الاجتهاد: یستعرض فضيلة الشيخ حسن السعيد في هذا البحث بعضا من النظريات الموجودة (ست نظريات)في الفرق بين الأمارات والأصول مع رصدٍ لأبرز ما أثير حولها إن وجِد.
تقتضي بشرية تلقي النص المعصومي، البحثَ في دلالات النصَّ وما يترتب عليه حسب الفهم العقلائي. ومما وقع البحث عنه أصوليًّا هو مدى حجية اللوازم العقليّة والعادية المترتّبة على كلٍّ من الأمارة والأصل. فلو أنَّ الأصل والأمارة اقتضيا أثرًا ما يلزم منه أثر شرعي، فهل أنَّ للأمارة أو الأصل حجية ترتيب هذا الأثر الشرعي أم لا؟
وعلى الرغم من عدم التعرض الصريح لهذه الإشكاليّة في أصول الفقه بما يشمل الأصول والأمارات، إلا أنَّ الضرورة البحثية ألجأت إلى التعرض لهذه الإشكاليّة في بعض تنبيهات الاستصحاب، وهو التنبيه المسمى بتنبيه الأصل المثبت.
والمقصود بالإثبات في «المثبت» هو ترتيب الأثر الشرعي على اللازم غير الشرعي للملزوم، وهو إما أمارة أو أصل؛ فيبحث الفرق بين الأصول والأمارات عادةً في التنبيه المذكور تمهيدًا للخروج بنتيجة حول حجية المثبتات في الأمارات والأصول بما يصلح للحكم على حال مثبتات الاستصحاب، سواء على القول بكون الاستصحاب أمارةً أم أصلًا.
وهو ما ذهب من أجله بعض الأصوليين إلى أولويّة أن يجعل هذا البحث في مقدمات بحوث علم الأصول باعتباره من الإشكاليات التي تعم سائر البحوث[1].
وعلى أي حال، فإنَّ المشهور بين المتأخرين من الأصوليين هو أنَّ اللوازم غير الشرعيّة ثابتة في الأمارات دون الأصول[2]، بمعنى أنّه في الأمارات يمكن الاحتجاج بهذه اللوازم تبعًا للاحتجاج بالملزوم، دونما الاحتجاج بها في موارد الأصول؛ فالقاعدة العامّة على المشهور هو عدم حجيّة مثبتات الأصول.
وفي مقابل رأي المشهور، استشكل جملةٌ من الأعلام في وجود هذا الفرق، سواءٌ كان ذلك صراحةً كما نصّ على ذلك المحقق الخوئي (ره) في مصباح الأصول، حيث ذهب إلى أنَّه لا فرق بين الأمارات والاستصحاب من حيث كون المثبتات غير حجة في كليهما، إلّا أنَّ السيرة القطعية من العقلاء قامت على الحجية في خصوص مثبتات الأمارة في باب الأخبار فقط، وليس ذلك بناءً على قاعدة عامة بل لخصوصية في الموضوع كما يأتي بيانه مفصّلًا[3]؛ أم عن طريق نقد كافة ما ورد للاستدلال على وجود هذا الفارق بين الأمارات والأصول مع عدم التصريح بالرأي المختار بما يشي بعدم الاطمئنان لوجود فارق معتد به، كما يُستظهر ذلك من فريق آخر[4].
ومهما يكن الأمر، فإنَّ المقصود ههنا هو عرض ما استدلَّ به كل فريق، سواءٌ المشهور أم غيرهم، فنستعرض فيما يلي بعضا من النظريات الموجودة في الفرق بين الأمارات والأصول مع رصدٍ لأبرز ما أثير حولها إن وجِد، وهي نظريات ست.
النظرية الأولى: اختلاف دلالة الأمارات والأصول.
ويرجع هذا الاستدلال للشيخ الآخوند (ره) في كفاية الأصول.
وحاصله – على ما في منتهى الدراية – أنَّ إطلاق دليل اعتبار الأمارات والطرق الشرعيّة من غير الأصول العمليّة يدل على حجية دلالاتها المطابقية والتضمنية والالتزامية من دون فرقٍ بينها، فلو علمنا مثلًا بنجاسة أحد الإناءين إجمالا ثم قامت البينة على نجاسة أحدهما المعين فقد دلّت على لازمها وهو طهارة الآخر.
وأما الأصول العمليّة، سواء كانت موضوعية أم حكميّة، فإنّه لا دلالة فيها على الملزوم فضلًا عن اللازم حتى يدل دليل اعتبارها على حجيته كدلالته على حجية الملزوم، ومن ثمَّ فهو لا يقتضي إلّا التعبد بنفس المشكوك بترتيب الأثر الشرعي المترتب عليه دون ما يترتب على لوازمه وملزومه وملازماته[5].
وبقول مجمل: فإنَّ دليل حجية الأمارة ظاهر في جعل الحجية لكل من الحكاية والكشف بما يشمل المدلول المطابقي والالتزامي، في حين أنَّ الأصول العملية لا يدل دليلها على ذلك.
وقد اعتُرِض على هذا الاستدلال بما يلي:
1. ما أورده المحقق النائيني (ره) كما في أجود التقريرات من أنَّ الحكاية من الأمور القصديّة، ومن ثمَّ فإنَّ موردها مختص بما إذا كان الحاكي ملتفتا للوازم والملزومات كما في مورد اللازم البيّن بالمعنى الأخصَّ، ومن ثمَّ فلا يمكن أن يكون المثبت حجةً في الأمارات باعتبار انتفاء الالتفات للوازم والملزومات فيها[6].
وتوضيحه هو أنَّ الأدلّة تدل على حجية الخبر، وهو من العناوين القصديّة، ومن ثم فالإخبار عن الشيء لا يكون إخبارًا عن لازمه إلا لو كان اللازم بالمعنى الأخص، أي ما لا ينفك تصوره عن تصور ملزومه، أو إذا كان لازما بالمعنى الأعم مع التفات المخبر للملازمة، بخلاف ما عدا ذلك.
