الاجتهاد: إن رجوع الجاهل إلى العالم في كل اختصاص، هو وضع لا يحتاج إلى أصل يُثبت وجوده في العصور السابقة، إن لم نقل بأنه موجود منذ بدء البشرية، فلا يحتاج إلى مزيد مؤونة، ولا تصل النوبة إلى الشك .
التقليد هو الاستناد إلى قول الغير في مقام العمل، بمعنى أن العامل يستند في عمله إلى قول الغير، ويجعله مسؤولاً عنه، وكأنه قلادة في رقبته، وهذا المعنى هو المفهوم من التقليد لغةً وعرفًا، ولذلك يقال في العرف العام: قلّدتك الدعاء والزيارة، فهو كذلك في العرف الخاص، وعلى هذا المعنى وردت الروايات في التقليد الشرعي.
مسألة التقليد لا تقليد فيها
ومسألة التقليد ليست من المسائل التي يجب التقليد فيها، فإذا قيل بأنه يجب على المسلم أن يُقلّد، فمن الذي حكم عليه بهذا الوجوب ؟ ومن الذي قال له يجب أن يقلد ؟
لا يصح أن يقال: إن هناك شخصًا آمرًا، لأن هذا أيضًا تقليد يحتاج إلى تقليد آخر ليحقّ له الرجوع إليه، وهكذا، فيلزم التسلسل !!
بل الصحيح: أن المكلف المعتقد بالله ورسوله واليوم الآخر وما جاء به الرسول، يعلم بأنه مكلّف بأحكام الشريعة الإسلامية المقدّسة، ويجب عليه الخروج عن عهدة هذه التكاليف بإطاعة أوامر الله تعالى والإقلاع عن المعاصي، لأن الأحكام التي جاءت بها الشريعة منجّزة على كل مكلف، حيث إنه يعلم إجمالاً بوجود كثير من هذه الأحكام في الشريعة، إلا أن أكثر هذه الأحكام مجهولة عنده، عدا ما هو بديهي ضروري كالصلاة وسائر الفرائض، ولكن تفاصيلها مجهولة عند المكلف، ولذلك يُدرك عقله بأنه لا بد من الخروج عن عهدتها، لأن غير العاقل لا يُكلَّف، وحيث إنه لا يعرفها، فلا بد له من معرفتها وتعلُّم تفاصيلها.
فما يعرفه بالوجدان والضرورة لا كلام فيه، وأما سائر الأحكام -وهي كثيرة جدًا تشمل جميع تقلّبات الإنسان وتصرّفاته وأعماله- فلا بد له من معرفتها وتعلّمها ممن يعرفها، ولا بد أن يكون قول هذا الغير حجة عليه، لأن العمل بلا حجة لا يُبرئ الذمة، فلا بد له من التقليد والرجوع إلى من يعلم بهذه الأحكام.
الأدلة
وأما ما هو الدليل على حجية قول هذا العالم في حق الجاهل بالأحكام، فالكلام فيه: (تارة) فيما يستفيده العالم الذي يفتي بوجوب التقليد من الأدلة الشرعية كالكتاب والسنة. (وأخرى) فيما يدعو المكلف – الجاهل بالحكم – للرجوع إلى العالم.
أ – أدلة المجتهد على مشروعية التقليد
أما بالنسبة للعالم، فعمدة ما يمكن ذكره من الأدلة على نحو الاختصار: كتاب الله وسُنّة نبيه (صلى الله عليه وآله) بالإضافة إلى حكم العقل، وسيرة العقلاء الراجعة إلى السنّة كما سنذكر.
( أما الكتاب العزيز ): فعمدة ما يدل على ذلك من الآيات، آية النفر، وهي قوله تعالى: {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ}([1]).
حيث دلّت الآية الكريمة على وجوب النفر بمقتضى (لولا) التي هي أداة تحضيضية تبعث إلى الفعل، والغاية من النفر الواجب هو التفقّه، فتدل على وجوبه، والغاية من التفقه – بالإضافة إلى عمل الشخص المتعلّم – هي الإنذار بما تفقّه به وتعلّمه من الأحكام.
