مسيرة يوم

تحديد مقدار مسيرة يوم طبقاً للحسابات الجديدة في موضوع قصر الصلاة

خاص الاجتهاد: التحقيق الماثل أمامنا قد قام به مرکز تشخیص موضوعات الأحكام كان حول تعيين مقدار مسيرة يوم طبقاً للحسابات الجديدة للمسافة (أي: بالكيلومتر)، كما تصدّى البحث لردّ بعض الإشكالات المطروحة من قِبَل بعض الأشخاص على نتائج هذا التحقيق. بقلم: امیر بهاء الدين علاني نجاد*

يُعتبر المعيار في قصر الصلاة في السفر من جملة القضايا المثيرة للجدل في الفقه، فإنّ أحد المعايير المنصوص عليها في الروايات كشرط لقصر الصلاة هو السفر بمقدار يوم واحد (مسيرة يوم).

والتحقيق الماثل أمامنا قد قام به مرکز تشخیص موضوعات الأحكام كان حول تعيين مقدار مسيرة يوم طبقاً للحسابات الجديدة للمسافة (أي: بالكيلومتر)، كما تصدّى البحث لردّ بعض الإشكالات المطروحة من قِبَل بعض الأشخاص على نتائج هذا التحقيق.

وكان الإشكال الرئيس الوارد هو الاستناد إلى سفر سیّد الشهداء عليه السلام من مكّة إلى العراق (كربلاء)، وتمّت في هذا المقال مناقشته بصورة مستدلّة وتقديم الإجابة عليه وعلى سائر الإشكالات.

وأهمّ ما توصّلنا إليه من نتائج هو أنّ مسافة السفر ليوم واحد تبلغ حوالي 41 كيلومتراً، والذي يستغرق من الناحية الزمنية حوالي 10 ساعات ونصف.

المقدّمة:

لا يخفى أنّ للفظة السفر والمسافر مفهوماً واضحاً، وهو من الموضوعات الخارجية الصرفة، ونظراً لكونه قد طُرح موضوعاً لقصر الصلاة في السفر فقد اُضفي عليه عنوان السفر الشرعي، وقد أدّى لظهور رؤی مختلفة في أذهان الفقهاء فأبدوا آراء متفاوتة.

يتناول هذا البحث دراسة وجهة نظر مشهور فقهاء الإمامية حول أحد المعايير الرئيسية لتحقّق السفر الشرعي، وهي قطع مسافة ثمانية فراسخ؛ و من خلال المنهج المكتبي والميداني، كما تبحث عن طرق تطبيقها على الكيلومتر،

فخلص البحث إلى ما يلي: إنّ مسيرة يوم باعتبارها أحد معاییر وجوب قصر الصلاة فيها إبهامات، ولرفع تلك الإبهامات تصدّى لتحقيق ميداني عبر القيام بسفر في ظروف وإمكانيات مماثلة للسفر في صدر الإسلام، فتبيّن أنّ مدّة السفر طوال يوم واحد تبلغ حوالي 41 کیلومتر، ويستغرق حوالي عشر ساعات ونصفاً.

بيان المفاهيم:

الفرسخ في اللغة معناها السكون والاستراحة: «الفَرْسَخُ: السكون… والفرسخ: ثلاثة أَميال أو ستة، سُمّي بذلك لأنّ صاحبه إذا مشى قعد واستراح من ذلك كأنّه سکن(1).

فكأنّه قيل الفرسخ لهذه المسافة الخاصة لأنّ الناس في قديم الأيام كانوا يتوقّفون ويستراحون عند قطع هذه المسافة.

البريد: ذكر لـ”البريدة” معانٍ وجذور مختلفة، وقيل إن هذه الكلمة ليس لها جذور عربية (2). وبغضّ النظر عن معناها الأوّلي فقد اُستخدمت هذه الكلمة بمعنى الرسول أو المسافة التي يقطعها كلّ رسول.

قال البعض أنّ هذه الكلمة في الأصل بمعنى ذوات الأربع أو البغل(3)، ثم سُمّي الرسول الذي يرکبه بريداً والمسافة التي بين السكّتين(4) بريداً، واستخدمت فيما بعد في دائرة البريد(5). وبُعدُ ما بين السكّتين فرسخان(6).