مثلًا: لو أخبر أحدٌ عن ملاقاة يد زيد للماء القليل مع كون زيد كافرا في الواقع، ولكنَّ المخبر عن الملاقاة منكر لكفره، فإنه يكون مخبرا عن الملزوم الذي هو الملاقاة، ولا يكون مخبرا عن اللازم وهو نجاسة الماء؛ لعدم التفات المخبر لذلك[7].
ومما يشهد لهذا الإيراد أنَّ من أنكر حكمًا من الأحكام الواقعيّة ولا يعلم أن مرجع إنكاره ولازمه تكذيب النبي (ص) فإنّه لا يحكم بكفره[8].
وقد حاول المحقق العراقي تنقيح هذا الدليل وتفادي ما قيل من إيرادات أعلاه، حيث ذهب إلى أنَّه ليس المراد من الكشف هو الكشف التصديقي حتى يلزم الالتفات، وإنّما المراد هو مجرد الحكاية التصورية، قال:
«وأما المنع عن تعدد الحكاية في الطرق والأمارات بتوهم عدم حكايتها إلا عن خصوص المؤدى دون لوازمه وملزوماته وملازماته بدعوى أنَّ المخبر عن الشيء كالموت والحياة قد لا يلتفت إلى لوازمه كالنمو ونبات اللحية، فضلًا عما يستتبعه من اللوازم الشرعية، مع وضوح أنَّ حكاية الخبر عن الشيء فرع التفات المخبر إليه، وبدونه يستحيل الحكاية: فمدفوع بأنَّ الأمر كذلك في الحكاية التصديقية الموجبة للإذعان بكون المؤدى مرادًا للمتكلم لا مطلقًا حتى بالنسبة إلى الحكاية التصورية.
واعتبار خصوصها حتى في لوازم المؤدى وملزوماته ممنوع جدًا، بل نقول: إنه بعد إحراز الحكاية التصديقية بالنسبة إلى المؤدى والمدلول المطابقي يكفي في صحة الأخذ بلوازمه وملزوماته مجرد حكاية الخبر عنها ولو تصورية الملاءمة مع القطع بعدم التفات المخبر والمتكلم إليها»[9].
غير أنَّ هذه المحاولة رُدَّت بأنَّ المنقسم للتصوري والتصديقي هو الدلالة لا الحكاية، والمقصود من الدلالة التصورية هو خطور المعنى الآخر من الكلام، في حين أن الدلالة التصديقية الأولى هي التفهيمية، والثانية هي وجود الإرادة الجديّة وفق المراد التفهيمي. ولو فُرِضَ وجود الحكاية التصورية، فلا دليل على أنَّ المعيار في الأمارات والإخبارات هو الحكاية التصوريّة[10].
2. ورُدَّ أيضًا بأنّه ليس لكل الأمارات لسان يدل على الحجية المطلقة، فبعضها قد يثبت بإجماع أو سيرة أو نحوهما، وعليه فلا يسوغ حشر جميع الأمارات حشرا واحدًا، مضافًا إلى عدم وجود قرينة على أنَّ الظاهر من الأمارات هو مطلق الحجيّة[11].
النظرية الثانية: اختلاف المجعول في الأمارات والأصول.
ويرجع هذا الاستدلال إلى المحقق النائيني (ره). وحاصله هو أنَّ الأمارات تختلف عن الأصول من جهات ثلاث:
الأولى: أنَّ الأمارة موضوعها متحد مع موضوع الحكم الواقعي باعتبار أنّها تحكي عن الحكم الواقعي النفس أمري، وحيث كان لا يمكن التعبد بها في ظرف العلم بالواقع وانكشافه، فإنّ حجيتها اقتصرت على موضع الشك في الحكم الواقعي. وأمّا الأصل فإنّه إنما يثبت حكمًا في طول الواقع ومترتبًا عليه؛ لأنَّ موضوعه هو الشك في الحكم الواقعي، وبالتالي فلا نظر له للواقع أصلًا.
الثانية: أنَّ الأمارات فيها جهة كشف للواقع، سوى أنَّ هذه الكاشفية ناقصة، فيُستعان لإتمام النقص بدليل الحجية، فالأمارة فيها كشف عن الواقع ولو بقطع النظر عن التعبد، وما تناله يد الجعل هو مجرّد المتمم الذي يُتعبّد به لاعتبار الأمارة.
وأما الأصل فإنّه لا يحوي على كشف غالبًا، والحالات التي يمكن أن يكون فيها الأصل حاويًا على كشف، فإنَّ دليل الحجية لا يكون فيها ناظرًا لتتميم جهة الكشف مثلما هو الحال في قاعدة الفراغ مثلًا.
الثالثة: أنَّ المجعول في الأمارات هو صفة المحرزية والوسطية في الإثبات، بمعنى أنَّ الأمارة جُعِلت طريقا لإحراز الواقع وانكشافه بها، في حين أنَّ المجعول في الأصل هو مجرّد التحريك العملي باتجاه الواقع الذي تعلق به، سواءٌ كان الأصل تنزيليًّا أم محرزًا، غاية ما في الأمر أنَّ الأصل المحرز يكون فيه التحريك العملي بالبناء على أحد طرفي الشكِّ، وذلك لا يؤثِّر أو يغيّر في نفس المجعول.
وبيان الاختلاف في الجعل هو أنَّ العلم الطريقي له أربع جهات يقتضيها:
الجهة الأولى أنّه صفة قائمة في النفس، والثانية أنه طريق وكاشف إلى المعلوم، والثالثة هو كونه محرّكًا عملًا نحو المتعلّق، والرابعة هو أنَّ العلم يقتضي التنجّيز والتعذير عند الموافقة للواقع والمخالفة له. والمجعول في باب الأمارات هو الطريقية والكاشفية نحو المعلوم، في حين أنَّ المجعول في الأصول العمليّة هو مجرد جهة التحريك العملي نحو المتعلق.
