الاجتهاد: إنّ حضور هذه الفتيات في المجالس الحسينية، أو المشاهد المقدّسة لأئمّة أهل البيت(عليهم السلام)، ولبسهنَّ السواد، وذرف الدموع، وإظهار الجزع، هو حالة إيجابية بحدّ ذاتها، ومؤشّر يدلّ على صفاء ونقاء تلك الفتيات، فضلاً عن سلامة فطرتهنَّ، إلّا أنّهنّ بذات الوقت لا يملكنَ الوعي الكامل بما يجب عليهنّ فعله، وهذا ما يُشكّل خللاً في معرفة فحوى الدين وروحه. وهنا يأتي دور ومسؤولية العلماء والمبلّغين، وأولياء الأُمور، وأساتذة الجامعات، وكلّ مَن تقع عليه مسؤولية تنشئة الأجيال. / بقلم: أ.م.د.سُها صاحب القريشي
المقدّمة[1]: إنّ الخلود صفةٌ لموقف نستشعر الحاجّة المستمرّة إلى الاستمداد من أسبابه وجزئياته، ونستزيد منه ونستلهمه؛ لإنارة طريقنا وإرواء قلوبنا العطشى.
والخلود عادةً يصاحب صنّاع المواقف الصعبة في التاريخ الإنساني؛ لما يشتمل عليه صنيعُهم من الحقيقة الحيّة، فنهضة الإمام الحسين(عليه السلام) تمثّل ـ من بين حوادث الدنيا ـ النهضة التي تفرّدت في تاريخ الإسلام، والتي أطلقت فيضاً من الإنتاج الفكري والمعرفي، واحتاجت إلى أن يتأمّلها أصحاب الأقلام الحرّة؛ للبحث في مضامينها ودراسة مناخها البيئي والعقدي وما رافقته من نتائج.
المرأة واستحباب الزيارة
تُمثّل زيارة الإمام الحسين(عليه السلام) مظهراً من مظاهر التولّي لآل بيت رسول الله(صلى الله عليه واله)، والبيعة لإمام الحقّ(عليه السلام)، ومن أعظم النّعم التي مَنَّ الله تعالى بها على المسلمين هي نعمة الإمامة، فيها تمّ الدين، وبها تُفتَح أبواب السماء للراغبين، وبها يمكن الوصول إلى غايات ربّ العالمين؛ ومن أجل ذلك فرض الله تعالى على عباده قبول هذا المقام، وأمرهم بتولّي أئمّة الهدى من أهل بيت النبي(صلى الله عليه واله)، والتبرّي من أعدائهم.ولا شكّ في أنّ من أبرز مظاهر هذا التولّي للإمام، هو الحضور عنده، والبيعة له، ومناصرته، وزيارته في مقامه وضريحه المقدّس[2].
ومن الواضح أنّ التمسّك بولاية الأئمّة، والاعتقاد بإمامتهم، والإقرار اللساني، والحضور البدني عند قبورهم، من تمام الدين، وسبب لاتّصاف المسلم بأنّه إماميّ، كما يُفهم كذلك أنّ مشاهدهم(عليهم السلام) هي موارد لاستحصال الأجر والثواب.
كما أنّ زيارة مراقد أهل البيت(عليهم السلام) لها فوائد تربوية تؤثّر في سلوك الزائر وطريقة تعامله وسائر أفعاله، كما تساعده على معرفة الباطل ومجانبتها، والتعرّف على الطرق الصحيحة في التعامل مع مختلف الأحداث، فضلاً عن الأبعاد العقائدية والمعرفية والنفسية، وكذلك التعرّف على طرق إحياء الحقّ[3]؛ لما ورد عن الإمام علي بن موسى الرضا(عليه السلام) في قوله: (رحم الله عبداً أحيا أمرنا.فقلت له: وكيف يُحيي أمركم؟ قال: يتعلّم علومنا ويعلّمها الناس، فإنّ الناس لو علموا محاسن كلامنا لاتّبعونا) [4].