والمراد من البريد في هذا المقال المسافة بين موقع استقرار الساعي إلى الساعي الآخر، وبعبارة أُخرى، المسافة بين المركزين.

الفحص الميداني:

لقد تمّ هذا الفحص الميداني ضمن مرحلتين، وهما:

المرحلة الأولى كانت بتاريخ (7) 10 ربيع الأول لعام 1436 هـ ق(8):

لإجراء تجربة عملية وقياس مسيرة يوم حاولنا السفر يوماً واحداً في قافلة شبيهة بالقوافل القديمة وقياس المسافة المقطوعة يوم الجمعة 10 ربيع الأول 1436هـ ق، في ذلك اليوم كان وقت أذان الفجر في الساعة 5:45، وشروق الشمس في الساعة 7:14، وغروب الشمس في الساعة 07 : 5، وأذان المغرب في الساعة 27: 6، لذلك كان طول اليوم – أي من أذان الصبح إلى أذان المغرب – ما يقرب من اثنتي عشرة ساعة و 42 دقيقة، وضوء النهار أي عند شروق الشمس حتى غروب الشمس كان في حدود عشر ساعات.

مسيرة-يوم

مسير الحركة: الطرق الريفية وأطراف الطرق الرئيسية لمدينة “قنوات” من مدن محافظة قم. وقطعت القافلة المؤلّفة من عدّة أشخاص مع خمسة جمال تلك المسافة.

وعلى طول النهار كان توقّف القافلة لمدّة ساعتين تقريباً للصلاة والاستراحة وتناول الطعام.

مسيرة-يوم.

كانت نتيجة قياس هذه المسافة على النحو التالي: من حوالي الساعة السابعة صباحاً عندما بدأ ضوء النهار بالانكشاف إلى غروب الشمس في الساعه 07: 5، تمّ قطع أربعين كيلومتراً و 230 متراً من الطريق.

وبمراجعة التقويم اتّضح أنّ طول اليوم الذي هو من شروق الشمس إلى غروب الشمس في الجزيرة العربية زمن الرسول الأكرم “صلى الله عليه وآله وسلم” في السنة الخامسة من الهجرة – على سبيل المثال – كان متغيراً من حوالي عشر ساعات وثلاثين دقيقة (في بداية فصل الشتاء) حتى يصل إلى حوالي ثلاثة عشر ساعة وأربعين دقيقة (في بداية فصل الصيف).

مسيرة-يوموحسبما قيل من أنّ المسافة المقطوعة في فصلي الشتاء والصيف في ذلك الوقت لا تختلف كثيراً، أي:إنّه تمّ تحديد منازل ومسارات متطابقة تقريباً على طول السنة.

ففي فصل الشتاء الذي تكون أيامه أقصر ويكون الجوّ أكثر برودة وأكثر ملاءمة لقطع الطريق في منطقة الحجاز الحارّة، وفي فصل الصيف على الرغم من كون أيامه أطول لكن طول استراحة القوافل أكثر بسبب الحرارة الشديدة، والمسافة المقطوعة كانت أقلّ من الحالة الطبيعية في الشتاء.

ولعلّ هذا هو السبب لعدم بیان فرق بين الشتاء والصيف في اجتياز مسافة يوم واحد في الروايات.

ومع الإلتفات إلى هذه النكات يبدو أنّ هذه التحربة الميدانية كانت شبيهة إلى ما كان عليه الحال في زمن النبي “صلى الله عليه وآله وسلم” لأنّ هذا السفر بدأ حوالي 15 دقيقة قبل الساعة السابعة صباحاً واستمرّ إلى غروب الشمس الذي كان بعد الساعة الخامسة مساءً بقليل، أي: في المجموع كانت القافلة في السير لأكثر من عشر ساعات، والتي كانت قريبة من طول فصل الشتاء في الحجاز من حيث الزمان والظروف الجوية. بالطبع ، يمكن تصوّر التسامح بكيلومتر واحد أو كيلومترين.