والإنذار لا موضوعية له، ولا هو واجب في نفسه، بل هو نفس الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهذا إنما يجب لأجل ترتّب الحذر عليه والابتعاد عن المعاصي من قِبل من بلَغه هذا الإنذار.
فتدل الآية على وجوب الأخذ بأقوال هؤلاء الذين نفروا وتفقّهوا، ورجعوا فأنذروا، وهذا معناه التقليد، لأن الحذر الذي هو غاية الإنذار لا يراد به مجرد الخوف النفساني، بل هو التحفظ عن الوقوع فيما لا يريده الإنسان من المهالك لإحراز ما يراد الوصول إليه من المنافع.
فتدل على وجوب الحذر بالعمل على طبق ما أنذر به، وإن لم يكن واضحًا عند السامع، ما دام هو قد تفقّه لأجل ذلك، مع وثاقته وعدالته، فلو كان المفروض أن يتيقن السامع بعد الإنذار، لكان الأولى أن يعبّر بالفعل أو بالترك دون أن يعبّر بالحذر.
فتدل الآية على وجوب الإفتاء على من تفقه، كما تدل على وجوب التقليد، لأنه يجب الحذر والتحفّظ عند الإنذار والتعلّم.
( وأما السنّة ): فهي الروايات الواردة عن أهل بيت العصمة، الذين أمر الله والرسول (صلى الله عليه وآله) بالرجوع إليهم مع القرآن.
فقد دلت روايات كثيرة على حجية فتوى المفتي، كالتي دلّت على إرجاع الناس إلى أشخاص مخصوصين، أو إلى عناوين تنطبق على الفقهاء.
كقوله (عليه السلام) لأبان بن تغلب: (اجلس في مسجد المدينة، وأفتِ الناس، فإني أحب أن أرى في شيعتي مثلك)([2]).
وقوله (عليه السلام) في رواية أخرى لمعاذ بن مسلم: (بلغني أنك تقعد في الجامع فتفتي الناس ؟ قلت: نعم. وأردت أن أسألك عن ذلك قبل أن أخرج، إني أقعد في المسجد فيجيء الرجل فيسألني عن الشيء، فإذا عرفته بالخلاف لكم أخبرته بما يفعلون، ويجيء الرجل أعرفه بمودتكم، فأخبره بما جاء عنكم، ويجيء الرجل لا أعرفه، ولا أدري من هو، فأقول: جاء عن فلان كذا، وجاء عن فلان كذا، فأُدخل قولكم فيما بين ذلك. قال: فقال لي: اصنع كذا، فإني كذا أصنع)([3]).
وأظهر من الكل ما ورد عن إمام العصر الحجة بن الحسن المنتظر (عجل الله تعالى فرجه الشريف) في رواية إسحاق بن يعقوب: (وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا، فإنهم حجتي عليكم، وأنا حجة الله)([4]).
فإن الحوادث الواقعة قد لا تكون منصوصة بخصوصها، فلا يمكن معرفة حكمها إلا بالاجتهاد من قبل المفتي، بإعمال نظره، وتطبيق ما تعلّمه من الفقه على ضوء الكتاب والسنة.
والتعبير بـرواة الحديث في هذه الرواية إنما هو لأن الرواة في ذلك العصر هم الفقهاء، حيث إنهم اطّلعوا على الأحكام من مصادرها الأصيلة، فعرفوا ظواهرها وعامّها وخاصّها، وسائر ما يحتاج إليه فقهاء عصرنا للتوصّل إلى الحكم، فإنهم بالنظر إلى قرب عهدهم وكونهم من أهل اللسان لا يحتاجون إلى المقدمات التي احتاجها المتأخرون عنهم، هذا مع أن القرآن الكريم قد عبّر عن مثلهم بالتفقه في الدين في قوله تعالى {لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ}.
بالإضافة إلى أن مصدر الفقاهة عند علماء الشيعة هو الأدلة والروايات التي وصلتهم عن أهل البيت (عليهم السلام)، وليس لهم رأي من قبل أنفسهم إلا بمقدار ما يستفيدونه من الروايات والكتاب العزيز بما يوافق العقل.
هذا فيما يرجع إلى استدلال المجتهد بشكل مختصر..
