على الرغم من ان الدراسة مطلوبة، ولكن؛ ضمن حدودها المعقولة، فالأئمة، عليهم السلام، كانوا يقودون المجتمع ويجيبون عن المسائل المختلفة ويحلون مشاكل وأزمات الناس، ويؤدون أدوارهم الاجتماعية والسياسية، نرى أنهم لم يكونوا يستنكفون من العمل فكانوا يستصلحون الأرض بالزراعة، ويقومون بالأعمال التجارية، وفي مقدمتهم النبي الأكرم، صلى الله عليه وآله، فقد عمل راعياً ثم تطوّر الى التجارة. بقلم : الشيخ حيدر العامري
الاجتهاد: على طول الخط، تعرض طلبة العلم والعلماء، لضغوط وعقبات بأشكال مختلفة؛ منها نفسية، واجتماعية، وسياسية، واقتصادية، بيد أن تحديهم الحازم كان وراء نجاح العديد منهم وتفوقهم وتحقيقهم لانجازات كبرى في تاريخ وحاضر الأمة، ومن أبرز هذه الضغوطات؛ الضغوطات الاقتصادية، متمثلة بالحالة المعيشية والمورد المالي، إذ ان عالم الدين، هو أحد أفراد المجتمع، بحاجة الى مستلزمات المعيشة، ولو بدرجة الكفاف، فهنالك زوجة وأولاد وسكن وحاجات يومية، وأخرى طارئة، مثل العلاج والسفر وغيرها.
ولذا كان الحديث عن طلب العمل الى جانب طلب العلم، فاذا كان التركيز على طلب العلم على حد التفرّغ الكامل، على أن في العلم خيراً كثيراً، والتزام الزهد في المعيشة الى حد الاستغناء عن كل شيء، فان المشكلة التي ستواجِه طالب العلم والعالم، أنه ستضيع منه طاقات عزم وإرادة في البحث العلميِّ، ولكن؛ هذا لا يعني – بأي حال من الأحوال – التوجه كليةّ الى العمل والبحث عن الكسب والتجارة تاركاً طلب العلم والزيادة فيه، بل لا بُدَّ مِن تحقيق التوازُن بين العلم والعمل.
ومن ثَمَّ يأتي السؤالُ الذي نبحث عن إجابة له: هل الواجب علينا تخصيص كل الوقت لطلب العلم ونترك أي نوع من العمل؟ وهل بالإمكان تحقيق التوازن بين الاثنين؟
أيُّ عمل لطالب العلم؟!
طلب العلوم من أعظم العبادات وأنفع القربات التي يتقرب بها العبد إلى الله تعالى، وقد يتعين على البعض الدخول في الحوزة العلمية كونها فرض عين عليهم، إذا كانوا مؤهلين وكانت الأمة بحاجة إليهم.
هذه القدسية والأهمية التي أولاها الإسلام للعلم وطلابه، لا تبتعد عن قدسية العمل الذي يقدم الخدمة الى المجتمع ويجعل طالب العلم او حتى العالم الكبير عنصراً فاعلاً ومحبوباً، سواء في البيت الى جانب الزوجة، او في محيط العمل في أي مكان، ففي الحديث الشريف: «صدِّيق امتي من يعين أهله في بيته»، ومن الخطأ ان يتصور الواحد منّا أنه اذا أصبح عالماً، فانه عليه ان يجلس في مكان بعيد عن المجتمع، ويتحرج من القيام بأي عمل مهني او اجتماعي.