ويشتركُ كلٌّ من الأمارة والأصل – حسب نظرية المحقق النائيني (ره) – في أنّهما يحركان نحو الواقع الذي تعلقا به، أو بعبارة أخرى «تطبيق العمل على مؤداهما»، سوى أنَّ الفرق هو أنَّ تطبيق العمل على المؤدّى في الأمارات لا يكون إلا بتوسّط الإحراز والوسطية في الإثبات، فتطبيق العمل على المؤدّى في الأمارة هو من لوازم المجعول فيها، وأمّا في الأصول العملية فإنَّ التطبيق هو نفس المجعول[12].
وبناءً على هذه التفرقة بين الأمارات والأصول فإنَّ المحقق النائيني (ره) يقرّرُ حجيّة مثبتات الأمارات دون مثبتات الأصول، فطالما كانت الأمارة قد أعطاها الشارع خاصية انكشاف الواقع بها كما هو الحال في العلم الطريقي، فإنَّ ذلك يعني تتميم كاشفيّة العلم التشريعي، أي الأمارة.
وكما أنَّ العلم بالشيء وإحرازه وجدانًا يستتبع العلم بلوازمه وملزوماته مع الالتفات إليها، فكذلك الأمارة بعد أن أعطاها الشارع الحجيّة، «فلا محالة يكون مؤدى الأمارة بوجوده الواقعي ثابتا بالتعبد، ويلزمه ثبوت لوازمه وملزوماتها مطلقًا، ولو كانت عقلية أو عادية، فلو ترتب أثر شرعي على أحد لوازمه أو ملزوماته فلا بدَّ من ترتيبه؛ لأنَّ المفروض تحقق إحراز ما يترتب عليه ببركة الجعل الشرعي وجعلِ ما ليس بعلم علمًا بالتعبد»[13].
وأمّا الأصول، فإنه طالما كان المجعول فيها هو الجري العملي، فإنّها لا تكون ناظرة للواقع، بل هي ناظرة لمجرّد الجري بالمقدار الثابت من التعبد، وهو لا يتعدّى للوازم وملزوماتها، باعتبار أنَّ اللوازم والملزومات خارجة عن مورد التعبد بعد أن لم يتعلق اليقين والشك المأخوذان موضوعين للجري العملي باللوازم والملزومات أو موضوعاتها[14].
وقد اعتُرِض على هذا الاستدلال بوجوه:
1. أورد المحقق الخوئي (ره) على هذا الاستدلال بأنَّ الأدلّة الدالة على حجية الأمارة وإن كانت مطلقة في اللفظ (الثبوت) إلا أنّها حسب مقام الثبوت مقيدة بالجهل بالواقع، فالحجية الممنوحة للأمارة إما أن تكون للعالم بالواقع والجاهل به على حد سواء، أو أن تكون مقيدة بخصوص العالم، أو أن تكون مقيدة بخصوص الجاهل، ولا مجال للاحتمالين الأوّلين، ومن ثمَّ يتعيّن كونها للجاهل بالواقع، فدليل الأمارة مقيّد بمقيّد لبّي مانع عن التمسّك بإطلاقه.
بل إنَّ جملةً من أدلّة الأمارات مقيدة إثباتًا بالجهل وعدم العلم، ومن ثمَّ فليس صحيحًا القول بأنَّ هناك فرقًا بين الأمارة والأصل من جهة أخذ الشك موضوعًا[15].
2. وأورد المحقق الخوئي (ره) أيضًا على هذا المبنى أنّ القول بكون العلم الوجداني بشيء يقتضي ترتيب جميع الآثار حتى ما كان منها بتوسط اللوازم العقلية أو العادي، فالعلم الوجداني إنّما يقتضي ترتيب الآثار المذكورة لأنّ العلم بالملزوم يولد العلم باللازم بعد الالتفات للملازمة، فالترتّب ليس من جهة ذات العلم، وإنّما من جهة العلم باللازم الذي يتولد من مجرد العلم بالملزوم، وحيث إنَّ العلم التعبدي المجعول لا يتولد منه العلم الوجداني باللازم، ومن ثمَّ فلا وجه للماثلة في الترتب؛ لأنَّ العلم التعبدي تابع لدليل التعبد، وهو مختص بالملزوم دون لازمه[16].
3. وأشكل عليه السيّد السيستاني بأنَّ وعاء الاعتباريات غير وعاء التكوين، والذي يمكن للشارع وغيره هو اعتبار العلم بالنسبة للمؤدّى دون اللازم، واعتبار الخبر علمًا بالنسبة للملزوم لا يقتضي اعتباره علمًا بالنسبة للازم، والتلازم في التكوينيات غير جارٍ في الاعتباريّات[17]، وهو راجع في روحه إلى إيراد المحقق الخوئي (ره).
4. واعترض عليه السيد الشمس الخراساني (ره) بأنَّه لا يستقيم اعتبار الأمارات كاشفة عن الواقع أساسًا؛ إذ أنَّها ظن محض، والظن كالشك والوهم من حيث عدم الكاشفية عن الواقع، وغاية ما في الظن هو أنَّ الظان يرى الواقع بنحو الاحتمال الراجح، ومجرد الاحتمال الراجح لا تكون له الكاشفية إلا بالجعل الشرعي[18].
وبالجملة، فمرجع النقاشات تارةً إلى النقاش في الفارق الأوّل من الفوارق بين الأمارة والأصل كما هو الإيراد الأول، وتارةً إلى النقاش في المماثلة بين ترتيب الآثار على العلم التكويني وترتيبها على العلم التعبدي كما هما الإيرادان الثاني والثالث، وتارةً إلى أصلِ مفهوم الأمارة المأخوذ في كلام المحقق النائيني (ره) كما هو الإيراد الرابع.
النظرية الثالثة: اختلاف وجه حجيّة الأمارات والأصول.
وترجع هذه النظرية للإمام الخميني (ره). ومفادها أنَّ هناك اختلافًا في وجه حجيّة كل من الأمارات والأصول يقضي بكون مثبتات الأولى حجّة دون مثبتات الثانية[19].
أمّا مثبتات الأمارة، فإنَّ الوجه في حجيّتها هو أنَّ جميع الأمارات الشرعيّة ما هي في حقيقتها إلا أمارات عقلائيّة لم يكن دور الشارع تجاهها سوى الإمضاء دونما التأسيس، وإنَّ جملةً من أدلّة اعتبار الأمارات، كخبر الثقة واليد وغير ذلك، يظهر منها ذلك بوضوح.