وأما ما يتبعه العامي فهو الارتكاز، وتوضيح المسألة:
ب – أدلة العامي على وجوب التقليد
( الارتكاز ): ومما يدل على لزوم التقليد ووجوبه، هو الارتكاز الثابت عند عقلاء البشر قاطبةً، وسيرة العقلاء المبنية على هذا الارتكاز من رجوع الجاهل إلى العالم والعارف في كل ما يحتاج إليه الإنسان من سائر شؤون الحياة، من المعاش والمعاد وحفظ نظام حياتهم من جميع الجهات، فيرجعون في كل شيء إلى أهل الخبرة في ذلك الشيء، في كل حرفة وصنعة وعلم من العلوم، وسائر شؤون الحياة.
فالناس بفطرتهم وطبيعتهم التي تعوّدوا عليها وتلقّوها ممن كان قبلهم، يفعلون ذلك، فيرجع المريض إلى الطبيب لا إلى النجار، وهكذا سائر الأمثلة، يعني يرجعون إلى كل عالم بعنوانه الخاص، فالذي يريد السؤال عن مسألة شرعية من قبل الشريعة، يرجع إلى العالم بتلك الأحكام.
اتصال السيرة بزمن المعصوم
وهذه السيرة مستمرّة بين العقلاء، وهي حجة شرعية، لأن الشريعة قد أقرّتها في كل الشؤون، إلا إذا ورد نهي شرعي في بعض الموارد، كما ورد النهي عن كثير من تصرّفات الناس فيما تعارفوا عليه مما لم يرتضه الشارع، وهذا الوضع يعرفه كل الناس وإن لم يلتفتوا إلى الاستدلال به في الأحكام الشرعية، إلا أنه مرتكز في أذهانهم. لأنه بعدما أدرك عقل الإنسان وجوب الطاعة وحرمة المعصية، واعتقد بالعقاب على المخالفة، صار لزامًا عليه أن يبحث ويسأل ويرجع إلى الخبير !!
وأيضًا لا بد من معرفة الخبير بالشريعة، ويتم ذلك عن طريق الرجوع إلى أهل الخبرة أنفسهم أيضًا.
وهذه السيرة حجة شرعية إذا أقرّها الشارع وأمضاها، أو لم يردع عنها، فإن عدم الردع في قوة إمضائها وإقرارها.
فلا بد من بيان معنى الإقرار والإمضاء، ومعنى الردع الذي يمنع الأخذ بها أو بغيرها، ثم بيان الوجه في حجية السيرة ثانيًا، فنقول:
إقرار السيرة وإمضاؤها يعني حجيتها
بعد الفراغ عن أن الشريعة الإسلامية لم تترك وضعًا وحالة وفعلاً من أفعال الإنسان بدون حكم، لأنها جاءت لتنظيم حياة الإنسان في جميع شؤونه، ولذا قلنا بأنه لا تخلو واقعة عن حكم شرعي على نحو الاقتضاء أو التخيير.
وهذه الأحكام -المُلزِم منها بالفعل أو الترك وكذلك غير المُلزم- على نوعين:
النوع الأول: ما هو أحكام تأسيسية، كالعبادات وغيرها مما لا يكون موجودًا عند الأعراف الاجتماعية ولا علاقة لهم به كأفراد وجماعات، لأنهم إنما يتعاملون مع ما يرون أنه لا بد منه في تنظيم شؤونهم دون ما أسّسته الشريعة وفرضته.
النوع الثاني: ما هو أحكام إمضائية، وهو المعاملات المتداولة بن الناس من سائر التقلبات كالمعاشرات والعقود والإيقاعات والصناعات والزراعات، حسبما يتطلبه نظام حياتهم من الناحية الاجتماعية والمعاشية وسائر الشؤون.
فكل حكم في الشريعة حول هذه الأمور يوافق ما تبانى عليه الناس وساروا عليه قبل الشريعة أو بغضّ النظر عنها، فهو حكم إمضائي بمعنى أن دور الشريعة بالنسبة إليه هو إمضاء وإقرار هذا الوضع المُعين، مثل قوله تعالى {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ}([5])، و{أوْفُوا بِالْعُقُودِ}([6])، ونحوهما.