وعلى الرغم من ان الدراسة مطلوبة، ولكن؛ ضمن حدودها المعقولة، فالأئمة، عليهم السلام، كانوا يقودون المجتمع ويجيبون عن المسائل المختلفة ويحلون مشاكل وأزمات الناس، ويؤدون أدوارهم الاجتماعية والسياسية، نرى أنهم لم يكونوا يستنكفون من العمل فكانوا يستصلحون الأرض بالزراعة، ويقومون بالأعمال التجارية، وفي مقدمتهم النبي الأكرم، صلى الله عليه وآله، فقد عمل راعياً ثم تطوّر الى التجارة، وكان الامام أمير المؤمنين يقول مفتخراً:
لحمل الصخر من قمم الجبال أحبُّ إليّ من متن الرجال
يقول الناس لي في الكسب عارٌ فقلت العار في ذلّ السؤال
هذا وغيره، يحل الإشكالية لدى البعض من نوعية الأعمال التي ربما يخوضها طلبة وعلماء الدين في الوقت الحاضر، أو أن الانشغال بالأعمال التجارية يستغرق وقتاً ربما يؤثر على طلب العلم، بينما اذا لاحظنا الاعمال التي انخرط فيها أهل البيت، وقبلهم الأنبياء – عليهم جميعاً سلام الله – نعرف أن العمل الذي يكون وسيلة لخدمة الإنسانية والمجتمع، هو الذي يبارك الله فيه، مثل الزراعة والرعي والنجارة والخياطة وأشباهها مما كان يمتهنه الأنبياء، عليهم السلام.
فهذا أمير المؤمنين، عليه السلام، يعتق ألف مملوك من كد يده، كما جاء في الرواية عن الامام الصادق، عليه السلام، بمعنى أن الامام وظّف مردوده المالي من العمل لتحقيق عمل أعظم واكبر وهو الإسهام في إلغاء الرق والعبودية من المجتمع والأمة، وإلا كان بإمكانه الاستفادة من مال العطاء او ما يصله من الغنائم وغيرها.
وفي رواية أخرى عن الحسن بن علي ابن أبي حمزة، عن أبيه – من أصحاب الإمام الرضا – قال: رأيت أبا الحسن، عليه السلام، يعمل في أرض له قد استنقعت قدماه في العرق، فقلت له: جعلت فداك أين الرجال؟! فقال: يا علي…! قد عمل باليد من هو خير منّي في أرضه، ومن أبي، فقلت له: ومن هو؟ فقال: رسول الله، صلى الله عليه وآله، وأمير المؤمنين وآبائي، عليهم السلام، كلهم كانوا قد عملوا بأيديهم وهو من عمل النبيين والمرسلين والأوصياء والصالحين.
وعن أبي بصير قال: سمعت أبا عبد الله، عليه السلام، يقول: إني لأعمل في بعض ضياعي حتى أعرق وإن لي من يكفيني ليعلم الله عز وجل إني أطلب الرزق الحلال.
يبقى السؤال عن كيفية التوفيق بين الاثنين بما لا يؤثر جانب على آخر، وهذا يعتمد على الانسان بان يعتدل في حياته ويوازن بين طلب العلم وطلب العمل والمورد المالي، وبحسن تنظيم الوقت يستطيع كسب العلم في الوقت القليل مالا يقدر عليه غيره من المتفرغين في الوقت الطويل، فمن بارك الله له في وقته، لن يضره أن يعمل ويتعلم.
فكم من متفرغ لا يجد وقتاً لطلب العلم لقلة التوفيق والحرمان! وكم من مشغول بأعباء الدنيا والكسب الحلال، يجد وقتاً وبركة في نهاره ومساءه لطلب العلم، وإذن؛ التفرغ الكامل لن يكون بحد ذاته موصلاً الى العلم، بل طلب العلم يعتمد على الإخلاص والتوكل على الله والمنهجية الصحيحة، فهما اللذان يوصلان الى العلم، حتى وإن كانت الفترة المخصصة ساعتين في اليوم او ثلاثة، ففي الحديث الشريف: «العلم نور يقذفه الله في قلب من يشاء»، وقال – عز من قائل سبحانه -: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا}، (سورة طه: 114).
الاستقلالية المالية رمز النجاح
بما أن التفرّغ لطلب العلم يستدعي الاعتماد على مصادر تمويل لتغطية تكاليف معيشة طلبة الحوزة العلمية، فان الجانب المادي يسبب – في بعض الأحيان – الانجرار باتجاه مسارات خطيرة ربما تنتهي الى الارتباط بمصالح سياسية واقتصادية تتقاطع مع أحكام الشريعة والقيم الأخلاقية والإنسانية، لذا كان العمل وكسب الرزق والاكتفاء مالياً لابناء الحوزة العلمية بشكل عام، يمثل أحد أهم عناصر الاستقلال عن أية ضغوط او فرض إرادات من الحكام والأنظمة السياسية.
