تقديم المصلحة على النص

تقديم المصلحة على النص .. الفرق بين نظرية الإمام الخميني والطوفي في الفقه

الاجتهاد: يذهب بعضهم إلى أنّ السيد الخميني قد ذهب في الفقه مذهب الطوفي في تقديم المصلحة على النص، وأنّ نظريّته في ولاية الفقيه تعطي هذه النتيجة، ولكن يقول بعض آخر بأنّ نظرية ولاية الفقيه لا تخرج عن دائرة قيام الفقيه بتطبيق القواعد الفقهيّة وقانون التزاحم بين الأهمّ والمهم، وتذكر في هذا الصدد فتاوى الإمام الخميني في الشطرنج وتعطيل الحج وغير ذلك، فما هو تقويمكم لهذا الكلام؟

الجواب: يعدّ نجم الدين الطوفي أكثر الفقهاء المقاصديّين تطرّفاً ـ إذا صحّ التعبير ـ عند أهل السنّة، حيث جعل المقاصد والمصالح مقدَّمةً على النصوص، وبالغ في ذلك بما لم يصل إليه لا الإمام الجويني ولا الإمام الغزالي، ولا حتى الإمام الشاطبي، ولكنّ الكثير من التطبيقات التي ذكرها هو أو التي جاءت في فقه الإمام الخميني، لا تتصل بالضرورة بموضوع المصلحة بالطريقة الطوفيّة النظريّة، وإنّما بقواعد داخل النصوص تحكم علاقاتها ببعضها، كعلاقات الأحكام الأوّلية بالأحكام الثانويّة، مثل علاقة قاعدتي: لا ضرر، ولا حرج، وأمثالهما، بسائر الأحكام الأوليّة في الشرع، أو كعلاقات الأحكام الحاكمة بالأحكام المحكومة من حيث نوع بيان النصّ في الحكمين معاً،

وقد يكون المرجع فيها لتقييد الحكم بوضع زمني، مثل موضوع الشطرنج وآلات القمار وخروجها عن القماريّة أو بيع الدم والنجاسات من حيث عدم وجود المنفعة فيها سابقاً مع تحقّق ذلك في العصر الحاضر، فإنّ الخلاف بين الفقهاء هنا ليس في تقديم المصلحة على النص، وإنّما في بلورة فهمٍ جديد للنصّ يجعل التحريم الوارد فيه مقيّداً من الأوّل بعدم نفعيّة الدم لو بيع، أو بعدم قمارية الآلة عندما تباع أو تُستعمل، وهكذا.. وحتى لو كان هذا الفهم ناشئاً من قراءة تاريخيّة في فهمه فإنّه يظلّ مغايراً بعض الشيء لنظريّة تقديم المصلحة على النص بالمعنى العريض لها.

لكن مع ذلك، ثمّة قراءة تقوم بالمقاربة بين نظرية الطوفي ونظرية الخميني، عندما نأخذ بعين الاعتبار أيضاً النصوص الخمينيّة التي صدرت منه في أواخر حياته رحمه الله حيال قضايا متعدّدة، ولا سيما حيال كون ولاية الفقيه من الأحكام المتقدّمة على جميع الأحكام الأخرى، فإنّه في ضوء هذا الفهم لنصوص الإمام الخميني سيكون هناك قدر من التقارب بين نظريّته ونظريّة الطوفي،

وبالفعل فالسيد الخميني كان قد نحى منحى لا أظنّ أنّه كان له رواج معتدّ به في الفكر الشيعي، فرغم أنّ كتبه الاستدلاليّة في الفقه، وكذلك رسالته العمليّة، يقعان غالباً في الإطار المنهجي الجواهري في الفقه الإمامي، إلا أنّ نصوصاً متعدّدة له هنا وهناك ـ لاسيما أواخر عمره ـ تشهد بوجود بذور تحوّل لصالح العقل الذي يملكه الوليّ الفقيه على حساب النصّ، لا لأنّه يرى تقديم العقل على النص في الشرعيّات تقديماً عقليّاً، أو يرى الاجتهاد في مقابل النصّ، بل لسبب آخر سأشير إليه قريباً بإذن الله.

كما وليس هذا من باب العناوين الأوليّة والثانويّة عنده، فإنّ الفقيه لا يقوم بهدم مسجد لبناء طريق وفقاً لقانون المصالح الراجحة حتى يكون المورد من موارد التزاحم بالضرورة، بل الأمر عند السيد الخميني تكفي فيه قناعة الفقيه بالمصلحة في بناء الطريق لتجويز هدم المسجد حتى لو لم تبلغ هذه المصلحة حدّاً يفوق مفسدة الهدم.