عدم الردع عن السيرة وأثره
ففي مثل هذه الأمور قد نصّ الشارع على الإمضاء، ولكن لا يجب أن ينصّ على كل وضع موجود ليكون إمضاءً وشريعة، بل يكفي أن يكون الوضع معلومًا عند الشارع ولا يردع عنه، بل يسكت عنه، فإن هذا إمضاء وموافقة عليه ما دام بمرأى ومسمع منه، لأنه في مقام التشريع والبيان، فإذا حكم بحكم مخالف لسيرة الناس العقلاء وسلوكهم في أيّ شأن من شؤون تعايشهم وتعاملهم، فهذا ردع ونهي عن ذلك السلوك مطلقًا، فهو إبطال لذلك الوضع من الأساس، وأما في بعض الخصوصيات، فهو إمضاء لأصل الوضع مع تعديله في بعض خصوصياته إيجابًا أو سلبًا.
فالعقود كالبيع والإجارات والزواج، والإيقاعات كالطلاق والهبة والإبراء والصدقات، وكذلك الحال في القصاص والديات في الجنايات، وغيرها، فهذه الأمور لها قواعد مقرّرة في المجتمع الإنساني، أمضاها الشارع إجمالاً من حيث الاعتراف بأصل مشروعيتها ولكنه أدخل عليها بعض التعديلات، فنهى في هذه المعاملات عن الربا والغشّ والعبث وسائر ما هو محرّم بنظر الشريعة وجعل المعاملة حينئذٍ أكلاً للمال بالباطل.
هذا الإمضاء في مقابل الأحكام التأسيسية التي لا يتداولها الناس في مقام التعايش بينهم كالعبادات، لأنهم من الناحية الاجتماعية والمعاشية لا يتبانون على هذا النوع من الممارسات التي هي علاقة خاصة بين الإنسان وخالقه، لأنهم إنما يتبانون ويؤسّسون في الشؤون التي يتوقّف عليها نظام حياتهم كمجتمع يريد أن يعيش بحرية وأمان، والعبادات لا دخل لها بهذا الشأن من وجهة نظرهم، ولذلك استمرت حياتهم من هذه الناحية.
بينما تنظر الشريعة إلى الإنسان بجميع شؤونه العامة والخاصة في روحه وبدنه ومعنوياته ليعطي لكل حالة الحكم – المناسب – الذي يعلم الله بأنه يُصلح الإنسان، ولذلك لا تخلو واقعة فعلية أو مُفترضة عن حكم، إما بالنص على ذلك الحكم، أو بإمضائه، بالنص على خصوص الواقعة، أو بالنص على قاعدة عامة ينسحب حكمها على كل جزئياتها ومصاديقها.
وأما لماذا تكون هذه السيرة حجة، فلأنها تكشف عن رأي المعصوم كشفًا قطعيًا إذا علمنا باطلاعه عليها ووجودها في زمانه، حيث إن فعل المعصوم حجة، وإقراره وإمضاؤه حجة كقوله ونصّه على الشيء.
والسر في ذلك:
أن أصحاب الأئمة (عليهم السلام) وأصحاب الرسول (صلى الله عليه وآله) قبلهم، من الرواة ونقلة الحديث، وسائر المسلمين، كانوا مكلفين من الناحية الشرعية بالالتزام بأحكام الشريعة والسؤال عنها، والمطّلع منهم على الحكم كان مكلفًا بفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
كذلك كانوا مكلفين – بمقتضى تنصيب الأئمة للرواة والحافظين منهم – بحفظ الشريعة ونقلها إلى المسلمين المعاصرين والقادمين بعدهم، وهم بحكم سلوكهم وتديّنهم ووثاقتهم كانوا ملتزمين بالشريعة، وحيث إنهم من جملة العقلاء الملتزمين بالعرف العقلائي القائم في كل شأن من شؤون الحياة الاجتماعية عند العقلاء، فإنهم كانوا يسألون ويستفهمون، وكان من واجب الأئمة (عليهم السلام) أن يبلّغوا الشريعة، لذلك لم يكونوا ليسكتوا عن وضع سائد إذا كان مخالفًا للشريعة.