ولعل أعظم ما تفخر به الحوزة العلمية لاتباع أهل البيت، عليهم السلام، هذه الخاصية والامتياز بما يفقده آخرون في البلاد الاسلامية الأخرى، حيث نرى حتى إمام الجماعة في المسجد يعتمد في تكاليف معيشته على راتب الدولة، كأي موظف آخر، فضلاً عن المؤسسة الدينية بأكملها، بما لديها من تكاليف ونفقات، وتجربة الأزهر في مصر خير دليل على ذلك.
من هنا؛ جاء الحثّ والتأكيد من الأئمة الاطهار على العمل لكسب الرزق لتجنب التبعية والارتباط بمصالح بعيدة عن الدين والقيم، وقد أورد الشيخ الكليني – رضوان الله عليه – في كتاب الكافي مجلد: 5/ صفحة73 عدة روايات يظهر منها ان الأئمة كانوا يعملون لتحقيق الاكتفاء الذاتي.
فقد جاء الامام الصادق، عليه السلام، وكان في بعض طرق المدينة في يوم صائف شديد الحر، فقال له بعض أصحابه: جُعلت فداك؛ حالك عند الله – عز وجلّ – وقرابتك من رسول الله، صلى الله عليه وآله، وأنت تجهد لنفسك في مثل هذا اليوم؟ فقال: يا عبد الأعلى خرجت في طلب الرزق لأستغني عن مثلك!
وفي رواية أخرى: إن محمد بن المنكدر كان يقول: ما كنت أرى أن علي بن الحسين، عليهم السلام، يدع خلفا أفضل منه حتى رأيت ابنه محمد بن علي، عليهما السلام، فأردت أن أعِظَه فوعظني فقال له أصحابه: بأي شيء وعظك؟ قال: خرجت إلى بعض نواحي المدينة في ساعة حارة فلقيني أبو جعفر محمد بن علي وكان رجلا بادنا ثقيلا وهو متكئ على غلامين أسودين أو موليين فقلت في نفسي: سبحان الله شيخ من أشياخ قريش في هذه الساعة على هذه الحال في طلب الدنيا أما لأعظنه فدنوت منه فسلمت عليه فرد علي السلام بنهر وهو يتصاب عرقا فقلت: أصلحك الله شيخ من أشياخ قريش في هذه الساعة على هذه الحال في طلب الدنيا أرأيت لو جاء أجلك وأنت على هذه الحال ما كنت تصنع؟ فقال: لو جاءني الموت وأنا على هذه الحال جاءني وأنا في طاعة من طاعات الله عز وجل، أكف بها نفسي وعيالي عنك وعن الناس وإنما كنت أخاف أن لو جاءني الموت وأنا على معصية من معاصي الله، فقلت: صدقت يرحمك الله أردت أن أعظك فوعظتني.
من كل ذلك نعرف أن العمل والكسب الحلال من عرق الجبين، لتوفير الحياة الكريمة تجاه من يعول، يمثل أداءً لواجب شرعي وأخلاقي يحقق بها العفّة لنفسه ولعائلته من أن يمدوا أيديهم الى الناس.
أما القول بأن طالب العلم مكانه فقط في الحوزة العلمية وفي المكتبة او في زاوية من بيته، إنما هو قول لا يستند الى دليل ولا يلتفت إليه، بل هو في عمومه قول باطل وغير موافق للواقع؛ فطالب العلم الذي يسير على بصيرة من أمره، ويعرف الأدلة الشرعية، وأحكام الإسلام، ويعمل بها، يكون مرفوع الرأس أينما كان، ومحترماً أينما حل، ولا سيما بين جماعته وأهل بلده، إذا عرفوا منه العلم والنصح والصدق، وعدم التسرّع في الأحكام والمواقف، بل يكون طبيبا حكيما، يدعو إلى الله بالحكمة والرفق.
وبكلمة؛ فان طالب العلم، لابد ان يكون انموذجا تتجسد فيه جميع القيم والفضائل والمبادئ التي بشّر بها الإسلام.
المصدر: مجلة الهدى