الاجتهاد: رؤية فقهية لحقوق الإنسان .. لولا للإسلام نظرة إلى ضرورة كون التعامل مع الإنسان قائماً على الكرامة المراعية لحقوقه ومكانته وسلامة مجتمعه لما كان يريد منا تحقيق هذه الظواهر الكبرى التي تشكل البنى التحية للمجتمع الإنساني بالنسبة إلى عموم الناس.
قراءة للمقالة التي شارك بها سماحةفي ندوة (الفقه الإسلامي: المشترك الإنساني والمصالح) بعنوان رؤية فقهية لحقوق الإنسان، نشرت يوم الجمعة 11 كانون الأول 2015 في جريدة الوطن العمانية.
الكرامات الثلاثة للإنسان: الكرامة التكوينية، والكرامة الاجتماعية (الحقوقية)، والكرامة الكمالية
وإليكم النص الذي نشرته الجريدة مع تعديلات طفيفة:
أقيمت خلال الفترة من 6 إلى 9 جمادى الثانية 1435ه الموافق 6 إلى 9 ابريل 2014م ندوة تطور العلوم الفقهية في نسختها الثالثة عشرة والتي جاءت بعنوان:(الفقه الإسلامي: المشترك الإنساني والمصالح) .. والتي تنظمها وزارة الأوقاف والشؤون الدينية العمانية .. حيث شارك في الندوة علماء ومفكرون وباحثون من داخل السلطنة وخارجها .. وتناولت أوراق عمل وبحوثاً هامة.
وضمن تلك البحوث والأوراق المقدمة .. ورقة عمل بعنوان: ( رؤية فقهية لحقوق الإنسان ) للباحث أحمد مبلغي.
استهل الباحث الدكتور أحمد مبلغي حول هذه النقطة متسائلاً: هل الكرامة الحقوقية والاجتماعية تثبت للإنسان بسبب ثبوت الكرامة التكوينية للإنسان، أو بسبب الكرامة الكمالية؟
فلو كانت الكرامة التكوينية هي معيار ثبوتها فاللازم من ذلك أن تكون الكرامة الاجتماعية ذاتية للإنسان، فكانت النتيجة ثبوتها لكل إنسان ولا يمكن سلبها من أي أحد، منوها بقوله: أما لو كانت الكرامة الكمالية هي السبب لحصول الكرامة الاجتماعية فليست الكرامة الاجتماعية ذاتية للإنسان بل ثابتة له بضميمة قيد وهو قيد التقوى، وعليه فليست هي ثابتة لكل أحد بل للمتقين فقط وينسلب عنه فيما إذا فقد تقواه،
موضحاً أن الكرامة الكمالية التقربية لا يمكنها أن تكون كمعيار يثبت به الكرامة الحقوقية بدليل أن هذه الكرامة الكمالية لو أصبحت معياراً للكرامة الحقوقية للإنسان فذلك يعني أنها أصبحت عاملاً لجذب الإمكانيات الاجتماعية والمزايا المادية والتمتع من المواهب الدنيوية، وسبباً لتبعيضهم على سائر العباد الذين هم كلهم عيال الله، وقد جعل الله الأرض لهم والطيبات لاستفادتهم،
فالكرامة الكمالية واقعها التقرب من الله سبحانه، والتقرب يعني السعي للخروج من الضيق والقرب من الرحمة الإلهية وبما أن الرحمة الإلهية رحمة عامة للبشر، فكيف يمكن أن يكون التقرب منه هو السبب لجذب الإمكانيات الاجتماعية والمادية التي يكون التمتع منها ما هو المقصود من الكرامة الحقوقية؟!.
وقال: وممّا يدلّ على عدم انحصار الكرامة الاجتماعية بالمؤمنين، بل هي لكل من هو إنسان، ما يلي:
أولاً: نوعية العلاقة التي أراد الإسلام إقامتها في المجتمع الإنساني، حيث تشاهد في الإسلام أحكام تتمحور حول الإنسان في ساحة العلاقات الاجتماعية وهذه الأحكام تنادي بتبنّي الإسلام فكرة الكرامة للإنسان بما هو الإنسان،
ويمكننا صوغ ذلك في مقدمتين:
الأولى: أن الإسلام ركّز على عنصر الناس في جملة من أحكامه الاجتماعية مما يبدو منها أن الإسلام أراد أن تتحقق الكثير من النشاطات الاجتماعية بالانطلاق من النظر إلى الناس ورعاية حالهم،
والثانية: أن كلمة الإنسان ـ کما هو معلوم ـ لها تغطية استيعابية تشمل جميع ما يحمل عنوان الإنسان مهما كان توجهه واتجاهه ودينه، أما المقدمة الثانية فهي معلومة ولا غبار عليه،
وأما المقدمة الأولى: فيكفينا لإثباتها أن ننظر نظرة خاطفة إلى النشاطات التي ربطها الإسلام بالناس، مما يرشدنا إلى أن الإسلام قد تبنّى فكرة أن تقام العلاقات الاجتماعية بما يراعي كرامة الإنسان وحقوقه، والنشاطات الاجتماعية التي أراد الإسلام تمحورها حول الإنسان هي ذات نطاق واسع جداً يمكن إيجازها تحت جملة من الأحكام المتعلقة بعدة من الظواهر الإنسانية المهمة الكبرى؛ مثل: الأمر بإيجاد ظاهرة القول الحسن على المستوى الإنساني: قال سبحانه:(وقولوا للناس حسناً).