والأمر الذي نودّ الإشارة إليه في هذا الصدد، هو أنّ هذه الزيارات وهذا الحضور يشمل الرجل والمرأة على حدٍّ سواء، ولا يقتصر على الرجل فقط، فاستحباب أو وجوب[5] زيارة الحسين(عليه السلام) الوارد في الروايات ـ سواء التي تنصّ بالتصريح أو ما كان ظاهراً في ذلك ـ يشمل الجميع، بلا فرق بين الرجل والمرأة،
وليس في الروايات دعوةٌ لطرفٍ دونَ آخر، كالرواية الواردة عن أبي عبد الله(عليه السلام): (مَن أتى قبر الحسين(عليه السلام) عارفاً بحقّه، كتب الله له أجر مَن أعتق ألف نسمة، وكمَن حَمل على ألف فرس مسـرجة ملجمة في سبيل الله) [6]، وقوله(عليه السلام): (قد وكّل الله تعالى بالحسين(عليه السلام) سبعين ألف ملك شُعثاً غُبراً، يُصلّون عليه كلّ يوم ويدعون لمن زاره، ورئيسهم ملَك يُقال له: منصور، فلا يزوره زائر إلّا استقبلوه، ولا يودّعه مودّع إلّا شيّعوه، ولا يمرض إلّا عادوه، ولا يموت إلّا صلّوا على جنازته واستغفروا له بعد موته)[7]،
وكذلك عنه(عليه السلام): (مَن أتى الحسين عارفاً بحقّه غفر الله له ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر) [8]، وعن الإمام الرضا(عليه السلام) قال: (إنّ لكلّ إمام عهداً في عنق أوليائه وشيعته، وإنّ من تمام الوفاء بالعهد زيارة قبورهم، فمَن زارهم رغبة في زيارتهم، وتصديقاً بما رغبوا فيه، كان أئمّتهم شفعاءهم يوم القيامة) [9].
إذاً؛ فالروايات ـ كما هو واضح ـ لا تفرّق بين المرأة والرجل، بل تشمل كلّ مَن اعتقد بالإمامة والولاية للإمام الحسين(عليه السلام)، وتضمن الأجر لكليهما معاً، تماماً كما أمر الله بوجوب القيام بكلّ عمل فيه أجر، ووعد بمضاعفته، من دون فرق
بينهما، قال تـعالى: (فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ)[10]، وقـال(عز وجل): (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ)[11]، وقوله تعالى: (وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتَ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَـئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيرًا)[12].
إضافة الى ذلك، الروايات الواردة في حثّ المرأة على زيارته(عليه السلام)، كما في رواية مسندة عن أُمّ سعيد الأحمسية، قالت: قال لي أبوعبد الله(عليه السلام): (يا أُمّ سعيد، تزورين قبر الحسين(عليه السلام)؟ قالت: قلت: نعم.قال: يا أُمّ سعيد، زوريه؛ فإنّ زيارة الحسين(عليه السلام) واجبة على الرجال والنساء)[13].
ولنتأمّل ما حكاه الرجل الذي دخل على الإمام موسى بن جعفر(عليه السلام)، فقال له: (جُعلت فداك، إنّ الحسين(عليه السلام) قد زاره الناس، مَن يعرف هذا الأمر ومَن ينكره، وركبت إليه النساء…فقال: …فو الله، ما أتى الحسين آتٍ عارفاً بحقّه، إلّا غفر الله له ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر)[14].
وفي حديث الإمام الصادق(عليه السلام) مع عبد الله بن حماد البصري، أنّه(عليه السلام) قال له: (بلغني أنّ قوماً يأتونه [أي: قبر الحسين(عليه السلام)]من نواحي الكوفة، وناساً من غيرهم، ونساءً يندبنَه، وذلك في النصف من شعبان، فمَن بين قارئٍ يقرأ، وقاصٍّ يقصّ، ونادبٍ يندُب، وقائل يقول المراثي؟ فقلت: نعم، جُعلت فداك…فقال: الحمد لله الذي جعل في الناس مَن يَفِد إلينا…)[15].
