الاجتهاد: زار الدكتور عبد الرزاق المصريّ السنهوري – مؤلف كتاب «الوسيط» في عشرة أجزاء – جامعة بغداد وخاصة كلية الحقوق وقد شرح في كتابه السابق «القانون المدني المصريّ» الذي بدء بتأليفه عام 1936. و قد وقف في زيارته هذه على كتاب المتاجر للشيخ الأنصاري وأعجبه آراء الشيخ الأنصاري وأفكاره في باب المعاملات، فقال-معربا عن اعجابه: «لو اطلعت على هذا الكتاب قبل تأليفي الوسيط لغيّرت كثيرا من آرائي.
قد صبّ الشيخ الأعظم الأنصاري جهوده العلميّة لإرساء قواعد الفقه و الأصول في ضوء الكتاب و السنّة و العقل، و اجتثاث أصول المسلك الأخباري من خلال بحوثه و كتبه، فأداء لبعض حقّه، نقوم بترجمة موجزة لحياته و شخصيّته.
ولد قدّس سرّه غدير عام (١٢١٤ هـ) ينتهي نسبه إلى جابر بن عبد اللّه الأنصاري، و قد سرده بعض شخصيّات أسرته هكذا:
الشيخ مرتضى بن الشيخ محمّد أمين بن الشيخ مرتضى بن الشيخ شمس الدين بن الشيخ محمّد شريف بن الشيخ أحمد بن الشيخ جمال الدين بن الشيخ حسن بن الشيخ يوسف بن الشيخ عبيد اللّه بن الشيخ قطب الدين محمّد بن زيد بن أبي طالب بن عبد الرزّاق بن جميل بن جليل بن نذير بن جابر بن عبد اللّه الأنصاري.
و كأنّه يرومه الشاعر المفلق و يقول:
شرف تتابع كابر عن كابر # كالرمح انبوب على انبوب
فهو وليد البيت الطاهر، ذو المجد الأصيل، يشهد نسبه على شرف أرومته. فنذير ابن جابر انتقل إلى مدينة «تستر» أبّان افتتاحها على يد عساكر الإسلام فألقى رحل إقامته هناك و أسّس هذه الأسرة العلميّة التي لم تزل تتلألأ في كلّ قرن بمحدّث بارع، أو فقيه متضلّع، أو خطيب مصقع رضوان اللّه عليهم أجمعين.
وأمّا الشيخ الأنصاري فهو النجم اللامع بل الشمس البازغة في سماء هذه الأسرة الجليلة وهو من الفطاحل العظام الذين يضنّ بهم الدهر إلاّ في فترات متقطّعة متباعدة، قد قرأ الآليات (١) والسطوح العالية في موطنه «دزفول» وتخرج على يد عمّه الشيخ حسين الأنصاري من أفاضل الأسرة، ولكن لم تقنع نفسه بما أخذ وتعلّم فيه فأعدّ العدّة مع والده لزيارة العتبات المقدّسة عام (١٢٣٢) وله من العمر(١٨) سنة فورد كربلاء المقدّسة يوم كانت تزدحم حوزتها بفضلاء كبار، وعلماء فطاحل، وعلى رأسه العلمان الجليلان:
١. السيّد محمّد بن السيّد علي المعروف بالسيّد المجاهد مؤلّف «المناهل في الفقه» كما أنّ والده هو مؤلّف «الرياض»، واشتهر بالمجاهد لأنّه أفتى بالجهاد ضدّ الاحتلال الروسي لبعض مدن إيران الشماليّة وتوفّي عام (١٢٤٣ هـ). وستوافيك ترجمته في فصل أساتذة الشيخ.
٢. الشيخ محمّد شريف الآملي المازندراني المعروف بشريف العلماء المتوفّى عام (١٢٤٥ هـ) .