وما بناء العقلاء على هذه الأمارات إلّا لأنّها تثبت الواقع وليس لمجرد التعبد بالعمل بها، وطالما ثبت الواقع بالأمارات فإنّه تثبت لوازمه وملزوماته وملازماته بعين الملاك الذي يثبت به الواقع نفسه، فكما أنَّ العلم بالشيء يوجب العلم بلوازمه وملزوماته ملازماته مطلقًا، فكذلك شأنَّ الوثوق بالشيء يوجب الوثوق بها.
وأمّا مثبتات الأصول، فقد استعان (ره) على توضيح عدم حجيتها ببيان أمرين:
أمّا الأمر الأوّل، فهو أنَّ اليقين إذا تعلق بشيء له لازم وملازم وملزوم وكان لكل من هذِه أثر شرعي، فإنَّ تعلق اليقين بالشيء هو الموجِب لتعلق اليقينات على اللازم والملازم والملزوم، فهناك متعلقات أربعة كلُّ واحد منها متعلق ليقين مستقل، لكنَّ ثلاثة منها تكون معلولة لليقين المتعلق بالملزوم، ولزوم ترتيب الأثر على كل متعلّق يكون لأجل استكشافه باليقين المتعلق به، لا اليقين المتعلق بغيره من ملزومه أو لازمه أو ملازمه.
وتوضيحًا لذلك، فلو فرضنا أنّ الشخص تيقن بطلوع الفجر، وعلم منه خروج الليل ودخول يوم رمضان، وكان لكل من طلوع الفجر وخروج الليل ودخول يوم رمضان أثر مستقل، فإنّه لا يلزم ترتيب الأثر على كل موضوع من هذه المواضيع إلا لأنَّ العلم تعلق به، لا لأنّه تعلق بغيره من لازمه أو ملزومه أو مُلازمه.
وزيادةً في التوضيح، فلو فرضنا أنّ الشخص تيقن بحياة زيد، وحصل منها يقين بنبات لحيته ويقين آخر ببياضها، وكان لكل منها أثر شرعي، فإنّ أثر حياته يجب ترتيبه بناءً على العلم بالحياة، ونبات اللحية للعلم بنبات اللحية، والبياض للعلم بالبياض، لا أنَّ العلم بالبياض يكون مترتبًا على العلم بالنبات أو الحياة؛ والخلاصة أنَّ العلم بكل متعلق موضوعٌ مستقل لوجوب ترتيب أثره وإن كان بعض العلوم معلولًا لبعض آخر.
وأما الأمر الثاني[20]، فإنَّ دليل الأصل العملي لا يترتّب عليه إلا آثار موضوعه من دون آثار آثاره (=لوازم اللوازم الشرعيّة) وإن كان الترتّب شرعيًا، فضلًا عن آثار اللوازم والملزومات والملازمات العقلية والعاديّة، وذلك لوجهين:
1. أنَّ آثار الموضوع ليست إلّا ما يترتب عليه ويكون هو موضوعًا لها، وأما أثر الأثر فيكون موضوعه الأثر لا الموضوع ذا الأثر ذي الأثر، وكذلك فإنَّ أثر اللازم أو الملزوم أو الملازِم يكون موضوعه تلك الأمور لا الموضوع الأساسي؛ فالتنزيل الموجود في الأصول العمليّة لم يقع إلا بلحاظ الموضوع المنزّل والمشكوك فيه، من غير فرق بين الآثار المترتبة على الوسائط الشرعية والعادية والعقلية، وليس من جهة انصرف الألة عن الآثار غير الشرعية أو عدم إطلاقها أو عدم تعقل جعل ما ليس تحت يد الشارع كما ذهب لكل ذلك من ذهب من العلماء.
2. أنَّ دليل الأصل لا يمكن أن يتكفّل بآثار الآثار وآثار الوسائط ولو كانت شرعية؛ لأنَّ الأثر إنما يتحقق بنفس التعبد، ولا يمكن أن يكون الدليل المتكفّل للتعبد بالأثر متكفّلًا للتعبد بأثر الأثر؛ فإنَّ أثر موضوع دليل الأصل متقدم ذاتًا وموضوعًا على أثر الأثر؛ لأنّه موضوع له، فلا بدَّ من جعل الأثر والتعبد به أولًا، وجعل أثر ذلك الأثر والتعبّد به في الرتبة المتأخرة عن الجعل الأوّل، ولا يعقل كون الدليل الواحد متكفلًا لكل من الأثر وأثر الأثر؛ للزوم تقدم الشيء على نفسه وإثبات الموضوع بذات الحكم.[21]
وقد اعتُرِضَ على هذا الاستدلال بوجوه:
1. ما أورده الشيخ ناصر مكارم الشيرازي من منع كون جميع الأمارات إمضائيّة؛ حيث إنَّ بعض الأمارات – كالقرعة – لا إشكال في كونها تأسيسية فيما إذا كان هناك واقع في البين ولم تكن القرعة لمجرّد حسم مادة النزاع، فالمنساق من أدلّة حجية القرعة شرعًا كونها كاشفةً عن الواقع غالبا أو دائمًا إذا اجتمع فيها شرائطها، وذلك بما يفيد أنَّ القرعة أمارة شرعية حيث لا أمارة بنحو تعبدي دون مجرّد بناء العقلاء. وكذلك أمارة سوق المسلمين التي اخترعها الشارع المقدّس وجعلها كاشفة عن طهارة ما يشتريه المكلف من سوق المسلمين أو حليته.
وأضاف (حفظه الله) بأنّه وإن سُلِّمَ وجود جميع الأمارات بين العقلاء، إلّا أنَّه لا يُقبل كون الشارع قد أمضى جميع الأمارات[22].
وهو كلام وجيه، بل إنَّ إمضاء الشارع لبعض الأمارات وإن كان يظهر كونها عقلائيًا، إلا أنَّ إحراز ذلك والاطمئنان إليه مما يتعذر القطع والاطمئنان به؛ لما هو معروف من سيرة الشارع المقدّس من التعبّد.