فإذا لم ينقل هؤلاء الرواة العقلاء ردعًا، لأن الأئمة لم يبلّغوهم الردع، كشف ذلك بصورة قاطعة عن كون هذا السلوك سلوكًا مشروعًا وغير مرفوض من قبل الشريعة، اقتضاءً أو تخييرًا، لأن السيرة المخالفة تُوثّر سلبًا على أحكام الشريعة، وتؤدّي إلى ضياعها، فلا يجوز إهمالها من قِبل صاحب الشريعة، وهو المعصوم، بل لا بد له من صيانتها مباشرة، أو من قبل أصحابه، لأنهم كما قلنا أُمناء وملتزمون بواجباتهم تجاه هذه الشريعة.
فإذا أقرّ وضعًا عقلائيًا عامًا، كرجوع الجاهل إلى أهل الخبرة في اختصاصهم أو إلى تشخيص ظهورات الكلام ومعانيه، كان ذلك نصًا في الإمضاء والإقرار على هذا الوضع، وإذا أحال الشارع المقدس المكلفين في أحكامهم الشرعية على الرواة والفقهاء، لأنهم أهل خبرة في الأحكام الشرعية، فهذا إمضاء للسيرة في هذا الأمر، وكذا في غير الفقه من الموارد التي أُمروا فيها بالرجوع إلى أهل الخبرة، وهذا إمضاء صريح، وهو من السنّة التي هي أحد الأدلة، لأن تقرير المعصوم وإقراره سنّة، بالإضافة إلى قوله وفعله (عليه السلام).
وإذا لم يكن هناك إقرار وإمضاء صريح، بل سكت عن وضع عقلائي عام سائد ولم يردع عنه، فإن ذلك يدل على إمضائه وإن لم يصرّح بالإمضاء، إذ مع الاهتمام الشديد بحفظ الشريعة، فإن عدم وجدان الردع يكشف عن عدم وجوده، خصوصًا مع وجود الدواعي لذلك، فإن الأصحاب كانوا يسألون عن الصغيرة والكبيرة، ونقلوا الأحكام التي يقلّ الابتلاء بها حتى بالنسبة للأفراد، بل ربما لم يبتلِ بها أحد من المسلمين مع أنه لم يكن هناك وضع عام يتعلّق بهذه الأحكام، فكيف يمكن السكوت عن وضع عام يبتلي به عامّة الناس ؟!
ولا يصدر حكم ولا سؤال عنه مع الاطلاع عليه!! فإن ذلك السكوت من الإمام، سواء كان تصرفًا عامًا أو تصرّفَ شخص مع شخص آخر، هو إمضاء، وإقرار لهذا الوضع، أو لهذا التصرّف، فإن هذا السكوت إمضاء وسنّة، لأن السنّة – كما قلنا – هي قول المعصوم أو فعله أو تقريره وإمضاؤه، والإمضاء قد يكون في مورد خاص مع الأشخاص وتصرّفاتهم الخاصة في عباداتهم أو في تعاملهم الخاص، وقد يكون إمضاء لوضع عام.
فالسنّة الممضاة وغير المردوع عنها، هي سنّة وحجّة شرعية.
هذا من حيث الكبرى، أعني أصل الحكم بحجيتها!!
وأما من حيث الصغرى، وهي تَحَقُّق هذه السيرة في زمن المعصومين، أو في زمن أصحابهم الذين عاصروهم، أو الذين عاصروا من عاصروهم من الفقهاء والرواة، فهذا يَثبت بالوجدان والنقل، ومع بُعد العهد -كما في عصرنا- فإننا ننظر إلى الأوضاع السائدة ونطّلع على ما أقرّوه في زمانهم وما لم يقرّوه.
