خاص الاجتهاد: عندما أبدع الإمام الخميني (قدس سره) مصطلح ” الفقه الجواهري ” ربما لم يكن يتوقّع أن يترسّخ هذا المصطلح في المحافل الفقهية إلى هذا الحد، وأن يجد له _أي المصطلح_ كلّ هذا العدد من الموافقين والمخالفين. وإنّ التحديات الصعاب التي واجهتها الحكومة القائمة على الفقه في السنوات الأخيرة قد دفعت البعض للاعتقاد بعدم فاعلية أسلوب ومنهج الفقه الجواهري، ولكن في المقابل ما زال البعض يدافع عن هذا المنهج، ويعتبر أنّ التحديات الموجودة إنما نشأت كنتيجة للاستنباطات الخاطئة عبر هذا الآلية الفقهية، أو أنّها كانت نتيجة لأخطاء المنفذين في مرحلة تطبيق الأحكام والقوانين.
بالنسبة إلى آية الله السيّد محمد تقي المدرسي فهو من الفقهاء المحافظين والمجددين في آن؛ فمن جهة يطلب الاختصار في زمن الحوار ليتمكن من متابعة عمله في استضافة زوار الإمام الحسين عليه السلام في كربلاء، ومن جهة ثانية يؤكدّ على ضرورة إيجاد آلية فقهية جديدة في مقابل الفقه الجواهري.
ربما يصعب تصوّر وجود مرجع تقليد يرتدي البسيط من اللباس ويتحدث في حسينيته القديمة عن ضرورات تجديد النظر في المناهج الفقهية المتبعة، وأن يورد حوادث أسفاره المتعددة إلى مختلف أصقاع العالم كشاهد على ما يذهب إليه، ولكن هذه هي حال السيد محمد تقي المدرسي؛ ففي جعبته مشاريع وأفكار تنفع لبعد نصف قرن كما يعبّر هو.
وفيما يلي نضع بين أيدي القرّاء الكرام ما جاء في حوار شبكة الاجتهاد مع سماحته في مدينة كربلاء المقدسة:
الاجتهاد: المنهج الفقهي المرسوم في المدرسة الفقهية الشيعية اليوم هو المنهج المعبّر عنه بالفقهِ الجواهري، وقد تعرّض هذا المنهج في العقود الأخيرة إلى تحديات هائلة؛ ولا سيما بعد انتصار الثورة الإسلامية وتطبيق أحكام هذا الفقه في مختلف مجالات الحياة، هل ترون أنّ منهج الفقه الجواهري ما زال صالحا إلى يومنا الحالي أم أنّه يجب استبدال منهج آخر به؟
آية الله المدرسي: الفقه الذي كان يسميه الإمام الفقه الجواهري هو منهج فقهي ذو مبانٍ محددة، وهناك منهج آخر نسير فيه على أساس التشكيك المنهجي، والشك على قسمين، أحدهما الشك المنهجي والثاني الشك الخُلقي وهو ما نسميه الوسواس، وفيه لا يثق الإنسان بعقله، ويشك في جميع الأشياء، ولكن الشك المنهجي من قبيل الشك الديكارتي، أي أنّه يكون هناك شك في البداية، وذلك من قبيل أن تدمّر بنيان بناء ما ثم تعيد بناءه، أي التخريب من أجل البناء، وليس من أجل مجرّد التخريب، ونحن نريد أن نستخدم هذا المنهج.
مثلاً؛ من قال أنّه يجب علينا نحن أن نحدد ونبيّن حدود غسل الوجه واليدين أو مسح الرأس؟ ربما يقرأ المكلّف الآية الكريمة ((فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ…)) (المائدة، 6) ومن ثمّ يقوم بالوضوء وفقا لما فهمه من الآية الشريفة، ومن ثمّ يمكنه أن يخاطب الباري تعالى قائلا هل هناك مشكلة إذا غسلت وجهي أقل قليلا من حدود “منبت الشعر إلى الذقن”؟
فيجيب سبحانه: نعم هناك مشكلة، فيقول المكلّف: لماذا إذن لم يكن هناك تفصيل واضح في الآية؟ وهذا يسمّونه شكا منهجيا وليس شكا خُلقيا، أساساً إلى أيّ مدى يجب علينا أن نبيّن هذه المسائل لعموم الناس.
