الاجتهاد: تناول الباحث إحدى المسائل الفقهية الخطيرة وهي کفر وارتداد منكر الضروري وما يترتب عليه من أحكام كنجاسته وحرمة ذبيحته وحرمانه من الإرث وغيرها، والبحث دار حول مدى إطلاق الإنكار أو تقييده، حيث طرحت أدلة الإطلاق وتمت دراستها.
إنّ الكافر في العقيدة وهو المقابل للمسلم والمؤمن والمحكوم عليه بالنجاسة وحرمة ذبیحته وعدم توريثه وتزويجه وعدم استحقاق تجهيزه عند موته ونحوها من الأحكام اللاحقة له هو معنی مخصوص متحقّق – في ضوء ما دلّت عليه النصوص الشريفة في الكتاب والسنّة – بإنكار الألوهية أو الوحدانية أو الرسالة المحمدية أو المعاد يوم القيامة، وقد دلّت مجموعة من نصوص الكتاب والسنّة أن من لا يؤمن بالله أو بوحدانيته کافر ليس بمسلم، وأن من لا يؤمن برسالة محمد “صلى الله عليه وآله وسلّم” ولا يشهد الشهادتين كافر ليس بمسلم، وأنَّ من لا يؤمن بالمعاد يوم القيامة کافر ليس بمسلم، وقد أعدّت النار للكافرين.
وبخلافه دلّت النصوص القطعية على أنَّ من شهد الله بالوحدانية ولمحمد بالرسالة و آمن بالمعاد يوم القيامة فهو مسلم معصوم الدم والمال والعرض وحلال الذبح ويثبت له التوارث و نحوها من الأحكام المترتّبة على إسلام المرء. هذا.
وقد حكي مكرّراً عن جمع من الفقهاء “رضي الله عنهم” أن منكر الضروري کافر، بل حكي عن مفتاح الكرامة: أنّه المشهور بينهم قديماً وحديثاً، وهذا كلام مجمل قد أطلق فيه الحكم بالكفر مرتّباً على موضوع – منكر الضروري – ولا يوثق بإرادته على إطلاقه، لا أقلّ من عدم الدليل المثبت لكفر منكر الضروري على الإطلاق، وحينئذ يُسأل هل أن إنكار الضروري على إطلاقه کفر نظير الوحدانية في كون إنكارها سبباً لتكفيره؟
لعلّ من المقطوع به عدم صحة الإطلاق والشمول الظاهر من عبارة (منكر الضروري کافر)؛ ولذا قيّد بعض الأواخر کفر منكر الضروري بما إذا كان إنكاره راجعاً إلى إنكار نبوة محمد أو إلى عدم تصديقه في نبوته أو شريعته التي نزلت عليه من السماء مع إلتفات المنكر إلى كون إنكاره يؤول إلى تكذيب النبي والشريعة التي جاء بها، فإذا لم يلتفت أو لم يقرّ بهذا المعنى اللازم لإنكاره الضروري لم يكن كافراً، وهذا هو الصحيح.
وعليه، فإنكار الضروري مع الالتفات إلى استلزامه تکذیب النبوة والشريعة وإقراره باللازم هو الكفر، وهذا مصداق من مصاديق الكفر بالمعنى المتقدّم المستظهر من النصوص الشرعية المعتمدة، وحينئذ يخرج ما كان إنكاراً لضرورة دينية عن جهل أو تسامح أو استخفاف محض أو شبهة مع إذعان القلب واللسان بصدق النبوة والنبي والرسالة.
ويدخل ما كان إنكاراً لحكم شرعي – وإن لم يكن ثابتاً بالضرورة – إذا استلزم تکذیب النبي “صلى اللّه عليه وآله وسلّم” وإنكار رسالته مع الالتفات الى هذا اللازم والإلتزام به ، فيكون كافراً بتكذيبه نبوة “محمد صلى اللّه عليه وآله وسلم”.
