الاجتهاد: كانت مدرسة الإمام جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام) تتميز عن غيرها من المدارس الإسلامية التي عاصرتها أو سبقتها أوتأخرت عنها، فمدرسة الإمام الصادق (عليه السلام) شمخت بنفسها وسطع نورها حتى شغلت العيون والأفكار عما سواه فكأنك لا تكاد ترى شيئاً سواها إذا ما قيست بهذه المدرسة العملاق.
بعدما نجحت الثورة الهاشمية التي رفعت شعارها الأول للرضا من آل محمد كان الاعتقاد السائد عند الثوار والمسلمين الذين اشتركوا في الثورة ضد حكام بني أمية وجورهم ، أن هدف الشعار الذي رفعوه أن تكون الدعوة والخلافة لأحد أولاد علي وفاطمة (عليهما السلام) أي أحد أولاد الإمامين الحسن أو الحسين (عليهما السلام)، لما لهم من رصيد كبير في نفوس المسلمين من المحبة والاحترام، ولما يتميزون به من القدرات القيادية، والرصيد العلمي بفضل مدرستهم التليدة التي ورثوها عن آبائهم، ولما عانوا من جور حكام بني أمية من الظلم والاضطهاد والتعسف، مضافا إلى ذلك بيعة بني العباس لمحمد بن علي بن الحسن (عليه السلام) (ذي النفس الزكية) بالخلافة عند اجتماعهم في الأبواء، وكان في مقدمة المبايعين أبو العباس السفاح وأبو جعفر المنصور وعمهما علي بن عيسى وغيرهم.
وكانت البيعة لا تزال في أعناقهم لمحمد ذي النفس الزكية .
وقد فوجئ المسلمون كافة والثوار خاصة باستيلاء بني العباس على الحكم ، وتربع أبو العباس السفاح وبعده أخوه أبو جعفر المنصور على سدة الخلافة الدينية والزمنية، ولما لم يكونوا يملكون أي رصيد علمي ولا شعبي في نفوس المسلمين ، والخلافة هذه تدين لمذهب أهل البيت (عليهم السلام)، داهن الحكام الجدد العلويين في بادئ الأمر، حتى استتب لهم الأمر .
ومن جهة أخرى فقد شجعوا المنحرفين عن خط أهل البيت بإنشاء مدارس مذهبية متعددة مقابل مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) لإضعاف مركزها ، كما شجعوا بعض الآراء الشاذة للظهور مثل المرجئة والمعتزلة وحتى الخوارج والغلاة .
مما أدى ذلك إلى الفوضى في أحكام الدين وتشتت آراء المسلمين ورؤساء المذاهب والفرق . كما شجع المنصور أبا حنيفة النعمان ومالك بن أنس على تأسيس وظهور مذهبيهما – الحنفي ، والمالكي – ومدهما بالجاه والمال ، مما جعل سيطرة الحكم الجديد عليهما سيطرة كاملة .
وبذلك أمسك المنصور بيده زمام السلطة الدينية إلى جانب سلطته التنفيذية ، واتخذ من علمائهم وسيلة لإشغال الناس وإلهائهم عن مؤاخذة أعمال الحكام الجدد ، وعملوا لهم الدعايات الهائلة ليدين الشعب لهم بالولاء والطاعة والتقدير .
وفي خضم هذا البحر المتلاطم بأمواج الفوضى كانت مدرسة الإمام الصادق (عليه السلام) بعيدة التأثر بهذه الأمواج المنحرفة والأجواء المضطربة، وبعيدة عن سيطرة الحكام الجدد وفرض آرائهم وتوجيهاتهم الدينية والسياسية ، كما كانت مع من سبقهم من حكام بني أمية، ولكن الصراع كان خفيا في بادئ الأمر ثم أصبح علنا فيما بعد، وكان ذلك الصراع قائما بين مدرسة الإمام الصادق (عليه السلام) والسلطة الحاكمة من جهة ، وبين مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) والمدارس الفقهية الأخرى من جهة ثانية .
وكان هذا الصراع يشتد كلما توسعت مدرسة الإمام الصادق (عليه السلام) وكلما سيطرت السلطة على الحكم وعلى المدارس المنحرفة عن خط أهل البيت، الأمر الذي جعل مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) محدقة بالخطر، لكنها صمدت لتلك الهجمات الشرسة التي توجهها السلطة لتمحو أثرها من الوجود ، سواء كانت في المدينة المنورة أو في مكة المكرمة في بادئ الأمر أو في الكوفة بعدما جلب المنصور الإمام (عليه السلام) من المدينة، وفرض عليه شبه الإقامة الجبرية في الكوفة .