تقرير المرحلة الأولي

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمدلله وكفى، والصلاة على النبي المصطفى، وآله الطاهرين الشرفاء
قال الله تبارك وتعالى:«وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ(12).

في صبيحة يوم الجمعة والمورّخ في العاشر من ربيع الأول 1436هـ قبل طلوع الشمس الساعة 6:55 وكان ضوء السماء آخذاً بالانكشاف ومن أجل اختبار “مسيرة يوم” تمّ السفر بصورة قافلة على نحو السفر القديم رجالاً وركباناً مع عدد من الجمال التي كانت مختلفة من ناحية العمر، وقطعنا مسيرة صحراوية وترابية من نهاية قرية (مؤمن آباد) من توابع مدينة “قنوات” بقم المقدّسة إلى غروب الشمس، الساعة 5:07 بمقدار 40 کیلومتراً و 230 متراً. وهذا المقدار قدر بوسیله جهاز GPS العسکري مدل (550 GARMIN ORGON).

الموقعون أدناه يؤيّدون ويشهدون بالمعلومات المذكورة:

1۔ عبد المحمد صرامي (أستاذ في الحوزة ومحقّق ومنفّذ المشروع)
2- أمير بهاء الدين علائي نجاد (أستاذ في الحوزة ومحقق ومنفّذ المشروع)
3 – السيد علي الهاشمي (أستاذ في الحوزة ومحقّق ومنفّذ المشروع)
4- السيد رضا الهاشمي (أستاذ في الحوزة)
5- حمیدرضا حاجیان (طالب في الحوزة ومدير قسم العبادات)
6- إحسان شريعتي (طالب في الحوزة وخبير في شؤون الإعلام)
7- مهدي خسروي (مصوّر)
8- غلام عبد الزهراء (سائق الجمال).

المرحلة الثانية كانت بتاريخ /26 صفر 1437 هـ.ق (13):

بعد انطلاق قافلة الجمال بتاريخ العاشر من ربيع الأوّل 1436هـ (14) طرحت هناك بعض الإشكالات فقُرّر إعادة تسيير فاعلة الجمال. وتمّ إجراء مشاورات مع بعض المؤرّخين للوقوف على الإشكالات والمتغيّرات التي يجب مراعاتها.

لذلك تم مراعاة جميع المتغيّرات إلى حدّ الإمكان في حركة القافلة في المرحلة الثانية. بعض أهمّ هذه المتغيّرات هي:

1- أن تكون الحركة في أرض كأرض الجزيرة العربية.
2- أن يكون في الطريق علوّ وانخفاض.
3- کون طريق القافلة صحراوية، لا في الجوادّ والشوارع.
4- أن لا يقلّ عدد الإبل عن خمسة وأكثرها عشرة أجمال كي يصدق عليها عنوان القطار.
5۔ کون الجمال مختصّة بنقل المسافر والبضائع، لا الجمال التي تسمّن للذبح.
6- اختلاف الجمال في العمر.
7- حمل الجمال للركاب والبضائع.
8- وجود السائق المجرّب مع الجمال.

ونظرا لأنّ الحدّ الأدني لطول اليوم هو عشر ساعات و 36 دقيقة، وحقيقة اليوم تصدق على أقلّ الأيام، فقد تقرّر أن يكون الحدّ الأدنى لطول النهار هو معيار لحساب مسيرة يوم.

وبالنظر إلى المعايير والخصائص المذكورة وبعد إجراء الكثير من الأبحاث اتّضح أنّ قافلة الجمال المتعارفة والاعتيادية موجودة هناك في مدينة دلگان(15) في محافظة سيستان وبلوشستان،

وبعد التنسيق مع السلطات المحلّية في المنطقة بتاريخ 25 صفر 1437هـ.ق(16) أرسلت إلى المنطقة مجموعة تألّفت من عدد من العلماء من حوزة قم العلمية(17) ، وفي اليوم التالي قطعت القافلة المسافة من مدينة دلگان إلى قرية أحمد آباد و بالعکس ضمن الخصائص التالية:

بعد إقامة صلاة الصبح وذلك في يوم الثلاثاء 26 صفر 1437هـ.ق (18) في الساعة 06:07، صباحاً، ومع ركوب الجمال بدأت حركة القافلة المؤلّفة من سبعة جمال، ومع إضافة جملين آخرين في الطريق استمر السير مع تسعة جمال.