القول بكفر منكر الضروري مطلقاً:
لكن قد يُستدلّ على كفر أو ارتداد منكر الضروري مطلقاً حتى إذا لم يلتفت الى كونه ضرورياً والى استلزامه تكذيب النبي “صلى اللّه عليه وآله وسلّم”، ويُتمسّك له بطائفتين من الأخبار و آية من القرآن :
١- الطائفة الأولى من الأخبار:
ما دلّ (1) على أن جحد الفريضة كفر، نظیر: رواية أبي الصباح الكناني المتضمّنة قول أمير المؤمنين “عليه السلام”، فما بال مَن جحد الفرائض كان كافراً(2)، ونظير: رواية عبدالرحيم القصير: «وإذا قال للحلال: هذا حرام، وللحرام: هذا حلال، ودان بذلك فعندها يكون خارجاً من الإيمان والإسلام إلى الكفر (3).
المناقشة:
وفيه:
أوّلاً – عدم الوثوق بطريق الخبرين – حيث إن الأول يرويه محمد بن الفضيل عن أبي الصباح الكناني، ولم يتحقّق وثاقة ابن الفضيل – وهو مشترك – ، والثاني يرويه عبد الرحيم القصير، وهو في هذه الرواية مردّد بين ابن روح المعروف بالرواية وبين ابن عتيك غير المعروف، و كلاهما لم يتحقّق وثاقتهما بدلیل معتبر.
وثانيا مع غضّ الطرف عن السند فالدلالة قاصرة؛ إذ من القريب جدّاً أن جحد الفرائض وإنكارها يراد به إنكارها مصحوباً بالعلم والإلتفات اليقيني إلى أن هذا حرام شرعاً ويقول عنه (هو حلال) وأن ذاك الحلال شرعاً يقول عنه (هو حرام)؛ وذلك لقوة احتمال دخل العلم والإلتفات في معنى الجحود، كما في قوله سبحانه {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ} (4)، فإنّه قد يُستظهر من الآية أن العلم واليقين له مدخلية في مفهوم الجحد والإنكار المذموم والموجب للكفر والارتداد، لا سيما مع قوله عليه السلام : «ودان بذلك» في رواية القصير: وإذا قال للحلال: هذا حرام، وللحرام: هذا حلال ودان بذلك فعندها يكون خارجاً من الإيمان والإسلام إلى الكفر.
وحينئذ لا ريب في أن إنكار الحلال والحرام وجحده – وهو إنكار مستبطن للعلم واليقين ويُصاحب الالتفات إلى أنّ زعمه مخالف للتشريع ومستلزم لتكذيب النبي “صلى الله عليه وآله وسلّم” ۔ فهو استحلال وجحود و انکار موجب قهراً للكفر والخروج من الإسلام والارتداد عنه، من دون اختصاص الإنكار بما ثبت بالضرورة شرعاً، بل إنكار كلّ حكم وتشريع ثابت بالدليل مع الإلتفات الى استلزامه إنكار رسالة النبي “صلى الله عليه وآله وسلّم” وصدقه في نقل الشرع من السماء هو كفر و جحود واستحلال موجب للارتداد.
ومن الواضح أن منكر الضروري ليس في کلّ الأحوال ملتفتاً إلى استلزام إنكاره تکذیب الرسول والرسالة بحيث يُحرز تحقّق الجحود منه ليكون كافراً على الإطلاق، ولذا لا تصلح هذه الروايات دليلاً على كفر منكر الضروري على الإطلاق.
٢- الطائفة الثانية من الأخبار:
ما دلّ على أن مرتكب الكبيرة بزعم كونها حلالاً يخرج عن الإسلام، نظير: معتبرة عبد الله بن سنان: “مَن ارتكب كبيرة من الكبائر فزعم أنّها حلال أخرجه ذلك من الإسلام” ومعتبرة مسعدة التي وصفت مرتكب الكبيرة بأنه ” يخرج من الإسلام إذا زعم أنها حلال (5)، أي: زعم حلّية الكبيرة التي ارتكبها، ويمكن الاستدلال باطلاقها على كفر مرتكب الكبيرة الذي يزعم ويعتقد أنّها حلال سواء التفت إلى لازم زعمه و أنّه يؤول الی تکذیب الرسول والرسالة أم لم يلتفت إلى ذلك.
وهذه الروايات يمكن أن تصدق دلالتها على أن ترك العمل الواجب أو ارتكاب الحرام بزعم عدم الوجوب أو عدم التحريم هو كفر وخروج من الإسلام؛ لما فيه من تغيير شرع الله و تکذیب رسوله ورسالته، وهذا كفر لا محالة.