وقد تحملت هذه المدرسة بطش الجبابرة وعسف الظالمين لكنها أدت رسالتها بكل جدارة وقدرة ، وكان من نتاجها تخرج فطاحل العلماء وحملة الحديث على الإمامين الصادقين (عليهما السلام) والذين أغدقوا على الأمة وعلى الأجيال الصاعدة الخير والبركة ، وطفحت بشتى العلوم والحكمة والمعرفة، وجعلهم الدعاة البارزين لمحاربة أهل الأهواء والبدع والضلال والمذاهب المنحرفة عن خط أهل البيت (عليهم السلام)، ويدعوهم إلى المثل العليا في الإسلام ، والأخلاق الفاضلة والغايات السامية والأهداف الكريمة لتطبيق أحكام شريعة السماء على جميع الأمة وطبقاتها .
أما تأريخ مدرسة الإمام الصادق ونشوئها، فقد كان أسبق من كل المدارس الإسلامية ، إذ لم يكن الإمام الصادق (عليه السلام) هو الذي وضع الحجر الأساسي لها ، بل كان الواضع لحجرها والغارس لشجرها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، فقد وضع منهاجا ونظاما رائعا .
وحث الأمة على الانتهاء إليها ، وقرن العترة بكتاب الله العزيز وبعترته الطاهرة ، بقوله (صلى الله عليه وآله وسلم) : إني مخلف فيكم الثقلين ، كتاب الله وعترتي أهل بيتي ، ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا أبدا (1) . كما صرح (صلى الله عليه وآله وسلم) في كثير من مواقفه وتعاليمه بلزوم اتباع منهج أهل البيت والأخذ عنهم ، وإنهم سفينة نوح من ركبها نجا ، ومن تخلف عنها غرق .
فالمدرسة إذا كانت نشأتها في عهد صاحب الرسالة (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وكان رئيسها الأول الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) باب علم مدينة الرسول وأمينه على سره ، وأقضى الأمة وأعلمهم بعده (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وهو نفس الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) الذي صرح بحديثه المشهور : علي مع الحق ، والحق مع علي ، يدور الحق مع علي حيثما دار ، وصاحبه في سفره وحضره ، ملازما له ملازمة الظل صاحبه ، وهو معلمه الأول والمتولي لتربيته ونشأته ، وقد عول عليه (صلى الله عليه وآله وسلم) في جميع شؤونه .
وإنكار ذلك مكابرة ومغالطة ، ولا حاجة بنا إلى إطالة البحث ، ورحم الله المتنبي حيث قال: وتركت مدحي للوصي تعمدا * إذ كان نورا مستطيلا كاملا وإذا استطال الشيء قام بنفسه * وصفات ضوء الشمس تذهب باطلا وبعد أن استشهد الإمام علي (عليه السلام) وانتقل إلى جوار ربه تزعم الحركة العلمية وترأس مدرسة أهل البيت ولده الإمام الحسن (عليه السلام) سبط رسول الله وريحانته ، فكان (عليه السلام) محطا لآمال الأمة ومرجعا لأحكامها.
غير أن الظروف القاسية والحوادث الرهيبة المتتابعة في حكم معاوية لم تسمح للمدرسة أن تتقدم على الوجه المطلوب ، وسارت بخطى ثقيلة ، لأنها قابلت جور معاوية وحكمه الغاشم بكل ما لديها من قوة ، حتى أريقت دماء زكية لبعض المؤمنين المنتمين إليها ، وهدمت دورهم ، كل ذلك في سبيل الدعوة إلى الإصلاح .
وبعد شهادة الإمام الحسن (عليه السلام) بالسم الناقع من قبل معاوية ، جاء دور أخيه الإمام الحسين بن علي (عليه السلام) وهو أعظم الأدوار وأهمها ، ومعاوية قد طغى وتجبر وعظمت شوكته وامتد سلطانه ، وكثر بطشه وفتكه بالمؤمنين من أصحاب الإمام علي وأتباعه، وتتبع رجال الفكر وخيار الأمة ، وقتلهم تحت كل حجر ومدر، وتلاعب بالأحكام وحرف الكلم عن مواضعه، ومهد الأمر لابنه يزيد – الفاسق الفاجر الذي لا يختلف اثنان في إجرامه وكفره – وقد تربع على عرش الخلافة الإسلامية، بعد هلاك معاوية وهو الفاسق المستهتر الذي أباح الخمر والزنا وحط من كرامة الخلافة إلى مجالسة الغانيات وعقد حلقات الشرب في مجلس حكمه ، وألبس الكلاب والقرود جلاجل الذهب ، والمئات من المسلمين صرعى الجوع والحرمان (2) .