تمّ رصد المسير بالكامل بواسطة جهاز( GPS جارمن).

من خلال تمرير القافلة عبر الطرق المستوية وذات العلوّ والانخفاض، وكذلك عبر البساتين والقرى سعياً لأن يكون السفر أكثر تشابهاً مع السفرات في صدر الإسلام وأراضي الجزيرة العربية.

ومع عبور الجمال على حافّة الطريق تم اختبار مسافة حوالي 10 کیلومترات بين علامتين من علامات المرور، وسارت الجمال لمدّة ساعتين هذه المسافة؛ أي: إنّ معدّل سير الجمل كان يبلغ حوالي 4 كيلومترات و 884 متراً في كل ساعة.

تمّ تخصيص ساعتين وخمس عشرة دقيقة لتوقّف القافلة على طول الطريق للفطور والغداء والصلاة، وعلى أساس ذلك كانت النتائج كالتالي:

تم قطع حوالي 40 کیلومتراً و 97 متراً في 10 ساعات و 36 دقيقة بالجمل مع احتساب التوقّف لساعتين وخمس عشرة دقيقة.

مسيرة-يوم

تقرير المرحلة الثانية من حركة قافلة الجمال بتاريخ 17/ من شهر آذر/ 1394 هـ.ش (8 من كانون الأول 2015م / الموافق 25 صفر 1437هـ):

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدلله وكفى، والصلاة على النبي المصطفى، وآله الطاهرين الشرفاء
قال الله تبارك وتعالى:{وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ …}(19).
أما بعد فمن أجل التحقيق الميداني وحساب ثمانية فراسخ بحسب الكيلومتر “مسيرة يوم”.
في يوم الاثنين المؤرّخ 26 من صفر المظفّر 1437هـ في الساعة 6:05 قبل طلوع الشمس قام الموقّعون أدناه بالسفر بالسحر بالنحو القديم في صورة قافلة مؤلّفة من تسعة أشخاص رجالاً وركباناً على جمال كانت مختلفة من ناحية العمر، فقطعنا مسيرة صحراوية وترابية من مدينة “دلگان” من توابع سیستان وبلوشستان إلى “گزشاهان”، وقدّرناها بجهاز GPS مدل (CSX جارمن).

1- السيد كاظم العلوي
2- هاشم نيازي
3- محمد رحمانی زروندي
4- رضا مختاري
5- أمیر بهاء الدين علائي نجاد
6- حجة الله شاکري
7- عظيم باقري
8- کمال باقري (سائق الجمل)
9- يونس باقري (مسؤول المنطقة)
10- هوشنگ باقري (حارس)
11- السيد محمد الحسيني (رئيس مخفر الشرطة)
12- مجید شهلي بور
13- اسماعيل شهلي بور
14- رحيم ابراهيمي
15- مهدي سوداگر
16- محمد صالح رفعتي
17- شه دوز باقري

وتجدر الإشارة إلى أنّ الاختلاف في المسافة المقطوعة في كلتا المرحلتين قد يكون بسبب كون أكثر مسير المرحلة الأولى في الأرض المستوية بالنسبة إلى مسير المرحلة الثانية، أو بسبب خفّة القافلة في المرحلة الأولى حيث كانت خمسة جمال فيما أنّها كانت أثقل في المرحلة الثانية لأنّها كانت تسعة جمال، وبالطبع كلّما يزداد عدد الإبل وإرادة التحرّك معاً ستكون الحركة أبطأ. بالإضافة إلى ذلك أنّه في المرحلة الثّانية كان الرّكاب والبضائع أكثر على الجمال.