إذاً؛ هناك ـ في موروث أئمّة أهل البيت(عليهم السلام) ـ دعوة صريحة لحضور المرأة في الزيارة، وهو ما يكشف عن حرص أئمّة أهل البيت(عليهم السلام) الشديد على تأصيل جذور الزيارة في قلب كلّ إنسان، ومنه المرأة؛ لتبدأ في أداء مهمّتها التربوية والأخلاقية، وممارسة نشاطها الفاعل في تهذيب النفس على أوسع نطاق؛ لأنّ النصوص التي يُزار بها الإمام الحسين(عليه السلام) تشتمل على تعهّد الزائر أمام الله(عز وجل)، وعقدٍ يبرمه مع المزور بوجهٍ خاصّ، على أن يبقى أميناً على عهده وطريقته وسنّته،
فمن النصوص الواردة في بعض الزيارات التي تؤكّد ما ذهبنا إليه، هي: (وأُشهد الله تبارك وتعالى وكفى به شهيداً، وأُشهدكم أنّي بكم مؤمن، ولكم تابع في ذات نفسـي، وشرائع ديني، وخاتمة عملي ومنقلبي ومثواي)[16].فالمعروف أنّ من دوافع الزيارة عند الناس، هو إظهار ما في خوالج الزائرين من حبّ المزور ومودّته وتكريمه، وهذا الأمر بحدّ ذاته يلقى قبولاً واسعاً، وعاملاً مشجّعاً لشدّ الرحال إلى الإمام، والحضور عنده، وإجراء مراسم الزيارة.
وثمّة مَن يرى (أنّ أئمّة أهل البيت(عليهم السلام) جعلوا من الزيارة مؤسّسة فكرية سياسية اجتماعية، أرادوا أن يجعلوا الإنسان الشيعي على صلة حيّة ومباشرة بمنابع إسلامه في الفكر والنظرية، في التطبيق والممارسة)[17].فقد انصبّت عناية أئمّة أهل البيت(عليهم السلام) على تسليط الضوء على نهضة الإمام الحسين(عليه السلام) بشكل مكثّف ومستمرّ،
حتّى جعلوا لذكرى الإمام(عليه السلام) حضوراً قويّ الإيحاء في أذهان الناس، ولعلّ السبب في ذلك يعود إلى أنّ ثورة الإمام الحسين(عليه السلام) هي أعظم الأحداث مأساويةً، وأشدّها نزوعاً إلى النُّبل، وقُرباً إلى قيم السماء؛ ولذا فإنّ نهضة الإمام تتمتّع بقدرة كبيرة على التأثير، وعلى رسم النموذج التضحوي للإنسان المسلم في مواجهة الصعوبات، ومعمل مثالي لتحويل الموقف الفكري إلى مسلك وحركة في الحياة اليومية.
ولا يفوتنا التذكير بضرورة أن تؤثّر الزيارة أثرها؛ إذ لا بدّ أن تكون عن وعي وفهم لدور المزور في حركة الإسلام، وموقفه من الجهاد في سبيله، فإنّ حالة الوعي هذه هي المعنيّة في النصوص الكثيرة التي وردت في شأن مَن زار الحسين (عارفاً بحقّه)، فإنّ هذه المعرفة بحقّ المزور تعني الوعي لدوره الذي أنجزه في حياته، ولمركزه في قيادة الإسلام، في مجالي التشريع والتطبيق، وحينما تُمارَس الزيارة في ضوء هذا الوعي تُعزِّز في قلب الزائر وفي عقله صلته بالإسلام المتحرّك الفعّال.
إنّ زيارة الإمام الحسين(عليه السلام) ليست عملاً دنيوياً، بل إنّها عبادة روحية وعمل يُراد به التقرّب إلى الله تعالى، فلا بدّ أن تُوضع في إطارها الصحيح الذي رسمه أهل البيت(عليهم السلام)، ولا تغدو مجرّد عمل تكريمي احتفالي يقوم به إنسان حيّ لتكريم إنسان ميّت، وعلى الزائر أن يجدّد صلته بالإسلام، ويُعاهد الله على التمسّك به، والحفاظ عليه، وتطبيقه في حياته[18].
وقد كان أهل البيت(عليهم السلام) يعلّمون شيعتهم زيارة الحسين(عليه السلام)، فـ(كانوا(عليهم السلام) قدوة لشيعتهم في هذا الأمر، وأقدم ما نعرف من ذلك هو فعل الإمام زين العابدين علي بن الحسين(عليه السلام)؛ فقد كان يقدم من المدينة إلى كربلاء لزيارة قبر أبيه، فقد شاهده بعض شيعة أهل البيت في مسجد الكوفة، ولمّا تعجّب من وجوده، وقال له: ما أقدمك بلاداً قُتل فيها أبوك؟ أجابه: زُرت أبي وصلّيت في هذا المسجد)[19].
فالزيارة ـ في أصل نشأتها ـ مشروع وخطّة عمل وضع أساسها الأئمّة(عليهم السلام)؛ ليدور الناس حول ركنٍ لا يجد الساعي صلةً تؤدي إلى الله سبحانه أقرب وأسرع منه.
