الاجتهاد: الشيخ أحمد الوائلي، وهو خطيبٌ مبرّز، وأديبٌ وشاعرٌ، ودرس في النجف وتخرّج من جامعة بغداد، وحصل على الدكتوراه من جامعة القاهرة. وظلّ يرتقي المنبر الحسيني لأكثر من خمسين عاماً، تمدّه معرفته العلمية الموسوعية، وانفتاحه على الثقافات والمذاهب، بما أهله للقب عميد المنبر، اعترافاً بدوره في تقديم السيرة الحسينية بما يليق بها من بهاء وموضوعية، وصدق وجلال. تحرير: قاسم حسين ؛ كاتب بحريني
شهد العالم العربي مطلع القرن العشرين، هجمةً شرسةً من الناحية السياسية والعسكرية، والاقتصادية والفكرية، بحيث استنفر المفكرون وعلماء الدين للدفاع عن حياض الأمة.
مع نهاية الحرب العالمية الأولى، كانت الدولة العثمانية قد سقطت، وتوزّعت فرنسا وبريطانيا أسلابها وغنائمها. وواجه العرب هزةً عنيفةً في الداخل، من جهة التشكيك في دينهم وثقتهم بذاتهم وانتمائهم الحضاري. وهو الواقع الذي نعيشه اليوم، مع تقويض المنطقة وإشغالها في الحروب والفتن والنزاعات الطائفية.
في تلك الفترة، تصدّى العلماء والمثقفون للموجة الغازية، وتولّوا تحصين الأمة أمام المد العاتي، وسعوا لإعادة تقديم التاريخ للجيل الجديد، مثل طه حسين الذي كتب عن السيرة، والعقاد في عبقرياته، ومحمد حسنين هيكل عن «محمد»، وأحمد أمين في فجر وضحى الإسلام، وحتى بعض كتابات توفيق الحكيم. ونتكلّم عن مصر لأنها كانت أم العرب، وحاضنتهم وقاطرة سفينتهم.
في خطٍ موازٍ، كانت الحواضر الشيعية في الشام والعراق تشهد عملاً مماثلاً، ومراجعة داخلية للتاريخ الذاتي، الذي تمثل واقعة كربلاء قلبه وجوهره وقطب رحاه.
وبرزت في ميدان الإحياء الديني أسماء مثل المحقق عباس القمي المولد والمتوفى في النجف 1940، وهو صاحب أشهر كتاب أدعية لا يخلو منه مسجدٌ أو بيتٌ شيعي: «مفاتيح الجنان»، ليكتب عدة مؤلفات في السيرة الحسينية.
وكان لافتاً جداً اهتمام السيد محسن الأمين، وهو من أكبر المصلحين في التاريخ الشيعي المعاصر، بالكتابة عن السيرة. فهذا الرجل الذي وُلد في جبل عامل (1865) واستوطن دمشق ودُفن بجوار مقام السيدة زينب بريف دمشق (1952)، شارك في الثورة العربية الكبرى.
وقد اهتم بإصلاح المنبر الحسيني، وحارب الممارسات الدخيلة على التشيع ولقي جراء ذلك مقاومة عنيفة وتعرّض للتشهير والتكفير، ليس من قبل العامة فحسب وإنّما من بعض رجال الدين، ولم يشفع له عندهم إخلاصه وطولُ خدمته للدين.
الإمام عبدالحسين شرف الدين اسمٌ عاملي كبير آخر، أسهم في كتابة السيرة المنقحة. السيد وُلد بالكاظمية في العراق، وشارك في مقاومة الاستعمار بالشام فحكم عليه الفرنسيون بالإعدام وأحرقوا بيته ومكتبته، فلجأ إلى مصر حيث استقبله الوطنيون هناك، وبقي لفترة حتى عاد إلى بلاده بعدما استقرت الأوضاع. وله عدة مؤلفات خالدة كـ «المراجعات» و «النص والاجتهاد» و «الفصول المهمة في تأليف الأمة»، وتوفي في صور 1957 ودُفن في النجف.
أما السيد عبدالرزاق المقرّم، وهو خطيبٌ ومحقّق، فقدّم أهم كتاب محقق مدقق للسيرة الحسينية، وتُوفي 1971 ودُفن بالنجف أيضاً.
هذه الأسماء الأربعة الكبيرة في عالم التشيع، (مرجعان دينيان، ومحقّقان كبيران)، التي تغطّي القرن العشرين، تدل على استشعار عام للخطر الفكري منذ بدايات النهضة العربية.
ولذلك أولوا السيرة اهتمامهم ولم يتركوها على ما هي عليه، حيث خصّصوا جزءاً كبيراً من وقتهم وجهودهم لتحريرها من الخرافات والمبالغات والروايات الضعيفة التي حرّفت وشوّهت تاريخ كربلاء.
ليس بمقدورنا الإحاطة بكافة أطراف هذا الموضوع المترامي الأطراف، وإنّما هي إشارات عجلى تفرضها طبيعة الكتابة الصحافية، والأمر مطروحٌ للمقتدرين والباحثين الجادين للإسهام في تنقية وتصحيح التاريخ.
ولاشك في وجود أسماء كثيرة أخرى نجهل الكثير منها، وأحياناً نطلع عليها بالصدفة عبر هذا المصدر أو ذاك. لكن تبقى هناك إسهامات الشيخين العامليين الكبيرين، محمد جواد مغنية، ومحمد مهدي شمس الدين، إلى جانب المرجع الديني السيد محمد حسين فضل الله.
في الطرف الآخر من المعادلة، تبرز تجربة «منتدى النشر» في العراق، التي تأسست في 1935، بهدف النهوض بواقع الحوزات الدينية والمجتمع بوجه عام.
وفي 1936 وضعت خطة لتأسيس مدرسة عليا للعلوم الإسلامية باسم «كلية الاجتهاد». وفي 1951 وُضع الأساس لكلية منتدى النشر، التي أصبحت «كلية الفقه» وحظيت بدعم المرجع الأعلى السيد محسن الحكيم.
وقد شكلت عدة لجان علمية، باسم «أسرة التحقيق والنقد»، و «أسرة النشر»، و «الوعظ والخطابة» التي تطوّرت إلى اقتراح فكرة إنشاء «كلية» بالاسم نفسه، إلا أنها عُرقلت بسبب مناهضة بعض الخطباء ورجال الدين، بتهمة «الخروج على شعائر الحسين وتزوير التاريخ»!
من بين هذه النخبة التي تزعمها الشيخ محمد حسين المظفّر، برز اسم الشيخ أحمد الوائلي، (ره) وهو خطيبٌ مبرّز، وأديبٌ وشاعرٌ، ودرس في النجف وتخرّج من جامعة بغداد، وحصل على الدكتوراه من جامعة القاهرة.
وظلّ الدكتور أحمد الوائلي (ره) يرتقي المنبر الحسيني لأكثر من خمسين عاماً، تمدّه معرفته العلمية الموسوعية، وانفتاحه على الثقافات والمذاهب، بما أهله للقب عميد المنبر، اعترافاً بدوره في تقديم السيرة الحسينية بما يليق بها من بهاء وموضوعية، وصدق وجلال.
المصدر: صحيفة الوسط البحرينية