2. ما أورده السيد صادق الشيرازي من النقاش في المقدمات الثلاث التي ابتنى عليها الاستدلال بحجيّة مثبتات الأمارة:
أ) أما كون الأمارات إمضائيّة، فيرد عليه أنّه ليس كل الأمارات إمضائيّة وإنما بعضها، كخبر الثقة.
في حين أنَّ البعض الآخر من الأمارات تأسيسية، وذلك مثل اعتبار الشارع لمطلق الظن في الركعات في حين أنَّ بناءَ العقلاء على العمل بالظن القوي دون مطلق الظن.
كما وأنَّ من الأمارات ما يكون إمضائيًّا ولكن بتوسعة أو تضييق، فالتوسعة مثل إمضاء شهادة المرأة الواحدة في ربع المال والاثنتين في النصف والثلاث في ثلاثة أرباعه، والتضييق كشهادة أربعة رجال في الزنا وعدم اعتبار شهادة النساء في غير الأموال وإن كثرن.
كما ويرد على ذلك أنَّ بين الوثاقة النوعية العقلائية والوثاقة النوعية الشرعية – المتمثلة في العدالة – عموما من وجه، فالعدل ليس من لا يكذب، وإنما من لا يكذب حين يكون الكذب معصية. ومرجع هذا الكلام إلى أنَّ الشارع وإن أمضى خبر الثقة بما هو موجود عند العقلاء إلا أنّه عدّل على هذا الإمضاء بنحو أنشأ مفهوما شرعيا خاصًا لخبر الثقة يخرجه عن محض المفهوم العقلائي له.
ب) وأمّا كون العقلاء يبنون على حجية الأمارات لأجل كشفها عن الواقع من دون مجرد التعبد بها، فيرد عليه أنَّ الحجج العقلائيّة ليست كلها على نسق واحد، وإنما منها ما يكون متمما للكشف، ومنها ما يكون أصلا عمليا عندهم للتعبد ونظم الأمور.
والحاصل أنَّ العقلاء قد يتعبّدون بالأمارة، بمعنى أنّهم يرتبون آثارها عليها – وإن لم تكن كاشفةً عن الواقع -، ومثال ذلك: أماريّة حجية اليد عند العقلاء، فهي أمارة وحجة لا من باب الكشف، فاليد ليست كاشفة نوعية على الملكية ونحوه، وإنّما من باب التعبد العقلائي بغاية انتظام الأمور، فلو لم تكن حجةً لاختلّ النظم المعاشي، ولكانت الخسارة النوعية من هذا الاختلال أكثر من الخسارة النوعية في الأيدي التي تخالف الواقع.
ج) وأمّا المماثلة بين العلم بالشيء ولوازمه وبين الوثوق بالشيء ولوازمه، فيرد عليه أنَّ ذلك لا يسري في جميع الأمارات، فمثل الإجماع المنقول أمارة على القول بحجيته، لكنه لا يلزم من حجيته حجية مثبتاته؛ لأنَّ الحجية الاعتبارية تابعة في سعتها للمثبتات وعدمها إلى مقدار الاعتبار.
وكذلك فيما لو جعل الشارع العلم الإجمالي بشيء منجزًا للتكليف فإنَّ ذلك يكون تابعا لمجرد مقدار الجعل، فقد يكون الجعل لمطلق العلم الإجمالي، وقد يكون لمجرّد الجعل الإجمالي الخاص بين فردين مشتبهين لا ثلاثة كما هو مذهب بعض، وغير ذلك مما لا يمكن معه التسليم باطّراد هذه المماثلة[23].
3. ما أورده السيد صادق الشيرازي في النقض على الاستدلال بعدم حجيّة مثبتات الأصول[24]، حيث أشار إلى أنّه لا يوجد إشكال في مقام الثبوت بأن يصرح الشارع بترتيب كل الآثار، ومن ثمَّ فينتفي الإشكال حتى في مقام الإثبات[25].
النظريّة الرابعة: عدم الفرق بين مثبتات الأمارات والأصول
وتعود هذه النظريّة للمحقق الخوئي (ره)، وحاصلها هو عدم وجود فرق بين مثبتات الأمارات ومثبتات الأصول من ناحية عدم الحجية في كل منهما. وحاصل كلامه (ره) على ذلك هو أنَّ عمدة الدليل على الفرق هو ما قرره المحقق النائيني (ره) في النظرية الثانية المذكورة، وردّها بما ذُكِر هناك أيضًا، وثمَّ انتهى لعدم وجود الفرق. نعم، استثنى (ره) باب الأخبار من عدم الحجية، حيث قال:
«نعم تكون مثبتات الأمارة حجّة في باب الأخبار فقط لأجل قيام السيرة القطعيّة من العقلاء على ترتيب اللوازم على الأخبار بالملزوم ولو مع الوسائط الكثيرة، ففي مثل الإقرار والبيّنة وخبر العادل يترتّب جميع الآثار ولو كانت بوساطة اللوازم العقليّة أو العادية»[26].
ويُلاحظ على ذلك أنَّ استدلاله (ره) مبني على حصر الفارق بين الأمارة والأصل فيما ذكره المحقق النائيني (ره)، في حين أنَّ ذلك لا ينفي ما ذُكِرَ من سائر الوجوه والنظريات[27].
كما واعترض على ذلك السيد السيستاني (حفظه الله) بأنَّ حجية الظواهر غير مختصّة بباب الأخبار وإنّما تشمل الإنشائيّات أيضًا، فلو كان للإنشاء لوازم فإنه تترتب كما تترتب لوازم الأخبار من دون فرق[28]، وسيأتي مزيد تفصيل لهذا الاعتراض في عرض النظرية السادسة.
النظرية الخامسة: اختلاف الحكم الظاهري في كل من الأمارة والأصل.