وقد زار الشيخ بعد ما وصل كربلاء مع والده، السيّد المجاهد، بإيصاء من عمّه و أستاذه، لما كان بينهما من صلة وثيقة أيّام دراسته في العراق، فلمّا تعرّف السيّد المجاهد على الوالد و الولد رحّب بهما، ثمّ انتهى الكلام بينهم إلى مسألة فقهيّة تكلّم فيها الشيخ بإذن والده،
فظهر نبوغه و توقّد فطنته للسيّد المجاهد، و عند ذلك طلب من والده أن يتركه في كربلاء المقدّسة للدراسة و عليه رعايته، فقبل الوالد، فأقام الشيخ أربع سنين فيها تردّد خلالها إلى حلقات دروس العلمين الجليلين، إلى أن احتلّ والي بغداد مدينة كربلاء المقدّسة بأمر من الخليفة العثماني، فغادر الشيخ مهجره و نزل الكاظميّة، فوجد هناك بعض مواطنيه فرجع معهم إلى موطنه دزفول فأقام هناك حوالي سنة،
و لكن كيف تستقرّ نفس الشيخ في موطنه و قد ذاقت حلاوة العلم، و تعرّف على آفاقه المشرقة، فغادر الموطن لمواصلة الدراسة في كربلاء، فأقام بها سنة هاجر بعدها إلى النجف الأشرف، فحضر هناك دروس المحقّق الشيخ موسى كاشف الغطاء قرابة سنتين،
ثمّ أحسّ في قرار ضميره أنّه أخذ ما يجب أخذه من أساتذة العراق و لا بدّ من التجوّل في المدن الأخرى لعلّه يجد فيها بغيته، فرجع إلى إيران قاصدا موطنه «دزفول» و حدّث أهله بما يرومه و يقصده، فواجه المنع من جانب والدته، إلى أن استقرّ رأيهما على الاستخارة، و لمّا فتح الشيخ المصحف الشريف بطلب الهداية و الخيرة وافاه في صدر الصفحة قوله سبحانه:
وَ لاََ تَخََافِي وَ لاََ تَحْزَنِي إِنََّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَ جََاعِلُوهُ مِنَ اَلْمُرْسَلِينَ. (2)
فعند ذلك لم تجد الأمّ الحنون بدّا من التسليم و النزول عند رغبته فودّعت ولدها داعية له بالسلامة و التوفيق، و قد شدّت عضده بأخيه الشيخ منصور و قد مثّلت بعملها هذا قوله سبحانه: سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ… . (3) و كان ذلك في عام (١٢٤٠ هـ) .
رحلته العلميّة وتجوّله في البلدان
بدأ الشيخ الأنصاري برحلته العلميّة حتّى نزل بلدة «بروجرد» يوم كانت الرئاسة العلميّة فيها للشيخ أسد اللّه البروجردي مؤلّف «فوائد الأحكام» المتوفّى عام (١٢٧٠ هـ) . فأقام هناك شهرا تامّا لم يجد فيها بغيته فغادرها و نزل مدينة إصفهان يوم كانت الزعامة العلميّة لعالمها الوحيد السيّد محمّد باقر الشفتي-المعروف بحجّة الإسلام-و هو الرجل الورع الذي لم يكن تأخذه في اللّه لومة لائم، و قد لبّى دعوة ربّه عام (١٢٦٠ هـ) .
وقد جرت بينه وبين الشيخ مباحثات و مناظرات طلب على أثرها عن الشيخ الإقامة والاشتغال بالتدريس هناك، و لكنّ الشيخ اختار المغادرة و مواصلة رحلته العلميّة حتّى هبط بلدة «كاشان» فنزل في بعض مدارسها و كان الزعيم العلمي فيها يومذاك، الشيخ أحمد النراقي مؤلّف «مستند الشيعة في أحكام الشريعة» الذي يعدّ خير دليل على براعته العلميّة و نبوغه في التفريع و البرهنة على الفروع و قد توفّي عام (١٢٤٥ هـ) فوجد الشيخ أمنيته هناك فأقام فيها أربع سنين حضر خلالها دروسه و نبغ في الفقه و الأصول على يديه كما اشتغل بالتأليف و التصنيف مضافا إلى التدريس.
