الاجتهاد: أهم مشكلة برأيي في وضعية المنبر الحسيني الراهنة, هي عدم وجود تغذية عكسية بين طرفي عملية الاتصال وهما الخطيب والمستمع, فنجد أنّ أغلب مجالسنا الحسينية هي عبارة عن محاضرة يسبقها ويلحقها أبيات شعرية تُـقدم بطريقة جنائزية حزينة من أجل إبكاء المستمعين لإكسابهم الثواب الجزيل. وهنا لا يوجد لدي اعتراض على ذلك إلا على هذه الرتابة التي ملّها الكثير منا, فالمتلقين لهذه المحاضرات لا يوجد لديهم أي طريقة للتواصل الفعلي مع الخطيب.
مقاربة تاريخية: المنبر هو ما يرتقي لأجل الوعظ والخطابة، وهو مشتق من نبرت الشيء أي رفعته، وسمي المنبر لارتفاعه. فهو الموضع الذي يرتقيه الخطيب وإمام الجماعة لإيراد الخطب والكلمات من فوقه. وكان موجوداً منذ صدر الإسلام.
وكان منبر الرسول (ص) منارة الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، بل أصبح جزءاً لا يتجزأ من إحياء الفكر الديني، والذي أشار إليه قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ}..(1)
ومن الشواهد على ذلك ما يرويه الإمام الصادق (ع): “إِنَّ ثَلاثَ نِسْوَةٍ أَتَيْنَ رَسُولَ الله (ص) فَقَالَتْ إِحْدَاهُنَّ: إِنَّ زَوْجِي لا يَأْكُلُ اللَّحْمَ، وَقَالَتِ الأُخْرَى: إِنَّ زَوْجِي لا يَشَمُّ الطِّيبَ، وَقَالَتِ الأُخْرَى إِنَّ زَوْجِي لا يَقْرَبُ النِّسَاءَ. فَخَرَجَ رَسُولُ الله (ص) يَجُرُّ رِدَاءَهُ حَتَّى صَعِدَ المِنْبَرَ فَحَمِدَ الله وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: مَا بَالُ أَقْوَامٍ مِنْ أَصْحَابِي لا يَأْكُلُونَ اللَّحْمَ وَلا يَشَمُّونَ الطِّيبَ وَلا يَأْتُونَ النِّسَاءَ أَمَا إِنِّي آكُلُ اللَّحْمَ وَأَشَمُّ الطِّيبَ وَآتِي النِّسَاءَ فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي”(2).
وكان المسلمون ينظرون إلى منبر الرسول (ص) بقدسية بالغة؛ لما للمنبر من ذاكرة في تاريخ الدعوة إلى الله سبحانه، ولأنه حمل رسول الله (ص) في خطبه طيلة دعوته في مسجده الشريف.
وكان آخر خطبة خطبها رسول الله (ص) على هذا المنبر، كما جاء في صحيحة حنان بن سَدِير الصيْرَفي قال: سمعت أبا عبد اللهِ (ع) يقول: “نُعِيَتْ إِلَى النَّبِيِّ (ص) نَفْسُهُ، وَهُوَ صَحِيحٌ لَيْسَ بِهِ وَجَعٌ، قَالَ: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ قَالَ؛ فَنَادَى (ص): الصَّلَاةَ جَامِعَةً، وَأَمَرَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارَ بِالسِّلَاحِ، وَاجْتَمَعَ النَّاسُ، فَصَعِدَ النَّبِيُّ (ص) الْمِنْبَرَ فَنَعَى إِلَيْهِمْ نَفْسَهُ. ثُمَّ قَالَ: أُذَكِّرُ اللهَ الْوَالِيَ مِنْ بَعْدِي عَلَى أُمَّتِي أَلَّا يَرْحَمَ عَلَى جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ فَأَجَلَّ كَبِيرَهُمْ، وَرَحِمَ ضَعِيفَهُمْ، وَوَقَّرَ عَالِمَهُمْ، وَلَمْ يُضِرَّ بِهِمْ فَيُذِلَّهُمْ، وَلَمْ يُفْقِرْهُمْ فَيُكْفِرَهُمْ، وَلَمْ يُغْلِقْ بَابَهُ دُونَهُمْ فَيَأْكُلَ قَوِيُّهُمْ ضَعِيفَهِمْ، وَلَمْ يَخْبِزْهُمْ فِي بُعُوثِهِمْ فَيَقْطَعَ نَسْلَ أُمَّتِي. ثُمَّ قَالَ: قَدْ بَلَّغْتُ وَنَصَحْتُ فَاشْهَدُوا. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ (ع): هَذَا آخِرُ كَلَامٍ تَكَلَّمَ بِهِ رَسُولُ اللهِ (ص) عَلَى مِنْبَرِهِ” (3)
وكان هذا المنبر الذي حمل جسد رسول الله (ص) أثيراً عند المسلمين، وعند أهل البيت (ع) خاصة؛ حتى أنّ الإمام الحسن بن علي (ع) رأى الخليفة أبا بكر وهو “يخطب على المنبر، فقال له: انزل عن منبر أبي، فأجابه أبو بكر: صدقت والله، إنه لمنبر أبيك لا منبر أبي”(4) .
كما أنكر الإمام الحسين (ع) على الخليفة عمر بن الخطاب، وهو على المنبر، فقال: “انزل عن منبر أبي، واذهب إلى منبر أبيك”!
فقال له عمر: إنّ أبي لم يكن له منبر . (5)
ولم يصل إلينا منبرٌ، حمل من الفكر الوضاء المتلاحق، كمنبر علي بن أبي طالب(ع)، فما ضُبط في (نهج البلاغة) من مُجمل خطبه وكلماته، وما انبثق عن فكره الخلَّاق كان نتاج منبره، بل هو صاحب الكلمة المنبرية المشهورة: “سَلُونِي قَبْلَ أنْ تَفْقِدُونِي”.
ولذا يعرض الأديب اللبناني جورج جرداق فصلاً ممتعاً -من خماسيته في علي (ع)- عن أسلوب وعبقرية الإمام علي الخطابية، فهو يذهب إلى أنّ أسلوب علي (ع) تتوفر فيه صراحة المعنى وبلاغة الأداء وسلامة الذوق، … ويبلغ أسلوب علي (ع) قمة الجمال في المواقف الخطابية، أي في المواقف التي تثور بها عاطفته الجياشة، ويتقد خياله فتعتلج فيه صور حارة من أحداث الحياة التي تمرس بها(6).
ومن شواهد صراحته ما جاء في رواية معتبرة عن علي بن رِئاب، عن أبي عبد اللهِ (ع): “أَنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ (ع) لَمَّا بُويِعَ بَعْدَ مَقْتَلِ عُثْمَانَ، صَعِدَ الْمِنْبَرَ وَخَطَبَ بِخُطْبَةٍ ذَكَرَهَا يَقُولُ فِيهَا: أَلَا إِنَّ بَلِيَّتَكُمْ قَدْ عَادَتْ كَهَيْئَتِهَا يَوْمَ بَعَثَ اللهُ نَبِيَّهُ (ص)، وَالَّذِي بَعَثَهُ بِالْحَقِّ لَتُبَلْبَلُنَّ بَلْبَلَةً، وَلَتُغَرْبَلُنَّ غَرْبَلَةً، حَتَّى يَعُودَ أَسْفَلُكُمْ أَعْلَاكُمْ، وَأَعْلَاكُمْ أَسْفَلَكُمْ، وَلَيَسْبِقَنَّ سَبَّاقُونَ كَانُوا قَصَّرُوا، وَلَيُقَصِّرَنَّ سَبَّاقُونَ كَانُوا سَبَقُوا، وَاللهِ مَا كَتَمْتُ وَسْمَةً، وَلَا كَذَبْتُ كَذِبَةً، وَلَقَدْ نُبِّئْتُ بِهَذَا الْمَقَامِ وَهَذَا الْيَوْمِ”(7)
وفي زمن معاوية بن أبي سفيان أمر بنزع منبر الرسول (ص) من مكانه وأتى به إلى الشام.. ففي معتبرة معاوية بن وهْب قال: سمعت أبا عبد الله (ع) يقول: “لَمَّا كَانَ سَنَةُ إِحْدَى وَأَرْبَعِينَ، أَرَادَ مُعَاوِيَةُ الْحَجَّ فَأَرْسَلَ نَجَّاراً، وَأَرْسَلَ بِالْآلَةِ، وَكَتَبَ إِلَى صَاحِبِ الْمَدِينَةِ أَنْ يَقْلَعَ مِنْبَرَ رَسُولِ اللهِ (ص)، وَيَجْعَلُوهُ عَلَى قَدْرِ مِنْبَرِهِ بِالشَّامِ، فَلَمَّا نَهَضُوا لِيَقْلَعُوهُ انْكَسَفَتِ الشَّمْسُ، وَزُلْزِلَتِ الْأَرْضُ فَكَفُّوا، وَكَتَبُوا بِذَلِكَ إِلَى مُعَاوِيَةَ، فَكَتَبَ عَلَيْهِمْ يَعْزِمُ عَلَيْهِمْ لَمَّا فَعَلُوهُ، فَفَعَلُوا ذَلِكَ، فَمِنْبَرُ رَسُولِ اللهِ (ص) الْمَدْخَلُ الَّذِي رَأَيْتَ”(8)
وأكدَّ المؤرخ السمهودي هذه الحادثة فقال: “فلمّا قدم معاوية عام حجّ حرك المنبر، وأراد أن يخرجه إلى الشام، فكسفت الشمس يومئذ، حتى بدت النجوم…”(9) .
