الاجتهاد: بلغ عدد الرواة عن الإمام أبي محمد العسكري عليه السلام (١٠٣) كما في رجال الشيخ الطوسي، وإذا ضممنا إليهم ما ورد في رجال البرقي ومناقب ابن شهر آشوب ومسند الإمام الحسن العسكري ، وما وقعوا في إسناد الأخبار والتواقيع والمكاتبات، يكون العدد (٢١٦) من عير تكرار، وهو عدد كبير يدلّ على سعة الدور العلمي البارز الذي اضطلع به أصحاب الإمام الحسن العسكري مع قسوة الظروف المحيطة بعملهم.
لا ريب أن دور الأئمة عليهمالسلام في تبليغ أحكام الشريعة والتحديث والافتاء يختلف بحسب الظروف السياسية المحيطة بهم ، ومقدار الحرية المتاحة لهم ، وقد ذكرنا أنّ إمامنا العسكري عليهالسلام كان رهينة بيد السلطة التي مارست معه أعلى حالات التغييب والاقصاء ، فضلاً عن أنه عليهالسلام كان محكوماً بحالة الاحتجاب التي يهيء من خلالها شيعته لزمان الغيبة.
ورغم هذا وذاك استطاع إمامنا الممتحن عليهالسلام أن يقدّم إسهامات جادة على طريق الحفاظ على أصول الشريعة وقيم الرسالة ، وإيصال سنن جده المصطفى وآبائه الكرام ( صلوات الله عليهم ) إلى قطاعات واسعة من الأمة ، وذلك على يد ثلّة من أصحابه ووكلائه وطلاب مدرسته الفقهاء الرواة المنتشرين في طول البلاد وعرضها ، الذين حرصوا علي تبليغ رسالته عليه السلام وإيصال كتبه ورسائله ، وهي تحمل أحكام الشريعة وفكرها الأصيل ، إلى قواعده في مختلف ديار الإسلام.
ويمكن أن نتلمس دور الإمام الحسن العسكري عليهالسلام في تبليغ أحكام الشريعة من خلال النقاط التالية :
أولاً : الرسائل والمسائل التي رواها عنه عليهالسلام أصحابه أو أخرجها إليهم ، سيما التي تخصّ أحكام الدين وعلم الحلال والحرام ، وقد ذكرناها في أول هذا المبحث …
ثانياً : ما روي عنه عليهالسلام مكاتبة أو مشافهة في مجال الأحكام والسنن ، وقد بلغت أكثر من مئة حديث كما في مسنده عليهالسلام (١) ، وهي موزّعة على أبواب الفقه وموضوعاته المختلفة.
وروى عن الإمام الحسن العسكري العامة حديثاً في تحريم الخمر واعتمدوه في بعض مصنّفاتهم ، قال سبط ابن الجوزي في ترجمة الإمام عليهالسلام : « كان عالماً ثقة ، روى الحديث عن أبيه عن جده … ومن جملة مسانيده حديث في الخمر عزيز ، ذكره جدّي أبو الفرج في كتابه المسمى ( تحريم الخمر ) ونقلته من خطه وسمعته يقول » ثمّ أورد الإسناد من جده إلى أحمد بن عبد الله السبيعي ، عن الحسن بن علي العسكري عليهالسلام ، عن آبائه عليهمالسلام ، عن رسول الله صلىاللهعليهوآله ، عن جبرئيل ، عن ميكائيل، عن إسرافيل، عن اللوح المحفوظ، ولفظ الحديث « شارب الخمر كعابد الوثن ».
قال : « ولما روى جدّي هذا الحديث في كتاب ( تحريم الخمر ) قال : قال أبو نعيم الفضل بن دكين : هذا حديث صحيح ثابت روته العترة الطيبة الطاهرة ، ورواه جماعة عن رسول الله صلىاللهعليهوآله منهم : ابن عباس ، وأبو هريرة ، وأنس ، وعبد الله بن أبي أوفى الأسلمي في آخرين » (2).
ثالثاً : تنشئة جيل من أصحابه الرواة والفقهاء والمؤلفين ، ولا ريب أن دور الإمام الحسن العسكري عليهالسلام وملامح عمله تنكشف من خلال عمل أتباعه المعتمدين ، ويتعمق ذلك بمقدار اشتداد الظروف الداعية إلى السرية والاحتجاب.
وقد حرص الإمام الحسن العسكري عليهالسلام على الإتصال بأقطاب مدرسة آبائه عليهالسلام من خلال ممثلية من القيّمين والوكلاء المنتشرين في البلدان، باتباع اسلوب المكاتبة والمراسلة، وكان عليهالسلام يتبع مختلف الوسائل لإضفاء طابع السرية على الاتصال بهم، حتى ورد أنه عليهالسلام كان يضع الكتب في خشبة كأنّها رجل باب مدورة طويلة ملء الكف ، ويدفعها إلى أحد الخدم ليوصلها إلى العمري ، كما ورد في رواية داود بن الأسود (3).
وبالمقابل كان أصحابه يتفانون لأجل اللقاء به ، فإذا حظي أحدهم بذلك ، لم تطب نفسه ان يفوته حديثه ولو أضناه العطش ، روى ابن شهر آشوب عن أبي العباس محمد بن القاسم ، قال : « عطشت عند أبي محمد عليهالسلام ، ولم تطب نفسي أن يفوتني حديثه ، وصبرت على العطش وهو يتحدّث ، فقطع الكلام وقال : يا غلام أسق أبا العباس ماءً » (4).