وتعود هذه النظريّة للشهيد الصدر (ره)، وحاصلها أنَّ هناك فرقًا ثبوتيًّا بين كل من الأمارات والأصول من حيث إنَّ كلًا منهما حكم ظاهري مجعول من الشارع، والحكم الظاهري على ما اختاره (ره) هو الحكم الصادر من قبل المولى في مقام الحفاظ على الأهم من الملاكات والأغراض المولوية الواقعية الإلزامية والترخيصية المتزاحمة فيما بينها وترجيح الأهم منها على الأهم.
وهذا الترجيح تارةً يكون على أساس قوة الاحتمال، وتارةً يكون على أساس من قوّة المُحتمل، والأوّل هو الأمارة والثاني هو الأصل العملي.
ففي الأمارة يكون الترجيح على أساس قوة الاحتمال محضًا بحيث تكون نسبة الحكم الظاهري للأحكام الإلزامية والترخيصية على حد واحد، ولا يكون في جعله سوى لحاظ خصوصية درجة الكشف.
وفي الأصل العملي يكون الترجيح على أساس ملاحظة نوعية الحكم والغرض الواقعي المحتمل، إما محضًا أو مع ملاحظة خصوصية نفسية مع درجة الكاشفيّة، أي أنَّ الملاحظة تكون لنوعية الكاشف لا المُنكَشِف.
وتقريب ثبوت حجية مثبتات الأمارة على هذا التفسير هو أنَّ تمام ملاك الحجية في الأمارة وجود درجة الكاشفيّة، ودرجة الكاشفية المذكورة نسبتها لكل من المدلولين المطابقي والالتزامي على حد واحد، ومن ثم تكون حجة في إثبات اللوازم بنفس ملاك حجية المدلول المطابقي.
وأمّا الأصول العمليّة، فحيث إنَّ الملاك في جعلها ليس هو الترجيح بدرجة الكاشفية والاحتمال وإنما بنوعية الحكم المنكشف أو نوعية الكاشف، ومن ثمَّ فلا تثبت لوازمها على القاعدة وإنما يحتاج إثباتها لدليل يقتضي ذلك في مقام الإثبات؛ لأنَّ ملاك الحجية أو جزئه غير متوفر في اللازم. ولو فرض توفر تمام الملاك أو جزئه في اللازم لثبتت به اللوازم، ولكنَّ ذلك ليس للأصل المثبت وإنّما لتوافر أركان الأصل العملي في ذلك اللازم ابتداءً[29].
النظريّة السادسة: التفصيل في حجيّة مثبتات الأمارة.
تبتني هذه النظريّة على أنَّ مثبتات الأصول ليست ذات حجيّة، وإنّما تفصّل في مثبتات الأمارات من حيث كون مثبتات بعضها حجة ومثبتات بعضها غير حجة، وذلك في ضوء نقد روّادها لجميع أو بعض النظريات السالفة.
وقد تناولها كلٌّ من السيد السيستاني والشيخ مكارم الشيرازي (حفظهما الله)، وذلك على اختلاف مديات التفصيل فيما بينهما، وذلك بالنحو التالي:
أولًا: تفصيل السيد السيستاني:
وقد جاء هذا التفصيل توضيحًا وتفصيلًا لمذهب السيد الخوئي (ره) بحيث لا يرد عليه إيراد. وحاصل التفصيل أنَّ الأمارات التي نلتزم بحجيتها على أقسام:
1. الظنَّ الاطمئناني.
فالظن الاطمئناني الناشئ عن المبادئ العقلائية مثل تجميع الاحتمالات – والذي يعبر عنه بالعلم العادي -يكون حجة عند العقلاء والشرع. ويذهب السيد (حفظه الله) إلى أنَّ القول بحجية المثبتات في هذا النوع مسامحةٌ؛ قال: «إذ الأمارة القائمة على الملزوم نفسها قائمة على اللازم من باب عدم إمكان التفكيك بين اللازم والملزوم في قيام الأمارة وعدمه»[30].
2. الاحتمال القوي الإدراكي فيما إذا كان المحتمل ذا أهمية.
وهو ما يعتمد عليه العقلاء في مقاصدهم الشخصية والاجتماعية. ومثبتات الأمارة من هذا النوع حجة فيما إذا كانت درجة لازم المحتمل متساوية مع درجة الاحتمال؛ حيث إنَّ اللازم والملزوم لا تفكيك بينهما على مستوى الصفات النفسية. وأما لو كانت درجة اللازم غير مهمة، فلا يكون حجة، وكذلك لو كان اللازم أهمَّ فإنَّ نفس الملاك يقتضي حجيّته.
3. الكاشفية الناقصة مع الاعتماد عليها.
أي أنَّ شيئًا ما تكون له درجة من الكشف الناقص، إلا أنَّ العقلاء يعتمدون عليه لأجل جهة من الجهات، مثل الرجوع للأطباء والمهندسين وخبر الثقة وغير ذلك. ومثبتات هذا النوع حجة؛ فإنَّ العقلاء كما يرون هذه الأمور كاشفة بالنسبة للمؤدى يرونها كاشفة بالنسبة للوازم.
4. ما يعتمد عليه العقلاء من جهة الكشف الإحساسي.
وذلك في مقابل الكشف الإدراكي، فاليد – مثلًا – أمارة على الملكية من جهة أن العقلاء يرون السيطرة الخارجية رمزًا للسيطرة الاعتبارية التي هي الملكيّة.
وهذا النوع لا تكون مثبتاته حجة؛ حيث إنَّ العقلاء لا يعدّون الكشف للوازم، وإنما الكشف مقتصر على الجهات المؤثرة في النفس مثل الوجوب أو الحرمة أو الأحكام الوضعية.
5. ظواهر الألفاظ.
حيث إنَّ حجيّة ظواهر الألفاظ – عند السيد – من باب الميثاق العقلائي، ومرجع ذلك إلى أنَّ كل شخص ملزوم بما أبرزه بجميع شئونه من اللوازم والملزومات والملازمات، وأنه متعهد بجميع ما يقوله بجميع شئونه.