وبقي المنبر، بعد ذلك، في أغلب الأوقات بيد الحكَّام والسلاطين والخلفاء. وكان يعتبر كأداة لنشر أفكارهم وتطلعاتهم.
فها هو معاوية بن أبي سفيان، بكل ما أُوتي من دهاء وحيلة، يوظّف المنبر لسبِّ الإمام علي بن أبي طالب (ع)، وأصبحت هذه الممارسات الحادة في السب والطعن سنَّة خبيثة أجروها بنو أمية(10) بعد معاوية لمدة أكثر من أربعين عاماً وعلى 70 ألف منبر.
وأصبح السبّ والطعن في علي وشيعته راية الولاء للأمويين، فهذا سفيان بن عوف الغامديّ أمره معاوية أن يدخل العراق منحدراً مع نهر الفرات، وأوصاه أن يَغِير وينهب ويحرق ويقتل، ومكافأة لهُ على تلك الأعمال عيَّنه معاوية والياً على البصرة عام (41 هـ)، حيث صعد المنبر وافتتح كلامه بشتم علي (ع)(11)
وكان كثير بن شهاب والياً من قبل معاوية على الري “وكان يُكثر سبَّ عليٍّ على منبر الرّي”(12) .
يقول هشام بن الكلبي: “إنّي أدركت بني أودّ وهم يعلّمون أبناءهم وحرمهم سبَّ علي بن أبي طالب” كتاب الغارات.
وفي سنة 60هـ أوفد الإمام الحسين (ع) قيس بن مسهّر الصّيداوي، فانطلق نحو الكوفة يحمل كتاب الحسين (ع)، ووقع قيس أسيراً بيد قوّات الحصين المنتشرة في القادسية، فنُقِلَ إلى عبيد الله بن زياد ، وطلب منه عبيد الله أن يصعد المنبر ويسب الحسين (ع)(13)
وفي الشام حين أخذ إليها أهل البيت (ع) صعد خطيب من أتباع يزيد بن معاوية على المنبر، وأخذ يثني على يزيد ويسبّ آل علي. وقد أطلق الإمام السجاد (ع) على هذا المنبر صفة (الأعواد) حين استأذن يريد ارتقائه وإلقاء خطبته التي فضح فيها يزيد وأتباعه وعرّف نفسه؛ إذ قال له: “إنّي أريد أن أصعد هذه الأعواد لأقول ما لله فيه رضا، ولهؤلاء الناس صلاح” (14).
ولا زال المنبر حتى يومنا هذا أداة إعلامية فاعلة للوعظ والإرشاد والخطب الدينية سواء في أيام محرّم، أم رمضان، أم في غيرها من الأيام والمناسبات، وارتقاء المنبر من الأساليب العريقة في الإعلام الديني. ومن المعروف أنّ استخدام المنبر للوعظ والخطابة كان خاصاً بعلماء الدين، أما غيرهم من الناس فيستخدمون المنصَّة والطاولة لا المنبر، ولا زالت حرمة المنبر مصونة باعتباره تذكاراً لرسول الله (ص).
المنبر الحسيني:
اقترن المنبر (المأتم) الحسيني تاريخياً بالمجزرة التي نفذت في حق الحسين (ع) وأهل بيته وأنصاره بكربلاء، وقد جاء في كتاب (تاريخ العراق في ظل العهد الأموي) للدكتور علي الخرطبولي: “أنّ بيعة أبي العباس السفاح بدأت في الكوفة وشاء لها القدر أن تتم لأبي العباس، كأول خليفة من خلفاء تلك الأسرة، في عيد الشيعة الأكبر وهو يوم عاشوارء العاشر من المحرم سنة 132هـ، وفي نفس الوقت الذي كان الشيعة يحتفلون فيه بذكرى الحسين بن علي” (15) .
ومعلوم أنّ كلمة “عيد الشيعة الأكبر” هو يوم العاشر من المحرم، وتشير إلى أنّ الشيعة كانوا معتادين -من زمن بعيد- على الاحتفال بذكرى الحسين (ع) في ذلك اليوم من كل عام، وأنه كان من أعظم المناسبات التي اعتادوا فيها أن يندبوا الحسين (ع)، ويبكونه، ويرددون مواقفه وتضحياته من أجل الحق والمبدأ والعدالة.
وكما اتخذ الشيعة وأهل البيت تلك الأيام أيام حزن وأسف وبكاء، على ما جرى للحسين وأسرته (ع) من قتل وأسر وسبي، اتخذها غيرهم من الأعياد يتبادلون فيها التهاني والزيارات، ويتباهون بكل مظاهر الفرح والسرور في ملابسهم وندواتهم ومآكلهم وما إلى ذلك من مظاهر الفرح، تحدياً لشعور الشيعة واستخفافاً بأهل بيت نبيهم الذين فرض الله ولاءهم على كل من آمن بمحمد ورسالته.
وقد كان لأهل الشام ولأهل العراق في هذا المجال منهجان مختلفان؛ وصفهما السيّد الرضي في أحد أشعاره في يوم عاشوراء سنة 391هـ بالقول: كَانتْ مَآتِمُ بِالعِراقِ تَعُدُّها أَمَوِيَّةُ بِالشّامِ مِن أَعْيادِها.
ووصف الإمام السجاد (ع) بعض المآسي التي مرت عليهم بعد يوم عاشوراء في أبيات من الشعر جاء فيها:
يَفْرَحُ هذَا الْوَرى بِعيدِهُمْ وَنَحْــنُ أَعْيادُنا مآتِمُـنا
إنّ هذا التأكيد من الأئمة على زيارة الحسين (ع)، والترغيب المغري بها في عدد من المواسم خلال كلِّ عام لم يصدر منهم بالنسبة لزيارة غيره من الأئمة (ع)، ولا لزيارة من هو أعظم منه، كجدِّه المصطفى (ص) وأبيه المرتضى (ع)، في حين أنّ كلَّ واحد منهم كان يجسد الإسلام بجميع فصوله وخطوطه في أقواله وأفعاله، وقد وهب حياته لله ولخير الناس أجمعين، وهانت عنده الدنيا بكل ما فيها من متع ونعيم ومغريات.
إنّ ذلك لم يكن إلا لأنّ شهادة الحسين (ع)، بما رافقها من الجرائم والفظائع، تثير الأحاسيس وتحرك الضمائر الهامدة، وتحث على مقارعة الظلم، والصبر في الشدائد والأهوال في سبيل المبدأ والعقيدة، ولأجل ما رافقها من تلك الأحداث القاسية، التي لم يسجل التاريخ لها نظيراً،
فقد اتخذها الأئمة (ع) وسيلة لإثارة العواطف وإلهاب المشاعر وبعث الروح النضالية في نفوس الجماهير المسلمة لتكون مهيّأة للثورة على الظلمة والجبابرة في كل أرض وزمان وفي الوقت ذاته فإنّ تلك المآتم والذكريات تكشف عن طبيعة القوى التي تناهض أهل البيت، وتناصبهم العداء ومدى بعدها عن الإسلام، وتبين في الوقت ذاته أن جوهر الصراع بينهم وبين الحاكمين ليس ذاتياً ولا مصلحياً، كما جرت العادة عليه في الصراعات بين الناس بل هو من أجل الإسلام وتعاليم الإسلام والجور الذي أصاب الناس.