وأصبحت الأمة الإسلامية في حالة سيئة ، حتى لم يحتمل الإمام الحسين (عليه السلام) السكوت والصبر ، فنهض منتصرا للدين والحق ، وآمرا بالمعروف ناهيا عن المنكر حتى أريق في سبيل الإسلام دمه ، واستبيح حريمه .
ومن بعده انتقلت زعامة مدرسة أهل البيت إلى ولده الإمام السجاد علي ابن الحسين زين العابدين (عليه السلام) ، وهو أورع أهل زمانه وأتقاهم ، وأعلم الأمة ، وقد اشتدت الرقابة عليه وعلى مدرسته من قبل الحكام الأمويين بصورة لا مجال لأحد أن يتظاهر بالانتماء لتلك المدرسة، ومع هذه الشدة وتلك القسوة فقد استطاع أن يسيرها سيرا حثيثا وكفاحا مستمرا، وخرج عددا وافرا من علماء الأمة، الذين أصبحوا مرجعا للأحكام ومصدرا للحديث، وكان دعاؤه السلاح البتار الذي أثار حفيظة المسلمين وأخرجهم من حالة الذل والخنوع إلى عزيمة الثورة وأخذ الثأر لدينهم وكرامتهم .
وهكذا كان عهد ولده الإمام الباقر (عليه السلام) من بعده في بادئ الأمر ، وما أن دب الضعف في جسم الحكم الأموي ، حتى بعث النشاط في مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) ، فقام الإمام الباقر خير قيام بواجبه ، ونشر معالم الإسلام وإحياء مآثر السنة النبوية ، فكانت حلقة دروسه في مسجد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وبيت الله الحرام ، وأين ما حل ، هي أعظم حلقات الدروس. كان ذلك في زمن بداية انقراض الدولة الأموية في سنة 132 هوبدء تأسيس لدولة العباسية في سنة 133، وكان التطاحن بينهم على أشده، فهذه الفرصة سنحت للإمام(عليه السلام) أن ينشر علومه، ويركز دعائم مدرسته وتوسعتها.
ولما جاء عصر الإمام الصادق (عليه السلام) وكان أزهر العصور ، اتسع فيه نطاق الحركة العلمية ، ونشأت المدارس الإسلامية ، وكان في كل بلد عالم يرجع إليه ، وكانت مدرسة الإمام الصادق في المدينة جامعة إسلامية كبرى وفي مكة المكرمة أينما حل تشد إليها الرحال ، وترسل إليها البعثات من سائر الأقطار الإسلامية للانتهال من نمير علمه ، إذ وجدوا عنده ضالتهم المنشودة وغايتهم المطلوبة ، ولم يكتب التأريخ أن سئل الإمام (عليه السلام) عن شيء فأجاب بلا أدري ، أو أن مناظرا أفحمه ، بل كان دائما هو المتفوق في كل علم ، والمحلق في كل مناظرة ، وأنه كان يمثل قول جده : سلوني قبل أن تفقدوني ، فإنه لا يحدثكم أحد بمثل حديثي (3) ، وما قال هذا القول إلا جده أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) .
وكيف لا يكون كذلك ؟ وهو وارث جده الذي اشتهر عنه هذا القول ، ولم يستطع أن يقول ذلك شخص إلا أفحم . وعلي (عليه السلام) هو باب مدينة علم الرسول لقوله (صلى الله عليه وآله وسلم) : أنا مدينة العلم وعلي بابها . فالإمام الصادق (عليه السلام) يروي عن أبيه الباقر ، عن أبيه السجاد زين العابدين ، عن أبيه الحسين ، عن أبيه علي بن أبي طالب (عليهم السلام) ، وهو حديث السلسلة الذهبية الذي يستند على أصح الأسانيد وأقواها ،
ويأتي ذلك مفصلا في تأريخ الفقه الشيعي من هذا الجزء . وليس من المبالغة إذا قلنا : إن مدرسة الإمام الصادق (عليه السلام) كانت جامعة إسلامية كبرى ، خرجت الفطاحل من العلماء وحملة الأحاديث الشريفة ، وأنجبت خيرة المفكرين ، وصفوة الفلاسفة وجهابذة الحكماء ، وخلفت ثروة علمية ، وقد عد أسماء تلامذته والمتخرجين من مدرسته فكانوا أربعة آلاف رجل أو يزيدون ، وقد صنف الحافظ أبو العباس بن عقدة كتابا جمع فيه رجال الإمام الصادق (عليه السلام) ورواة حديثه وأنهاهم إلى أربعة آلاف رجل .