مثلاً في الحج هناك مسألة شرعية تقول أنّه يجب على بعض الأشخاص أن يفيضوا من المشعر قبل طلوع الشمس ليهيئوا مكانا للحجاج، وأن يذهبوا إلى المسلخ ويذبحوا الأضاحي، فهل يجوز لهم القيام بهذه الأعمال؟
نحن قلنا نعم يجوز، وقد أورد العلامة أيضا في “المنتهى” هذه المسألة، ولم يخالفه أحدٌ من العلماء، ولكن السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو التالي: إنّ الحج هو الذهاب إلى مكة، وأُضيف إليه الطواف، وكذلك أُضيفت إليه الحركة في المشعر، وأساساً ليس هناك ذكر للوقوف في عرفات والمشعر في القرآن الكريم، والأمر الواجب في عرفات والمشعر هو الإفاضة ((فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ)) (البقرة 198) وعليه فالأمر الذي لا يقبل التغيير هو أصل فريضة الحج، وليس هوامشها من قبيل الخروج من عرفات بعد طلوع الفجر.
لم يجرؤ أحدٌ على إيراد هذه البحوث، فالنسبة إلى الشك يجب أن يُعلم هل هو منهجي أم خُلقي وشخصي؟ سوف نحتاج يوما ما للبحث في هذه الأمور، يجب أن نبحث في هل أنّ هذه السنن التي بيّنها الأئمة عليهم السلام والفقهاء هي مكّملات لجوهر الحج؛ أم أنّها جواهر مستقلة بذاتها، ويبدو أنّ الجواب الأول هو الصحيح، وعليه يكون أصل الحج هو السفر إلى مكة؛ أمّا هل يكون هذا الذهاب في وقت معين أو يكون الاجتماع في عرفات فهذه مكمّلات، ولكن أحياناً يُنسى الأصل.
وفي حالة الذبيحة والأضحية فالأمر كذلك، نقل المرحوم الفلسفي عن المرحوم البروجردي قوله: أنّ ما يجعل اللحم حراما هو أن يقال شيءٌ للأصنام، وأنا بحثت في هذه المسألة ووجدت أنّ الباري تعالى قال في آيتين أو ثلاثة : (( إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَ الدَّمَ وَ لَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَ مَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ)) (البقرة 173) وهذه الآية الشريفة تفيد الحصر،
وتقول أنّ الخالق سبحانه حرّم فقط لحم الميتة والدم ولحم الخنزير وما لم يذكر عليه اسم الله سبحانه حين الذبح، وفي آية أخرى قال سبحانه وتعالى: ((وَ لاَ تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَ إِنَّهُ لَفِسْقٌ)) (الأنعام 121) فهذا الفسق هل هو حال أم قيد؟ والبعض تصوّر أنّه قيد بدليل الآية الأولى؛ أي إذا كان فسقاً لا تأكلوا منّه لا أنّ هذا العمل هو فسق، التطبيق ليس تعبّديا،
ونحنا إذا ما جمعنا بين مفاد الآيتين الكريمتين يصبح المعنى هو التالي: الذبيحة التي تذبح بغير اسم الله سبحانه فهي حرام، ولكن لا يمكن من هاتين الآيتين استنباط حرمة الذبيحة التي لم يذكر اسم الله عليها، وقد نُقل هذا القول عن المرحوم آية الله البروجردي أيضاً.