المردود الإيجابي لزيارة المشاهد المقدّسة
إنّ أرباب الأُمم ودعاة إصلاحها أخذوا على عاتقهم تربيتها، عن طريق ربطها بجملة ممارسات تستهدف إصلاح الفرد داخل المجتمع، سواء كان ذكراً أم أُنثى، وتسوقه باتجاه تهذيب مساراته وتصحيح ما يعتريها من شوائب الوافد والدخيل، ولعلّ زيارة الإمام الحسين(عليه السلام) إحدى هذه الممارسات التي أكّدها أئمّة أهل البيت(عليهم السلام)؛ لاستنشاق عبير ثراه المعطّر بعطر الإباء والوفاء والاستقامة على دين الله وشريعته، باستحضار موقفه الصلب، ودفاعه ببسالةٍ وروحٍ ملؤها الإيمان بالله ضدّ الظلم والانحراف.
وإن كانت الزيارة بحدّ ذاتها تحمل معاني من قيم المزور وما جرى عليه من ظلم وتعدٍّ، وتجاهل لحقّه يوم استشهاده، إلّا أنّ حضور الزائر عند قبره المقدّس يُشكّل إضافةً نوعيةً تزدهر روحه على أعتابها، وتفرض عليه استحضار الموقف المؤلم، فيبدو صغيراً أمام قامةٍ شامخة جسّدت عظيم ما قدّمه الإمام وصحبه وأهل بيته في جنب الله، فتبدأ النفس في استرداد التاريخ، وتلقّي هذه الإشعارات؛ لتعتمل في الذات رغبة الانتماء إلى الخلود الذي تزاحم على قبته المنيفة.
هل نالت المرأة في زيارتها للمعصوم نفعاً تؤمّلُه الرواية؟
المرأة بحكم وضعها الخاص، وما يميّزها من أحكام، يجب عليها أن تعي بأنّها تشترك مع الرجل فيما ينبغي أن ينتفع به من الزيارة، وتتميّز عنه بخصوصيتها الأُنثوية، وتركيبتها الجسدية، فإنّ ما يشترط عليها الدين المقدّس من ضوابط هي من نوعٍ خاصّ، تستدعي الانتباه إليها والتعامل معها بما يتّفق مع الموازين الشـرعية.
لقد تسارعت الأحداث لتسجّل المرأةُ ـ في يومنا هذا ـ أقوى حضور لها في الساحة الاجتماعية، قياساً لما مضى من العقود والقرون المتقدّمة، فواكبت التطوّر، وظهرت بشكل علني، وبدأت بمنافسة الرجل في كلّ مرفق من مرافق الحياة، وعلى كلّ الأصعدة، فاستُدرجت من حيث لا تدري، حتّى زُيّن لها أنّ التواجد والحضور بهذه القوّة يُلزمها التنويع في الشكل والهيئة، ومسايرة الآخرين (الأجانب) في الملبس والمظهر، على الرغم من اختلاف المشرب وتباين الاعتقاد، فراحت ـ من دون أن تكترث لموافقات مبدئها ـ تجري على ما يحلو لها، دون الالتفات إلى تاريخها المليء بصنوف النساء اللاتي حملنَ مشاعل العفّة والوقار، وعملنَ على تجسيد المُثل العليا ومعارف القرآن الكريم، كسيّدة النساء فاطمة الزهراء(عليها السلام)، والسيّدة زينب(عليها السلام)، ولم يتوقّف الأمر عند هذا الحدّ، حتّى بسطت نفوذها بدواعي التحرّر، وتحت شعار (الحرّية الشخصية)، والتجاوز على الساحة العامّة والخاصّة.