رسالة المنبر الحسيني:
أولاً: عندما ندقق النظر في الأسلوب الثقافي والفكري للمنبر الحسيني، نجد أنه منبر دعوة ومنبر توعية، ومنبر حركة، ومنبر ثورة، وهو منبر الإسلام كله؛ لأنّ الحسين (ع) كان إمام الإسلام وداعية للإسلام، ومشكلتنا أننا جمدَّنا الحسين (ع) في الدمعة والمأساة وجمدَّناه حيث عزلناه عن الواقع، لأنّ الذين يقيمون المنبر الحسيني في الغالب يشترطون أن لا يقوم الخطيب بعملية تصحيح، فلا يتكلم بشؤون السياسة الحيوية، ولا يلامس القضايا الحيَّة التي تثير حساسية المجتمع، ولا يناقش المفاهيم القلقة التي انطلق الناس فيها على أساس خاطئ، لأنّ الناس لا يرضون، وهكذا جمدت كربلاء وكفّت، إلا في المواضع الحيوية من حركيتها كما لاحظنا ذلك في انطلاقة الإمام الخميني عندما قال: “كل ما عندنا هو من عاشوراء”.
وفي العراق قديماً كان الخطباء الذين يحرِّكون قضايا كربلاء في خط الحرية وفي خط العدالة، يتهمهم الناس باليسارية أو الشيوعية وهم ليسوا كذلك، فكانوا ينقدون الحكم والحاكم وينقدون كل الواقع السيئ، فالظروف الاجتماعية والسياسية والثقافية اجتمعت آنذاك على أساس أن تجمّد قضية الحسين (ع) في حين أنّ القضية الحسينية تمثلها كلمة للإمام الصادق (ع): “أحيوا أمرنا رحم الله من أحيا أمرنا”.
وموقف الأئمة (ع) واحد، كما جاء في الصحيح عن الباقر (ع): “من كان ولياً لله فهو لنا ولي ومن كان عدواً لله فهو لنا عدو، والله لا تُنال ولايتنا إلا بالورع” مستطرفات السرائر: ج 3 ص 636.
ثانياً: إنّ اجتماع الناس في عاشوراء يلقي على صاحب المنبر مسؤولية كبيرة، إذ ليس كعاشوراء فرصة يستطيع من خلالها أن يعمِّق الوعي الإسلامي، وينقد الأوضاع اللاإسلامية وينفتح على القضايا العامة، ويقارن بين المأساة التي كان قد عاشها أهل البيت (ع)
والمأساة التي تتحرك في الواقع مثل المآسي التي تعيش في أكثر من بلد إسلامي وفي مقدمها القضية الفلسطينية. عند ذلك يشعر الإنسان وهو يستمع إلى مأساة الحسين (ع) أنه لا يريد أن يتمثل المأساة في الماضي، لأنك عندما تربط بين مآسي الحاضر وبين مأساة الإمام الحسين (ع) في خط معين فإنك تستطيع أن تتمثل تلك المأساة في هذه المأساة.
ثالثاً: الأساليب يمكن أن تتطور، فالشعراء الماضون جاء شعرهم منسجماً مع ذهنيتهم في ذلك الزمن؛ لأنهم عاشوا مفردات زمنهم في هذه القضايا، أما الآن فقد أصبح العالم يتمثل المأساة بأساليب جديدة، ولست أقول افصلوا مأساة الإمام الحسين (ع) عن العاطفة،
إننا نعتبر العاطفة أساسية جداً، فقضية الحسين (ع) ليست ثورة فقط، إنها مأساة والمأساة هي التي حركت الثورة، والعاطفة في القضية الحسينية هي التي شاركت في امتداد القضية الحسينية، ولكن للعاطفة أساليبها، ونحن الآن لنا أساليب معينة، فهل نحن نمارس أساليب أجدادنا في الملبس والمأكل؟ أليس لدينا الآن أساليب في التحيِّة غير تلك التي كانت متداولة؟!
فإذا أردنا أن نخلّد قضية الحسين (ع) حتى تدخل الجامعة وتنطلق في المجالات التي يلتقي فيها المسلمون وغيرهم، علينا أن نطوِّر عَرْضَها، ونعقُلن الكثير من الأشياء التي يتناولها المدَّاحون، حتى نستطيع أن نجعلها تمتد في الناس ويكون هذا المنبر هو منبر الإسلام، وينطلق الحسين (ع) فيه كإمام للإسلام في كل مجالاته.
رابعاً: على الخطباء دراسة السيرة الحسينية في المصادر الموثوقة، ومحاولة إثارة الدمعة من خلال الحقائق، ومن خلال التصوير الأدبي الفني الذي يترك أثره في نفوس المتلقّين، إذ يمكن أن تصوّر طبيعة الطف والمأساة بالأسلوب الأدبي والفني المناسب لترى تعاطف الناس مع ما تطرحه.
والخطيب أو الشاعر يجب أن تكون لديه ثقافة أدبية، بحيث يملك تصوير المأساة وتصوير الواقعة بأسلوب مؤثر، وأعتقد أننا لو ملكنا الأسلوب الأدبي الفني الرفيع الذي نستطيع من خلاله أن نصوّر الواقع الحسيني.
على أن لا تكون قضية الحسين (ع) مجرد دمعة، لأنها قضية رسالة “إنّما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر”.
وربما كان الهدف من استحضار كلِّ المناسبات الإسلامية الحيَّة، هو إحياء النص والفكر والحركة وفق المفاهيم الإسلامية من أجل أن يتغير الإنسان فينا ليعرف كيف يتطوّر أكثر في زمن يقفز الإنسان فيه قفزات كبيرة جداً في العلم والمعرفة والتجربة والحركة والأساليب.
المنبر الحسيني والثقافة:
أصبح المفهوم السائد عن الثقافة على أنّها اكتساب المعارف والعلوم في الإطار الضيق للكلمة. فالثقافة ليست مجرد المعرفة, ولا مجرد إضافة أرفف جديدة من المعلومات في داخل الذهن الإنساني، لكنها إسهامات متجددة, ومطلوبة في تحقيق التفاعل بين المرء والعالم الذي يحيا فيه, وفي تعميق رؤيته الأكثر اتساعاً للأفراد والجماعة التي ينتسب إليها, وللعالم. فالمعرفة لا قيمة لها ما لم يستتبعها محاولات لتطبيقها في الحياة اليومية, في إحداث مراجعة للوعي والنظرة.
وفي تقديرنا الشخصي, فإنّ الثقافة بمعنى قراءة الكتاب, وسماع مقطوعة أدبية ومشاهدة مسرح أو فيلم… هذه الثقافة ليست سوى (معرفة) يتعلم المرء جديداً يضيفه إلى مخزونه المعرفي. أما الثقافة, فإطارها السلوك, الفعل, التصرف.
فالمثقف هو الإنسان ذو المعرفة والموقف الحضاري في آن واحد. ولا قيمة لقراءة كتاب, وسماع إذاعات, ومشاهدة مسرح أو سينما أو قنوات فضائية, ما لم يلتحم بذلك كلَّه سلوكٌ يُعنى بالتطبيق الإيجابي والفعَّال لكل ما حصَّله المرء من معرفة.
والثقافة لا توجد إلا بوجود المجتمع, والمجتمع لا يقوم ويبقى إلا على الثقافة, إنها طريق متميز لحياة الجماعة, ونمو متكامل لحياة أفرادها, فهي إذن تعتمد على وجود المجتمع, وتمده بالأدوات اللازمة للاضطراد والحياة فيه. نعم، ثمة فارق بين المتعلم أي الذي حصل على المعرفة, وبين المثقف. وقد ضرب (أندريه مالرو) مثلاً في الفرق بين المتعلم والمثقف, بعالم الكيمياء الذي يحيا داخل معمله, ولا تثيره قضايا العالم الثالث. هذا هو المتعلم. أما المثقف فإنه ذلك الذي يمتد باهتماماته خارج دائرة الذات, وتزداد ثقافته, كلما اتسعت دائرة اهتماماته.
إذن الثقافة في بنائها الحضاري مشروع تقدم ومسيرة رسالة، بالمستوى الذي يمكن فيه استكمال المشروع الرسالي، فولاية المؤمنين بعضهم على بعض ليست ولاية إمارة، بل يراد منها أن يدخل الإسلام فكراً وعاطفة وحركة ومنهجاً وشريعة في عقول الناس.