الإشكالات:

قد نواجه بعض الإشكالات بهذا الصدد، سنحاول الإجابة عليها، وهي :

الإشكال الأول:

إنّ نتائج الفحص الميداني لا تتلاءم مع بعض ما هو منقول في التاريخ عن بعض الأسفار، كسفر الإمام الحسين “عليه السلام” الى كربلاء؛ فلو أردنا تعیین مقدار مسيرة يوم للقافلة وفقاً للأخبار الدقيقة لقافلة الإمام الحسين “عليه السلام” من أنّهم تحرّكوا من مكّة في مساء التاسع من ذي الحجة، ودخلوا إلى كربلاء اليوم الثاني من شهر محرّم الحرام. ويبلغ طول هذا الطريق في زماننا هذا حوالي 1500 کیلومتر، وقد تمّ اجتيازها خلال 21 يوماً، أي: إنّ حركة قافلة كبيرة مع وجود الأطفال والنساء حوالي 75 کیلو متر في اليوم، وقد سجّلت منازلها في التاريخ، فكيف يتناسب ذلك مع ما توصل إليه من نتائج الفحص الميداني؟!

الجواب:

إن ابتداء حركة الإمام الحسين “عليه السلام” من المدينة إلى مكّة في يوم الأحد الثامن والعشرين من شهر رجب سنة ستين من الهجرة، وانتهي في ليلة الجمعة الثالث من شعبان عند وروده إلى مكّة(22) . وأمضوا في مكّة أربعة أشهر: شعبان ورمضان وشوال وذي القعدة(23).

على هذا الأساس كانوا قطعوا مسافة 431 کيلومتراً على مدار خمسة أيام، أي: ما يقرب من 86 کیلومتراً يومياً، وفي السير من مكّة إلى الكوفة ثمّ إلى كربلاء – خلافاً للمستشكل المحترم – في صباح يوم الثلاثاء الثامن من ذي الحجة (يوم التروية)(24).

ومن حيث الزمان تکون مدّة اليوم – وهي الفاصلة بين شروق الشمس إلى غروب الشمس – هي 12 ساعة و 32 دقيقة، وهذه المدة لا تتغير كثيراً بحسب أفق مكة، مع الأخذ في الاعتبار أن أذان الصبح بأفق المدينة في الساعة 4:50 دقيقة والفجر 6:01 دقيقة وغروب الشمس من 6:33 دقيقة والفاصلة بين أذان الصبح إلى غروب الشمس هي 13 ساعة و 43 دقيقة .

قال الإمام قبل يوم من الرحلة من مكّة: (… مَن كان باذلاً فينا مهجته وموطّناً على لقاء الله نفسه فيرحل معنا، فإني راحل مصبحاً إن شاء الله تعالی…)(25).

لقد قطع سید الشهداء “عليه السلام” المسافة من مكّة إلى كربلاء والبالغة 1447 كيلومتراً في مدّة 24 يوماً، بمعدّل حوالي 60 كيلومتراً في اليوم. وتأخّرُ السفر الثاني (من مكّة إلى کربلاء) بالنسبة إلى السفر الأول قد يكون لأسباب منها:

أ – اللقاءات بعدّة أشخاص أثناء الطريق.
ب – إلقاء الخطب، وعلى وجه الخصوص لأحداث التي جرت من بعد مواجهته مع “الحرّ بن یزید الرياحي”.

ج- الأحداث التي وقعت في المسير، كاستشهاد مسلم بن عقيل وقيس بن مصهر الصيداوي(26).
د- لقاءات مختلفة كلقائه بزهير بن القين البجلي(27).
هـ- المواجهة مع الحرّ بن یزید الرياحي(28).

بينما لم يكن الأمر كذلك في طريقه “عليه السلام” من المدينة إلى مكة.

ومن الواضح تماماً أنّ حركة الإمام “عليه السلام” من المدينة إلى مكّة ومن ثمَّ إلى كربلاء لم تكن سفرة عادية حتى يمكن أن تكون معياراً للسفر العادي للقوافل في ذلك الوقت؛ حيث كانت سفرة عاجلة واضطرارية وشبيهة بالمسير للحرب.