ومثالنا على حضورها السلبي في الساحة العامّة هي (الجامعة)، التي ما فتئت تمارس حرّيتها على نمطٍ لم يسبق للمرأة العراقية أن تكون عليه، فالاعتداد بالنفس، والظهور المتّشح بأعلى درجات البهرجة في الملبس والزينة، التي لا أكاد أشكّ في أنّها واقعة تحت تأثيرات الثقافة الوافدة، وأنّها تقمّصت الشخصية التي توافرت عليها من خلال المسلسلات الأجنبية والعربية، فأصبحت تعدّها مثلاً أعلى لواقع تحلم العيش بمواصفاته، ولم تأبه بتكوين شخصيةٍ مستقلّةٍ اعتماداً على الموروث الديني والموروث العشائري المحتشم؛
لذا، فهي اليوم فريسة لأطماع ما يُسوّقه لها تجّار الهوى والتحلّل، حتّى بلغ الأمر ببعض الطالبات أنّها تستأنس بالحديث وباصطحاب الرجال أكثر من الاستئناس بالنساء ومجاورتهنّ، ويُستثنى من ذلك الكثير من الطالبات اللاتي يقمنَ بتمثيل الدور الزينبي، ويجاهدنَ من أجل الحفاظ على الفطرة السليمة من أن يسبق إليها نزوع النفس الأمّارة.
وثمّة سؤال يفرض نفسه في الأجواء العاشورائية الحزينة، وهو: ما الذي يجعل بعض الفتيات يحرصن على ارتداء السواد، وإظهار الحزن والجزع على الإمام الحسين(عليه السلام)، والمداومة على الحضور في المجالس الحسينية التي تقام هنا وهناك، وفي الوقت ذاته لا يكترثن مثلاً بصون حجابهنّ، ورفع صوتهنّ، أو بوضع الأصباغ المثيرة لنظر الشباب، وكذلك جرأتهنّ في التعامل مع أصحاب المحالّ التجارية، والتقاطهنّ الصور في كلّ مكان، حتّى بالقرب من الأماكن المقدّسة؟
هذا ما يُشكّل بالفعل تناقضاً واضحاً، وتساؤلاً مشروعاً عن مدى التطبيق العملي لهذه المواساة وهذا الاستذكار، إذا ما عادت الفتاة بمجرّد خروجها من الحرم الشريف إلى ممارسة نفس أخطاء ما قبل الزيارة، من قلّة احترام الوالدين، وعدم تقديس الحياة الزوجية، وعدم الاكتراث بمستقبل الأبناء، وضعف الجانب العاطفي، وتغليب الجانب المادي في الحياة، إلى جانب الاستهانة بموضوع الحجاب الزينبي، والاستخفاف بأداء صلاتها بالشكل الصحيح؛ لانشغالها بالهاتف أو التلفاز أو بأحاديث غير مجدية، والحال أنّ الإمام الصادق(عليه السلام) يُخبر: (إنّ شفاعتنا لا تنال مستخفّاً بالصلاة)[20].
إمكانية المعالجة
وللإجابة يمكن القول ـ ابتداءً وقبل كلّ شيء ـ بأنّ حضور هذه الفتيات في المجالس الحسينية، أو المشاهد المقدّسة لأئمّة أهل البيت(عليهم السلام)، ولبسهنَّ السواد، وذرف الدموع، وإظهار الجزع، هو حالة إيجابية بحدّ ذاتها، ومؤشّر يدلّ على صفاء ونقاء تلك الفتيات، فضلاً عن سلامة فطرتهنَّ، إلّا أنّهنّ بذات الوقت لا يملكنَ الوعي الكامل بما يجب عليهنّ فعله، وهذا ما يُشكّل خللاً في معرفة فحوى الدين وروحه.
وهنا يأتي دور ومسؤولية العلماء والمبلّغين، وأولياء الأُمور، وأساتذة الجامعات، وكلّ مَن تقع عليه مسؤولية تنشئة الأجيال، وتعريفهم بأنّ كلّ تلك المظاهر لا تُرضي الإمام الحسين(عليه السلام)، الذي اختزل كلّ طاعات أنبياء الله وأوصيائه لربّهم (جلّ وعلا) بطاعته لله يوم الطف، وضرب أروع مثال للعبودية، بأن أعطى كلّ ما يملك؛ ليجسّد تلك الطاعة والعبودية، وبالتالي لن يرضى بتلك المظاهر من دون أن يسبقها ويرافقها طاعة مطلقة لأوامر الله واجتناب معاصيه، وهذا ما قاله الإمام أبو جعفر(عليه السلام): (فو الله، ما شيعتنا إلّا مَن اتقى الله وأطاعه)[21].