الشك في اتصالها بزمانهم
فإذا لم نطلّع على وجود هذا الوضع في زمانهم أو الزمن القريب منهم، يحصل عندنا شك في حكم الشريعة في هذا الوضع، والمتّبع هو استمراره من ذلك الوقت، حيث إننا نشك في أنه وضع قديم، أو أنه مستحدَث وقد غيّر المجتمع الوضع القديم، فنُجري أصالة عدم النقل، بمعنى أنه عندما نشك في أنهم هل تلقّوا هذا الوضع ممن سبقهم، أو أنهم أحدثوه في زمن ما بعد زمن المعصومين، فإن القاعدة الشرعية التي تثبت حجيتها بالنص الشرعي تقتضي عدم الاستحداث، وهي أصالة عدم النقل، فإن أصالة عدم وجود الردع مع الاحتياج إليه في كل العصور، يكشف عن الإمضاء حتى لو لم يكن موجودًا في زمانهم، لأنهم لم يشيروا إليه في مجموع الروايات التي كانوا يسألون فيها عن جزئياتٍ ومصاديقَ من عناوين عامة.
وأما إذا لم يكن وضع معين في عصرنا، فلا دليل عندنا على المسألة، والحكم هو ما تقتضيه القواعد الشرعية، ولا علاقة للسيرة في هذا الأمر. كأن يرد النهي عن مصداق من عنوان عام، ولم يرد النهي عن مصاديقه الأخرى، فهذا يدلّ على عدم الردع عن هذا الوضع إلا في هذا المصداق، فقد ورد – من باب المثال – النهي عن بيع الغرَر، وبيع النجس، والبيع الربوي، والسفهي، وأما مطلق البيع بعنوانه في باقي المصاديق فلم يرد نهي عنه، بل أمضاه الشارع بنص القرآن الكريم، وبعنوانه العام {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ}([7])، وكذا بقية العقود التي نصّ القرآن الكريم على حلّيتها مع النهي عن بعض مصاديقها، وأما بقية المصاديق فلم يرد نهي عنها، وهي بالعنوان العام وضع سائد أمضاه الشارع، وهكذا…
والحاصل: أن رجوع الجاهل إلى العالم في كل اختصاص، هو وضع لا يحتاج إلى أصل يُثبت وجوده في العصور السابقة، إن لم نقل بأنه موجود منذ بدء البشرية، فلا يحتاج إلى مزيد مؤونة، ولا تصل النوبة إلى الشك .
لذلك كان رجوع الجاهل إلى العالم -ومنه رجوع العامي إلى الفقيه- وضعاً مستمرًا لا يحتاج إلى وجدان خارجي أو أصل يُثبت عدم النقل إليه، ولذلك قلنا بأنه يجب على كل مسلم مكلّف أن يسأل الفقهاء، وهذا هو التقليد، هذا مضافًا إلى النصوص التي دلّت على ذلك من الكتاب والسنة.
صفات العالم
يبقى الكلام في صفات المجتهد الذي يكون تقليده مبرئًا للذمة، وفي كيفية الوصول إلى معرفته، فنقول:
أما من حيث صفاته العامة، فقد وردت بعض الراويات التي تدل على صفات من يُرجع إليه في عصر الغيبة -تلك الفترة التي كان الفقهاء نوّابًا ووكلاء من قِبل صاحب الأمر الحجة ابن الحسن المنتظر (عجل الله تعالى فرجه الشريف)-:
منها: ما ورد عنه (عجل الله تعالى فرجه الشريف): (.. وأما الحوادث الواقعة، فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا، فإنهم حجتي عليكم، وأنا حجة الله)([8]).
ومنها: قول أبي جعفر (عليه السلام): (من أفتى الناس بغير علم ولا هدى من الله لعنته ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، ولحقه وزر من عمل بفتياه)([9]).
ومنها: مقبولة عمر بن حنظلة عن أبي عبد الله (عليه السلام): (.. ينظران من كان منكم ممن قد روى حديثنا، ونظر في حلالنا وحرامنا، وعرف أحكامنا، فليرضوا به حكمًا، فإني قد جعلته عليكم حاكمًا، فإذا حكم بحكمنا فلم يقبل منه، فإنما استخفّ بحكم الله، وعليه ردّ، والرادّ علينا الرادّ على الله، وهو على حدّ الشرك بالله..الحديث)([10]).
وقد أشرنا فيما سبق إلى أن المقصود بالرواة هم الفقهاء.
