الاجتهاد: توقّفتُ عند بيانِ تعزيةٍ صدر عن سماحةِ سيّدِنا الأستاذ آيةِ الله أحمد المدّدي (دامت بركاته)، أحدِ كبارِ تلامذةِ المرجعِ الأعلى (دام ظلّه).ولفتتني عبارتانِ بسيطتانِ في ظاهرِهما، عظيمتانِ في معناهما؛ فقد افتتحَ البيانَ بوصفِ المرجعِ الأعلى بـ«الأستاذ الكبير»، وختمَه بتوقيعه: تلميذُكم الصغير.
ومعها كأنّي أرى صورةَ العالمِ الربّانيّ وقد انحنى تواضعًا أمامَ مَن علّمه، لا تكلّفًا ولا تزيينًا، بل صدقًا نابعًا من عمقِ التربيةِ التي غذّته بها مدرسةُ النجفِ الأشرف.
السيّدُ المدّدي بلغ الخامسةَ والسبعين من عمره، وهو مجتهدٌ معروف، ومدرّسٌ كبير، ومع ذلك يقول: تلميذُكم الصغير!
أيُّ درسٍ هذا في الأدبِ والعلمِ والوفاءِ ؟
وأيُّ جلالٍ هذا الذي يجعلُ الكبارَ يصغرونَ تواضعًا، حين يذكرونَ مَن فتحَ لهم أبوابَ النور؟
إنّ هذا الخُلقَ الرفيعَ ليس مجرّدَ لُطفِ عبارةٍ، بل هو جوهرُ مدرسةٍ كاملةٍ اسمُها النجفُ الأشرف؛ مدرسةٌ ربّت أبناءَها على أنّ التلمذةَ ليست مرحلةً عابرةً من العمر، بل مقامٌ من مقاماتِ النفوسِ الطاهرة.
فلْيتعلّم من هذا المشهدِ كلُّ طالبِ علمٍ، أنَّ المجدَ لا يُنالُ بالرتبِ ولا بالألقاب، بل بصدقِ التواضع، ودوامِ الاعترافِ بالفضل، وحفظِ الأدبِ مع الأستاذ، ومع العلم، ومع اللهِ قبلَ الجميع.
فطوبى لمن كبُرَ علمُه وما كبُرَ في نفسه،
وطوبى لمن تزيّنَ تواضعُه قبلَ أن يتزيّنَ بعمامتِه،
وطوبى لمن ظلَّ تلميذًا… ولو كبِرَ.
تعليق أحد الإخوة؛ السيد حسين الحسيني:
يُنسب لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) قوله:
«مَنْ عَلَّمَنِي حَرْفاً فَقَدْ صَيَّرَنِي عَبْداً»
هذا الحديث الشريف، على الرغم من إيجازه، يُظهر أسمى درجات الأهمية والمكانة التي يحظى بها المعلم، ويؤكد على ضرورة تبجيله في الثقافة الإسلامية.
١. استخدام كلمة “عبد”:
النقطة الأبرز في هذا الحديث هي استخدام كلمة “عبد”. من الواضح أن الإمام (ع) لا يقصد العبودية بمعناها الحرفي والقانوني، بل استخدم هذا التشبيه البليغ ليعبّر عن أقصى درجات التواضع، والخدمة، والشكران التي يجب على التلميذ إظهارها لمعلمه. فكما أن العبد يكون مسلّماً وخادماً لسيده، كذلك يجب على التلميذ أن يتحلى بغاية الاحترام والتواضع أمام أستاذه.
٢. قيمة العلم في مقابل الحرية:
يكشف هذا القول أنه في المنظور الإسلامي، المعلم، بمنحه العلم، يحرر روح الإنسان من سجن الجهل. وهذه الحرية الروحية ثمينة لدرجة أن التلميذ، في مقابلها، يرى نفسه مديناً و “عبداً” لمعلمه. في الحقيقة، هي عبودية طوعية نابعة من العرفان بالجميل، لا عن إكراه أو إجبار.
٣. أهمية “حرف” واحد:
من لطائف هذا الحديث أيضاً كلمة “حرفاً”. فالإمام لم يقل “من علمني علماً أو كتاباً”، بل خصّ بالذكر “حرفاً” واحداً. وهذا يدل على أن أي جهد في مسيرة التعليم، مهما بدا صغيراً، ليس عديم القيمة، بل يستحق أعظم التقدير، ويُنشئ حقاً كبيراً على عاتق التلميذ.
خلاصة القول: إن هذا الحديث يؤسس لمبدأ جوهري في الأخلاق التربوية الإسلامية، وهو أن حق المعلم على المتعلم عظيم جداً، بحيث يجب على المتعلم أن يكون دائماً متواضعاً وممتناً وخادماً له، لأن المعلم هو الذي يهب له الحياة الفكرية والروحية.
و علمائنا حقيقتا مصادق بارزة لكلام اميرالمؤمنين علیه السلام