مشيراً مبلغي إلى الأمر بإيجاد ظاهرة البر الاجتماعي على المستوى الإنساني، وقال: وهذا مستفاد من قوله سبحانه:(لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم ..)
ودلالته تتضح بذكر مقدمتين:
الأولى: أن البر بما أنه يمثل الأخلاق، والأخلاق ـ كما هو معلوم ـ يتم في درجة أعلى من الدرجة التي يتم فيها العدل، بمعنى أنه إذا تم تعامل مع شخص مع الأخلاق فهو يعني أنه روعي حقوقه مع أمر أكثر،
والثانية: أن الآية إذا دلت على لزوم التعامل بالبرّ على المستوى الإنساني (لا فقط المسلمين) فهي تدل على لزوم رعاية التعامل القائم على رعاية الحقوق الاجتماعية، لأن البر الإنساني كيف يقام في الظروف التي لا تراعي فيه الحقوق الاجتماعية التي تسكن النفوس إليها.
وقال: إن الأمر بإيجاد ظاهرة العدل الاجتماعي على المستوى الإنساني: وهذا مستفاد من تتمة الآية المذكورة: (.. وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين) ودلالته من جهة أنه لا يقصد من ثبوت الكرامة الحقوقية للأفراد إلا أن يكونوا بحيث يتعامل معهم تعاملاً قائماً على أساس القسط بعيداً عن أي ظلم أو تبعيض، وبما أن الآية أمرت بالقسط إلى اللذين ليسوا من المسلمين، فيفهم من ذلك أن الكرامة الحقوقية ليست منحصرة بالمسلمين أو المؤمنين منهم.
مشيراً إلى أن النهي عن ظاهرة العدوان: قال سبحانه:(ولا تعاونوا على الإثم والعدوان) ودلالته على نفي العدوان واضحة، حيث أن الأمر بإيجاد ظاهرة الإحسان على المستوى الإنساني، في قوله سبحانه:(وأحسن كما أحسن الله إليك)، وقال سبحانه:(إن الله يأمر بالعدل والإحسان)، ولولا للإسلام نظرة إلى ضرورة كون التعامل مع الإنسان قائماً على الكرامة المراعية لحقوقه ومكانته وسلامة مجتمعه لما كان يريد منا تحقيق هذه الظواهر الكبرى التي تشكل البنى التحية للمجتمع الإنساني بالنسبة إلى عموم الناس.
وقال رئيس جامعة المذاهب الإسلامية وممثل إيران في الندوة: ولعل قائلاً يقول: إن الموارد المشار إليها بمعزل عن الفقه، غير أن الجواب أن جملة كبيرة منها إما فيها الأمر أو النهي وهما أساسان في تشكيل الفقه ـ كما هو معلوم ـ نعم ربما أمكن القول إن الفقه الكلاسيكي يعاني من حالة نقص في تغطيته لفقه العلاقات التي هي مصب تحقق كرامة الإنسان والتي ينبغي أن تطرح فيه هذه الظواهر، وهذه ليست مشكلة ونقصاً للشريعة، وإنما لتجربتنا في تكوين تلك المجالات التي تتعلق بالعلاقات الاجتماعية من الفقه،
ثانياً ـ سيرة النبي الأعظم (صلى الله عليه وسلم): قد استقرت سيرة النبي الأعظم (صلى الله عليه وسلم) على التعاشر الأخلاقي والتعامل العادل مع المشركين في مكة وأهل الكتاب في المدينة، مما يدل على ان الإسلام يرى أن للإنسان كرامة اجتماعية مهما كان دينه،
ثالثاً: ما روي من أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قام لجنازة يهودي، فقيل له: إنها جنازة يهودي، فقال:(أليست نفساً)، وهذا الكلام يدل على ثبوت الكرامة لمطلق نفس الإنسان ولو نفس من ليس مسلماً،
رابعاً: قول الإمام علي بن أبي طالب (كرم الله وجهه) لمالك الأشتر حينما أرسله إلى مصر:(ولا تكونن عليهم سبعا ضاريا تغتنم أكلهم، فإنهم صنفان: إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق).