ولهذا يقول تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللهُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (16) فكلمة ولاية عندما تتحرك في الواقع الإسلامي فإنها تعطي هذا الاندماج الروحي والعقلي والحركي بين فريق وفريق آخر باعتبار أنّ الولاية لا تكون إلا من خلال شعور بالقاعدة المشتركة وبالوحدة التي تضم الطرفين ليكون كلّ واحد ولي الآخر بأن يرعاه وينصره ويساعده ويدافع عنه ويتكامل ويتفاعل معه.
فولاية المؤمن للمؤمن توحي إلينا بأنّ حركة التغيير في المجتمع وحركة الانفتاح على الله في المجتمع، وحركة العطاء في المجتمع، وحركة الانضباط في المجتمع، لا بدّ أن تشمل المجتمع كلَّه في عملية تفاعل فلا ينعزل أحد عن الساحة بل هو مسؤول عن أن يلتقي بالآخر وأن يندمج فيه، وأن يعيش معه.. كلُّ ذلك في منطلقات طاعة الله ورسوله.
ولهذا كانت الكلمة التي وجهها الرسول الأكرم (ص) إلى جموع الحاشدين معه في غدير خم حيث قال: “ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم”(17) ؛ مصداقاً لقوله تعالى: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ}(18) تحشد في كل معانيها النبوغ الوثيق بحركة النبوة في شخص علي (ع) حتى قال في الخطبة القاصعة؛ يصف فيها حركة التلقي في مراحلها البكر: “وَلَقَدْ سَمِعْتُ رَنَّةَ الشَّيْطَانِ حِينَ نَزَلَ الْوَحْيُ عَلَيْهِ (ص). فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ مَا هَذِهِ الرَّنَّةُ؟ فَقَالَ: هَذَا الشَّيْطَانُ قَدْ أَيِسَ مِنْ عِبَادَتِهِ. إِنَّكَ تَسْمَعُ مَا أَسْمَعُ، وَتَرَى مَا أَرَى، إِلَّا أَنَّكَ لَسْتَ بِنَبِيٍّ، وَلَكِنَّكَ لَوَزِيرٌ، وَإِنَّكَ لَعَلَى خَيْرٍ”(19) . فقد كان (ع) يعيش التجربة الحيّة البكر لثقافة الوحي في الرسالة.
وأعتقد أننا فقدنا النعم الكثيرة بهجرنا لوحي علي (ع) المتمثل في نهج البلاغة الذي هو وحي روحه جاء لتعليمنا وتربيتنا نحن الغافلين كيف نشفي ألآمنا الفردية والاجتماعية.
فأنظر للإمام علي (ع) وهو يشير إشارة واضحة إلى عمليات النقل والاتصال الثقافي حيث يقول: “أَيْ بُنَيَّ، إِنِّي وَإِنْ لَمْ أَكُنْ عُمِّرْتُ عُمُرَ مَنْ كَانَ قَبْلِي، فَقَدْ نَظَرْتُ فِي أَعْمَالِهِمْ، وَفَكَّرْتُ فِي أَخْبَارِهِمْ، وَسِرْتُ فِي آثَارِهِمْ حَتَّى عُدْتُ كَأَحَدِهِمْ، بَلْ كَأَنِّي بِمَا انْتَهَى إِلَيَّ مِنْ أُمُورِهِمْ قَدْ عُمِّرْتُ مَعَ أَوَّلِهِمْ إِلَى آخِرِهِمْ، فَعَرَفْتُ صَفْوَ ذَلِكَ مِنْ كَدَرِهِ، وَنَفْعَهُ مِنْ ضَرَرِهِ، فَاسْتَخْلَصْتُ لَكَ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ نَخِيلَهُ، وَتَوَخَّيْتُ لَكَ جَمِيلَهُ،وَصَرَفْتُ عَنْكَ مَجْهُولَهُ، وَرَأَيْتُ حَيْثُ عَنَانِي مِنْ أَمْرِكَ مَا يَعْنِي الْوَالِدَ الشَّفِيقَ، وَأَجْمَعْتُ عَلَيْهِ مِنْ أَدَبِكَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ، وَأَنْتَ مُقْبِلُ الْعُمُرِ، وَمُقْتَبَلُ الدَّهْرِ، ذُو نِيَّةٍ سَلِيمَةٍ، وَنَفْسٍ صَافِيَةٍ”(20) .
كل ذلك من خلال وعي علي (ع) للقرآن الكريم. وإنما أراد بذلك منح ولده الحسن (ع) قوة للدفع في مجال التغيير الاجتماعي الذي كان يتوخى استمراره ونموه.
فالإمام علي (ع) يشير هنا إلى الإرث الثقافي للمجتمع فليس كله صالحاً ومفيداً للأجيال الجديدة والناشئة، الأمر الذي يستوجب معه تنقيته من الشوائب، والاختيار من البدائل المتعددة بما يتناسب مع تحديات الحاضر ومشكلاته، وهنا يظهر أثر المربي والمعلم المسلم القدوة في التدريس؛ في تدعيم الطبيعة الإنسانية نحو الخير أو الشر لأنها قابلة للتوجيه والتعديل والتهذيب نحو الأفضل.
ولما كانت التربية الثقافية عملية إنسانية مستدامة فإنها بالتالي تقوم على الاختيار من متعدد بين الخبرات الإنسانية المتراكمة على مر العصور، ومن هنا تظهر الحاجة إلى تنقية واستخلاص أفضل الخبرات التربوية وتقديمها للمتعلم الناشئ لأنّ التعليم الفعّال قد يؤدّي إلى تعلم فعّال بأقصر الطرق وأقلِّها وقتاً وجهداً.
وأي مجتمع لا تستمر حياته بالصورة المثلى ما لم ينقل التراث الثقافي فيه من الأجيال السابقة إلى الأجيال اللاحقة لتقف عليه وتدرسه، وتختار منه في ضوء مطالب التغيير الاجتماعي الذي وجدت نفسها فيه لان الخبرات البشرية لم تأتي من فراغ إنما تأتي نتيجة مجهود جيل واحد أو عصر معين.
ولا بد أن تقوم مؤسسات تربوية ذات كفاءة عالية بعملية التنقية والتصفية والنقل التي تعد من أهم العمليات التربوية التي غالبا ما تحدث بعد النظر في خبرات الأجيال السابقة مع الأخذ بالعظة والعبرة فيما آل إليه حالها، وذلك حتى لا تضل الأجيال الجديدة، أو تجد مشقة في اختيار الخبرات النافعة لها.
لماذا ننقد المنبر؟
1 – هناك نقطة هامة لا يجب إغفالها وهي أنّ المنبر الحسيني لم يعد الوسيلة الوحيدة أو الأساسية لتلقي الثقافة الدينية, فأجهزة الإعلام تتقدم يوماً بعد يوم, وأصبح بإمكاننا أن نتثقف دينياً وعقائدياً بدون المرور بقناة المجلس الحسيني, بل إني أجزم بأنّ أجهزة الإعلام تقدم ثقافة أرقى بكثير مما يقدمه الخطباء الآن,
فالانتقادات التي توجه إلى خطباء المنطقة لا أراها تخفي على أحد منكم, فشباب اليوم الذي رأى هذا الانفجار المعرفي الكبير, والذي شاهد كيف تتصارع الأفكار والفلسفات المعاصرة بشكل حضاري متطور عبر أجهزة الإعلام ليس مستعداً لأن يتلقى ثـقافته من مصدر لا يستطيع أن يتطور بتطور الوقت, فأدوات الإعلام الحديث لا بد من مراعاتها عند قيامنا بأي نهضة جدية لتطوير المنبر الحسيني.
2 – أهم مشكلة برأيي في وضعية المنبر الحسيني الراهنة, هي عدم وجود تغذية عكسية بين طرفي عملية الاتصال وهما الخطيب والمستمع, فنجد أنّ أغلب مجالسنا الحسينية هي عبارة عن محاضرة يسبقها ويلحقها أبيات شعرية تُـقدم بطريقة جنائزية حزينة من أجل إبكاء المستمعين لإكسابهم الثواب الجزيل,
وهنا لا يوجد لدي اعتراض على ذلك إلا على هذه الرتابة التي ملّها الكثير منا, فالمتلقين لهذه المحاضرات لا يوجد لديهم أي طريقة للتواصل الفعلي مع الخطيب, فهو بمجرد انتهاء محاضرته يسارع للخروج من المجلس الحسيني, فهلا كان هناك نوع من الحوار المفتوح بين الخطيب والجمهور؟!