قال الشيخ المفيد في الإرشاد ، والشيخ محمد بن علي الفتال ، والسيد علي ابن عبد الحميد النيلي في كتاب الأنوار ، والشيخ الطبرسي في إعلام الورى ، وابن شهرآشوب في المناقب ، والمحقق في المعتبر ، في جملة كلامهم عن الإمام الصادق (عليه السلام) ، كل أولئك أسندوا في كتبهم بعبارات مختلفة وبمعنى واحد قولهم : إن أصحاب الحديث قد جمعوا الرواة عن الإمام الصادق (عليه السلام) من الثقاة على اختلافهم في الآراء والمقالات فكانوا أربعة آلاف رجل .
وقال الشهيد في الذكرى : إن أبا عبد الله جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام) كتب من أجوبة مسائله أربعمائة مصنف لأربعمائة مصنف ودون من رجاله المعروفين أربعة آلاف رجل من أهل العراق والشام والحجاز . وعلى أي حال فإن مدرسة الإمام الصادق (عليه السلام) كانت مصدرا للإشعاع الفكري وينبوعا يفيض على الأمة بالعلوم والمعارف الإسلامية ، وأغدقت على العالم الإسلامي بخدماتها الواسعة الجليلة في بث تلك التعاليم القيمة في عصر ازدهرت فيه صنوف العلم ، وأقبل المسلمون على انتهاله . ولو أتيح لمدرسة الإمام الصادق (عليه السلام) الظهور التام لأدت رسالتها على أحسن ما يتطلبه واقع المسلمين ، وما هم فيه من حاجة إلى نشر التعاليم القيمة في بث روح الأخوة الإسلامية والعدالة الاجتماعية ، ومحو المعتقدات الفاسدة والآراء الشاذة .
وهذا أبو حنيفة النعمان صاحب المذهب الذي عرف بكثرة القياس ، وطرح الأسئلة وكثرة الأحاديث ، يكشف لنا عن أهمية مدرسة الإمام الصادق (عليه السلام) وآرائه الصائبة وأثرها العظيم على نفسه ويعترف بقوله : لولا السنتان لهلك النعمان ، والسنتان التي درس بهما على الإمام أبي عبد الله الصادق عندما فتح مدرسته في الكوفة ، وكان الإمام (عليه السلام) يشدد عليه بترك القياس في الرأي ، وكان (عليه السلام) يناظره ويفحمه ويعترف بذلك ولكنه يعود لرأيه الأول . وبهذا يتضح أن أبا حنيفة النعمان في أخذه رأي الإمام الصادق (عليه السلام) واتباع أمره يعد نفسه في نجاة من الهلكة .
وربما يكون كذلك إذا ترك رأيه في المرجئة وتركه القياس والحلول واتبع الأحاديث الصحيحة والآراء الصائبة من مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) . غير أن السلطات الحاكمة اتخذت جميع التدابير لمحاربة تلك المدرسة ، لأن شهرة الإمام الصادق (عليه السلام) ومدرسته قد طبقت العالم الإسلامي ، وكانت تقض مضاجع الحكام ، ولهذا فقد كانوا يضعون الخطط التي يأملون فيها الوصول إلى غاياتهم في غلق أبواب تلك المدرسة ، والقضاء على الإمام الصادق (عليه السلام) بكل وسيلة ، ولكن الله سبحانه شاء أن تستمر المدرسة إلى يومنا هذا وإلى ما شاء الله حتى يستلمها الإمام المنتظر إن شاء الله . اقتطفنا بعض هذا البحث من كتاب الإمام الصادق للشيخ أسد حيدر (رحمه الله) .وسيلية الثقات من رواة حديثه .
علم الإمام الصادق (عليه السلام) معين لا ينضب وبحر زاخر متلاطم الأمواج ، بعيد المدى ، لا يسبر غوره أحد ، تطفح ضفتاه بالجواهر من العلوم واللآلي التي أضفت أشعتها على جميع المعمورة من يومه إلى يومنا هذا . لقد امتازت مدرسة الإمام بجامعيتها العلمية غير المحدودة . ومن الطبيعي أن تنعكس الجامعية العلمية التي تملكها شخصية الإمام (عليه السلام) على واقع مدرسته ، ولم تكن علوم المدرسة لتقف عند حدود المعارف الإسلامية الخاصة بل هناك الكثير من العلوم الأخرى التي تتعلق بقضايا الكون والطبيعيات والطب وغيرها مما عرفت به مدرسة الإمام . . . وفي مرور سريع نحاول أن نعرض لبعض ما زخرت به مدرسة الإمام من منوعات العلوم (4)
منوعات العلوم في مدرسة الامام الصادق (عليه السلام)
1- التفسير :
وهو العلم الذي يبحث فيه عن مداليل آيات الكتاب العزيز ومقاصدها ، وهو من أشرف العلوم وأفضلها وأعلاها شأنا وأكثرها نفعا ، فمنه ينفتح الإنسان على أجواء الله من خلال رؤيا كلماته المباركة ، التي هي مصدر كل علم ومنطلق كل حكمة . . . فعن الإمام الصادق : . . . أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال : من أوتي القرآن فظن أن أحدا من الناس أوتي أفضل مما أوتي ، فقد حقر ما عظم الله وعظم ما حقر الله . . . (5) . وما نقل عن الإمام الصادق من التفسير كثير ، ولعل ما ضاع منه فيما ضاع من الكتب والأصول أكثر ، كما إن الكثيرين من تلامذته صنفوا من رواياته في التفسير كتبا مستقلة كهشام بن سالم الجواليقي ، وإن كان لم يصلنا من تلك الكتب إلا روايات متفرقة في بطون كتب الأخبار .