ومنها: ما دل على أن الثقة المأمون يؤدّي عن الإمام ويقول عنه، وأنه يجب إطاعته والاستماع لنقله وفتواه([11]).
ومنها: قوله (عليه السلام) في حديث: (فأما من كان من الفقهاء صائنًا لنفسه، حافظًا لدينه، مخالفا على هواه، مطيعًا لأمر مولاه، فللعوام أن يقلّدوه.. الحديث)([12]).
وقد وردت بهذا المضمون روايات كثيرة، ومعنى الإطاعة لأمر مولاه أن لا ينظر في كل أقواله وأفعاله وتصرّفاته إلا من خلال الشريعة الإسلامية، فيكون ممثلاً ومجسّدًا لجوهر الشريعة بأعلى مرتبة مطلوبة من غير المعصوم، لأن مرتبة العصمة لا يصل إليها أحد من البشر،و هذا تختلف فيه مراتب العلماء، قال تعالى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ}([13]).
تقليد الأعلم
فلو تعددوا يختار واحدًا منهم، وأما لو اختلفوا، وكان واحد منهم أعلم من الآخر، فالواجب هو الرجوع إلى الأعلم .
وتدل على ذلك السيرة المستمرّة، عند سائر البشر، عندما يختلف أهل الاختصاص، ويكون واحد منهم أكثر كفاءة ومعرفة من الآخر.
وأما كيف يعرف المجتهد والأعلم، فمرجعه إلى أهل الخبرة في هذا الاختصاص أيضًا، ويستدل عليه بنفس الدليل بتفاصيله، لأن الرجوع إلى أهل الخبرة والاختصاص – بعد حجية السيرة – هو أمر من الإمام (عليه السلام)، فلا نعيد تكرار الاستدلال.
نعم يشترط التعدد في أهل الخبرة، وأقلّه اثنان من العلماء المجتهدين ولو بدرجة جزئية، ليميّزوا بين مراجع التقليد، فلو اختلف أهل الخبرة يرجع إلى الشهرة بين أهل العلم.
فالذي يرجع في التقليد إلى شخص لأنه يحبّه، أو لأنه من أرحامه وذويه أو لأن آراءه تعجبه، فإن تقليده لا يبرئ الذمة، ويكون مسؤولاً عن أعماله عند الله سبحانه.
الهوامش
(*) نشر هذا المقال في (العدد التاسع – 2007م / 1428هـ) من مجلة رسالة النجف
([1]) سورة التوبة: من الآية122 .
([2]) الوسائل (آل البيت): ج30 ص291 ؛ مستدرك الوسائل: ج17 ص315، ب11 من أبواب صفات القاضي ح14 .
([3]) وسائل الشيعة (آل البيت): ج16 ص233، ب30 من أبواب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ح2.
([4]) وسائل الشيعة (آل البيت): ج27 ص140، ب11 من أبواب صفات القاضي ح9.
([5]) سورة البقرة، من الآية275.
([6]) سورة المائدة: من الآية1.
([7]) سورة البقرة من الآية275.
([8]) وهي مكاتبة إسحاق بن يعقوب إلى الناحية المقدسة، انظر: وسائل الشيعة (آل البيت): ج27 ص14، ب11 من أبواب صفات القاضي، ح9.
([9]) وسائل الشيعة (آل البيت): ج27 ص20، ب4 من أبواب صفات القاضي ح4.
([10]) وسائل الشيعة (آل البيت): ب11 من أبواب صفات القاضي ح1.
([11]) وسائل الشيعة (آل البيت): الباب 11 من أبواب صفات القاضي: ح 4 – 5 – 8 – 15، وغيرها، فإنها تضمنت الإرجاع إلى عبد الملك بن جريح وأبان بن تغلب ومحمد بن عثمان العمري وأبي بصير، وغيرهم من الرواة والفقهاء، فإن الإرجاع إلى هؤلاء الأشخاص بعناوينهم لا بأشخاصهم، ويفهم ذلك من مثل التعليل بقوله (عليه السلام): (فإنه الثقة المأمون) ونحوها.
([12]) وسائل الشيعة (آل البيت): ب10 من أبواب صفات القاضي ح20 .
([13]) سورة المجادلة، من الآية11.