و لمّا عزم الشيخ على أن يغادر كاشان عام (١٢٤٤ هـ) نال من أستاذه الرؤوف إجازة مفصّلة أدّى فيها حقّ الشيخ حيث وصفه بألقاب بديعة تعرب عن إعجابه الشديد بتلميذه، و سيوافيك نزر منها.
ثمّ إنّ الشيخ ودّع أستاذه و ترك المدينة إلى أن نزل مشهد الرضا عليه السّلام فأقام هناك أشهرا قلائل ثمّ رجع إلى طهران و منها إلى دزفول و قد استغرقت رحلته العلميّة ستّ سنوات،
ثمّ وجد في نفسه شوقا مؤكّدا للرحيل إلى العراق مرّة ثالثة، بعد ما واجه بعض الأحداث المريرة في بلده، فهاجر إلى النجف عام (١٢٤٦ هـ) و كانت يومذاك، المدرسة الكبرى للشيعة و التي تزدحم بآلاف الطلاّب و الفضلاء الأساتذة و كانت الرئاسة العلميّة على عاتق العلمين الكبيرين:
١. الشيخ عليّ بن الشيخ جعفر كاشف الغطاء المتوفّى عام (١٢٥٤ هـ) .
٢. الشيخ محمّد حسن صاحب الجواهر المتوفّى عام (١٢٦٦ هـ) .
فقد تتلمذ الشيخ في رحلته هذه على يد الشيخ علي كاشف الغطاء، إلى أن استقلّ بالتدريس و طار صيته في أوساط النجف و أقبل على بحوثه العلميّة لفيف من العلماء و الفضلاء، و اشتهر بالنبوغ و التفوّق العقليّ إلى حدّ عرفه الصغير و الكبير بالعلم و الفضل و التعمّق و الدقّة.
صاحب الجواهر يختار الشيخ للزعامة
كان الشيخ محمّد حسن مؤلّف «الجواهر» الذي يعد أكبر موسوعة فقهيّة في فقه الإماميّة كتبت لحدّ الآن، زعيما علميّا لا ينازعه أحد، و كان قد طعن في السنّ فلمّا أحسّ باقتراب أجله و أنّه يوشك أن يلبّي دعوة ربّه، أحضر-انطلاقا من المسؤوليّة الكبرى التي كان يتحمّلها طوال سنين-أكابر الحوزة و علماءها في بيته حتّى يتّخذوا قرارا بشأن زعامة الحوزة، و المرجعيّة الكبرى للشيعة من بعده،
فلمّا حضر العلماء تصفّح وجوههم فلم ير بينهم الشيخ الأنصاري، فأمر بإحضار الشيخ، فلمّا دخل مجلسه أخذ بيده و أحلّه إلى جنبه و وضع يده على قلبه و قال: الآن طاب لي الموت، ثمّ أقبل على الحاضرين و قال: هذا مرجعكم بعدي. ثمّ خاطب الشيخ و قال: قلّل من احتياطاتك فإنّ الشريعة سهلة سمحة. و بذلك انتخب الشيخ بإيصاء من مرجع رسميّ خضعت له القلوب و الأفكار، للزعامة العلميّة و المرجعيّة، ثمّ بعد إنفضاض المجلس، قام الشيخ إلى حرم الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام مبتهلا عنده إلى اللّه سبحانه أن يعينه في هذه المسؤوليّة الخطيرة و يصونه من الزلل.