ثم إنّنا لا ننسى أنّ الشباب بصورة عامّة، والفتيات بصورةٍ خاصّة، يعيشون حالة حربٍ مستعرة شعواء لا تتوقّف، ولا نقصد بها حرب سلاح في الميدان، وإنّما هي حرب التكنولوجيا التي تُحاصر شبابنا وتلاحقهم في كلّ مكان، حتّى في غرف نومهم، وسياراتهم، وقاعات دراستهم؛ وهذا ما يجعل المسؤولية الملقاة على عاتق الجميع، مسؤولية مضاعفة وتضامنية،
ويمكن القيام بها عبر تفعيل حديث الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فهو حديثٌ لا شكّ في فاعليته، وما تضحيةُ الشباب بأنفسهم اليوم ـ حين لبّوا نداء المرجعية في الدفاع عن بلدهم ومقدّساتهم ـ إلّا مصداق واضح لتأثـّرهم بالإمام الحسين(عليه السلام)، واستذكارهم لتضحياته العظيمة من أجل دين الله، حتّى هانت عليهم أنفسهم؛ ليقدّموها في سبيل الله تعالى، وما صبر الأُمّهات وأهازيجهنّ على جثامين أولادهنّ الشهداء، وهنّ يهتفنَ للتعبير عن الرضا بقضاء الله، وإيمانهنَّ بسلامة المعتقد وسلامة الاختيار ـ وهنّ يودّعن أزواجهنّ المقاتلين أو أبنهائهنّ ـ إلّا مثال على التأسّي بنساء الركب الحسيني.
كما أنّ هناك فتيات بمستوى عالٍ من الوعي، يفخر المجتمع بحجابهنّ وعفّتهنّ، يُحاكينَ في ذلك حجاب وعفاف بنات الرسالة.
فزيارة الإمام الحسين(عليه السلام) عبر استذكار نهضته المباركة ينبغي أن يكون لها انعكاس على عموم المنظومة الاجتماعية اليومية للزائر، بحيث تكون منتجةً بنّاءةً بمثابة ثورة أو انتفاضة ضدّ الخطأ بكلّ أشكاله؛ إذ ما الفائدة المرجوّة من زيارة الإمام، والوقوف عند دور المرأة العظيم يوم عاشوراء، واستذكار ما جرى على بنات الرسالة، ووقفتهنّ الرسالية الصامدة، من دون أخذ الدروس والعبر؟!
لذلك؛ فإنّ الدعوة إلى الزيارة، واستحباب الحضور البدني عند قبر المعصوم لزيارته، يُخضع الزائرة إلى الشعور بوجود مراقب يُتابع مقدار حصول الأثر وما يترتّب عليه من بناء الذات، فإذا استحضرت الزائرة الأجواء الحقيقية لمقام المزور، عارفةً بحقّه، وأنّها تعيش وسط بيئةٍ خاصّةٍ لا تمتلك فيها سوى الالتزام والتفاعل معها على أكمل وجه ـ لا سيّما عند استمرار هذا الأمر ـ عادت لتؤكّد تفاعلها بزيارة جديدة وحضور آخر.
المرأة والتفاعل مع عنصر القوّة في واقعة كربلاء
لم يذكر التاريخ واقعةً أثّرت بنتائجها في مساحة واسعة من الأرض، شملت العالم على امتداده، كواقعة الطفّ والمصرع الرهيب لسبط رسول الله(صلى الله عليه واله).
من هنا؛ أخذت الحادثة تفرض نفوذها على المفكّرين وروّاد المعرفة؛ للكشف عن سرّ ذيوعها وانبساطها في ربوع الدنيا، كما لو كانت حادثة يدين لها العالم بنوع من التقديس، لم تسبقها صورة، ولم يتكرّر لها مثال؛ لشمولية النهضة وما وُصفت به من توافق المشتركين بها في الإصرار على المواصلة وتحقيق الهدف.
فإذا استثنينا موقف الإمام(عليه السلام) وإرادته القوية وإيمانه الثابت بضـرورة المضـيّ بمشـروع الله في تصحيح مسار الأُمّة الخاطئ، وما أخذه على نفسه الزكية من تقديمها فداء لذلك، تبرز لنا أهمّية الدور الذي اضطلعت به بنات الرسالة، ومقدار التفاعل الذي صاحب الموقف وكان سبباً في لهيب مشاعر الجماهير، فحضور المرأة في واقعة كربلاء دليلٌ على إنسانيتها، وانتمائها إلى مشـروع الأنبياء والمصلحين في الأرض، ونزوع النهضة إلى التصدّي لطواغيت العصر، والوقوف بوجه الظلم، وإعادة الحقّ إلى مركز انطلاقه، والشروع في بسط العدل والمساواة، وتوظيف قوانين السماء.
