا السياق يقول الإمام الغزالي : ” ترك الترتيب بين الخيرات من جملة الغرور ” . هناك عبارة طريفة للعالم التتري الشهير بِشهاب الدين مرجاني وهي : ” جدال ابن آدم من أجل تقبيل الحجر الأسود ” ، وهذا التصرف في رأي مرجاني ليس عبارة عما يفعله بعض الحجاج أو المعتمرين أثناء طوافهم بالكعبة فقط ، بل هو سلوك نموذجي عامّ نشهده أحيانا في حياتنا اليومية ، فهو يعتبر كل ما بدر منا من غلظة الأخلاق وسوء المعاملة وزيف العقيدة من قبيل ضرب الحجاج من أجل تقبيل الحجر الأسود .

إذن أيها الأخوة الأكارم يتحتم على أرباب العلم وأصحاب الفقه أن يركزوا مساعيهم على القضايا الحيوية والمصيرية وينأوا بأنفسهم عن بعض المسائل الفرعية التي قد تفضي إلى الفرقة والتشرذم بين المسلمين . ولا بد أن نشجع على وجه الخصوص الدراسات العلمية في فقه الأولويات وأن نفسح المجال لمزيد من المناقشات في هذا المضمار

وثانيا : ينبغي أن نؤكد للمسلم المعاصر بأن الفقه الإسلامي قد احتضن تجاربَ علميةٍ مختلفةً عبر التاريخ . وكما أن أيا من المذاهب الفقهية التي أسسها المسلمون في الماضي لم يطغ على غيرها من المذاهب بحيث يمحوها فأنه ، لا محالة ، ستظهر فـــــــي المستقبل مذاهب و ونظريات ونماذج جديدة في مجال العلم والفقه والحكم والاقتصاد .

إن هذا المفهوم الاحتكاري قد استنفد في القرن العشرين قسطا كبيرا من وقت وجهد المهتمين بقضايا إسلامية على مستوى الأشخاص والمؤسسات. ولهذا تقع مسؤولية الحيلولة دون استمرار هذه الظاهرة على عاتق الشخصيات العلمية التي تمثل الفقه.

وفي الختام أشكركم جميعا على تفضلكم بالاستماع لكلمتي هذه ، وأدعو الله عز وجل أن يثبت أقدامنا على الصراط المستقيم و يديم لنا جميعا الصحة والعافية والهناء ،
وإننا في هذا المؤتمر لسنا بحاجة إلى المناظرة، ولكننا بحاجة ماسة إلى الحوار نحاول من خلال هذا الحوار إضاءة بعض النقاط المظلمة، وتوضيح بعض القضايا الغامضة وعلى مقدار ما ننجح في استلهام هذا الفهم والاحتكام إليه والتحقق به، نقترب من النجاح الذي ننشده على الصعيد العلمي والبحثي والتنموي.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Slider by webdesign

Clicky