الاجتهاد: يوم الجمعة 13 / 6 / 2014 .. كان يوماً مميزاً للعراقيين .. حيث كان الوضع الأمني والنفسي منهاراً في العراق في ساعات الفجر الأولى.. مع سيطرة تنظيم داعش الإرهابي على أكثر من ثلث مساحة البلاد..
وزحفه المتواصل باتجاه العاصمة.. لولا رحمة الله عز وجل.. ونداء المرجعية العليا الذي شق جدار الهزيمة.. وقلب المعادلة إلى نصر عظيم مع حلول مساء ذلك اليوم.
* بعد 11 عام.. وفي اليوم ذاته.. الجمعة 13 / 6 / 2025 .. كان الوضع النفسي والمعنوي والأمني منهاراً في إيران.. وبلغت القلوب الحناجر.. الانفجارات في كل مكان من طهران وبقية المدن الكبرى.. اغتيالات متواصلة لأركان الدولة.. والصف الأول من العلماء.. مسرح مفتوح لعناصر الموساد والعملاء.. ومصير مجهول.
ومرة أخرى.. جاء اللطف الإلهي مع حلول مساء ذلك اليوم.. واستطاع الإيرانيون إيقاف الانهيار.. والبدء بأخذ زمام المبادرة.
* (270) ساعة من المواجهات بين إيران والكيان الصهيوني.. خلال 12 يوم.. كانت السمة الأبرز فيها أن الطرفان يعضان على جراحهما.. وكل منها يريد الاستمرار حتى يسقط خصمه.
* مع اندلاع المواجهة التي كانت مؤجلة ومنتظرة منذ عقود.. كانت الطرفان يحسبان المعادلة بحسابات صفرية وعلى مستوى وجودي..
كانت إيران ترى.. أنها إذا خسرت المعركة (بشكل حاسم) سيتفكك ما تبقى من محور المقاومة.. ويدخل الإقليم كله في عصر الإله الأمريكي والغول الإسرائيلي.. وتصبح إيران مزرعة خلفية لإسرائيل.. وسوقاً حرة لأمريكا.. هذا إذا بقيت إيران موحدة.. ولم تتحول إلى سودان مفكك.. وليبيا محطمة.. وصومال منسية تماماً.. وأسوأ من ذلك بكثير.
وكانت دويلة إسرائيل ترى.. أنها إذا خسرت المعركة (بشكل حاسم).. وتم القضاء على آخر ما تبقى من أسطورة الردع الإسرائيلية.. وكذبة التفوق الصهيوني.. فإن فلسفة وجود الكيان من أصلها سوف تتلاشى.. وسيهرب سكان هذه الأرض المغتصبة تاركين خلفهم المستقبل المشكوك والمظلم.. وأحلام الأمان والرفاهية والهيمنة.. وسيرى جميع اليهود في العالم أن الأرض الموعودة قد تصبح أرضاً محروقة.. وعندها لن تبقى إسرائيل.. وستتفسخ من الداخل قبل أي مواجهة أخرى مع العرب أو تركيا أو إيران.
وهكذا -كما تلاحظون- بقي الطرفان طيلة المواجهة يتحركان على ضوء خريطة واضحة.. خريطة لم يُكتب أويُرسم فيها أي شيء إطلاقاً.. سوى عبارة واحدة (إحذر أن تخسر بشكل حاسم).. لأن الخسارة الحاسمة لن يعقبها مجرد رفع للراية البيضاء والتوقيع على وثيقة استسلام والعودة للوراء فحسب.. بل ستكون سقوط الدولة ونهاية التاريخ للطرف الخاسر.
* مدعومة بأمريكا وأوربا وما لا تعلمون.. حاولت دويلة الكيان تحمل الضربات والصمود حتى اللحظة الأخيرة على أمل سقوط إيران أولاً.. وقصفت بكل ما تستطيع من قوة كافة المفاصل الأمنية المهمة في إيران.. مترقبة انفجار الوضع في الداخل الإيراني.. وخروج الأمور عن السيطرة.. وإركاع إيران وإجبارها على الاستسلام.
* ومدعومة بصبر وشجاعة شعبها الكبير.. واستعدادها الجيد.. وموقعها الجغرافي ومساحتها المميزة.. وقفت إيران في المقابل صامدة.. ولم تسقط رغم كل الجراح.. واستمرت في إدارة المعركة بثبات وذكاء.. حتى قلبت الحسابات..
قلبتها من تحمس إسرائيلي لسقوط النظام الإسلامي وهزيمة حاسمة له..
إلى صدمة صهيونية بقوة الرد وشعور بالمفاجأة على وقع الصواريخ الإيرانية..