ولمّا لبّى صاحب الجواهر دعوة ربّه، انتقلت إليه الزعامة بلا منازع، وقام بأعبائها بقلب سليم، واستمرّ في تسيير أمور الجماعة، بحزم وحكمة وبإرادة صلبة لا تعرف الضعف والكلل، ولم يكن رائده إلاّ رضاه سبحانه وتعالى إلى أن لقي ربّه في ليلة السبت المصادفة ليلة الثامنة عشرة من شهر جمادى الأخرى من شهور عام (1281 هـ)، وشيّع جثمانه الطاهر جميع العلماء، و في طليعتهم تلاميذه الأكابر، ودفن في حجرة من حجرات الصحن الحيدري الشريف، وتقع مقبرته على يسار الخارج من الباب الجنوبي للحضرة العلويّة المقدّسة.
هذه هي إلمامة عابرة و عرض خاطف لحياة الشيخ الأنصاري الذي كرّس حياته في التدريس و التأليف و إعداد الفضلاء و تربية المجتهدين، و إرساء دعائم النهضة العلميّة الدينيّة الحديثة التي تعدّ بحقّ ثورة علميّة كبرى قلّما اتّفق نظيرها في العصور السابقة.
ولكي يقف القارئ على عظمة الشيخ في مجال العلم و الفضل، وعلوّ كعبه في صعيد الزهد والتّقى، نأتي ببعض الكلمات الصادرة من أساتذته و تلامذته حتّى يكون كالمستشف للحقيقة عن كثب.
كلمات الإطراء و جمل الثّناء في حقّه
انّ الشيخ الأنصاري كالشمس الساطعة غني عن التعريف، ويشهد على ذلك آثاره و آراءه و ما برز من يراعه من كتب و رسائل، إلاّ انّ هذا لا يمنع من أن نقف على آراء الآخرين من أساتذته وتلامذته في حقّه، و لذلك نقتطف شذارات من أقوال العلماء في حقّه.
1. كتب الشيخ النراقي إجازة مفصّلة له، وصفه فيها بقوله:
«و ممّن جدّ في الطلب و بذل الجهد في هذا المطلب، و فاز بالحظّ الأوفر الأسنى، و حظى بالنصيب المتكاثر الأهنى، مع ذهن ثاقب، و فهم صائب، و تدقيق و تحقيق، و درك غائر رشيق، و الورع و التقوى و التمسّك بتلك العروة الوثقى، العالم النبيل و المهذّب الأصيل، الفاضل الكامل و العالم العامل، حاوي المكارم و المناقب، و الغائر بأسنى المواهب، الألمعيّ المؤيّد، و السالك طرق الكمال للأبد، ذو الفضل و النّهى و العلم، الشيخ مرتضى بن الشيخ محمد أمين الأنصاري التستري أيّده اللّه بتأييده، و جعله من كمّل عبيده، و زاد اللّه في علمه و تقاه، و حيّاه بما يرضاه، و قد استجاز بعد ما تردّد إليّ و قرأ عليّ و تبيّنت فضيلته لديّ، و لمّا كان أيّده اللّه سبحانه لذلك أهلا، و إنجاح مسؤوله فرضا لا نفلا، فأجزت له أسعد اللّه جدّه و ضاعف كدّه و جدّه أن يروي عنّي كتاب نهج البلاغة… » . (4)
2. نقل انّ الشيخ علي كاشف الغطاء (المتوفّى 1251 هـ) أستاذ الشيخ: كلّ شيء سماعه أعظم من عيانه إلاّ الشيخ مرتضى فإنّ عيانه أعظم من سماعه.
3. وقال عنه السيّد حسين البروجردي(المتوفّى1267 هـ) المعاصر للشيخ في أرجوزته المعروفة بـ«نخبة المقال في علم الرجال»:
و ابن أمين مرتضى الأنصاري # شمس الشموس قدوة الأخيار
4. و قال عنه المحدّث النوري (المتوفّى 1320 هـ) ، بعد ما ذكر أنّ نسبه ينتهي إلى جابر بن عبد اللّه الأنصاري: و من آثار إخلاص إيمان «جابر» و علائم صدق ولائه أن تفضّل اللّه تعالى عليه و أخرج من صلبه من نصر الملّة و الدين بالعلم و التحقيق و الدقّة، و الزهد و الورع و العبادة و الكياسة، بما لم يبلغه من تقدّم عليه و لا يحوم حوله من تأخّر عنه.