المناقشة:
لكن في دلالتها على كفر منكر الضروري مطلقاً إشكال ينشأ من أن العنوان المنصوص – موضوع الكفر والخروج عن الإسلام : مرتكب الكبيرة الذي يزعم أنها حلال – ، وهذا العنوان لا ينطبق على ( منكر الضروري ) على إطلاقه، بل بين العنوانین عموم من وجه، يلتقيان في إنكار الضرورة وارتكاب الكبيرة الضرورية مع زعم أنها حلال، ويفترقان فيما لو زعم حلّية ما هو حرام ثبتت حرمته بدلیل معتبر ولم يثبت بالضرورة، وفيما لو أنكر الضروري من دون التفات إلى كونه ثابتاً في الشرع بحدّ الضرورة، أي: لم يزعم أنّه حلال.
وعليه، لا ينطبق العنوان المنصوص موضوعاً للكفر على ( منكر الضروري ) على الاطلاق حتى غير الملتفت إلى ضرورته واستلزامه تکذیب الرسول والرسالة والذي لم يزعم خلاف الضرورة.
٣- الاستدلال بالكتاب: ويمكن أن يُستدلّ ثالثاً على كفر منکر وجوب الحج الثابت في الشرع ضرورة بما تشعر به آية الحج أو تدلّ عليه، قال تعالى: {وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ}(6) ، فإنّه سبحانه عبّر عن ترك الحج بالكفر، ويؤكّد أن المراد من الكفر هنا هو الترك: الخبر الصحيح(7) الذي يسأل فيه معاوية عن قول الله عزّوجلّ: {وَمَن كَفَرَ} قال عليه السلام: ( يعني مَن ترك)، فيكشف النص القرآني عن كفر تارك الحج الواجب بالضرورة.
المناقشة:
ويرد عليه: عدم إحراز إرادة الكفر المقابل للإيمان والإسلام والذي ترتّبت عليه مجموعة من الأحكام الشرعية،
وتوضيحه:
إنّ الكفر في إطلاقات الكتاب العزيز والسنّة المطهرة على معنيين:
المعنى الأول: الكفر المقابل للإسلام، وهذا المعنى هو الذي تترتّب عليه بعض الأحكام، كعدم الإرث والتجهيز، وعدم حرمة الدم وعدم حلّية الذبح ونحوها.
المعنى الثاني: الكفر المقابل للطاعة وشكر المنعم، وهو معنی ملتئم مع الإسلام، وهو المقصود من قوله سبحانه: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورً}(8) ، فالإنسان اما أن يكون مهتدياً شاكراً لأنعمه وأفضاله سبحانه مطيعاً لأمر مولاه عاملاً بوظائفه مجتنباًعن محرّماته أو يكون كفوراً جاحداً لأنعمه وإفضاله ممتنعاً عن إطاعة أوامره ونواهيه.
ومن القريب جدّاً أن يكون مراده سبحانه من أن تارك الحج كافر هو كفر النعمة وكفر العصيان الذي هو قبال شكر المنعم بالإطاعة والانقياد، وليس المراد كفر الجحود والخروج عن حظيرة الإسلام، و كأنّه قد توهّم بعضهم إرادة كفر الجحود من آية الحج: {وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ}(9) ، ثمّ سری الوهم الى بعض السادة الفقهاء الأجلاء – كعلي بن جعفر – حيث سأل أخاه موسی “ره” (فمَن لم يحج منا فقد كفر)، فأجابه “ره”: «لا، ولكن من قال: ليس هذا هكذا فقد کفر (۱۰)، أي: مَن زعم أن الحج غير واجب أو لم يجعله الله فرضاً على عباده مَن استطاع منهم إليه سبيلاً فهو كافر.
وهذه الصحيحة تصلح أن تكون مؤكّدة لما ذكرنا من أنّ الكفر في آية الحج هو كفر النعمة المقابل للعصيان وترك أداء الحج، أو يُحمل على كفر الجحود لكن مع تقييد الترك بكونه مصحوباً بزعم عدم وجوب الحج مخالفاً لصريح القران «ليس هذا هكذا ، أي: يكون ترك الحج مصحوباً بانكار وجوبه في القرآن.