3 – يتراءى للبعض أنّ مهمة تطوير المنبر الحسيني هي مسؤولية الخطباء وحدهم، أو مسؤولية الجهة التي ينتمي إليها هؤلاء الخطباء، فقط، أي الحوزة العلمية. وهذا تصور خاطئ؛ فالمسؤولية مسؤولية الجميع؛ فالمستمع للمنبر الحسيني، ينبغي أن يتحمل دوره فی هذا التطوير؛
فلا يكفي أن نجتر الكلام فی مجالسنا موجهين سهام نقدنا للخطباء، بل من الضرورة بمكان أن نتواصل معهم، وفي الصحيح عن الرسول (ص): “وَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ” (21) . فالمستمع -على سبيل المثال- بإمكانه أن یُسهم فی المسح العام لأبرز المشكلات التی تتصدر قائمة الأولويات، وبإمكانه اقتراح بعض الموضوعات التی تهم المستمعين والمجتمع.
صفات شخصية الخطيب:
لو كنا نتعامل مع بعضنا بعضاً على أساس من الموضوعية الكاملة؛ لما كان للحديث عن السمات الشخصية للمتحدث والمحاضر والخطيب أي معنى، حيث يأخذ الناس ما يريدون من المتحدث من خلال ما يسمعون، ويحددون موقفهم من كلامه لا منه،
لكن الأمور لا تجري على هذه الصورة المثالية، لا عندنا ولا عند غيرنا، لا في هذا الزمان ولا في أي زمان؛ وذلك لأنّ اللغة ناقل غير كفء للمعاني، فدلالة الكلمات على ما وضعت له دائماً غير كاملة، ولهذا فإنَّ يعوّض النقص الذي يجده في الكلمات من خلال تلمُّس وضعية المتكلم والإشارات التي يمكن أن تبعث بها.
وأهم هذه الأمور التي تؤثر في فهم الجمهور:
1. سرعة البديهة: هي سرعة إدراك ما يتطلبه العارض الطارئ من رد فعل مناسب؛ كاعتراض مستمع أو انقطاع التيار أو توقف مكبِّرات الصوت، مما يحتاج تصرفاً ذكياً من المتحدث، وقد يكون السكوت أو التجاهل هو الحل الأمثل إذا لم يعثر الخطيب أو المحاضر على الكلمات التي تسعفه على نحو جيد وصحيح، كما لو كان هدف من قام معترضاً هو إحداث البلبلة أو التهريج أو التشفي.
2. من السمات الأساسية للخطيب المؤثِّر حماسته لما يقول، وتعاطفه مع الأفكار التي يطرحها والقضية التي يعمل على إقناع الناس بها. وإنّ برودة عاطفة الخطيب تتجلى مهما حاول إخفاءها، فإنّ الناس يشعرون بذلك مهما استخدم من الكلمات البليغة. أما صدق العاطفة فيأتي من اعتقاد المتحدث بأهمية ما يدعو إليه وخطورة عدم التجاوب معه. مع الانتباه ألا تجاوز الحماسة حدودها إلى المبالغة وتجاوز الحقيقة.
3. حسن المظهر عامل مهم من عوامل تأثير المتحدث في عقول سامعيه ونفوسهم، والحقيقة أنّ نظافة وأناقة وتناسق الثياب تعزز ثقة الإنسان بنفسه. وأكثر الناس يقتنعون بالفكرة إذا اقتنعوا بمن يوردها. فالمضمون العظيم قد يرفض إذا قدم بشكل مزر. وحضارة اليوم حضارة صورة وشكل وتنظيم، ويجب مراعاة هذه الوضعية وأخذها بعين الاعتبار.
4. يحب الناس الوضوح، ويحبون معرفة الخلفية الثقافية والأسرية والمعيشية لأولئك الذين يوجِّهونهم ويعلِّمونهم. وهذا يقتضي أن يملك الخطيب قدراً من الشفافية مع إبقاء أمور ضمن الخصوصيات التي لا يطلع عليها أحد، لكن دون مبالغة في التكتم. ويمكن للداعية أن يتحدث عن بعض تجاربه الشخصية
وبعض نجاحاته وإخفاقاته وبعض ظنونه وأوهامه، وليمارس النقد الذاتي. وقد أرشد الله تعالى نبيه (ص) إلى شيء من ذلك حين قال: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا}،(22) وحين قال: {قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعًا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ}،(23) وعبَّر (ص) عن بعض أحواله الشخصية في أحاديث كثيرة.
5. يحتاج الخطيب الناجح إلى أن يكون قريباً ممن يحدثهم مقبولاً لديهم، وإلا فإنّ بلاغة ألفاظه وجودة إلقائه قد لا تزيده منهم إلا بعداً. ومن أهم ما يحقق ذلك انسجامُ ما يقول مع ما هو معروف عنه من مواقف وسلوكيات. وسيكون من الأشياء الجيدة في هذا المقام أن يستخدم الضمائر الدالة على المتكلم عوضاً عن الضمائر الدالة على المخاطبين،
فيقول عوضاً عن “أنتم مقصرون في تربية أولادكم”: “نحن مقصرون…” مع مراعاة أصول اللياقة والمجاملة، واستخدام التلميح أسوة بالرسول (ص)، فقد كان من دأبه إذا رأى شيئاً يكرهه أن يقول: “ما بال أقوام يفعلون كذا وكذا…”.
6.ومن المهم ألا نتناول قضايانا ومشكلاتنا بالاستقصاء التام والبحث العميق، فالخطب والمحاضرات والدروس العامة ليست عبارة عن مراكز أبحاث أو ورش علمية.
7.على الخطيب أن يعرف كيف يستفيد في استمالة مستمعيه والتأثير فيهم.
وهذه بعض الملاحظات في هذا الشأن:
أ-لا ريب لدينا في أنّ الكلمات هي الناقل الرئيس للدلالات والمعاني، لكنها ليست هي العامل الحاسم في تكوين الانطباعات الأولية والصور المنطبعة لدى المخاطبين، وتشير الدراسات إلى أنّ نغمة الصوت والمظهر الخارجي للشخص تساهم في 90% من الانطباع المتكوِّن، وأنّ نغمة الصوت وقوَّته وحدَّته وسرعته لها تأُثير يصل إلى 35% من تفسير الآخرين لما نقول.
ب-على الخطيب أن يتأكد دائماً من ملاءمة صوته للسامعين، فالصوت المرتفع مزعج ومؤذ، والصوت المنخفض يحرم البعيدين عن المحاضر سماعه والاستفادة منه. وهناك حاجة لتغيير وتبديل طبقة الصوت من أجل دفع السأم والملل، وحسب المكان فالمكان المفتوح يحتاج صوتاً أكثر ارتفاعاً من المغلق.
ت-المهم هو الموازنة بين السرعة والبطء في الكلام. فالسرعة الزائدة تجعل الناس لا يستوعبون الرسالة، والبطء يجعلهم يملون ويشردون.
ث-من المهم الاهتمام بمواطن الوقف أثناء الكلام لمساعدة المستمع على الفهم. والوقفات القصيرة بين الكلمات تحدث تأثيراً بالغاً إذا أحسن اختيار أماكن الوقف.
ثقافة الخطيب:
إنّ العامل الأساسي في نجاح الخطيب وتأثيره في ما يملكه من معلومات ومعارف عميقة ودقيقة وشاملة حول الموضوع الذي يتحدث فيه؛ لأنّ ثورة الاتصالات جعلت الناس يتجاوزون لغة الكلمات الأنيقة والعبارات الرنانة إذا لم ترتكز على معطيات علمية موثوقة وعلى معان قوية متماسكة، وفي ظل الانفجار المعلوماتي وانفجار ثورة الاتصالات حدث أمران مهمَّان:
الأول: توفُّر كمية هائلة من المعلومات في كل مجال وكل اتجاه وعلى كل مستوى، مما يعني فرصاً وإمكانات شبه مطلقة لتنمية المعرفة الشخصية على نحو لم يسبق له مثيل.
الثاني: ارتقاء معارف الناس بفنون القول وأشكال الخطاب من خلال ما أتاحته لهم الفضائيات من رؤية متنوعة للمتحدثين والمتكلمين والمتحاورين، وما يترتب على ذلك من نمو حاسة المقارنات والموازنات لديهم. وفي ظل هذه المستجدات صار لدى كل الخطباء ما يكفي من الحوافز والتحديات للارتقاء بأنفسهم، كما صار لديهم ما يكفي من الفرص لزيادة حصيلتهم الثقافية لو أرادوا.