لذا؛ يكون للمرأة حقّ المطالبة بنصيب وافر من هذه الواقعة، وأن لا تنكفئ أو تنزوي بدواعي الشعور بضرورة التخلّي عن مسرح الحياة، والاعتقاد بأنّ الحادثة والاعتبار بها ممّا جُعل خاصّاً بالرجال؛ ومن ثمّ حرمانها من موارد الاشتراك مع الرجل فيما تؤول إليه زيارة الإمام من فائدة.
فهي فاجعة تُثير الأسى والحزن العميق، ومن ثمّ هي مسرح لعمليات تتمتّع بجاذبية خارقة، وضعتها في مستوى إنساني عالمي، فضلاً عن بُعدها الديني؛ لذا ينبغي على الجميع إنشاء مناخ اجتماعي ثقافي إسلامي لمواسم الزيارة بوجهٍ عامّ، وزيارة الإمام الحسين(عليه السلام) بوجه خاصّ، يشمل جميع الأجناس والأعمار والأوطان، وفي جميع الأوقات والحالات؛ لتكوين تيار بشري يتعاظم باستمرار، ليجرف ما علا سطح الأرض من زيف وانحراف.
النتائج
1ـ ممّا تقدّم يظهر أنّ لزيارة الإمام(عليه السلام) ضوابط شرعية وأخلاقية ينبغي على الزائر التقيّد بها، ففي الوقت الذي أظهر البحث موارد استحباب الزيارة ووجوبها في بعض الروايات، وأنّها مرحلة من مراحل تكامل الإنسان المسلم الزائر؛ لما تتركه الزيارة من أثر في تربيته الروحية والنفسية، فقد أُثبت من خلال الروايات حقّ المرأة في الحضور عند الإمام(عليه السلام) وزيارته عن قرب؛ لما يعتمل فيها الحضور من نشاط فاعل في بناء الذات، وإبرام العقد معه(عليه السلام) بالبقاء على سيرته وسنته؛ لأنّ زيارة الإمام تذكير بنهضته وما تتمتّع به هذه النهضة من قدرة على صنع جيل مثالي قادر على تحويل الموقف الفكري إلى سلوك وحركة وتطبيق.
2ـ أورد البحث علامات لقبول الزيارة، من خلال تنامي سلّم الأثر الذي تُـحدثه الزيارة في الزائر، فقد جرى تأكيد أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) على أن تكون الزيارة مقرونة بمعرفة الإمام؛ لما توفّرهُ المعرفة من مناخ صالح لإنتاج الوعي.
3ـ تحدّث البحث عن مشاهدات سلبية في المرأة المعاصرة؛ بسبب غياب الوعي، وانحسار تأثير الزيارة في المرأة الزائرة أيضاً، في ظلّ التحوّلات الحضارية الجديدة، وضرورة تشخيصها من ذوي الأمر للبدء في معالجتها.
4ـ جرى التأكيد على ضرورة تقمّص المرأة أخلاق المزور، لا أن تكون خلافاً لما استُشهد من أجله؛ لأنّ ذلك يعدّ تناقضاً لما تؤمّله الزيارة من نفع وأثر في الزائرة.
5ـ أظهر البحث فعل الزيارة المثمرة في الزائرين، ومن مصاديق ذلك موقف الرجال من فتوى الجهاد الكفائي البطولي، وموقف الأزواج والأُمّهات الوفيّات عند استشهاد ذويهنَّ.
6ـ الزيارة سنّة أسّس لها الأئمّة الأطهار (عليهم السلام) بدءاً من الإمام زين العابدين (عليه السلام) ؛ لذا ينبغي على الجميع ـ رجالاً ونساءً ـ استثمار ما يظهر من قِيَمها، وجعلها مركز انطلاق لتحرير العقل من الانحرافات، والثبات على قيم المزور، وعدم الاكتفاء بإطلاق الشعارات.
المصادر والمراجع
*القرآن الكريم.
بحار الأنوار، العلّامة محمد باقر المجلسي (ت1111هـ)، مؤسّسة الوفاء، بيروت ـ لبنان، 1403هـ/1983م.
ثورة الحسين في الوجدان الشعبي، محمد مهدي شمس الدين (ت1384هـ)، الدار الإسلامية، بيروت ـ لبنان، الطبعة الأُولى، 1400هـ/1980م.