الاجتهاد: هذا المبنى القائم على التفكيك بين الثابت والمتغير في الشريعة يعطي إمكانية واسعة لحل مختلف المسائل، ولكن ما هو ملاك تحديد الثابت والمتغيّر؟ يمكن أن أفهم مما تفضلتم به أنّ الأحكام الواردة في القرآن الكريم هي من الأحكام الثابتة، فهل نجد مثل هذه الثوابت في الروايات؟
آية الله المدرسي: أحيانا قد يأتي إليّ شخص قروي يسأل عن مسألة في الوضوء فأوضّح الأمر له، ولكن أحيانا يكون للتغيرات الاجتماعية والسياسية تأثير على المسألة، وهذا بحث عميق للغاية، وللأسف لم يوجد إلى اليوم أبحاث كثيرة في هذا الموضوع، ومسألة خطاب المشافهين مسألة مهمة جدا،
فمرّة يحرّم النبي الأكرم “صلى الله عليه وآله” لحم الحمير، والسبب أنّ المقاتلين كانوا عائدين من الحرب وكانوا يحتاجون الدواب لتقلّهم، كثير من الحالات والمسائل هي على هذا النحو، أي أنّها كانت مختصة بالماشفهين، ولكن للأسف لم يكن هناك دراسة جادة لها. نحن أحيانا نهدف إلى التعديل والزيادة والنقصان في البناء وفي النهج الحالي المتبع،
وهذا هو النمط الذي اعتنى به علماؤنا، ولكن أحيانا نحن نريد أن نفرض أننا أصبحنا مسلمين للتو، ونريد أن نبحث المسائل من البداية، هنا لا يمكن لكل شخص أن يخوض في هذه البحوث، وحتى كتابتها ليست بمقدور الجميع، ويجب ألّا يتناول هذه الموضوعات من لديهم شك أخلاقي.
ومن هذه الموضوعات موضوع العناوين الثانوية، وموضوع مقاصد الشريعة من البحوث المهمة أيضا، وأنا فرّقت بين الموضوعين، والكتاب الذي ألّفته سوف يكون مفيداً بعد خمسين سنة.
الاجتهاد: أنتم على القاعدة قلّما تلجؤون إلى الأصول العملية، هل هذا صحيح؟
آية الله المدرسي: نعم، الأمر كذلك، بل إنني أعتقد بوجود تعارض بين فقه الحكم والأصول العملية، استغرقت طباعة كتاب التفسير الذي صنفته عشر سنوات، وهناك اختلاف كبير بين أسلوبي في كتابة التفسير وبين أسلوبي في الفقه، مرّة واجه مجلس الشورى الإسلامي مشكلات في إطار البند “ج” (في قانون الإصلاح الزراعي)،
وقد خالف البعض القانون الذي أقرّه المجلس، والبند “ج” هو ذات قانون إصلاح الأراضي الذي كان في عهد الشاه، وقد شكّل المرحوم الإمام مجلس تشخيص مصلحة النظام لهذا السبب، كنت أفكر كم نحن مهتمون بالضرورات؟ وكم يجب أن نأخذ من ولاية الفقيه ومن الضرورات؟ وهل نمتلك بحق إدراكا صحيحا لأصل الدين؟!
وهل يمكن أن يكون في الدين كل تلك الضرورات التي تخصص أحكامه؟! أعتقد أنّ هذا الموضوع هو واحد من المواضيع التي ينبغي دراستها والبحث فيها بعمق.
الاجتهاد: يمكن أن نستنتج أنكم لا تعتمدون مبدأ “الرجال” كأساس لتحقيق صدور الأحاديث.
آية الله المدرسي: نعم، أنا لا أعير كثير اهتمام لمسألة الرجال في المبنى الذي أتبنّاه، كما أنّ أهل البيت(ع) أرجعونا إلى مضامين الأخبار، يجب أن نسير بتأنٍ شديد، وفي هذا المجال عندي رأي هو أنّ القرآن الكريم كان مرجع علمائنا، هم تربّوا على تعاليم القرآن ومجالس أهل البيت(ع) ولذلك ترسخت تلك القيم في عقولهم،
أعتقد أنّ كثيرا من تلك الروايات لا تتوافق ومبانيهم المعتبرة. يعبرون عن هذه القيم بعناوين “روح الشريعة” و”مذاق الشريعة” وأسماء أخرى، واليوم وقد خفّ دور القرآن الكريم في المجتمع فإنّه يمكن أن يحصل تغيير وتبدّل في تلك القيم وفي روح الشريعة ومذاقها، وهذا أمر خطير للغاية.
أنا أخشى ما سوف تؤول إليه أحوالنا في الغد، يجب أن يكون القرآن الكريم منطلقا لحركة طلاب العلوم الدينية، ولا يوجد آية من آيات الكتاب المجيد إلا وفيها بيان لمقصد من مقاصد الشريعة، ولكن يجب أن نستفيد من آيات الذكر الحكيم داعين الباري تعالى أن يعيننا ويوفقنا في هذا الأمر، يجب أن يكون القرآن الكريم هو المبنى والأساس.