إلى تردد وندم خفي لارتكاب هذه الحماقة من أساسها..
إلى توسل صريح لأمريكا بالتدخل وإنقاذ الموقف..
إلى إعلان واضح في اليوم الأخير بأنها تريد إنهاء القتال.. خوفاً من خسارة حاسمة لها..
وفي النهاية كانت إيران.. صاحبة الصاروخ الأخير.
* وهذا يقودنا إلى تصور واضح وبسيط لما جرى في اليوم الأخير.. بعيداً عن الكواليس وما جرى فيها.. وبعيداً عن سيناريوهات التواصل الخفي بين الأطراف وما إلى ذلك.. فالمعادلة تبقى معادلة مهما حصل من اتفاقات آنية لتدارك الموقف.. والذي حكم في النهاية ومهما كانت التفاصيل.. هو معادلة واحدة بسيطة:
إيران لا يمكنها الاستمرار حتى تحقيق نصر حاسم على العدو المدعوم من أغلب العالم.
دويلة الكيان لا يمكنها الاستمرار حتى تحقيق نصر حاسم على إيران المستعدة جيداً والمستميتة.
إيران كانت تخشى أي متغير قد يؤذيها ويقلب المعادلة ضدها نحو خسارة حاسمة.
دويلة الكيان كانت تخشى أي متغير قد يؤذيها ويقلب المعادلة ضدها نحو خسارة حاسمة.
* ونتيجة هذه المعادلة أن الجميع كان من مصلحته إيقاف (هذه الجولة) إلى هنا.. وعدم الاستمرار في الاستنزاف.. والاقتراب من المجهول.
* وهكذا توقفت الحرب على قاعدة (غير خاسر x غير خاسر) وهي أكثر واقعية من قول المحللين في عالم السياسة والتجارة (win-win situation).
* وإذا كان ولا بد من تسمية فائز في هذه الجولة.. فهو بلا شك (إيران).. ودعك من كون كاتب هذا المقال شيعياً.. أو منحازاً بحكم العقيدة أو الحس الاجتماعي لصالح إيران..
بل المعطيات هي التي تؤكد أن المنتصر في هذه الجولة هي إيران.. وسأعطيك ثمانية مؤشرات على ذلك.. مع غض النظر عن المؤشرات الجزئية الكثيرة:
1. كان الهدف الأساسي من الاعتداء هو كسر الحلقة الأخيرة في سلسلة الرفض للكيان.. وبالتأكيد لن تشعر هذه الدولة المصطنعة بالأمان ما دامت هناك مساحة في الشرق الأوسط يجتمع فيها الرافضون لوجوده.. ويحصلون على أي نوع من أنواع الدعم.
والكسر يعني إسقاط النظام الإسلامي والتخلص منه.. وإسقاط النظام يعني أنهاء وجوده الفعلي.
وهذا الهدف لم يتحقق للآن.. رغم كل المحاولات الكبيرة منذ سنوات.. ويمكن القول أن هذه المواجهة كانت ثاني أكبر هجوم يشنه أعداء إيران ضدها بعد الحرب العراقية الإيرانية في الثمانينات.
وفي هذه النقطة إيران خرجت منتصرة وأحبطت أعداءها.
2. يمكن القول أن هذه الجولة القصيرة من المواجهة.. أعادت الوضع الإقليمي لإيران إلى مرحلة ما قبل استشهاد سليماني.. حيث كان منسوب هيبة إيران والحذر من انتقامها قبل اغتياله عالياً.. وبدأ بالهبوط التدريجي مع ازدياد جرأة العدو واستخفافه.. حتى وصلت سطوة إيران وهيبتها إلى أدنى مستوياتها في فترة الاغتيالات الكبيرة (من هنية إلى نصر الله) التي امتدت لشهرين مؤلمين لإيران.. رغم الردود المحدودة التي أبدتها.
تقييمي للوضع الحالي أن إيران وبسبب الرد القاسي على الكيان.. والتماسك الداخلي وإدارة الحرب بثبات.. أستعادت (أو بدأت على الأقل باستعادة) هيبتها السابقة (والنقطة الرابعة ستوضح أكثر).
على الجانب الآخر.. فقد استقبل الداخل الصهيوني هذه المواجهة بحالة من النشوة والارتياح في اليوم الأول.. والكثير منهم اعتبر أن هذا النصر يشبه انتصار حرب الأيام الستة عام 1967 .. ولكن سرعان ما بدأت النشوة تختفي والتفاؤل يتقلص مع وقع عماد وسجيل وخيبر.. حتى ظن بعضهم أنها ستنتهي بشعور يشبه شعور (لعنة أكتوبر) أعني 6 أكتوبر 1973 و 7 أكتوبر 2023.