زيارة الإمام الحسين(عليه السلام) (بحث استدلالي في روايات الوجوب)، الشيخ رافد التميمي، مركز الدراسات التخصّصية في النهضة الحسينية، قسم الشؤون الفكرية في العتبة الحسينية المقدّسة، الطبعة الأُولى، 1435هـ/2014م.
الكافي، الشيخ محمد بن يعقوب الكليني (ت321هـ)، تصحيح وتعليق: علي أكبر الغفاري، دار الكتب الإسلامية، طهران ـ إيران، الطبعة الرابعة، 1365ش/1987م.
كامل الزّيارات، جعفر بن محمد بن قولويه (ت386هـ)، دار الحجّة، قم ـ إيران، الطبعة الأُولى، 1435هـ.
مَن لا يحضره الفقيه، الشيخ محمد بن علي الصدوق (ت381هـ)، تصحيح وتعليق: علي أكبر الغفاري، مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين، قم ـ إيران.
ميزان الحكمة، محمدي الريشهري، تحقيق ونشر: دار الحديث، قم ـ إيران، 1416هـ.
الوافي، الفيض الكاشاني (ت1091هـ)، تحقيق: ضياء الدين الحسيني العلّامة الإصفهاني، مكتبة الإمام أمير المؤمنين علي(عليه السلام) العامّة، إصفهان ـ إيران، الطبعة الأُولى، 1406هـ.
وسائل الشيعة إلى تحصيل مسائل الشـريعة، محمد بن الحسن الحرّ العاملي (ت1104هـ)، تحقيق ونشر: مؤسّسة آل البيت(عليهم السلام) لإحياء التراث، قم ـ إيران، الطبعة الثالثة، 1414هـ.
اليقين باختصاص مولانا علي(عليه السلام) بإمرة المؤمنين، السيّد رضي الدين علي بن موسى بن طاووس الحلّي، تحقيق: الأنصاري، مؤسّسة دار الكتاب للطباعة والنشر، قم ـ إيران، الطبعة الأُولى، 1413هـ.
الهوامش
[1] جامعة كربلاء/كلّية التربية للعلوم الإنسانية/العراق.
[2] اُنظر: التميمي، رافد، زيارة الإمام الحسين(عليه السلام)..بحث استدلالي في روايات الوجوب: ص15ـ16.
[3] اُنظر: المصدر السابق: ص18ـ21.
[4] الفيض الكاشاني، محمد محسن، الوافي: ج1، ص215.
[5] عن أبي عبدالله(عليه السلام): (لو أنّ أحدكم حجّ دهره، ثمّ لم يزُر الحسين بن علي(عليهما السلام) لكان تاركاً حقّاً من حقوق الله وحقوق رسول الله(صلى الله عليه واله)؛ لأنّ حقّ الحسين فريضة من الله، واجبة على كلّ مسلم).ابن قولويه، جعفر بن محمد، كامل الزيارات: ص260.
[6] الكليني، محمد بن يعقوب، الكافي: ج4، ص٥٨١.
[7] ابن طاووس، علي بن موسى، اليقين: ص400 ـ ٤٠١.
[8] ابن قولويه، جعفر بن محمد، كامل الزيارات: ص289.
[9] الصدوق، محمد بن علي، مَن لا يحضره الفقيه: ج٢، ص٥٧٧.
[10] آل عمران: آية195.
[11] النحل: آية97.
[12] النساء: آية124.
[13] يقول صاحب الوسائل: (وروى ابن قولويه هذا الحديث من عدّة طرق بأسانيد كثيرة).الحرّ العاملي، محمد بن الحسن، وسائل الشيعة: ج14، ص437.
[14] الريشهري، محمد، ميزان الحكمة: ج2، ص1522.
[15] ابن قولويه، جعفر بن محمد، كامل الزيارات: ص584.
[16] المصدر السابق: ص438.
[17] شمس الدين، محمد مهدي، ثورة الحسين في الوجدان الشعبي: ص58.
[18] اُنظر: المصدر السابق: ص60ـ62.
[19] المصدر السابق: ص65.
[20] الصدوق، محمد بن علي، مَن لا يحضره الفقيه: ج١، ص٢٠٦.
[21] الكليني، محمد بن يعقوب، الكافي: ج٢، ص٧٤.
المصدر: مجلة الإصلاح الحسيني – العدد الثالث والعشرون