2- علم الكلام :
وهو العلم الذي يبحث عن الوجود والوحدانية والصفات ، وما يلزم هذه المباحث من نبوة وإمامة ومعاد، بالأدلة العقلية التي تقوم على الأسس المنطقية السليمة ، وقد كان لمدرسة الإمام نشاط بارز في هذا المجال، مما جعلها وجهة المتكلمين وأصحاب الآراء والمقالات والزنادقة، يغدون إليها طلبا للحق أو الجدل فيه .
وقد نبغ من تلامذة الإمام في هذا العلم عدة من الشخصيات المتميزة التي كان لها حضور تأريخي بارز ، كهشام بن الحكم ، وهشام بن سالم الجواليقي ، ومؤمن الطاق، وغيرهم من متكلمي أصحاب الإمام الصادق .
ولعل هؤلاء الثلاثة هم من أبرز من تكلم من أصحاب الإمام (عليه السلام)، وناظر أصحاب المذاهب، كما إن هشام بن الحكم كان موضع اهتمام الإمام وثقته ، لتميزه عن قرينيه بقوة الحجة المحقة وسرعة الخاطر والاتساع في الذهنية والبراعة في الإبداع .
وقد نقل عن الإمام الصادق الكثير من النظريات والأسس الكلامية التي يقوم بناؤها على معطيات الإيمان الفطري ، والفهم الأمين الواعي لآيات الكتاب العزيز .
3- علم الفقه والتشريع :
وهو العلم الذي يبحث فيه عن الأحكام الشرعية الفرعية التي تتعلق بأفعال المكلفين أفرادا وجماعات . وهو أوسع العلوم اهتماما في مدرسة الإمام وأغزرها عطاء ، باعتباره يمثل الالتزامات العملية التي يتقوم بها نظام الحياة العامة والخاصة ، وتنظيم الارتباطات القانونية الفردية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية وغيرها مما يحتاج إليه في استقرار النظام العام . ويعتبر الإمام الصادق فيما قدمه من عطاء في هذا المجال أهم مصدر للفقه الإسلامي تنتمي إليه كافة المذاهب الإسلامية في بداية انطلاقتها وتحركها ، وقد سبق أن أشرنا إلى ذلك في حديثنا عن انتماء المذاهب الإسلامية لمدرسة الإمام ، وقد تخرج الكثيرون من أئمة الفقه الإسلامي على الإمام كأبي حنيفة ، ومالك ، والسفيانان ، ويحيى بن سعيد وغيرهم من أعلام الأمة ، وأمثال زرارة بن أعين ، ومحمد بن أبي عمير ، وليث المرادي ، وجميل بن دراج ، ومحمد بن مسلم ، وغيرهم من أعلام الشيعة ، وقد كتبت عنه في هذا العلم آلاف من الكتب والمؤلفات ، ولم ينقل في الفقه والتشريع عن أحد كما نقل عن الإمام الصادق من كتاب الطهارة وحتى الديات .