وقد عكف على كتبه ومؤلّفاته وتحقيقاته، كلّ من نشأ بعده من العلماء الأعلام والفقهاء الكرام، وصرفوا هممهم، وبذلوا مجهودهم، و حبسوا أفكارهم و أنظارهم فيها و عليها، و بعد ذلك معترفون بالعجز عن بلوغ مرامه فضلا عن الوصول إلى مقامه جزاه اللّه تعالى عن الإسلام و المسلمين خير جزاء المحسنين. (5)
5. يقول الشيخ أبو المحاسن محمد بن داود (المتوفّى 1308 هـ) و هو من تلامذة الشيخ في كتابه «المحاسن في الإنشاء» : كان رجلا آدما، طويل القامة، كثّ اللحية، مليح الشمائل، واسع الجبين، ضعيف الباصرة، قويّ البصيرة، تام الباع، عريض المنكبين، ضخيم العظام، متأنيا في كلامه، كثير الصمت، إذا تكلّم حرّك سبابته، قليل الخبط، كثير الضبط، دقيق النظر، عميق الفكر، سريع الانتقال، شديد الحفظ، حافظا لكلام اللّه المتعال و الحكم و الأمثال. (6)
6. يعرّفه الشيخ حسن المامقاني (1323 هـ) أحد تلامذته بقوله: الحبر المحقّق، و النحرير الموفق، حجّة الإسلام، مولى الأنام، مركز دائرة النباهة، سلطان إقليم الفقاهة.
كان-قدّس اللّه سرّه-جمع بين الحفظ و سرعة الانتقال، و استقامة الذهن، و قوة الغلبة على من يحاوره، لا يعي عن حلّ إشكال و لا جواب إيراد، كان من علو همّته أنّه كان يعيش معيشة الفقراء، و يبسط البذل على المستحقّين خصوصا سرّا، و كان غالبا لا يجهر بالعطاء-و مع ذلك لا ير لنفسه فخرا و لا شأنا. (7)
7. يعرّفه المحقّق الخراساني (المتوفّى عام 1329) في ديباجة حاشيته على الرسائل، بقوله: علاّمة الآفاق، و أستاذ الكلّ على الإطلاق، عماد الملّة و الدين، و مروّج شريعة سيّد المرسلين، و تاج الفقهاء و المجتهدين من القدماء و المتأخّرين، فخر المحقّقين و افتخار المدقّقين الورع التقي و الصفي النقي علم الهدى أستاذنا و مولانا و آية اللّه في الورى الحاج الشيخ مرتضى الأنصاري، تغمّده اللّه بغفرانه و أسكنه فسيح جناته. (8)
8. و وصفه سيّدنا العلاّمة السيّد محسن الأمين (المتوفّى 1373 هـ) في أعيان الشيعة بقوله: الأستاذ الإمام المؤسس، شيخ مشايخ الإماميّة، و قد انتهت إليه رئاستهم العامّة في شرق الأرض، و غربها، و صار على كتبه و دراسته، معوّل أهل العلم، لم يبق أحد لم يستفد منها، و إليها يعود الفضل في تكوين النهضة العلميّة الأخيرة في النجف الأشرف، و كان يملي دروسه في الفقه و الأصول، صباح كلّ يوم و أصيله في الجامع الهندي، حيث يغصّ فضاؤه بما ينيف على الأربعمائة من العلماء. (9)
9. و قال أستاذنا الكبير السيّد محمّد الحجّة الكوهكمري (1301- 1372 هـ) في درسه الشريف ما ترجمته:
قد أشعل الشيخ مشعلا منيرا في طريق العلم، و سار على ضوئه كلّ من أعقبه من العلماء و المجتهدين.