وكانوا يدقّقون في معرفة خطّه عليهالسلام لتفادي حالة الوضع والتزوير، فيطلبون منه عليهالسلام أن يكتب لهم نموذجاً من خطّه ، ومنهم أحمد بن إسحاق الأشعري القمي ، وكان من خاصته وثقاته ، ومُوفَد القميين إلى الإمام عليهالسلام ، قال : « دخلت على أبي محمد عليهالسلام فسألته أن يكتب لأنظر إلى خطّه فأعرفه إذا ورد ، فقال : نعم ، ثم قال : يا أحمد ، إنّ الخطّ سيختلف عليك ما بين القلم الغليظ والقلم الدقيق فلا تشكنّ ، ثمّ دعا بالدواة … » (5).
وكانوا يدفعون كتبهم وما يجب عليهم من الأموال إلى الوكلاء الذين يغطّون على عملهم بمختلف الوسائل، فكان أبوعمرو عثمان بن سعيد العمري يجعلها في جراب السمن وزقاقه ويحملها إلى الإمام العسكري عليهالسلام تقيةً وخوفاً ، وقد قيل له السمّان لأنه كان يتجر في السمن تغطيه على هذا الأمر (6).
وكان بعضهم يكاتب الإمام عليهالسلام عن طريق الخدم ، فقد كتب جعفر بن محمد القلانسي كتاباً إلى الإمام العسكري عليه السلام يسأله عن مسائل كثيرة ، ودفعه مع محمد بن عبد الجبار الخادم ليوصله إليه عليهالسلام … (7).
ومارس الإمام عليهالسلام دور التربية والتوجيه والاعداد لخاصة أصحابه وقاعدته المؤمنة بمرجعيته الفكرية والروحية ، لتحصينهم من الانحراف العقائدي والفكري ، وتسليحهم بالفقه والمعرفة ، ونظرة واحدة إلى رسائله ووصاياه التي قدمناه بعضها ، تعتبر خير دليل على متابعة الإمام عليهالسلام لأصحابه وإشرافه على مختلف شؤونهم.
وكان من نتائج ذلك الاشراف والتواصل بين الإمام عليهالسلام وقاعدته أن اكتملت في عصره عليهالسلام معالم مدرسة الفقهاء الرواة الذين كانوا يعيشون في أوساط الناس ، وينقلون إليهم الأحكام والسنن والعقائد ، واستوفت تلك المدرسة كلّ متطلبات المدرسة العلمية من حيث المنهج والمصدر والمادة ، ومهّدت بذلك لعهد الغيبة الصغرى حيث انبثقت عنها مدرسة الفقهاء المحدثين (8).
وقداستطاعت شريحة واسعة من عشّاق مدرسة أهل البيت عليهمالسلام التواصل مع الإمام العسكري عليهالسلام بشتى الوسائل ، فتحمّلوا الرواية عنه ، وبلغوا الفتاوى والأحكام الصادرة عنه ، وأسهموا في نشر مبادئ تلك المدرسة.
وبلغ عدد الرواة عن الإمام أبي محمد العسكري عليهالسلام (١٠٣) كما في رجال الشيخ الطوسي (9) ، وإذا ضممنا إليهم ما ورد في رجال البرقي ومناقب ابن شهر آشوب ومسند الإمام العسكري ، وما وقعوا في إسناد الأخبار والتواقيع والمكاتبات ، يكون العدد (٢١٦) من عير تكرار ، وهو عدد كبير يدلّ على سعة الدور العلمي البارز الذي اضطلع به أصحاب الإمام العسكري مع قسوة الظروف المحيطة بعملهم ، ويدلّ على سموّ المقام المعرفي والمكانة العلمية التي يمثلها الإمام العسكري عليهالسلام ، لأنّ الرواة كانوا يمثلون أساتذة المجتمع أنذاك وليسوا مجرد أشخاص يسألون ويروون.
استشهاده
( ازداد غيض المعتمد، من إجماع الامة -سنة وشيعة- علی تعظيم الامام (ع) وتبجيله وتقديمة بالفضل علی جمع العلويين والعباسيين في الوقت الذي کان المعتمد خليفة غير مرغوب فيه لدی الامة. فأجمع رأيه علی الفتك بالإمام واغتياله فدسَ له السمَ، وقضی نحبه صابرا شهيدا محتسبا، في الثامن من ربيع الاول عام 260 للهجرة، وعمره الشريف دون الثلاثين عاما.” المصدر“)
الهوامش
__________________
(١) راجع : مسند الإمام العسكري عليهالسلام / العطاردي : ٢٣٩ ـ ٢٨٠.
(2) تذكرة الخواص : ٣٢٤.
(3) مناقب ابن شهر آشوب ٤ : ٤٦٠.
(4) مناقب ابن شهر آشوب ٤ : ٤٧٢.
(5) مناقب ابن شهر آشوب ٤ : ٤٦٦.
(6) راجع : غيبة الشيخ الطوسي : ٣٥٤.
(7) كشف الغمة ٣ : ٢٩٦ ، بحار الأنوار ٥٠ : ٢٩٨.
(8) راجع : تاريخ التشريع الاسلامي / د. عبد الهادي الفضلي : ١٩٤ وما بعدها ـ الكتاب الاسلامي ـ ١٤١٤ ه.
(9) راجع : رجال الشيخ : ٣٩٥ ـ ٤٠٣.
المصدر: كتاب: الإمام الحسن العسكري عليه السلام سيرة وتاريخ ،الفصل الثالث، المبحث الثاني(دوره عليهالسلام في التصنيف والتشريع) للكاتب والمحقق في التراث الإسلامي: علي موسى الكعبي