وبتقریب ثان: الصحيحة تنفي كفر كلّ من ترك الحج، وتُثبت کفر من زعم أن الحج لم يفرضه الله في قرآنه على الناس، فيدور أمر الآية بين حمل الكفر على كفر الجحود وبين حمله على كفر النعمة والعصيان، فيحمل على كفر الجحود والخروج عن حظيرة الإسلام مع قيد – زعم عدم إيجاب الحج في القرآن أو عدم تصديق القرآن في فرض الحج على العباد – ،
وحينئذ: لا يكون ترك الحج كفراً و خروجاً عن الإسلام إذا لم يكن معه اعتقاد عدم وجوبه أو زعم عدم إيجاب الشرع إيّاه، بل الكفر ترك الحج مع الاعتقاد المذكور حيث يلزم تکذیب القرآن مع الإلتفات إلى اللازم، وإلا فمجرّد الترك لا يوجب الكفر، بل هو عصیان عظيم وإن كان ناشئاً عن استخفافه بالواجب الشرعي وتسامحه في امتثاله، فإن عظمة المعصية ناشئة من ترك امتثال واجب مهمّ من أركان الإسلام ودعامة من دعائم الدين الحنيف، ويزيد تركه للحج سوءً وعصياناً واثماً إذا كان ناشئاً من استخفافه بدينه و تسامحه في أمثال أوامر ربه؛ فإن الاستخفاف والتسامح يكشف عن سوء سريرة العبد مع بارئه، و یزید عمله سوءً وإثماً.
أهمّ نتائج البحث:
١- كون إيجاب إنكار ضروري الدين للكفر والارتداد مقیّداً بقيدين، وهما:
ما إذا كان الإنكار راجعاً إلى إنكار نبوة محمد”صلى الله عليه وآله وسلم” أو الى عدم تصديقه في نبوته أو شريعته التي نزلت عليه من السماء.
ما إذا كان المنکر ملتفاً إلى كون إنكاره يؤول الى تکذيب النبي وشريعته.
وعليه، فإذا لم يقرّ بهذا المعنى اللازم لإنكاره الضروري أو لم يلتفت، لا يكون كافراً ولا مرتدّاً.
۲- عرض أدلّة القول بكون إنكار الضروري موجباً للكفر مطلقاً، وكانت ثلاثة، وهي عبارة عن: آية من الكتاب، وطائفتين من الأخبار.
٣- تمّت مناقشة تلك الأدلّة وردّها.
الهوامش
(1) الحر العاملي، محمد بن الحسن، وسائل الشيعة، ١: ٣٤، ٣۷، ب۲ من أبواب مقدمة العبادات، ح ۱۳، ۱۸.
(۲) المصدر السابق، ١: ٣٤، ب۲ من أبواب مقدمة العبادات، ح۱۳.
(٣) المصدر السابق، ۱: ۳۷، ب۲ من أبواب مقدمة العبادات، ح ۱۸.
(٤) النمل: ١٤.
(٥) الحر العاملی، محمد بن الحسن، وسائل الشيعة، ١: ۳۲، ب۲ من أبواب مقدّمة العبادات،ح١٠.
(٦) آل عمران: ۹۷.
(٧) وإليك نص الحديث: عن علي بن جعفر عن أخيه موسی ع، قال: «إن الله عز وجل فرض الحج على أهل الجِدَة في كل عام، وذلك قوله عزوجل {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا ۚ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} قال: قلت: فمَن لم يحج منا فقد كفر؟! قال: «لا، ولكن مَن قال: (ليس هذا هكذا) فقد كفر” [الحر العاملي، محمد بن الحسن، وسائل الشيعة، ۱١ : ۱٦ ، ب۲ من أبواب وجوب الحج وشرائطه، ح۱]
(۸) الإنسان: ۳.
(۹) وهو قوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا ۚ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران ٩٧].
(10) الحر العاملي، محمد بن الحسن، وسائل الشيعة، ۱۱: ۱٦، ب۲ من أبواب وجوب الحج وشرائطه ح١.
المصدر: العدد السابع من مجلة الاستنباط التي صدر حديثا في النجف الأشرف