إنّ المتحدث الجيد يحتاج إلى أن ينمي معارفه على مستويين: مستوى الخلفية الثقافية، ومستوى الإلمام بالموضوع الذي يطرقه. وهذا يحتاج جهداً ومثابرة وتنقلاً ما بين ربوع المعرفة المختلفة.
وأعتقد أنّ الخطيب في حاجة إلى أن يعمِّق معرفته في ثلاثة حقول ثقافية: حقل الثقافة الشرعية، وحقل الثقافة العامة، وحقل الثقافة المتخصصة؛ فالثقافة الشرعية تمنحه الرؤية والمنهج والضوابط وتوضح له المحظورات. أما الثقافة العامة، فإنها تساعده على تشكيل خلفية شاملة لكل الموضوعات التي يتحدث عنها؛ إنها بمثابة الجو الذي يتنفس فيه. أما الثقافة المتخصصة فإنها تمنحه العمق والمصداقية وصلابة الموقف المعرفي.
أما على مستوى الإلمام بالموضوع، فهناك مجموعة من الملاحظات:
1.المهم دائماً أن يعرف المتحدث على نحو دقيق عن أي شيء يريد أن يتحدث؛ إذ إنّ كثيراً من الخطب والمحاضرات يتم الانتقال فيها من موضوع إلى موضوع ومن قضية إلى قضية، فيرتبك السامعون ارتباكاً شديداً، ويجدون أنفسهم عاجزين عن وضع عناوين لما سمعوه وتلخيص أفكاره الرئيسية.
2. ما يمكن أن نجعله موضوعاً لخطبة أو محاضرة يفوق الحصر، ولهذا فإنّ على المرء أن يعرف كيف يختار الموضوع الأكثر ملاءمة والأكثر أهمية لمن يتحدث إليهم. إنّ توالي الأحداث وتنوع صروف الليالي والأيام يجعل ما كان مهماً قبل سنة غير مهم اليوم، وما هو حيوي عند قوم ثانوياً عند آخرين.
3.أفضل وسيلة للإلمام بالموضوع الذي نرغب في التحدث فيه هو أن نطلق لأخيلتنا العنان لأخيلتنا كيما نتمكن من إيجاد تصور شامل لكل ما ينبغي تناوله من مسائل وقضايا وتفريعات تجعل فهم الناس للموضوع أقرب إلى الكمال.
المثقف والخطيب الحسيني:
من أخطر الأمور التي تتداعى إليها المفاهيم المنساقة هو عدم فصل الخطيب الحسيني عن عالم الدين (الحوزوي)، مع أنّ الواقع المعرفي يأخذ بنا إلى أن هناك تمايزاً جوهرياً بين الوظيفتين، فعالم الدين (الحوزوي) تقوم أدواته على المماحكة العلمية الاستدلالية التي تخضع لقانون علمي دقيق، بينما الخطيب الحسيني فلا يراعي هذا الجانب المعرفي، وبالتفات بسيط إلى ما يعرض على القنوات الشيعية نجد المفارقة كبيرة بين الوظيفتين.
وعدم الجرأة في فصل الوظيفتين أدّى إلى فوضى معرفية وازدواجية في معايير الحوزة التي تؤمن بالعلم والمنطق من جهة وبين ما تلقيه على المنبر من جهة أخرى.
وتحكم المثقف في عالمنا الإسلامي هواجس النهوض الحضاري، وهي هواجس أكبر من أن يحيط بها مثقف أو يتصدرها طالما أنه لم يعِ تراثه وعياً كاملاً، فلا يتاح له أن يعيش حالة التوازن بين ماض يريد العزوف عنه ومستقبل يطمح إليه، ويتسبب ذلك عادة بالقطيعة مع التراث والتي تتبدى بأشكال مختلفة، وهي قطيعة تترسخ معالمها من خلال ما يستوحيه من نظم وافدة لا تنتمي بحال إلى هذا التراث.
وفي المقابل يتسلح عالم الدين بما يفتقر إليه المثقف من نظم تراثية (شب عليها وشاب). ولكنه مع ذلك قد يقع في أسر هذه النظم بحيث يتعسر عليه أن يتجاوز ما يمكن تجاوزه فيها، ويعود السبب في ذلك إلى الطرق التي من خلالها يهضم التراث والتي قد لا تفسح في المجال لمثل هذا التجاوز فيما لو أسيء فهم التراث الديني.
ولا أقصد بهذا أن أفصح عن لبِّ المشكلة القائمة بين المثقف وعالم الدين بمقدار ما قصدت إلى الإفصاح عن المراد من المثقف هنا ولو بنحو الإشارة والإجمال ومن دون الدخول في التحديدات المملة، فإنه ليس من المفارقات الكبرى أن يقوم عالم الدين بمهمة المثقف أو العكس، ولكن عالم الدين يغدو مثقفاً، كما أنّ المثقف يكون مدفوعاً بالحميِّة الدينية في تلك الحال.
ومهما يكن فقد تطرقت فيما يلي إلى بعض النواحي التي قد تسلط بعض الضوء على مجالات يظهر فيها الخلاف بين المثقف والعالم الديني:
أ- سطوة الأسس الفكرية:
إنّ الإنسان محكوم في رؤيته للواقع لشبكة من المؤثرات والمنظومات الفكرية التي درج عليها في أثناء تكوينه الذهني. ونظراً لتفاوت المنطلقات والأهداف التعليمية ما بين الحوزة والجامعة، فإنّ الواقع سوف ينعكس في ذهنية المتلقي عموماً، وبالتالي يتبلور فهمه للأشياء بالكيفية التي تشكلت بها ذهنيته الثقافية. ولهذا ربما قد نفاجأ حين نجد أنّ المشكلة التي يعاني منها الطرفين واحدة، ولكن مع اختلاف في المنطلقات والأهداف وحدّة التباين في الرؤية أيضاً.
فالعلم لا يكون علماً إلا بمقدار ما يلامس الواقع. وبهذا الاعتبار، سوف تقف بين المثقف والعالم الديني من جهة، والواقع الذي ينتمي إليه كل منهما من جهة ثانية فاصلة، هذه الفاصلة يمكن أن نعبر عنها كما يلي:
1.واقع لا ينتمي إلى الأسس الفكرية «المعاصرة»، والمطلوب في هذه الحالة تغيير الواقع بما يتناسب مع تلك الأسس كشرط للانطلاق. وتلك هي مشكلة المثقف.
2.وواقع ينتمي إلى الأسس الفكرية “التراثية”، ولكن مع وجود مساحة فاصلة تستدعي تطوير الخطاب وتحيينه وتفعيله لمعاصرة الحدث. وتلك مشكلة عالم الدين.
ب- التخصص (سلاح ذو حدين):
العلوم الإسلامية متمحورة حول النص، ومن مميزات النص الديني أنه شمولي، ونظراً لتعقيد الواقع فإنّ ربط النص بالواقع يستدعي العمل على إيجاد التخصص في مجال العلوم الدينية، في حين يفتقر الواقع التثقيفي الديني عموماً إلى هذه التخصصية، ويتسم العالم الديني بالشمولية على مستوى الطرح.
فالدارس الأكاديمي ينظر إلى العلاقات والروابط القائمة بين التيارات الفكرية بنظرة كلية شاملة في محاولة استجلاء معالمها الرئيسية وذلك من خلال مقارنة أوجه الاختلاف فيما بينها والحدود التي تفصل بعضها عن بعض، ولكن من دون الدخول في المعطيات المباشرة للظواهر المدروسة.
بينما الدارس الحوزوي يغرق في المعطيات المباشرة، بحيث يكاد أن تغيب عنه المعالم الكلية الفاصلة بين هذه التيارات الفكرية غالباً، ولكنه يمتلك بذلك وعي الحقيقة في تفاصيلها وهمومها الآنية. وفرق كبير بين التحليق بعيداً عن الأرض، وبين الاحتكاك الحميم بها.
ج- البعد الإيديولوجي في تفسير الظاهرة:
ينظر إلى التفسير المادي النافي للتفسير الغيبي، على أنه واحد من الأبعاد الإيديولوجية التي تدخل في نسيج البناء العلمي، بحيث تتشكل على أساسه الهوية العلمية. وهذا يكشف عن بعض وجوه التفاوت في المنطلقات الفكرية بين المثقف وعالم الدين.
