قد ذكر الفقهاء هذه المسألة في كتابي الديات والإجارة لمناسبتها للمقامين . ويظهر من كلماتهم أنّ القول الثاني ( الضمان) هو المشهور بينهم، بل يظهر من المصنّف في النكت اتّفاق الأصحاب عليه، و عن الغنية دعوى الإجماع على الضمان، و القول الأوّل محكيّ عن ابن إدريس و هو شاذّ. و يظهر من بعض كلمات العامّة القول الأوّل، بل لعلّه المشهور بينهم لعدم ذكر مخالف فيه.
الاجتهاد: من المسائل التي لها صلة بالموضوع مسألة خطأ الطبيب في التشخيص و العلاج. أمّا الموارد التي ذكرت في منشأ الخطأ فمنها ما كان في زمان التشريع و بعضها الآخر صار مستحدثاً في زماننا، و هي عبارة عن:
أ- ما يتلف بسبب عدم كفاءته العلمية و مع ذلك يتصدّى للطبابة.
ب- ما يتلف بتقصير منه في الفحص و عدم الدقّة في الكشف عن حال المريض.
ج- ما يتلف بسبب ما لبعض الأدوية من العوارض و المضاعفات الجانبية التي تعورف عند ذوي الاختصاص محظورية استعمالها لمن مرضه يستدعي تناولها، و قد ورد في الحديث أنّه «ليس من دواء إلّا و يهيّج داء» [1]، و لذا ينبغي اجتناب تناول الأدوية مهما أمكن لما لها من الخلفيات الجانبية المضرّة.
د- ما يتلف بسبب عدم استخدام الوسائل و الأجهزة الحديثة لتشخيص المرض، كأخذ الصور الفوتوغرافية أو الأشرطة الدماغية أو تحليل الدم، و اكتفاء الطبيب بالفحص العادي و عدم التوصية بالأمر المذكور، و يعود السبب في ذلك إمّا لعدم اهتمام الطبيب بهذه الأمور، أو رأفة بحال المريض و تجنّب إرهاقه مالياً، أو حرصاً على اختصار الوقت و التعجيل في استكمال العلاج.
ه- التلف بسبب استعمال المريض الأدوية الرخيصة؛ لعدم التوصية بالاستعمال من الأدوية الممتازة ذات الكلفة الباهضة لتجنّب تعرض المريض لضغط مالي.
و- التلف الحاصل بسبب إهمال الممرّض، فإنّ التمريض يكون أحياناً أكثر أهميّة من العلاج، سيّما بعد إجراء العمليات الجراحية المهمّة مثل عمليات القلب و الكلية.
ز- ما يحل بسبب اجتماع أكثر من مرض في المريض. و قد تستدعي معالجة أحدهما الإضرار بالآخر، ممّا يقتضي التوسّل بطرق و أساليب تفيد الأوّل و لا تضرّ بالثاني. و كذا ما يحدث بسبب عدم توصية المريض بما لا بدّ له من الامتناع عنه و اجتنابه و أشباه ذلك.
بعد هذه المقدّمة لا بدّ لنا من تنقيح أصل مسألة ضمان الطبيب و عدمه بنحو كلّي و بيان قواعدها و أصولها لترجع الفروع المتعلّقة بها إلى تلك الأصول.
فنقول: قدذكر الفقهاء هذه المسألة في كتابي الديات والإجارة لمناسبتها للمقامين، فعن المحقّق في الشرائع أنّه قال: «الطبيب يضمن ما يتلف بعلاجه إن كان قاصراً أو عالج طفلًا أو مجنوناً لا بإذن الولي أو بالغاً لم يأذن. و لو كان الطبيب عارفاً و أذن له المريض في العلاج فآل إلى التلف، قيل: لا يضمن لأنّ الضمان يسقط بالإذن، لأنّه فعل سائغ شرعاً، و قيل: يضمن لمباشرته الإتلاف، و هو أشبه». [1] ثمّ تعرّض لمسألة الإبراء التي ستأتي الإشارة إليها إن شاء الله تعالى.
و يظهر من كلماتهم أنّ القول الثاني هو المشهور بينهم، بل يظهر من المصنّف في النكت اتّفاق الأصحاب عليه، و عن الغنية دعوى الإجماع على الضمان، و القول الأوّل محكيّ عن ابن إدريس و هو شاذّ.