وإتماما للفائدة، وتوضيحا لمن لم يطلع على الفقه وفروعه ، إلا ذوي الاختصاص من العلماء الأعلام، أشير في هذا المقام إلى رؤوس المطالب موجزا دون التفصيل:
1 – المياه2 – أعيان النجاسات 3 – أحكام النجاسات4 – طهارة البدن والثوب لأجل الصلاة5 – المطهرات6 – الوضوء7 – غسل الجنابة8 – الحيض والاستحاضة والنفاس9 – الميت ومسه10 – الأغسال المستحبة11 – التيمم12 – الصلاة13 – الصوم14 – الزكاة15 – الخمس16 – الحج17 – الجهاد والأمر بالمعروف18 – العقود19 – المعاطاة21 – المقبوض بالعقد الفاسد22 – شروط أهلية المتعاقدين23 – البلوغ24 – القصد والاختيار25 – ضابط التعبير عن القصد26 – بيع الفضولي27 – الإجازة28 – الرد وأحكامه29 – شروط العوضين30- الاحتكار31 – خيار المجلس32 – خيار الحيوان33 – خيار الشرط34 – خيار العيب35 – أحكام الخيار36 – النقد والنسيئة37 – القبض38 – المرابحة39 – السلم40 – الصرف41 – الربا42 – بيع الثمار والخضار والفاكهة 43 – الإقالة وکثير من الاحکام في القرض والدين و الفرق بين القرض والدين الضمان الحوالة 48 – الكفالة الشركة الشفعة المضاربة المزارعة المساقاة المغارسة العارية الهبة السبق والرماية الوكالة الإجارة الجعالة اللقطة الصيد الذباحة الأطعمة والأشربة الكفارات إحياء الموات [الأرض] مع فروعها الكثيرة و شقوقها وكلها بروايات الثقات مسندة بالإسناد إلى أهل البيت (عليهم السلام) .
وأول من أفرد بعض مباحثه بالتصنيف من أصحاب الإمام الصادق (عليه السلام) شيخ المتكلمين هشام بن الحكم، فقد صنف كتابا في مباحث الألفاظ ، وهي أهم مباحث هذا العلم (6) .
وقد حفلت كتب الحديث بالأخبار التي تحدد كثيرا من قواعد الحديث ومبانيه ، وقد جعلها الكثير من العلماء مدركا لحجيتها ، كقاعدة الاستصحاب والبراءة الشرعية ومسألة التعادل والتراجيح في مقام تعارض الأخبار ، وغير ذلك من القواعد التي اعتمدها العلماء في مقام استنباط الأحكام وحرروها في كتب الأصول . وقد تعرض الإمام أيضا في بعض ما ورد عنه من أحاديث ، لنقد بعض المسائل الأصولية التي اعتمدها الآخرون في استنباطاتها كمسألة القياس والاستحسان ، وغيرهما مما اعتمدته مدرسة الرأي التي حرص الإمام على اتخاذ موقف صريح في نقدها وتهديم أسسها .
ولقد كان الدافع لوضع هذه الأصول والقواعد ، هو أن كثيرا من الأحكام التي ربما يبتلى بها المكلفون قد لا يكون هناك أخبار خاصة تحددها ، وربما لا يكون من المستطاع سؤال الإمام عنها لبعد الشقة التي تفصل المكلفين عن الإمام في حال الحضور فضلا عن حال الغيبة ، فكانت الحاجة ملحة لوضع قواعد وأصول تتكفل بتعيين الحكم التكليفي أو الوضعي التي تحدد وظيفة المكلف العملية وتعين له حكم موضوعه .
4- علم الأخلاق :
وهو العلم الذي يبحث عن خصائص السلوك وآداب السيرة ، من تهذيب النفس وصقلها شخصيا ، والتزامات العشرة اجتماعيا ، وقد ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام) الكثير من الكلمات التي تتضمن مكارم الأخلاق وروائع الآداب التي كان يخاطب بها أصحابه ورواد مدرسته ، وكثيرا ما كان يخاطب أصحابه بقوله : كونوا زينا لنا ولا تكونوا شينا علينا حتى يقولوا : رحم الله جعفر بن محمد فلقد أدب أصحابه .
5- علم الطب :
وقد ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام) الكثير من التعاليم الطبية والآداب الصحية ، وقد جمع بعض علماء السلف شيئا كثيرا من كلامه وكلام غيره من أئمة أهل البيت (عليهم السلام) في ذلك وأسماه طب الأئمة ، كما جمع بعضهم ما ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام) من تعاليم طبية كان يلقي بها لسائليه ، في رسالة أسماها طب الإمام الصادق ،
ومن ذلك ما ورد في كتاب توحيد المفضل التي أملاها الإمام على المفضل ابن عمر ، من الإخبار عن الطبائع وفوائد الأدوية وما يتعلق بعلم التشريح وغيرها مما له ربط بصحة الإنسان ومزاجه ، وما ورد في مناظرته مع طبيب في مجلس الخليفة المنصور ، من بيان وظائف الأعضاء وحكمة وضعها في مواضعها .
ومن روائعه الصحية : أمره بغسل الفاكهة قبل الأكل ، فقد ورد عنه قوله : إن لكل ثمرة سما فإذا أتيتم بها فأمسوها الماء واغمسوها في الماء . ومن تعاليمه الطبية : مداواة الحمى بالماء البارد ، فقد ذكروا له الحمى فقال (عليه السلام) : إنا أهل بيت لا نتداوى إلا بإفاضة الماء البارد يصب علينا . وقال (عليه السلام) : في الطعام ، نحن أهل بيت لا نأكل حتى نجوع ، وإذا أكلنا لا نشبع ، كما هو المأثور عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : المعدة أصل الداء والحمية رأس الدواء .