فحين ينطلق المثقف وعالم الدين لمعالجة قضية ما من قضايا الواقع المعيش، مثل قضية “الإصابة بالعين” أو “الجن” مثلاً، هنا سوف يعمد المثقف إلى تحليل هذه الظاهرة على الأسس العلمية، وإذا لم يجد لها تفسيراً ضمن النطاق الفيزيائي، أو النفسي التجريبي… سوف يعمد إلى رفض هذه الظاهرة. وهو في رفضه لها لا ينطلق من أسس علمية طبعاً، فيكفي أن تنتفي القدرة العلمية على سبر أغوار الظاهرة حتى يتبرر بذلك نفيها عن الواقع المقبول لديه!
بينما عالم الدين لا يتوقف عند الإثبات المادي المباشر لهذه الظاهرة طالما أنّ النص قد برر للاعتراف بها، وطالما أنّ العقل لا يرى استحالتها، وطالما أنّ العلم القطعي لم ينطق بكلمته بعد، وحتى في صورة إفصاح العلم عن رأيه إزاء الظاهرة، فإنّ الكشف عن البعد المادي لا ينفي وجود البعد الغيبي أصلاً.
ومهما يكن فإنّ التعارض هنا في المعطيات المادية بين الدين والعلم لا يعدو أن يكون وهمياً وغير حقيقي. وهذا يشبه إلى حد كبير التعارض الموهوم في مجال العلوم الإنسانية، حيث يتم إخراج القضية بصرة صراع ما بين الدين والعلم. وقد يسعى المثقف بدافع من الاعتداد العلمي، إلى تقديم تصوراته بصفتها ناجزة ومكتملة، مع أنه وبمقتضى العلمية ذاتها تميل التصورات العلمية أن تكون حيوية، وهذا لا يتأتى إلا من خلال تقديم العلم نفسه على أنه منهجية وطريقة في البحث لا أكثر.
د- الفصل بين الأحكام والموضوعات:
قد يثير البعض قضية أنّ الفقيه يعمل على إنتاج الحكم الشرعي للواقع من خلال خبراته الأصولية والفقهية، وأنّ المثقف ينتج الواقع الذي ينطبق عليه الحكم ويحدده، ويرى في هذا تكاملاً معرفياً. وهو يسعى بهذا لإجراء نوع من المصالحة التبرعية، كالتي تكون بين الخصوم، بحيث لا تستند إلى أساس سليم.
فلا ينبغي تبسيط الأمر بحجة الحصول على وفاق بين عالم الدين والمثقف، بحيث تتم المصالحة على أساس ما يشبه التعاقد التصافقي، ويتم تبادل الأدوار على أساس تكافؤ حصصي. فإنّ مثل هذا التكامل قد ينفع فيما لو كانت المشكلة نابعة من تجاوز كل من الأطراف لمجال اختصاصه
والتعدي على مجال اختصاص الآخر. كما هو الحال في نمط تعامل كنيسة العصور الوسطى مع المثقفين. حيث لم تكن الكنيسة تملك رصيداً دينياً مباشراً يخولها الإمساك بالسلطات الزمنية، ومع ذلك فقد نالت نصيبها من السلطان على أساس التعاقد المصلحي الآني.
أما في حالتنا نحن، حيث يكون للفقيه اختصاصه الكلي الشامل للأحكام والموضوعات، فإن توزيع الأدوار بالشكل المطروح سوف لن يعدو عن أن يكون إجحافاً بحق أحد الأطراف ينعكس أثره سلباً على الواقع بعينه. فقد أعطى التصور الإسلامي للفقيه سلطة تشمل حتى مجالات التشخيص في الموضوعات الكلية.
هـ- الفصل بين التنظير والواقع:
ينظر المثقف إلى أنّ تجدد العلوم الدينية أمر ضروري لمماشاة الواقع المتغير، بينما يصر العالم الديني على صياغة علومه الدينية على أساس من علوم الفلسفة والمنطق والرياضيات… نظراً لما تحظى به هذه العلوم من تماسك.
ويرى المثقف أنّ هذا التماسك يتأتى من كون هذه العلوم تعبِّر عن فكر مستقل نسبياً أو كلياً عن الواقع، وبالتالي تتسم هذه العلوم بطابع الهيمنة على الواقع ومحاولة إخضاعه واحتوائه كلياً أو جزئياً. ويعزو المثقف التخلف على مستوى الواقع إلى هذا التماسك الذي جعل من الدين فكراً غريباً لا يستجيب لمتغيرات الواقع وتحولاته، ولا يشبع طموح الإنسان المسلم أو يروي غليله في شيء… وبالتالي ينبغي أن ترتبط العلوم الدينية بعجلة العلوم الإنسانية من اجتماعية وسياسية واقتصادية ونفسية… وهي علوم تتسم بكونها أكثر التصاقاً بالواقع من غيرها.
وقد يبدو أنّ مهمة المثقف هنا تتحدد في إطار تفسير الواقع الديني بما يتلاءم مع توصيف بنية هذا الواقع بمعزل عن الأهداف المعيارية وإطلاق الأحكام. بينما تكمن مهمة العالم الديني في تغيير هذا الواقع بما يسمح له بالتكيف مع ما تصبو إليه النظرية، وذلك بصفته محيطاً بأبعاد النظرية الدينية من جهة،
ومبلغاً رسالياً من جهة ثانية. فالمثقف أشبه بالباحث الذي يصف الواقع ويسجل توصيات ذات طابع نقدي، أما زمام التكييف والتغيير فيقع على عاتق العالم الديني. وإذا صح هذا الكلام، فإنّ إشكالية العلاقة بين المثقف والعالم الديني تظهر إلى السطح بمقدار ما يتجاوز أحدهما مجال اختصاصه ليصدر الأحكام فيما هو من مجال الطرف الآخر.
مسؤولية الخطباء:
يتطلب من الخطباء أن يثقفوا أنفسهم وأن يطرحوا العناوين الحسينية للنهضة أكثر من طرحهم المأساة الحسينية، وليس معنى ذلك أنّنا نتنكر للمأساة فإنه لا بد أن تبقى الفكرة الحسينية مغسولة بالعاطفة، ولكن علينا أن نعرف كيف نستخدم أساليب العاطفة، لأنّ أساليب العاطفة تتطور مع الزمن، ولذلك يمكن أن تكون بعض الأساليب متوارثة منذ مائة سنة وربما كانت مفيدة في حينها ولكنها أصبحت الآن مضرة من هنا يستوجب عليهم:
1. التجديد في الأسلوب، وخاصة فيما يتعلق بالشعر الحسيني؛ الذي قد نُظم أكثره في بيئات سابقة كانت تحاول أن تصوّر القضية الحسينية بطريقة تتناسب مع تقاليد وذهنيات ذلك العصر، ونحن نحتاج إلى شعر حسيني، يتناسب مع المرحلة التي نعيشها ومع ذهنيات الشباب والجيل المعاصر في إثارة العاطفة.
2.نحتاج إلى تنقية المضمون بإبعاد الخرافة عن السيرة الحسينية، فالبعض يحاول دائماً أن يقدم السيرة بشكل خارق للتصور أو مناف للعقل والمنطق من أجل إثارة العاطفة، ولذا نحتاج إلى أن نحافظ على التحدث إلى الناس بالصدق في الرواية، وذلك بتوثيقها، فلا يكن الهمُّ كله استنزاف الدمعة وإثارة العواطف على حساب الحق، وقد قال الصادق (ع) لقيس الماصر: “تَتَكَلَّمُ وَأَقْرَبُ مَا تَكُونُ مِنَ الْخَبَرِ عَنْ رَسُولِ اللهِ (ص) أَبْعَدُ مَا تَكُونُ مِنْهُ؛ تَمْزُجُ الْحَقَّ مَعَ الْبَاطِلِ، وَقَلِيلُ الْحَقِّ يَكْفِي عَنْ كَثِيرِ الْبَاطِلِ” (24) . فعلينا أن نبقي العاطفة في أسلوب عرض المأساة الكربلائية، ولكن الواجب علينا أن نعمل على أن تكون العاطفة صادقة لنثقف الناس بالحقيقة لا بغير الحقيقة … فلو كان لدى الخطيب ذوق أدبي وكان عنده فن أدبي وكان يستطيع أن يطرح الأشياء الصحيحة في عاشوراء ويصورها تصويراً فنياً وأدبياً مؤثراً فإنّه يمكن أن يجعل الناس يبكون من دون إضافة أشياء أخرى من غير الحق.