فقد تعرّض الإمام الحسين “عليه السلام” في المدينة لضغوطات متزايدة من الحكومة لأخذ البيعة الإجبارية، لذلك انتقل من المدينة إلى مكّة في الخفاء ليلاً، في وضع يُحتمل فيه وصول قوات السلطة إليه في أيّة لحظة ومنعه من مواصلة السفر، ومن الطبيعي أن يبتعد عن منطقة الخطر بأسرع ما يمكن ويوصل نفسه إلى حرم الأمن الإلهي.

وقد نقلت عن الإمام “عليه السلام ” مکرّراً عبارة {فَخَرَجَ مِنها خَائِفَاً يَتَرَقَّبُ} (29) وأيضاً جواب الإمام “عليه السلام” للشخص الذي سأله لماذا تترك المدينة ؟

قال “عليه السلام” : “وطلبوا دمي فهربت” تؤيّد هذه النقطة(30).

وفي طريقه من مكة إلى الكوفة كانت خطورة وسرعة الأحداث بنحو بحيث كان يجب على الإمام “عليه السلام” أن يحثّ السير بعد رسالة مسلم بن عقيل ويوصل نفسه في أقرب وقت ممكن إلى الكوفة وإدارة تلك المسألة الخطيرة. وهناك عدّة مؤشّرات واضحة لتعجيل وسرعة عمله “عليه السلام “، بما في ذلك:

1- في الرسالة الأولى من مسلم بن عقيل لدعوة الإمام “عليه السلام” إلى الكوفة ورد فيها عبارة “فعجّل القدوم”(31)، وفي رسالة أخرى كانت بعد حركة الإمام وردت عبارة «فالعجل العجل(“32).

2- وفي الرسالة التي أرسلها سيد الشهداء “عليه السلام” إلى الكوفيين في وسط الطريق ومن منزل “بطن الرّمة” وردت عبارة “أنا قادم علیکم وحثيث السير إليكم” (33) بمعني: مسرع إليكم.

3- لقد حدّث الطبري في تاريخه في موضوع حركة الإمام “عليه السلام” إلى الكوفة: “فأقبل الحسين بالصبيان والنساء معه، لا يلوي على شيء”(34)، ويُعبّر بذلك عن حركة الإمام بلا توقّف.

ومن الواضح أنّ المسافة التي يقطعها الشخص الذي يسير خمس عشرة ساعة في اليوم تختلف كثيراً عن المسافة التي يقطعها شخص يسير عشر ساعات. بل نلاحظ الآن في مسيرة زيارة الأربعين من النجف إلى كربلاء والتي تقع على بعد حوالي 70 کیلومتراً يقطعها عامة الناس عادةً في ثلاثة أيام، لكن يوجد أناس يقطعون هذا الطريق في يوم واحد، فإذا تمكن شخص من المشي لمدة 15 ساعة متواصلة وكل 5 کیلومترات في الساعة سيصل في يوم واحد من النجف إلى كربلاء.

الإشكال الثاني:

قد تمّ تسجيل المسافة من كربلاء إلى مكة منزلاً منزلاً وبالكيلومتر، وتم تسجيل هذه المنازل وفقاً للخرائط الدقيقة في كتاب “أحسن التقاسيم”، والتي كتبت عام 375 هـ بدقة بالميل.

أجل، هناك تغييرات في المسير قطعاً خاصة في الجبال، ولكن عندما تكون في أكثر من نصفها لكلّ ميل يساوي كيلومترين فيمكن فهم أنّ الحدّ الأدنى أنّ الميل هو 2 کیلومتر، وفي حالات أكثر بقليل وفي حالات أخرى أقلّ بقليل، (ربما بسبب تغيير الطرق).

ولقد رأينا طريق البصرة الذي يكون قريباً من هذه النتيجة نفسها، على أنّه ربّما يتمّ خلط بين منزلين، فمن المحتمل وقوع تغيير في منزل بني سليم.