6- علم الكيمياء :
وهي إملاءات في هذا العلم كان قد أملاها الإمام على جابر بن حيان ، العالم الكيميائي الذي تعتبر رسائله ومؤلفاته وما احتوته من نظريات وآراء وتطبيقات ، من أهم مصادر هذا العلم وحتى عصرنا الحديث . ولقد صدرت بعض التشكيكات عن بعض المستشرقين بصحة نسبة تلك المؤلفات لجابر بن حيان كما نقل ذلك عن (روسكا) وتلميذه (كراوس) ،
ولم يكن بناء تلك التشكيكات ليستند إلى أساس علمي أو نظرات واقعية ، بل هو قضية رعب عنصري محموم ، لم تحتمل وطأته صدور هؤلاء ، فكانت محاولة التعتيم تلك على شخصية جابر العلمية وعبقريته النظرية والتجريبية ، وكيف يمكن لهؤلاء أن يتقبلوا لإنسان عربي مسلم يعيش في أواسط القرن الثاني الهجري ، مثل ذلك العطاء العلمي المعجز ، والذي يضيق عنه عمر الإنسان العادي ، فعن (روسكا) ، أنه يجد أن صورة جابر صورة خيالية ، لأن الكتب المنسوبة إليه لا يمكن أن يؤلفها بشر مهما بلغ من سعة الاطلاع في العلم ، ومهما كان عمره طويلا (7)
وقد تبعه على ذلك تلميذه (كراوس) كما يتراءى من خلال كلماته ، وفي تصورهما أن الرسائل الخمسمائة المنسوبة لجابر بزعمهما ، هي لعدة علماء ، كما إن بعضها قد لا ينسجم في بعض لفتاته مع تفكير القرن الثاني الهجري واتجاهاته كبعض الاصطلاحات المذهبية التي تمت للاتجاه الإسماعيلي بصلة بارزة ، غفلة عن إن تلك الاصطلاحات ربما يكون مأخذها من مؤلفات جابر نفسها .
ولماذا نفترض إحداثها بعهد سابق عليها ؟ كما إن التقاءه على نحو الصدفة مع بعض اصطلاحات الإسماعيلية لا يستدعي افتراض مثل هذه التشكيكات . وليس من المنطقي أن نفترض أن تلك المؤلفات هي من عمل بعض العلماء المتأخرين عن ذلك العصر ، ونسبتها لجابر هي من صميم رغبة هؤلاء العلماء لإعطائها صفة مقدسة عندما تلتصق مضامينها بالإمام الصادق الذي يعترف جابر في بعض رسائله إنها من تعاليمه ومعطياته . يقول جابر : . . . وحق سيدي ، لولا أن هذه الكتب باسم سيدي صلوات الله عليه لما وصلت إلى حرف من ذلك إلى آخر الأبد لا أنت ولا غيرك إلا في كل برهة عظيمة من الزمن . . . .
ويقول في كتابه الحاصل : ليس في العالم شيء إلا وهو فيه جميع الأشياء ، والله لقد وبخني سيدي على عملي فقال : والله يا جابر لولا أني أعلم أن هذا العلم لا يأخذه إلا من يستأهله ، وأعلم علما يقينا أنه مثلك ، لأمرتك بإبطال هذه الكتب من العالم ، أتعلم ما قد كشفت للناس فيها ؟ فإن لم تصل إليه فاطلبه فإنه يخرج لك جميع غوامض كتبي ، وجميع علم الميزان وجميع فوائد الحكمة . . . (8)
ولا تتصور سببا منطقيا لأن ينتحل هؤلاء العلماء المزعومون شخصية جابر تلميذ الإمام الصادق ، كمبدع لتلك الأفكار التي أودعوها مؤلفاتهم ، بعدما بذلوا جهدا مضنيا في إبداعها وتحقيقها ، يقول ابن النديم في كتابه الفهرست : . . . وقال جماعة من أهل العلم وأكابر الوراقين : إن هذا الرجل – يعني جابر – لا أصل له ولا حقيقة . وبعضهم قال : إنه ما صنف وإن كان له حقيقة إلا كتاب الرحمة ، وإن هذه المصنفات صنفها الناس ونحلوها إياه ،
وأنا أقول – أي ابن النديم – : إن رجلا فاضلا يجلس ويتعب ، فيصنف كتبا تحتوي على ألفي ورقة ، يتعب قريحته وفكره وجسمه بنسخه ، ثم ينحله لغيره إما موجودا أو معدوما ، ضرب من الجهل ، وإن ذلك لا يستمر على أحد ولا يدخل تحته من تحلى ساعة واحدة بالعلم ، وأي فائدة في هذا وأي عائدة ، والرجل له حقيقة وأمره أظهر وأشهر وتصنيفاته أعظم وأكثر ، ولهذا الرجل كتب في مذاهب الشيعة، وقد قيل إن أصله من خراسان ، والرازي يقول في كتبه المؤلفة : قال أستاذنا أبو موسى جابر بن حيان . . . (9) .