وفي هذا النوع يأخذ العقلاء باللوازم والملازمات ضمن حدود معينة دون جميع اللوازم، وتوضيحًا لذلك يذكر أنه لو قيل: «كل عالم يجب إكرامه» وعُلِمَ عدم وجوب إكرام زيد، فإنه لا يمكن الحكم بأن زيدًا ليس بعالم بحكم عكس نقيض القضية المقولة: «كل من لا يجب إكرامه فهو ليس بعالم»، فعكس النقيض وإن كان من اللوازم على ما ذكر المنطقيّون إلا أنّ العقلاء لم يجر عرفهم على اعتباره في مقولاتهم، مع العلم بأنَّ صدق عكس النقيض من لوازم صدق القضية منطقيًا.
6. الأمارات المأخوذة على نحو الموضوعية.
والمقصود بالأخذ على نحو الموضوعية كون الأمارة حجة لا بشرط وجود اطمئنان على وفقها أم لا، ولا بدَّ من العمل بها على كل حال. ويمثّل (حفظه الله) لذلك بقول الإمام (ع): «العمري وابنه ثقتان، فما أديا عني فعني يؤديان … فاسمع لهما وأطعهما»، فالحجية مجعولة من جهة الوكالة عن الإمام (ع)، لا من باب حجية خبر الثقة، وغير ذلك من الأمارات المأخوذة موضوعيًّا.
ولا يتعدّى مجال حجية هذه الأمارات ما جعله له جاعلها.
فيتحصل من ذلك أنَّ الأمارات مختلفة فيما بينهما، ففي بعضها تكون الدلالة على الملزوم دلالة على اللازم، وفي بعضها لا تتقوم الأمارة إلا بالملزوم دون لازمها، وفي بعضها يكون مرجعه لبناء العقلاء فينبغي مراجعة عرف العقلاء لمعرفة ما يبنون عليه، وفي رابع تكون الأمارة مجعولةً فينبغي مراجعة الجاعل ومقدار ما رسمه من دلالة، وليس هناك قانون كل بحجية أو عدم حجية جميع مثبتات الأمارة، فينبغي التفصيل[31].
ثانيًا: تفصيل الشيخ مكارم الشيرازي:
ويبتني هذا التفصيل على أنَّ الفرق بين الأمارة والأصل – مع اشتراك كليهما في الجهل بالواقع والشكَّ فيه – هو أنَّ للأمارة كاشفيةً عن الواقع وإن كان كشفا ظنيا غير تام في مقابل الأصل الذي ينتفي فيه الكشف عن الواقع أصلًا، وذلك من دون فرق بين أخذ الأمارة من الشارع أو من العقلاء.
وعلى بناءٍ من ذلك، فإنَّه ينبغي التفصيل بين اللوازم الذاتية للأمارة واللوازم الاتفاقية له من حيث حجيتها، فتثبت الأولى بالأمارة من دون الثانية، وذلك بغض النظر عن كون الأمارة من المجعولات الشرعية أم من غير ذلك، ومن دون فرق بين كونها إخبارا أم إنشاءً أو غير ذلك[32].
وقد يعترض على هذه النظريّة بأنَّها غامضة في التطبيق؛ إذ أنَّ الاتفاقيّ لا ريب في عدم كونه مقصودًا للمتكلم أو مفهومًا لدى السامع، مضافًا إلى أنَّ ذاتيّ العلة قد لا يصدق كونه مقصودًا للمتكلم أو مفهوما لدى المتلقي، كما في مثال عكس النقيض سالف الذكر في عرض التفصيل الأوّل.
***
ويُلاحظ على كافة ما سبق أنّه استند في تحليل العلاقة بين الأمارة والأصل إلى تفسيرات نظريّة وصلت إلى حدّ الاختلاف فيما بينها، في حين أنه قد يقترح تأصيل العلاقة بين الأمارة والأصل في ضوء تحليل واستقراء الأدوات الفقهيّة الأساسيّة، أعني الكتاب والسنّة المعصومية الطاهرة وما يقتضيانه من إطار عام ينتظم فيه سلك التكليف والحكم الشرعي وترتيب الأدلّة والعلاقة بينهما، وهو ما يخرج عنه وعاء هذا العرض؛ إذ المقصود منه مجرد استقصاء النظريات الموجودة في الحجية.
كما ويمكن ملاحظة أنَّه من الضروري الالتجاء في تحديد مدى دلالات النصّ إلى نفس الفهم العرفي للنصوص وما يقتضيه طبع العقلاء في التعاطي معها، حيث إنّ هذا الفهم هو ما تعامل به المعصوم في لسان الشريعة بعيدًا عن النمط الفلسفي التحليلي، خصوصًا وأنَّ التحليل الفلسفي للفرق بين الأمارة والأصل يلقي بنتائجه الحتميّة على حجية لوازم الأمارة والأصل.
هذا، ولعلّ المسألة الماثلة تحتاج إلى أن تعطى حقها من البحث بنحو مستقل يبيّن فيه مقدار الدلالات الالتزامية للدليل الشرعي، وهو ما يشترك مع مسائل أخرى مثل مسألة المفاهيم بمعناها المنطقي وغيرها، ويمكن استجلاء بوادر هذه الإفراد فيما حرره السيد الشهيد الصدر (ره) في الحلقة الثالثة من الدروس تحت عنوان: «مقدار ما يثبت بدليل الحجية».
والحمد لله رب العالمين.
الهوامش
[1] أشار لذلك الأستاذ آية الله الشيخ محمد باقر الإيرواني (حفظه الله) في مجلس درسه الأصولي، بتاريخ ٢٢ ذو القعدة ١٤٣٤هـ، قال: «وهذا المبحث من الأبحاث المهمة، ولولا أنه يلزم الاختلال في منهجة الأبحاث الأصولية لكان من المناسب ذكر هذا البحث في بداية علم الأصول؛ لأن كثيرا من الأبحاث تحتاج إليه، فمثلًا: صاحب الكفاية في مبحث الصحيح والأعم تمسك بفكرة الأصل المثبت».
[2] راجع: كفاية الأصول، ص٤١٦؛ وفوائد الأصول، ج٤، ص٤٨١؛ والمحاضرات للسيد الخوئي، ج٣، ص٩٩؛ وبحوث في علم الأصول للشهيد الصدر بتقريرات الهاشمي، ج٦، ص١٧٥ وغيرها من المصادر.