10. زار الدكتور عبد الرزاق المصريّ السنهوري-مؤلف كتاب «الوسيط» في عشرة أجزاء-جامعة بغداد و خاصة كلية الحقوق و قد شرح في كتابه السابق «القانون المدني المصريّ» الذي بدء بتأليفه عام 1936.
و قد وقف في زيارته هذه على كتاب المتاجر للشيخ الأنصاري و أعجبه آراء الشيخ و أفكاره في باب المعاملات، فقال-معربا عن اعجابه: «لو اطلعت على هذا الكتاب قبل تأليفي الوسيط لغيّرت كثيرا من آرائي» . (10)
إلى غير ذلك من جمل الإطراء، و كلم الثناء التي لا تستطيع تحديد شخصيّة عظيمة مثل الشيخ الأعظم و كأنّي بأبي الفتح البستي الشاعر المفلق يريد الشيخ الأعظم بقوله:
لا يدرك الواصف المطري خصائصه # و إن يكن سابقا في كلّ ما وصفا
نعم هو الجوهر الفرد الذي لا ينتج له الزمان مثيلا إلاّ في البرهة بعد البرهة، أو في القرن بعد القرن و كان قدّس سرّه مركز الدائرة للفضائل، فخطوط المكارم المنتهية إليه سواء لا توصف بالطول و لا بالقصر كيف و هو حسب قول الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام قد أحيى عقله، و أمات نفسه حتّى دقّ جليله و لطف غليظه. (11)
تآليفه و تصانيفه
قد ترك الشيخ آثارا جليلة لم يزل بعضها مدار الدراسة و البحث في جامعات الشيعة، و هو يعطي لكلّ موضوع في كلّ تأليف صبغته الجديدة و قد طبع أكثرها، و نحن نشير إلى أسمائها على وجه الإجمال:
1. رسالة في الإرث، 2. رسالة في التقيّة، 3. رسالة في التيمّم، 4. رسالة في الخمس، 5. رسالة في قاعدة الضرر و الضرار، 6. رسالة في القضاء عن الميّت، 7. رسالة في المواسعة و المضايقة، 8. رسالة في التسامح في أدلّة السنن (طبعت أيضا في ضمن حاشية الأوثق على الرسائل) ، 9. رسالة في قاعدة من ملك شيئا ملك الإقرار به (12) ، 10. رسالة في مناسك الحجّ، 11. تعليقة على استصحاب القوانين، 12. تعليقة على نجاة العباد، 13. تعليقة على بغية الطالب، 14. رسالة في علم الرجال، و هي تقرب في الحجم من خلاصة العلاّمة في ذلك العلم و توجد نسخة منها في مكتبة الإمام الرضا عليه السّلام و قد فرغ منها الكاتب عام وفاة الشيخ (1281 هـ) ، 15. رسالة في الردّ على القائلين بقطعيّة الأخبار، و قد أشار إليه الشيخ في رسالة الظنّ من فرائده، 16. رسالة في القرعة، 17. تعليقات على «عوائد» أستاذه النراقي،
18. كتاب الطهارة، و هو كتاب إستدلالي مبسوط مطبوع منتشر و قد علّق عليها تعليقات منها تعليقات شيخنا الوالد الشيخ محمّد حسين السبحاني المتوفّى عام (1392 هـ) و في هذه الرسائل شواهد جليّة على نضوج رأيه، وصفاء ذهنه. و على أنّه كان لا يترك في كلّ مسألة فقهيّة أو رجاليّة سؤالا لسائل، و لا مجالا لقائل، و تغلب على جميعها روح التحقيق و الإمعان و إقناع القارئ فيما يرومه و يهدف إليه. و قد أفرغها الشيخ في قالب التأليف بقلم سيّال من غير إيجاز مخلّ و لا إطناب مملّ. و لكن السبب الذي جعل الشيخ في زمرة القلائل من العلماء هو ما نذكره من آثاره الجليلة.