وهذه كما ترى نقطة أخرى لصالح إيران.
3. كان الإسرائيلي يهدد منذ سنوات بأنه لن يسمح باستمرار البرنامج النووي لإيران.. وسيقضي عليه ولو بالقوة.. كما فعل مع العراق وسوريا.
أما الآن وقد استخدم جميع الوسائل العسكرية المتاحة باستثناء السلاح النووي.. ولم يستطع اختراق المفاعلات النووية لا بالقصف ولا بعمليات التخريب المخابراتية.. ثم استعان بأمريكا التي استخدمت هي الأخرى أقوى ما لديها من قنابل غير نووية.. ثم اعترفوا بأنهم لم يدمروا كل شيء وإن إيران قادرة على العودة والاستمرار ببرنامجها.. فماذا بعد ذلك؟ وبأي شيء سيهددون إيران في المفاوضات القادمة حول النووي؟
ولا شأن لكم بالضجة الإعلامية والتصريحات المنتفخة من ترامب حول نجاح الضربة وتدمير كل شيء.. فمهما كان حجم الدمار فهو لم يقض على شيء بالنسبة لإيران.
ان مجرد معرفة الجميع بأن الخيار العسكري في القضاء على النووي أصبح من الماضي.. هو نقطة قوة تفاوضية لإيران لا تقدر بثمن.
هذا مكسب جديد سجله عندك.
4. في الوقت الذي حرك فيه الكيان كل ما لديه من أوراق.. العلاقة بأمريكا.. العلاقة بأوربا.. العلاقة بأذربيجان.. أوكرانيا.. حاخامات يتكلمون.. لوبيات التجارة وجماعات الضغط في كل العالم.. كل شيء صار يعمل لخدمة دويلة إسرائيل.. واستخدمت كما قلت جميع أوراقها شبه الصفرية ما عدا النووي..
إلا أن إيران لم تحرك شيئاً من أوراقها الصفرية.. فلا مضيق هرمز تم إغلاقه.. ولا طلبوا دعماً من الحلفاء.. لا على مستوى الدول كروسيا والصين واليمن .. ولا الحركات كحزب الله وفصائل العراق.. ويبدو انها كذلك لم تستخدم جميع الأنواع المبتكرة من الصواريخ.
بل حتى الوضع الاجتماعي الشيعي في مدنه الكبرى في إيران والعراق .. بدا هادئاً مسترخياً من الناحية الميدانية.. والمعيشية.. وإن كان مراقباً وقلقاً من الناحية النفسية.. ولم تضطر مرجعيات الشيعة الكبرى وعلى رأسها المرجع الأعلى دام ظله.. إلى إعلان نفير عام من أي نوع.
بل ما أعجبني هو شدة انضباط ووعي الشارع العراقي.. فكأن كل عتبه على إيران وانتقاده لتصرفاتها في العراق.. تم تجميده ونسيانه حالياً.. مع وجود عدو مشترك مجرم مثل الصهاينة.
هذا التعاطي الإيراني والشيعي مع المواجهة بدون تحشيد واستجداء دعم من أحد.. في مقابل الصراخ الإسرائيلي في كل مكان.. إن لم يكن نصراً فماذا يكون؟
5. أعطى الثبات الإيراني جرعة من الثقة والأمل.. لمحور المقاومة وجمهوره.. بأنه ما زال هناك جدار قوي يمكن الاتكاء عليه.. وهذا سيسرع من وتيرة الترميم وإعادة البناء.
في حين أصبح الصهاينة متشككين جداً تجاه الدعم الأمريكي.. وتملك المستوطنين شعور عميق بالشك.. بأنهم تُركوا لمصيرهم بينما الصواريخ كانت تتساقط عليهم.. وأخذوا يستيقظون من الحلم الذي يقول (إذا جُرحت تل أبيب نزفت نيويورك).
ومرة أخرى أقول لا شأن لكم باللافتات المعلقة في تل أبيب لشكر ترامب وتمجيده على لسان نتنياهو.. لأن من يشك في شيء يكثر الحديث عنه.. وهم يعتقدون أن ترامب لم يساعدهم بما يكفي.
وهذا الانقلاب في القراءات.. مكسب آخر لإيران.
6. بعد كل ما فعلته في غزة.. من جرائم بحق الأطفال تدمى لها القلوب.. استنزفت دويلة الكيان أخر ما تبقى لها من رصيد التعاطف والاحترام لدى شعوب العالم.. ومع رؤية الصواريخ تتساقط في العاصمة.. انتشرت حالة من التشفي والشماتة بين شعوب الأرض.. وعادت إسرائيل دولة منبوذة ملعونة من الجميع.