وقال: وبالنسبة إلى القسم الثاني فهو ما يتوقف على تحققه الكيان الشخصي للفرد كحق الحياة، حيث جاء في المادة (3) من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان ان لكل فرد الحق في الحياة، أما الإسلام فقد أولى اهتماماً بالغاً بهذا الحق، ومنحه مكانة أساسية ومحورية في شريعته، ويتضح ذلك بالالتفات إلى ما يلي:
قتل فرد واحد بمثابة قتل الجميع، حيث يعتبر من منظور الإسلام قتل فرد واحد بمثابة قتل الناس جميعاً وإحياءه بمثابة إحياءهم جميعاً، قال تعالى:(مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا).
مبيناً بقوله: وهذا المنطق يعطي إلى (حق الحياة) أصالة وقوة لا يمكن أن نجدهما في الأدبيات الرائجة في غير الإسلام حول حق الحياة، فأصل تقديم حفظ النفس هو إن نظرة خاطفة إلى الفقه تكشف لنا أنه كيف جرى هذا الأصل كروح فعالة وحاضرة داخل مسائل فقهية في الأبواب المختلفة، فلم يحصل ـ في أي باب كان ـ دوران بين حفظ النفس وبين أمر آخر إلا وقد رجّحت الشريعة حفظ النفس عليه، مهما كانت أهمية ذلك الأمر،
قال في ذلك أحد الفقهاء:(لا يزاحم مع حفظ النفس شيء، بل يقدم حفظه على ما عداه) وقال فقيه آخر:(لا ريب أن حفظ النفس في نظر الشارع أقوى وأولى من غيرها)، منوهاً الى وجود إشارة بعض موارد هذا الدوران، حيث وجوب بذل الطعام إلى من اضطر إليه، دون أن يكون العوض لازماً وإن كان الثمن موجوداً، ووجوب أخذ الطعام من صاحبه فيما لو توقفت على أكله حياة الشخص وامتنع مالكه من بذله، وتقديم حفظ النفس على حفظ الوقف فيما وقع التزاحم بينهما، وتقديم حفظ النفس فيما يدور الأمر بينه، وبين الابتلاء بالنظر واللمس وأمثالهما، وجواز حفظ النفس المحترمة فيما إذا توقفت على الحلف مع الكذب، أولوية حفظ النفس من الهلكة من ترك شرب المسكر.
وأولويته من ترك أكل الميتة، بل هذان يحلّان حتى فيما إذا كان المقام (مقام الخوف على النفس)، تقديم (وجوب حفظ النفس المحترمة) على (حرمة التصرف في مال الغير من غير رضاه)، وموارد أخرى .. مما يدل بقوة على أن الشريعة اهتمت اهتماماً بالغاً بحياة الإنسان وحفظها، قال أحد الفقهاء:(وهذا الاستقراء مع ما علم من طريقة الشرع اهتمامه بحفظ النفس يقضي بارتفاع كل عقوبة وإثم عن فعل حرام أو ترك واجب إذا عارضه الخوف على النفس)، وكذلك أصالة عدم الاقتراب من كل ما يؤدي إلى الخطر على النفس.
فهناك كلمة في أدبيات الفقه تحمل معنى خاصاً، تمتلك مع هذا المعنى الخاص أداء مهماً في الاجتهاد، وهي كلمة (الأصالة) (أو كلمة الأصل)، فعند ما تضاف هذه الكلمة إلى شيء، فذلك يعني أن علينا في مساحة واسعة أن نتجه إلى تطبيق ذلك الشيء على الموارد، حتى في موارد الشك، والخروج عنه هو الذي بحاجة إلى الدليل، فبقدر سعة موضوع ما تضاف إليه هذه الكلمة يكون تطبيقها فعالاً،
وأمثلتها كثيرة، كأصالة الصحة وأصالة البراءة وأصالة الطهارة، والحقيقة أن هناك أصالة لم تبرز في أدبياتنا مع أن النصوص تعطينا فكرتها وهي: أصالة عدم الاقتراب إلى ما يسبب الخطر على حياة الإنسان، وتتجذر هذه الأصالة في أصول فكرية للإسلام، وهي: أصل (عدم الإلقاء في التهلكة) وأصل (عدم التعاون على العدوان) و(أصالة السلم) أو (أصالة عدم الحرب) وأصل (التركيز على عمران الأرض) وأصل (عدم السعي نحو الفساد) وأصل (المحافظة على بيئة حياة الإنسان) (وسيما المياه والأشجار) إلى ذلك من أصول أخرى .. مما يدل عليه النصوص المختلفة، وهذه الأصول كلها ترمي الى إيجاد أجواء نقية ونظيفة وهادئة للبشر كي يبقوا ويعيشوا ويتحركوا وينتفعوا من الطيبات التي أرادها الله لهم من الأرض التي وضعها لهم.
رؤية فقهية لحقوق الإنسان