و يظهر من بعض كلمات العامّة القول الأوّل، بل لعلّه المشهور بينهم لعدم ذكر مخالف فيه.
قال ابن قدامة: «و لا ضمان على حجّام، و لا ختّان، و لا متطبّب إذا عرف منهم حذق الصنعة و لم تجنِ أيديهم، و جملته أنّ هؤلاء إذا فعلوا ما أمروا به لم يضمنوا بشرطين:
أحدهما: أن يكونوا ذوي حذق في صناعتهم و لهم بها بصارة و معرفة.
الثاني: أن لا تجني أيديهم فيتجاوزوا ما ينبغي أن يقطع». [1] و مثله من بعض الجهات ما ذكره في موضع آخر منه. [2] و قال شيخ الطائفة (قدس سره): «الختّان و البيطار و الحجّام يضمنون ما يجنون بأفعالهم، و لم أجد أحداً من الفقهاء ضمّنهم، بل حكى المزني: أنّ أحداً لا يضمّنهم، دليلنا إجماع الفرقة». [3] و الظاهر عدم الفرق بين الختّان و البيطار و الطبيب من هذه الجهة؛ لاتّحاد الدليل في البابين.
و قد حكي عن الحنفية و المالكية: أنّ الطبيب لا يضمن إذا قام بواجبه و احتاط و لم يتجاوز الحدّ. و عن الحنابلة: و كذا لا يضمن الطبيب المعروف بالحذق إذا لم يخطئ في عمله. [4]
و يظهر ممّا ذكرنا من كلام المحقّق و غيره أنّ عمل الطبيب على أقسام:
1- قد يكون مقروناً بالحذق و الإذن.
2- قد لا يكون مقروناً بالحذق و الإذن.
3- قد يكون الطبيب حاذقاً و ليس بمأذون.
4- قد يكون مأذوناً و لم يكن حاذقاً.
أمّا الصور الثلاثة الأخيرة فممّا لا ينبغي الإشكال في ضمان الطبيب فيها لا سيّما مع فقدان الوصفين المذكورين، إنّما الكلام في الصورة الأولى. و قد فصل السيّد الإمام الخميني (قدس سره) في تحرير الوسيلة تفصيلًا آخر وافقه عليه عدّة ممّن تقدّم عليه أو تأخّر عنه، و هو ما أفاده في كتاب الإجارة، حيث قال: «الطبيب ضامن إذا باشر بنفسه العلاج بل لا يبعد الضمان في التطبيب على النحو المتعارف و إن لم يباشر. نعم إذا وصف الدواء الفلاني و قال: إنّه نافع للمرض الفلاني، أو قال: إن دواءك كذا من دون أن يأمره بشربه فالأقوى عدم الضمان» [1]، و له في موضع من كتاب الديات نظير هذا التفصيل.
إذا عرفت ذلك نعود إلى أدلّة المسألة و نبحث عن مقتضى القاعدة أوّلًا، و من ثمّ نبحث ثانياً الأدلّة الخاصّة في المقام.
أمّا مقتضى القاعدة في الصور الثلاث الأخيرة فالظاهر فيها هو الضمان؛ لما ذكرنا في التفصيل الأوّل من تفريطه مع عدم الحذق و حرمة تصرّفه مع عدم الإذن. فعليه ضمان كلّ ما أتلفه و كلّ خسارة نشأت من فعله؛ لقاعدة الإتلاف.
و أمّا الصورة الرابعة: فإن قلنا بأنّ الإذن في الشيء إذن في لوازمه، و أنّ ما حصل من الخسائر البدنية و المالية كلّها من اللوازم القهرية في أمر الطبابة، مع تحقّق الإذن، حينئذ لا يبقى مجال للقول بالضمان أو إجراء قاعدة الإتلاف.
و أمّا إن قلنا بأنّه مأذون في العلاج و شفاء المريض من الآلام و الأمراض لا غير، فهو لم يأذن بقتله و نقص عضوه مثلًا و شبه ذلك، فاللازم حينئذ الحكم بضمانه، لما عرفت.