19. الفرائد: المشهور بالرسائل، هذا الكتاب مؤلّف من رسائل مختلفة، طبعت في مجلّد واحد تبحث عن أحكام القطع و الظنّ، و تحدّد مجرى أصل البراءة و الاشتغال، و تبحث عن الاستصحاب و عن أحكام التعادل و التراجيح، و قد صار هذا الكتاب منذ اشتهاره في الحوزات العلميّة، مدارا للدراسة و قد أكبّ على تدريسها و تحشيتها كثير من تلامذة الشيخ و تلامذة تلامذته و ربّما يربو عدد التعاليق على (65) تعليقة. (13)
و الحقّ أنّ الشيخ خدم العلم و أهله بهذا الكتاب القيّم خدمة عظيمة، و ذلك لأنّه قام:
أوّلا: بتحرير أحكام القطع و الظنّ، و قد قسّم الظنّ إلى ظنّ خاصّ و ظنّ مطلق و أعطى الكلّ حكمه.
و ثانيا: قام في رسالة البراءة و الاشتغال بتبيين مجاريهما و قد كانت غير منقّحة في كلمات السابقين فربّما كانوا يتمسّكون بالبراءة في موضع الاشتغال، كما يتمسّكون به في موضع البراءة أضف إلى ذلك أنّه قرّر موقف الدليل الاجتهادي من الأصل العملي فاستنتج أنّه لا يمكن أن يحتجّ بهما معا لحكومة الدليل الاجتهادي على الأصل العملي.
و ثالثا: قام في رسالة الاستصحاب بعقد تنبيهات بعد الفراغ من إثبات حجّيته بالأخبار. أودع الشيخ فيها أفكاره الناضجة و آراءه البديعة، فمن راجعها رأى أنّه المؤسّس للكثير من القواعد الواردة فيها و إن كان لبعضها جذور في كلمات من تقدّم عليه فلاحظ ما دبّجه بقلمه الشريف حول الاستصحاب الكلّي بأقسامه، و الاستصحاب التعليقي و عدم حجّيّة الأصل المثبت (14) و الاستصحاب السببي و المسبّبي على وجه تجدها برّمتها أفكارا لم تقرط بها أذن الدهر قبل ذلك قطّ. وسيوافيك بعض ما ابتكره في أصول الفقه في الفصل القادم.
20. المتاجر المعروفة بالمكاسب: هو الكتاب الثاني الذي عليه مدار الدراسة و البحث في الحوزات العلميّة، و هو كتاب عظيم جليل لم يسمح الدهر بمثله، يبحث عن أحكام المكاسب المحرّمة أوّلا، ثمّ عن أحكام البيع ثانيا، ثمّ عن أحكام الخيارات و الشروط ثالثا، ثمّ عن أحكام القبض و النقد و النسيئة رابعا، و هناك بحوث طرحها الشيخ خلال الكتاب لمناسبات اقتضاها المقام، ففيها دقائق علميّة تعرب عن كون الكتاب وليد فكر خارق للعادة، و المؤلّف لا يغوص في بحار الفقه إلاّ و يخرج بالدرر و الدراري و الجواهر الثمينة و قد تعرّفت على كلام الدكتور عبد الرزاق السنهوري مؤلّف: الوسيط: في حقّ الكتاب و لأجل ذلك يعدّه المحقّق المامقاني من أحسن كتب الشيخ و أثمنها. (15)
و للكتاب تعاليق قيّمة ذكرها الشيخ الطهراني في ذريعته (16) ، و ربّما تربو على 30 تعليقة، و أحسن التعاليق تعليقة السيّد الطباطبائي قدّس سرّه.
21. مطارح الأنظار: و هو محاضراته في أصول الفقه، قسم المباحث اللفظية بقلم تلميذه الشيخ أبو القاسم بن محمد علي بن هادي النوري المازندراني الشهير بكلانتري الفقيه (1236-1292) و قد طبعت و انتشرت.