بل وصل الأمر.. أن تصدر الخارجية الأمريكية تحذيراً إلى رعاياها في كل العالم.. من تعرضهم لأعمال كراهية.. بسبب دعمها للكيان.
بينما سطع نجم إيران من جديد.. وأصبحت محل اعتزاز (ولو مؤقتاً) من العرب والمسلمين كافة.. وحشر دعاة الطائفية والذباب الصهيوني الإلكتروني في زاوية ضيقة.. لم يشهدوا مثلها منذ حرب تموز 2006.
هذا مكسب جديد لإيران ينفعها في القوة الناعمة.
7. بسبب عجزه عن إسقاط إيران بالضربة الأولى.. أضطر الكيان في هذه المواجهة.. إلى تحريك كل شبكات العمالة في الداخل.. واستنزاف أكبر قدر من العملاء في الميدان.. وبشكل فاضح في بعض الأحيان.. ومع ذلك لم يصل إلى النتيجة التي أرادها وعمل على التحضير لها لسنوات.
بينما أصبحت هذه فرصة لإيران (رغم خسائرها المؤلمة) بأن تلاحق هذه الشبكات.. وتعالج مواطن الفشل في عملها الاستخباراتي.. وتدرس طبيعة العدو وخططه بشكل أعمق.. وهذا مكسب مهم للغاية.. يسجل كمؤشر بارز للنصر.. ما دام العدو أحرق أوراقه ولم يحقق أهدافه.
8. أسقطت هذه الحرب (أو على الأقل دمرت اجزاء كبيرة) من سرديات كانت ثابتة لدى العرب.. ولم يكن لدى إيران الواجهة العربية المناسبة مثل تركيا للتعامل مع هذه السرديات وتفكيكها.
سرديات مثل (تمثيلية بين الكيان وإيران) و (ظالم ضد ظالم) و (إيران تقاتل بأذرعها فقط) و (الشيعة سكين في خاصرة المسلمين) الخ.
لكن هذه الحرب ساعدت كثيراً في تحطيم هذه السرديات.. وتصفير كل جهود الوحدة 8200 .. كما قال أبو تمام (السيف أصدق أنباء من الكتب).
هذه ثمانية مكاسب لإيران.. رغم كل التضحيات والدمار الذي تعرضت له في هذه المعركة.. وربما فاتني ذكر الكثير غير ذلك.
وأختم هذا المقال بالاجابة سريعاً على خمسة أسئلة:
س1: هل ستعود إيران إلى المفاوضات؟
الجواب: هذا مؤكد.. ولا أدري ان كانت ستقبل الجلوس بشكل مباشر مع الأمريكيين أم ستبقي على الوسيط العماني.
س2: على ماذا سيكون التفاوض؟
الجواب: نفس الدوامة.. التخصيب ونسبته.. داخل إيران أو خارجها.. هل يدخل البرنامج الصاروخي في المفاوضات.. هل تدخل حركات المقاومة في المفاوضات؟ وهكذا لا شيء تغير.
س3: ماذا لو رجعنا إلى نقطة الصفر بدون اتفاق وعاد الكيان الصهيوني للهجوم؟
الجواب: الكيان سيهاجم مجدداً عاجلاً أم آجلاً.. فالذي انتهى هو جولة واحدة وليس كل المعركة.. لكنه سيحاول ترميم شبكة عملائه في الداخل والتحرك من خلالها في البداية.. وهذا أكبر تحدي تواجهه إيران اليوم.. ووزارة الاستخبارات (الاطلاعات) منتبهة لذلك جيداً.. والإيرانيون يعيدون ترميم وضعهم أيضاً.
س4: هل سيتم رفع العقوبات الاقتصادية عن إيران ؟
الجواب: هذا مستبعد.. ولكن اذا استطاعت انتزاع بعض حقوقها النووية (خصوصاً إذا رغبت أمريكا في تحييدها عن صراعها القادم مع الصين) فستأخذ معها بعض حقوقها الاقتصادية أيضاً.
س5: هل سيتلاشى الدعم العربي والإسلامي لإيران وتعود مكروهة؟
الجواب: علينا الاعتراف أن الضخ الإعلامي الذي يتلقاه العالم كله حول شيطنة إيران والشيعة ليس هيناً.. وهو يضر بنا كثيراً.. خصوصاً مع بعض التصرفات التي تعزز هذه البروباغندا وتوفر لها المادة المناسبة.. لكن يمكن القول أن هذه المعركة خففت من حدة الكراهية القائمة منذ أحداث سوريا.. وإن كانت لم تقض عليها تماماً.