ولسنا بحاجة إلى أن نفترض لجابر عمرا طويلا يمكن أن يحتمل مثل هذا العطاء الغزير ، بعد أن وجدنا جابر يعترف بأن مصدر إلهامه في هذا العلم وغيره هو أستاذه ومعلمه الإمام الصادق، وإن دوره هو التصنيف والتطبيق ، يقول جابر : فوحق سيدي . . .
إنه لغاية العلم ولو شئت لبسطته فيما لا آخر له من الكلام ، ولكن هذه الكتب يا أخي معجزات سيدي وليس – وحقه العظيم – يظفر بما فيها إن الجفر من مختصات الأئمة ، ولن يكون صادقا من ادعى حيازته له . ونخلص من هذا إلى أن الجفر ليس علما خاصا كعلم الحروف والكلمات ، وليس كتابا كتبه الإمام لأهل بيته ، ليحفظ به ما لديه من علم ، وإنما هو وعاء جمعت فيه مواريث النبوة والإمامة ، واشتمل على الكتب السماوية التي نزلت على الأنبياء وقضايا السلف ، وما سيحدث من قضايا وأحداث إلى يوم القيامة .
أما تفاصيل الجفر فيما يعود للإخبارات الآتية ، وهل إنها مذكورة بجزئياتها ؟ أم إن هناك أمورا كلية تستطلع منها صور الأحداث ؟ فهو أمر لا يمكننا الحكم على سره بشيء ، ولعل التأمل بالأخبار يؤيد الاحتمال الأول .
وبعد هذا كله ، يظهر زيف ادعاء حيازة البعض للجفر ، واطلاعهم على مخزون علمه ، فإن تلك الادعاءات لا تخرج عن كونها كذب وتهريج ، يقصد بها السيطرة على البعض من ضعاف النفوس والتحكم بهم وربما ابتزاز أموالهم ، كما هو ديدن المشعوذين والدجالين .
وليس ما يمنع أن يكون الإمام الصادق قد أفضى ببعض ما احتوى عليه من أسرار للبعض من خلصائه كما تذكر بعض الأخبار أن البعض منهم كسدير الصيرفي ، والمفضل بن عمر ، وأبان بن تغلب ، قد اطلعوا عليه ونظروا في شيء من محتوياته بعرض من الإمام نفسه .
كما إن إخبارات الإمام عن بعض أحداث المستقبل ، هي بعض من أسراره ، وقد سئل عن محمد بن عبد الله ذي النفس الزكية وسلطانه ، فأجاب (عليه السلام) بأن لديه كتابا فيه ذكر ملوك الأرض ، وليس فيه ذكر لمحمد [بن عبد الله بن الحسن (عليه السلام)] ، كما أخبر عن قتله بأحجار الزيت ، وعن ملك بني العباس واستيلائهم على الحكم ، وإن أول من يملك منهم هو السفاح ثم المنصور ثم أولاده من بعده . وعن واقعة فخ ومن يقتل فيها من العلويين ، وغير ذلك من الإخبارات المستقلة التي أخبر عنها في مناسباتها { فتحققت } والتي هي بعض تلك المعلومات الغيبية التي اختص الله بها نبيه وخلفاءه من بعده إظهارا لقربهم منه واختصاصهم برسالته .
المصادر :
1- الإحتجاج : 450 ، طبعة قم . إرشاد المفيد 1 : 176
2- الثائر الأول في الإسلام ، لمحمد عبد الباقي : 79
3- معرفة علوم الحديث ، للحاكم النيشابوري : 55
4- عن السيد محمد جواد فضل الله في كتابه : الإمام الصادق (عليه السلام) بتصرف يسير .
5- الكافي 2 : 604
6- الشيعة وفنون الإسلام ، السيد حسن الصدر : 95
7- الإمام الصادق ملهم الكيمياء ، الدكتور محمد يحيى الهاشمي : 51
8- نفس المصدر : 116
9- الفهرست ، لابن النديم : 420 ، طبعة طهران ، تحقيق رضا تجدد ، 1971
المصدر: موسوعة المصطفى والعترة(ج9)
الصادق جعفر عليه السلام
تأليف: حسين الشاكري
نشر الهادي