وتقول هذه القراءة بأنّ الإمام الخميني يعتقد بأنّ الحكومة هي المكان الذي تذوب فيه الأحكام، ومن ثم فحاكم هذه الحكومة لديه القدرة على تقليب الأحكام بما يراه صالحاً، فإذا كان تصرّف وليّ الأمر وفقاً ـ فقط ـ لقانون التزاحم، فلماذا اختلفوا إذاً مع السيد الخميني في ولاية الفقيه المطلقة (والعامّة)؟

إنّ هذا مؤشر على أنّ السيد الخميني يرى أنّ الفقيه له ولاية على نفوس الناس وأبدانهم وأموالهم فهي تحت ولايته كما هي تحت ولايتهم، لكن في حدود المصلحة العامّة، فيمكنه هدم بيت لبناء بيت أفضل؛ لأنّ البيت الأوّل تحت ولايته، فهل أنت بحاجة لبناء بيتك من جديد إلى قانون التزاحم حتى يشرع لك هدم البيت الأوّل؟ كلا، وهذا ما يقرّب فكرة السيد الخميني من أنّ العالم تشريعيّاً تحت سلطان الفقيه في القضايا العامّة، لهذا يمكنه التصرّف فيه وفق المصلحة، لا وفق قانون التزاحم الذي يقبل به الجميع، وهذا هو ما يقرّب فكرته في أنّ الولاية حكمٌ أولي قادر على التصرّف في الأحكام الأوليّة الأخرى،

فهناك نتيجة انبثقت من معطيين:

الأوّل: إنّ الولاية في الشأن العام عامّة وليست خاصّة، فكما يحقّ للفقيه الوليّ على القصّر والأطفال أن يتصرّف في أموالهم بدون حاجة لقانون التزاحم مع كفاية وجود المصلحة، بل بعضهم اكتفى بشرط عدم المفسدة، كذلك وليّ الأمر يتصرّف في الناس وأبدانها وأموالها وغير ذلك بنفس الطريقة وبنفس الذهنيّة. وهذا حكم أوّلي وليس ثانويّاً أبداً أو يجري في حالات طارئة فقط.. كلا.

الثاني: إنّه حيث كانت التشريعات الأوليّة في عرض تشريع ولاية الفقيه، ذهب السيد الخميني إلى أنّها تحتها؛ وذلك لسببٍ بسيط عنده، وهو أنّ الجزئيات الفقهية التشريعيّة تمثل مفردات صغيرة لظاهرة الدولة، وبناء عليه فستكون كلّ الأحكام تحت سلطان الملفّ السياسي العام، وحيث إنّ ولاية الملفّ السياسي بيد الفقيه، فستكون كلّ المفردات الجزئيّة تحت سلطان وليّ الأمر.

هذه قراءة للفكر السياسي للإمام الخميني في مراحل عمره المختلفة، وهناك من يوافق عليها وهناك من يختلف مع هذه القراءة، فإذا صحّت وجهة النظر هذه في فهم نظرية السيد الخميني فسوف يقترب هو والطوفي من بعضهما بعض الشيء وإلا فلا، وهذا تماماً كفكرة دور الزمان والمكان في الاجتهاد التي طرحها السيد الخميني في بعض كلماته، حيث ناصرها الكثير من الفقهاء، فيما انتقد آخرون هذه الفكرة واعتبروها مناقضةً لخلود الأحكام الشرعيّة.

وطبعاً، فلا أزعم أنّ نظرية السيد الخميني ظهرت متكاملةً، لكننا نتحدّث عن بذور متناثرة موجودة في كلمات مختلفة ومبعثرة، الأمر الذي قد يعيق الجزم بسعة نظريّته ومساحتها على مستوى فقه المصلحة، ومن ثمّ يعرقل بعض الشيء عمليّة المقاربة التامّة بينه وبين الطوفي؛ ولهذا أجد نفسي غير جازم بهذه المقاربة لكنّها تبدو لي محتملة بدرجة جيّدة.

نعم، هناك أمر وهو أنّ المصلحة هل هي متحرّرة تماماً من الأغراض العامّة للنصوص أم لا؟ هذا موضوع قد يميّز قليلاً بين الطوفي ونظرية الخميني، وهو ما كان يعبّر عنه السيد باقر الصدر (المؤشرات العامّة)، أي إنّها مصلحة ضمن المربّع، وليست خارج المربّع.

 

المصدر: موقع الأستاذ الشيخ حيدر حب الله

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Slider by webdesign

Clicky