و لكن الإنصاف أنّ المريض لو علم بالملازمة العرفية- ملازمة العلاج لطروء بعض العوارض أحياناً- كان الإذن منه في ذلك إذناً في لوازمه، لعدم إمكان انفكاكهما، فهل يمكن أن يأذن المريض بالعملية الجراحية مثلًا من دون أن يتحمّل تبعاتها و مخلّفاتها في الآلام الحاصلة بعدها أو الآثار التي تبقى منها في البدن أحياناً؟! نعم، يمكن أن يقال: إنّ غفلة كثير من الناس عن تلك الملازمة الخارجية في هذا المجال يمنع عن مثل هذا الاستدلال، هذا فيما يتعلّق بالتفصيل الأوّل.
هذا، و أنّه بالاستناد إلى إذن الشارع المقدس بالطبابة و أنّها عمل سائغ، لا يمكن القول بعدم ترتّب ضمان عليه، فكم من عمل سائغ أذِن الشارع فيه، و لكن ترتّب عليه الضمان كقضاء القاضي المعرّض للخطإ، فإنّه مضمون من بيت المال إن لم يكن مضموناً عليه. و مثله مثل جميع موارد الجنايات الخطأ أو شبه العمد. فهي غير محرّمة مع ما فيها من الدية، فتأمّل.
و أمّا التفصيل الثاني: و هو التفرقة بين صورة مباشرة الطبيب أو عدم مباشرته مع التطبيب على النحو المتعارف بأن يأمر المريض بشرب ذاك الدواء و ذاك بنحو خاصّ، و بين مجرّد توصيفه من دون مباشرته و أمره. فالضمان في الأوّلين دون الأخير. و الوجه فيه هو صحّة إسناد التلف إلى الطبيب في الأوّلين- أمّا الأوّل فهو واضح، و أمّا الثاني فلقوة السبب على المباشر- دون الأخير؛ لأنّ الإسناد فيه إلى المكلّف- المريض- نفسه.
هذا، و لكن ما يجنيه الطبيب بيده بالتجاوز عن الحدّ اللازم في الختان و في العمليات الجراحية، فهو أمر مضمون على كلّ حال لعدم الملازمة العرفية، بخلاف بعض عوارض الأدوية ممّا لا يمكن الاجتناب عنه عادة.
و يمكن الاستدلال لعدم الضمان بقوله تعالى (ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ) [1]، بتقريب: أنّ عمل الطبيب مصداق ظاهر للإحسان، سيّما مع عدم أخذ الطبيب الأجر على عمله، و الضمان سبيل، و لذا قد ورد في الحديث عن السكوني عن جعفر عن أبيه (عليهما السلام)
أنّ رجلًا شرد له بعيران فأخذهما رجل فقرنهما في حبل فاختنق أحدهما و مات، فرفع ذلك إلى عليّ (عليه السلام) فلم يضمّنه، و قال: «إنّما أراد الإصلاح».
[2] و قد يناقش: بأنّه لا سبيل إلى المحسن في إحسانه، و المفروض أنّه أخطأ في إحسانه و لم يحسن بل أراد الإحسان، مضافاً إلى أنّ نفي السبيل ظاهر في نفي العقوبة و شبهها و أمّا ضمان الإتلاف فهو أمر آخر، فتأمّل.
و أمّا الرواية المتقدّمة: فهي غير ناظرة إلى حدوث الموت بسبب تفريط الأخذ؛ لأنّ الموت حدث بسبب حركة الإبل لا بسبب فعل الأخذ لها.
ثمّ إنّ الأدلّة الخاصّة في المسألة جملة من الروايات، و هي:
1- ما ورد في باب مطلق الأجير مثل صحيحة الحلبي، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال
سئل عن القصّار يُفسد، فقال: «كلّ أجير يُعطى الأجرة على أن يُصلح فيُفسد، فهو ضامن».
[3] عن أبي الصباح، قال سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن القصّار هل عليه ضمان؟ فقال: «نعم، كلّ من يُعطى الأجر ليصلح فيُفسد، فهو ضامن» [4]، و مثله غيرهما.
و تقريب الاستدلال، أن يقال: إنّ هذه الأحاديث عامّة و شاملة للطبيب و البيطار و الختّان و جميع أرباب التخصّص.