3.لا شكّ أن العاطفة مقدسة، ولا إنسانية بدون العاطفة، والحسين (ع) هو سيد الإنسانية في معنى العاطفة التي كان يعيشها في نفسه -كأي إنسان يقف أمام المأساة- والتي يعيشها تجاه أمته. ولكن الحسين (ع) كأبيه، لأنّ الله يريد له أن يجسّد القوة في صبره كما يجسد القوة في قتاله، وهذا ما جسدته زينب (ع) بقولها: “اللهم تقبّل منا هذا القربان”، وتقول في مخاطبة يزيد: “فكِد كيدك وناصب جهدك،
فإنك لن تمحو ذكرنا ولن تميت وحينا”، وتقول في مخاطبة ابن زياد: “ثكلتك أمك يا ابن مرجانة”، فهل زينب التي تتحدث بهذا الحديث الذي نسمعه هي الإنسان التي لا شغل لها إلا البكاء والصراخ وما إلى ذلك؟!… إذن العاطفة لها أسلوب خاص، فيجب أن تعرف كيف تحرك العاطفة بحيث يستشعر الإنسان الحزن ويعيش القضية حية حارة، بحيث يخلق لديه وعياً ولا يخلق تخلفاً.
4.من هنا أصبح المنبر الحسيني يحتاج إلى ثقافة أعمق وأوسع، فلا يكفي أن يحفظ الخطيب بعض القصائد ليرددها على مسامع الناس الذين فيهم المثقفون وفيهم أناس من مذاهب أخرى، فلا يجوز أن نأتي بأشخاص متخلفين لقراءة مجالس الحسين، لأننا بذلك نقوم بتشويه صورة الإسلام من حيث لا نقصد، فالكثير من الخطباء مخلصون لكن تعوزهم الثقافة التي تجعلهم بمستوى مهمتهم.
5.على الخطيب أن يتعامل مع الخطابة الحسينية كرسالة إسلامية لا كمهنة للعيش فقط، ولذلك فلا بد من أن تتوفر عنده الثقافة الإسلامية بطريقة علمية واسعة عميقة منفتحة على تطورات الذهنية المعاصرة في أساليبها وقضاياها وتطلعاتها، لأنّ لكل عصر ذهنيته التي يخاطب أهله من خلالها، ولكل جيل ثقافته،
فلا بد للخطيب من أن يحدِّث الناس بقدر عقولهم، مع التدقيق في دراسة الواقع الحاضر مقارناً بالواقع الذي كان في عهد الثورة الحسينية؛ لأنّ الإمام الحسين (ع) انطلق لتكون رسالته في إصلاح أمة جده (ص) بما عرض لها من فساد في عصره، فعلينا، إذا كنا نؤكد رسالته في امتداد الزمن، أن نقوم بإصلاح الأمة مما عرض لها من الفساد في الواقع.
6.إنّ التاريخ ليس مسؤوليتنا الحركية، بل هو للدرس والعبرة، ولاستيحاء القضايا التي تبقى منه للحياة، بل الحاضر هو مسؤوليتنا التي قد تأخذ من الماضي بعض العناصر الأصيلة لتخطط للمستقبل. ولكنه عندما ينظر إلى الرسالة ويرى أنّ هذا الاقتحام المادي في بعض المراحل سوف يسيء إلى الرسالة فإنه يصبر ويتأمل ويفكر، ويعطي المنهج ويخطط للمستقبل بكل رويةٍ وتأنٍ.
وهكذا كان علي (ع) “قَدْ يَرَى الْحُوَّلُ الْقُلَّبُ وَجْهَ الْحِيلَةِ وَدُونَهَا مَانِعٌ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ وَنَهْيِهِ فَيَدَعُهَا رَأْيَ عَيْنٍ بَعْدَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهَا وَيَنْتَهِزُ فُرْصَتَهَا مَنْ لا حَرِيجَةَ لَهُ فِي الدِّينِ”(25) .
فعلى الخطيب أن يدرس الواقع الإسلامي في تمزقاته، ولا يزيده تمزقاً بإثارة الخلافات، وإذا أراد أن يتحدث عن قضايا الخلافات الإسلامية الكلية، فليحاول أن يأخذ بالمنهج القرآني في الوقوف عند الكلمة السواء، والجدال بالتي هي أحسن، والحفاظ على وحدة الأمة.
إننا مسؤولون جميعاً عن الأمة كلها، لا سيما في ظروف المرحلة الخطيرة التي ينطلق فيها الاستكبار العالمي بكل قواه من أجل إضعاف الأمة الإسلامية، والإجهاز على كل مواقع القوة فيها، وعلينا أن نتحمل مسؤولية ذلك كله.
ولذلك فإنّ على الجمهور الواعي اختيار الخطيب الرسالي الواعي الوحدويّ الذي تستمعون إليه، وقد جاء في الحديث عن الإمام الباقر (ع): “مَنْ أَصْغَى إِلَى نَاطِقٍ فَقَدْ عَبَدَهُ، فَإِنْ كَانَ النَّاطِقُ يُؤَدِّي عَنِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ فَقَدْ عَبَدَ اللهَ، وَإِنْ كَانَ النَّاطِقُ يُؤَدِّي عَنِ الشَّيْطَانِ فَقَدْ عَبَدَ الشَّيْطَانَ”(26) .
الهوامش
1- الأنفال / ۲۴
2 – الكافي: ج 5 ص 496.
3 – الكافي: ج 1 ص 406.
4- تاريخ الخلفاء: ص 80، والصواعق المحرقة: ص 175، والرياض النضرة: ج 2 ص 148، وتاريخ دمشق: ج 30 ص 307، والمنتظم: ج 4 ص 70، وكنز العمال: ج 5 ص 616 حديث 14084.
5- سير أعلام النبلاء: ج 3 ص 285. والإصابة: ج 2 ص 77، ومعرفة الثقات: ج 1 ص 301، وتهذيب التهذيب: ج 2 ص 300، وتهذيب الكمال: ج 6 ص 404، وتاريخ واسط: ج 1ص 203، وتاريخ الخلفاء: ج 1 ص 143، وتاريخ بغداد: ج 1 ص 141، وبغية الطلب في تاريخ حلب: ج 6 ص 2584- 2585، والتحفة اللطيفة في تاريخ المدينة الشريفة: ج 1 ص 295، وعلل الدارقطني: ج 2 ص 125، وتاريخ دمشق: ج 14 ص 175-176، وكنز العمال: ج 13 ص 654 حديث 37662، وتاريخ المدينة المنورة: ج 3 ص 799.
6- (علي صوت العدالة الإنسانية، جورج جرداق: ج 3 ص 207-217).
7- الكافي: ج 1 ص 370.
8- الكافي: ج 4 ص 554.
9- وفاء الوفاء: ج 2 ص 398.
10- (أنظر: صحيح مسلم: ج 4 ص 1871، وتاريخ دمشق: ج 13 ص 266،وتهذيب الكمال: ج 6 ص 247، وسير أعلام النبلاء: ج 3 ص 264، وتاريخ الطبري: ج 4 ص 188، والكامل في التاريخ: ج 2 ص 284، والمستدرك على الصحيحين: ج 1 ص 541، ومسند أحمد: ج 3 ص 181، والبحر الزخار: ج 4 ص 91، والسنن الكبرى: ج 5 ص 55)،
11- تاريخ ابن الأثير: ج 3 ص 414.
12 – تاريخ ابن الأثير: ج 2 ص 111 و 217 و 424
13- الإرشاد: ج 2 ص 71، وتاريخ الطبري: ج 3 ص 308، والبداية والنهاية: ج 8 ص 188، والكامل في التاريخ: ج 2 ص 553.
14 – بحار الأنوار: ج 45 ص 137
15 – تاريخ العراق في العهد الأموي: ص 226
16 – التوبة / 71
17 – مسند أحمد: الحديث 17749
18 – الأحزاب: 6
19 -نهج البلاغة: الخطبة 192
20 – نهج البلاغة: كتاب 31
21 -الكافي: ج 1 ص 403.
22 – كهف110
23 – يونس 49
24 -الكافي: ج 1 ص 173
25- (نهج البلاغة: خطبة 41، والمعنى: قد يرى الذين يملكون تحويل الأمور وتقليبها والقدرة على تحريكها في كل لعبة، سواء كانت لعبة اجتماعية أو سياسية أو ما إلى ذلك، فيدعها وهو يراها في معرفة تنفذ إلى عمق الأشياء بأبعادها السلبية والإيجابية، وينتهز فرصتها من لا حريجة له في الدين)
26 – الكافي: ج 6 ص 434