في الوقت الحاضر وبعد غلبة الطابع السياسي على قراءات عاشوراء ، تجلی عنصر الحماسة بيناً، فلم يعد الحسين “عليه السلام” فيه رمزا للعزاء والمأتم وإنما أصبح رمزا للحرية والخلاص، ويؤيد ذلك المتداول من عناوين ومفردات هذه الحقبة والتحول الذي طرأ على مجراها بالتزام أدب الحماسة، من قبيل: التحرر والحرية، الثورة، النهضة، الخروج، النضال، الجهاد، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الإصلاح، الحكومة، السياسية،العدالة. بقلم: أ. محمد إسفندياري *
الاجتهاد: ظلّت الرؤية العاطفية هي الطاغية على المشهد العاشورائي؛ وذلك بسبب تغيب الشيعة عن الساحة السياسية تحت ضغط بعض العوامل، أما في القرن الرابع عشر وبعدما دخل التشيع معترك السياسة بقوة، فقد بدأ يغلب طابع السياسة في قراءة معطيات عاشوراء ، فبينما كانت الرؤية العاطفية تركز على مصاب الحسين “عليه السلام” وتبكيه… جاءت الرؤية السياسية وأضافت إلى ذلك مفردات السياسة والنضال والحماسة عند الحسين “عليه السلام”، موظفة المأتم والمصائب فيما يصب في صالح الهدف الأصلي.
في السابق، كانت الرؤية العاطفية تحجم عاشوراء عند حدود التراجيديا وتختصر شخصية الحسين “عليه السلام” في معاناته ورزيّته، ويشهد على ذلك ما وصلنا من عناوين وما تواتر على الألسن من قاموس المأساة، من قبيل مصطلحات: البكاء، الدمع، المصيبة، الحزن والغم، البلاء والابتلاء، العزاء، المأتم، الظمأ، الأسر(1).
أما في الوقت الحاضر وبعد غلبة الطابع السياسي على قراءات عاشوراء ، تجلی عنصر الحماسة بيناً، فلم يعد الحسين “عليه السلام” فيه رمزا للعزاء والمأتم وإنما أصبح رمزا للحرية والخلاص، ويؤيد ذلك المتداول من عناوين ومفردات هذه الحقبة والتحول الذي طرأ على مجراها بالتزام أدب الحماسة، من قبيل: التحرر والحرية، الثورة، النهضة، الخروج، النضال، الجهاد، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الإصلاح، الحكومة، السياسية،العدالة. (2)
إن هذا التحول في مفردات الماضي والحاضر كفيل بتفسير التمايز الجوهري في رؤى الفريقين؛ ففي السابق كانوا يرددون الحسين “عليه السلام” في كلمتين هما: المصرع والمقتل، أما في الوقت الحاضر فيمكن ملاحظة شيوع مفردتين تمجدان إنجازات الحسين “عليه السلام” هما: الثورة والشهادة، والبون شاسع جداً بين الرؤيتين، كما يتضح لنا أن هذا التحول لم يأت من منطلق لفظي أو من التفنن في صياغة هذا اللفظ أو ذاك، وإنما كان نابعاً من اختلاف الرؤية لجوهر ومعنى الحسين “عليه السلام” وعاشورائه؛ إن كلمتي: المصرع والمقتل تشيران إلى البعد المأساوي في الظلم النازل على الإمام “عليه السلام”، كما أنه ليس بعيدا أن يؤدي تكرارهما إلى التقليل من شأنه وانكساره أمام الموقف الظالم، بينما تشير كلمتا: الثورة و الشهادة إلى مدى جهاده “عليه السلام” ورفضه للظلم فصنع بذلك الثورة فهو هنا ثائر مجاهد.
و نستنتج من ذلك أن مفردات من قبيل المصرع والمقتل لا توحي إلا بمعاني الاستعطاف والعزاء النابعة من منطق العاطفة في تراجيديا عاشوراء ، أما كلمات مثل الثورة والشهادة فتدل – في أصدق دلالاتها – على الاستنهاض والحماسة، وهي معانٍ نابعة من حماسة السياسة وسياسة الحماسة عند عاشوراء .
بعبارة مجملة، إذا كانت نظرتنا لعاشوراء سياسيةً باعتبار الحماسة أصلاً فيها، فالنتيجة ستكون «الإسلام الحماسي»، و «حسين الشهادة»، وليس حسین المصيبة والعزاء، بل «حسين الدم» وليس حسين الدمع، وسيكون هذا إسلاماً ملهماً من الحماسة الحسينية فيخلق الحماسات ويهدّ صروح الظالمين بسلاح الشهادة ويروي شجرة الحرية بالدماء الأبية.
نعم سيظل البكاء أيضاً مفردة من مفردات هذا الإسلام، لكن هدف الحسين “عليه السلام” ليس البكاء، كذلك الشفاعة حاضرة بين المفردات لكن دور الحسين “عليه السلام” ليس مقتصرة عليها ولن يكون شفيعا لكل من هب ودب.