و لكن الإنصاف أنّها ناظرة إلى صورة التعدّي و التفريط و لو من باب الخطأ و شبهه لا عن عمد كخرق القميص ببعض ما في يده، أمّا لو عمل بما هو وظيفته من دون أي نقص في عمله، و لكن حصل الفساد من جانب عيب في الثوب مثلًا كما لو غسله عدّة مرّات فانخرق- كما هو حال الثياب- فالتفريط لم يكن من جهة الخيّاط و القصّار.
و كذا الحال في الطبيب، فإنّه لو أثّر الدواء في المريض أثراً بسبب بعض الحالات النادرة كالحساسيّة التي لا تنكشف بالاختبار أو بعض الأمراض الكامنة التي لا أثر لها ظاهراً و لم يكن يعلم بها الطبيب و المريض فأضرّ به الدواء لبعض هذه الأمور و مات أو حصلت في بدنه عاهة أو نقص لم يكن الطبيب- بمقتضى هذه الروايات- ضامناً.
2- ما دلّ على خصوص الطبيب و ذكر حكمه، مثل ما رواه السكوني عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «قال أمير المؤمنين (عليه السلام) من تطبّب أو تبيطر فليأخذ البراءة من وليّه، و إلّا فهو له ضامن».
[1] و في معناه ما في المستدرك عن الجعفريات عن عليّ (عليه السلام). [2] و أخذ البراءة من الولي ناظر إلى ما إذا كان المريض صغيراً أو كان بحدّ لا يقدر أن ينظر في مصالحه و مفاسده.
و قد يتوهّم أن أخذ البراءة من قبيل الإسقاط ما لم يجب و هو مخالف للقواعد، و يدفعه أنّ ذلك جائز إذا حضر المقتضي له، مثل الإسقاط حقّ القسم في عقد النكاح أو إسقاط كافّة الخيارات في العقد، مع أنّها لم تجب بعد، لا سيّما بعضها الذي لا يتحقّق إلّا بعد مضي مدّة من العقد كخيار التأخير أو خيار الغبن بناءً على أنّه لا يكون إلّا بعد ظهور الغبن و كذا خيار العيب.
و دلالة الحديث على الضمان لو لا البراءة ظاهرة، فلا يتوجّه إليه الإشكال إلّا من ناحية السند؛ فإنّ العلم بروايات السكوني فيما تفرّد به مشكل على ما بيّناه في محلّه، اللّهمّ إلّا أن يقال بانجبار ضعف السند فيه بعمل المشهور. و لكن يحتمل استنادهم إلى العمل بمقتضى القاعدة القاضية بالضمان، أو إلى العمل بما مرّ من روايات الأجير، فتدبّر جيّداً.
فتحصّل من جميع ما ذكرنا: أنّ الضمان في الجملة هو مقتضى القاعدة و الروايات العامّة و الخاصّة.
الهوامش
[1] الوسائل: ج 2 ص 629 ب 4 استحباب ترك المداواة ح 1.
[1] شرائع الإسلام: ج 4 ص 248.
[1] المغني: ج 6 ص 120 كتاب الإجارة.
[2] المصدر السابق: ج 10 ص 344.
[3] الخلاف: ج 3 ص 503، المسألة 26 كتاب الإجارة.
[4] الفقه على المذاهب الأربعة: ج 3 ص 146- 153.
[1] انظر تحرير الوسيلة: ج 2 ص 505 المسألة 4 بتصرّف.
[1] التوبة: 91.
[2] الوسائل: ج 19 ص 206 ب 35 من موجبات الضمان ح 1.
[3] المصدر السابق: ج 13 ص 271 ب 29 من أحكام الإجارة ح 1.
[4] المصدر السابق: ص 274 ح 13.
[1] الوسائل: ج 19 ص 194 ب 24 من موجبات الضمان ح 1.
[2] مستدرك الوسائل: ج 18 ص 324 ب 19 من موجبات الضمان ح 1.
المصدر: کتاب ” بحوث فقهية هامة” المؤلف : المرجع الديني آية الله ناصر مكارم الشيرازي، الجزء : 1 صفحة : 303