[3] مصباح الأصول، ج٢، ص١٨٣ وما بعدها.
[4] بيان الأصول، ج٧، الاستصحاب، ق٢، ص١٩١-٢٠١.
[5] كفاية الأصول، ص٤١٦؛ ومنتهى الدراية، ج٧، ص٥٣٩.
[6] أجود التقريرات، ج٢، ص٤١٨.
[7] انظر: مشكاة الأصول، ص٣٦٩.
[8] الاستصحاب للسيستاني، ص٢٦٦.
[9] نهاية الأفكار، ج٤، ق١، ص١٨٤.
[10] الاستصحاب للسيستاني، ص٢٦٥.
[11] بيان الأصول، ج٧، الاستصحاب، ق٢، ص١٩٥.
[12] راجع في بيان ذلك: فوائد الأصول، ج٤، ص٤٨١-٤٨٦؛ وأجود التقريرات، ج٢، ص٤١٥-٤١٦.
[13] أجود التقريرات، ج٢، ص٤١٦.
[14] المصدر السابق نفسه.
[15] مصباح الأصول، ج٢ ص١٥٢؛ ومشكاة الأصول، الاستصحاب، ص٣٧٠.
[16] مصباح الأصول، ج٢، ص١٥٥.
[17] الاستصحاب للسيستاني، ص٢٦٦.
[18] مشكاة الأصول، ص٣٧١.
[19] وينبغي التنويه على أنّ استدلاله (ره) جاء جامعًا لسياقي الأصول بصفة عامة والاستصحاب بصفة خاصة، وقد اقتضت الضرورة البحثية هنا استخلاص الكبرى المتعلقة بالأصل من الاستدلال نفسه.
[20] جاء هذا الأمر في كلماته (ره) تطبيقيا على الاستصحاب بشكل مباشر، والمشروح هنا هو كبرى ما استدل عليه.
[21] راجع في النظريّة وبيانها كاملةً: الاستصحاب للإمام الخميني (ره)، ص١٥٢ وما بعدها.
[22] أنوار الأصول، ج٣، ص٣٨٣-٣٨٤.
[23] بيان الأصول، ج٧، ق٢، ص١٩٩-٢٠٠.
[24] وقد أورِد هذا الاستدلال في سياق نقاش ما استُدِلَّ عليه لعدم حجية مثبتات الأصول في الاستصحاب.
[25] بيان الأصول، ج٧، ق٢، ص٢١٠.
[26] مصباح الأصول، ج٢، ص١٥٢ وما بعدها.
[27] راجع: أنوار الأصول، ج٣، ص٣٨٥.
[28] الاستصحاب للسيستاني، ص٢٦٨.
[29]بحوث في علم الأصول، ج٦، ص١٧٨-١٨٨.
[30] الاستصحاب للسيستاني، ص٢٦٩.
[31] راجع: الاستصحاب للسيستاني، ص٢٦٨-٢٧١.
[32] أنوار الأصول، ج٣، ص٣٨٦.
المصادر والمراجع:
1. أجود التقريرات، تقريرا لأبحاث الميزرا النائيني، بقلم السيد أبو القاسم الخوئي، نشر مطبعة العرفان، ط١، قم، ١٣٩٣هـ.
2. الاستصحاب، تقريرا لأبحاث السيد علي السيستاني، بقلم السيد محمد علي الرباني، نسخة أولية محدودة للتداول منشورة على موقع taghrirat.net، ١٤٣٨هـ.
3. الاستصحاب، للسيد روح الله الخميني، نشر مؤسسة تنظيم ونشر تراث الإمام الخميني، ط١، طهران، ١٤٢٣هـ.
4. أنوار الأصول، تقريرا لأبحاث الشيخ ناصر مكارم الشيرازي، بقلم الشيخ أحمد القدسي، نشر مدرسة الإمام علي بن أبي طالب (ع)، ط٢، قم، ١٤٢٨هـ.
5. بحوث في علم الأصول، تقريرات الشهيد السيد محمد باقر الصدر، للسيد محمود الهاشمي الشاهرودي، نشر مؤسسة دائرة معارف الفقه الإسلامي، ط٣، قم، ١٤٢٦هـ.
6. بيان الأصول، للسيد صادق الحسيني الشيرازي، نشر رهپويان، ط١، قم، ١٤٢٤هـ.
7. فوائد الأصول، للآخوند الشيخ محمد كاظم الخراساني، نشر وزارة الإرشاد بالجمهورية الإسلامية في إيران، ط١، طهران، ١٤٠٧هـ.
8. كفاية الأصول، للآخوند الشيخ محمد كاظم الخراساني، تحقيق ونشر مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث، ط٤، بيروت، ٢٠١١م.
9. محاضرات في أصول الفقه، تقريرًا لأبحاث المحقق السيد أبي القاسم الخوئي، للشيخ محمد إسحاق الفياض، نشر مؤسسة إحياء آثار الإمام الخوئي، ط١، قم، ١٤٢٢هـ.
10. مشكاة الأصول، تقرير أبحاث أصولية حول مباحث الاستصحاب للسيد حسين الشمس الخراساني، بقم السيد ضياء عدنان الخباز القطيفي، نشر بوستان كتب، ط١، قم، ١٤٣٠هـ.
11. مصباح الأصول، تقريرا لأبحاث المحقق السيد أبو القاسم الخوئي، للشيخ محمد سرور الواعظي الحسيني بهسودي، نشر مؤسسة إحياء آثار الإمام الخوئي، ط١، قم، ١٤٢٢هـ.
12. منتهي الدراية في توضيح الكفاية، للشيخ محمد جعفر المروّج الجزائري، نشر مؤسسة دار الكتاب، ط٤، قم، ١٤١٥هـ.
13. نهاية الأفكار، تقريرات لأبحاث العلامة الشيخ آغا ضياء الدين العراقي، للشيخ محمد تقي البروجردي النجفي، نشر مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسية في الحوزة العلمية بقم، ط٣، ١٤١٧هـ.
المصدر: موقع حوزة الإمام أمير المؤمنين (ع) الدينية