أما إذا كانت نظرتنا عاطفيةً بوصف التراجيديا أصلاً في عاشوراء ، فستكون النتيجة «إسلام المراثي»، و «حسين المصائب»، وليس حسين الشهادة، بل «حسين الشمع» وليس حسين الدم. وسيكون الهدف الأساس كامناً في عرض الرثاء، والملاحظ في ذلك أنه لا يجني من وراء إقامة العزاء إحياء لمفاهيم الحسين “عليه السلام”، وإنما المراد والهدف قائمان بالعزاء نفسه، أي إنه هو الموضوع في القضية، وبذلك يستبدل الهدف بالوسيلة والنتيجة بالمقدمات.
فتغسل – حسب هذا الإسلام – كبائر الذنوب بقطرة دمع يذرفها الباكي كفارة عن خطاياه؛ فيتحول الدمع إلى هدف، ويأخذ صفة المطهرات فيزيل نجاسات الدنيا، الأمر الذي سينتج عنه إعراض أتباع هذا الدين عن العمل واكتفاؤهم بغرض البكاء.
لقد شهد الماضي نادبين على الحسين “عليه السلام” أكثر منهم ثائرين معه، وتفوق شعراء الرثاء على شعراء الثورة والملحمة، فما أكثر ما قيل في رثائه والبكاء عليه في مقابل ما كان ينبغي أن يحتفي بإنجازه الثوري والحفاظ عليه؛ لأن النظرة الغالبة كانت عاطفية، هذا من جانب، ومن جانب آخر وجدوا في البكاء على عاشوراء عملاً سهل المؤونة لا يتطلب كثيرة من العناء، فلا شك أن تأبين الحسين أسهل بكثير من اقتفاء أثره في الثورة والخروج على الظالم، والجلوس في المجالس والبكاء على المصيبة أهون في نظر العامة من الوقوف بوجه اليزيديين ومواجهتهم؛ لأن مطلب مجالس العزاء دمع والملاحم مطلبها دماء، والناس تلبي نداء «حي على الصلاة» أكثر من تلبيتها نداء «حي على الزكاة»، فكيف إذا كان النداء «حي على الجهاد»؟!
الهوامش
1 – تظهر في أسماء وعناوين المؤلفات السابقة مفردات تراجيدية كثيرة، منها: طريق البكاء، طوفان البكاء، عمّان البكاء، أمواج البكاء، ریاض البكاء، مفتاح البكاء، منبع البكاء، مخزن البكاء، معدن البكاء، مناهل البكاء، مجرى البكاء، سحاب البكاء، عين البكاء، كنز الباكين، مبكي العيون، مبكي العينين، المبكيات، بحر الدموع، فيض الدموع، عين الدموع، سحاب الدموع، ينبوع الدموع، منبع الدموع، دمع العين، مدامع العين، مخازن الأحزان، رياض الأحزان، قبسات الأحزان، مثير الأحزان، مهيج الأحزان، نوحة الأحزان وصحيفة الأشجان، أحزان الشيعة، بحر الحزن، کنز المحن، بحر الغموم، بحر الغم، قصص الفم، واحة الفموم،الهم والغم، مشرط الغم، کنز المصائب، مجمع المصائب، وجيزة المصائب، إكليل المصائب. للإطلاع پراجع: محمد اسفندياري، كتابشناسي تاریخي امام حسین : ۲۸ .۲۹، طهران، وزارة الإرشاد والثقافة الإسلامية، ۱۳۸۰ش/ ۲۰۰۱م، ط 1 .
2 – بينما شاعت في كتابات المتأخرين مفردات الثورة والحماسة والسياسة بشكل لافت من قبيل: في ظلال الحرية، زعيم الأحرار، الحسين”عليه السلام” حامل لواء الحرية، الحسين”عليه السلام” سيد الأحرار، الحسين “عليه السلام” رمز الحرية، الملحمة الحسينية، ملحمة عاشوراء ، ملحمة كربلاء، رجال الثورة، رسالة الحسين “عليه السلام”الثورية وظروفها الحرجة، ثورة الحسين “عليه السلام”، ثورة الطف، النهضة الحسينية، نهضة عاشوراء ، الأهداف الاجتماعية عند الحسين بن علي عليهما السلام، وتحليل دوافع ثورة كربلاء، الثورة الخالدة، للإطلاع المرجع السابق.
* المصدر: سلسلة كتاب نصوص معاصرة كتاب بعنوان: جدل و مواقف في الشعائر الحسينية. إعداد: حيدر حب الله. ( مقتطف من مقال بعنوان: عاشوراء الحسين و عاشوراء الشيعة – تعدد الأهداف والوسائل . أ. محمد إسفندياري ( باحث متخصص في التراث والببلوغرافيا. ترجمة : محمد عبدالرزاق.)