22. رسالة في الاجتهاد و التقليد، طبعت في مجموعة رسائل فقهيّة و أصوليّة عام 1404 هـ. ق. و من الطريف أنّ الشيخ الأعظم مع أنّه كان ضعيف البصر و ربّما كانت المطالعة في الليالي أمرا صعبا عليه، قد كتب مصحفا كاملا بخطّه الشريف و هو موجود بين أحفاده، حشره اللّه مع القرآن و العترة.
وفاته
بعد حياة ملؤها العلم والتقوى والورع توفي الشيخ مرتضى الأنصاري بداره في محلة الحويش بالنجف الأشرف في منتصف ليلة السبت لثمانية عشرة خلون من جمادي الثانية سنة 1281هـ، وغُسِّل على ساحل بحر النجف غربي البلد، ونُصبت له خيمة هناك هي أول خيمة نصبت في هذا الشأن، وتوافد الناس بجميع طبقاتهم من كل مكان لتشييع جثمانه الطاهر حتى اتصل السواد من سور النجف إلى ساحل البحر، ولم يكن له قرابة وجيه في البلد سوى تقاه وعلمه الجم الذي أضاء النجف الأشرف، وكان عقبه بنتين لا ولد له، ودُفن يوم السبت في دكة الحجرة التي دُفن بها الشيخ حسين نجف والشيخ محسن خنفر العفكاوي عن يسار الداخل إلى صحن أمير المؤمنين (عليه السلام)من الباب القبلي المعروف بباب السوق الصغير.
الهوامش
(١) . المراد من العلوم الآلية ما يستخدم آلة لفهم الكتاب و السنّة أو إقامة البرهنة كالنحو و الصرف و البلاغة و المنطق.
(2) . القصص: ٧.
(3) . القصص: ٣٥.
(4) . الإجازة مفصّلة مذكورة برمّتها في كتاب شخصيّة الشيخ الأنصاري: 120-130. و المؤلّف من أحفاد أخي الشيخ الأنصاري المعروف بالشيخ منصور الذي شدّت أمّ الشيخ عضده به.
(5) . مستدرك الوسائل 3: 383 و 384.
(6) . ذكرى شيخنا الأنصاري: 22 نقلا عن المحاسن في الانشاء.
(7) . غاية الآمال: 2.
(8) . حاشية الخراساني على الرسائل: 1.
(9) . أعيان الشيعة 10: 118.
(10) . حدّثني به بعض الثقات نقلا عن بعض أساتذة كلية الحقوق ببغداد.
(11) . نهج البلاغة، شرح محمّد عبده، الخطبة 215.
(12) . هذه الرسائل طبعت إمّا في آخر المكاسب بعنوان الملحقات أو مع «مطارح الأنظار» لتلميذه المعروف بالكلانتري و أخيرا بصورة مستقلة.
(13) . الذريعة إلى تصانيف الشيعة: 6/152، مادّة «الحاشية» وقد سقط من قلمه الشريف بعض التعاليق الموجودة في خزائن الكتب كما أنّه لم تسجل فيها التعاليق التي ألّفت في الأعصار المتأخّرة وممّا سقط من قلمه الشريف حاشية «إرشاد الأفاضل» للوالد قدّس سرّه.
(14) . نعم ربّما يشير صاحب الجواهر إلى عدم حجّيّة الأصل المثبت، في مواضع من كتابه، لاحظ ج 31: 134 و 364 من كتاب «جواهر الكلام» ، إلاّ أنّ الشيخ الأنصاري حقّقه و حرّره بنحو بديع و بمثال غير سابق.
(15) . غاية الآمال، للشيخ حسن المامقاني المتوفّى 1323.
(16) . الذريعة 3: 216-221.
المصدر: كتاب: الشيخ الأنصاري ، رائد النهضة العلمية الحديثة لآية الله الشيخ جعفر السبحاني