الجواب:
هذه الخريطة التي هي في نهاية المجلد الخامس من موسوعة الإمام الحسين “عليه السلام” لمؤسسة دار الحديث، وبشكل أكمل رُسمت في كتاب أطلس الغدير وعاشوراء (من قِبل معهد علوم ومعارف حديث لمؤسسة دار الحديث)، وذكر في المجلد الثامن من کتاب موسوعة الإمام الحسين “عليه السلام” الذي قام به السيد علي بابا العسكري، فهو حدّد المنازل ومسافاتها على أساس نقل کتاب “کشف الظنون” لمصطفی بن عبدالله المعروف بحاجي خليفة وكتاب “معجم البلدان”، لأبي عبدالله ياقوت الحموي البغدادي.

ومن خلال الحوارات والمقابلات التي عقدت مع مؤلّفي كتاب موسوعة الإمام الحسين “عليه السلام”(35) خلصنا إلى أنّ حساب المسافات الأوّلية بحسب ميل، كان استناداً إلى الآراء والبحوث الشخصية لعلي بابا عسكري، وتحويل “الذراع” إلى “الميل”، و “الميل” إلى “الكيلومتر” لم يتمّ بدقّة، مع أنّ نوع السفر وحركة الإمام “عليه السلام” نحو العراق ليس لها سمات السفر العادي ليكون معياراً في المسافة الشرعية والتي وردت في جواب الإشكال السابق.

الإشكال الثالث:

بالتأكيد أنّ الشبهة تكون مفهومية، وليست مصداقية، لأنّها في المقدار وليست في الحساب.

الجواب:

ما يكون مسلّماً ومؤكّداً عليه أنّ الشبهة في بحث “مسيرة يوم” مفهومية، ورفع الشبهة المفهومية يكون بالوصول إلى مفهوم ذلك الموضوع في عرف زمن صدور الحكم.

وأحد المعايير لفهم العرف في زمن الصدور هو الرجوع الى الروايات وكتب اللغة والنقل التاريخي المعتبر. ووفقاً لذلك قامت مؤسّسة تشخیص موضوعات الأحكام الفقهية بإجراء بحث في هذا الخصوص كي يتّضح مفهوم الموضوع التركيبي “مسيرة يوم”، وبعبارة أخرى: حدّد الشارع الضابطة ولكن لم يرد فيتعيين المصداق البتة.

وثمّة نكتة أخرى، وهي: إن كان تشخيص العرف في هذه المجالات بهذا الحجم من الصعوبات والتعقيدات، فما هو الوجه في إحالة دائرة هذا المفهوم إلى العرف من قِبل الشارع؟

الإشكال الرابع:

إنّ سير هذه القافلة المدّعاة في الصحراء لكشف أنّ البريدين يبلغان حوالي 40 کیلومتر أمر تصنّعي، وذلك بسبب استحالة تطبيق سرعة وحركة هذه القوافل اليوم مع القوافل القديمة وكون الناس أنذاك محترفين واعتيادهم على ذلك، مضافاً إلى أنّ معدّل المسافه في حركة القافلة الحسينية كانت 75 کيلومتراً.

الجواب:

لم تكن حركة القافلة أمراً تصنعياً، بل كان واقعياً تماماً، وهذا الأمر تمّ إعداده وتنفيذه في عمليتين منفصلتين استناداً إلى دراسات وتطبيقات كاملة مع القوافل زمن صدور الروايات، والتي تمّ بيانه بصورة كاملة فيما مرّ.

نتيجة البحث:

إنّ مصطلح (مسيرة يوم) باعتباره أحد المعايير في وجوب قصر الصلاة فيه ابهامات، ومن أجل رفع تلك الإبهامات تصدّينا لدراسة ميدانية فقمنا بسفر في ظروف وإمكانات مماثلة لسفرات صدر الإسلام، فتبيّن أنّ مسافة السفر ليوم واحد تبلغ حوالي 41 كيلومتر، ويستغرق حوالي 10 ساعات ونصف.

 

الهوامش

*باحث في  مؤسسة تشخيص الموضوعات الفقهية – قم المقدسة

(1) ابن منظور، محمد بن مكرم، لسان العرب، دارصادر – بيروت/1414هـ 44:3. الحسيني الزبيدي، محمد مرتضی، تاج العروس من جواهر القاموس، دار الفکر بیروت/ 1414هـ. 300:4. الفيومي، أحمد بن محمد، المصباح المنير في غريب شرح الكبير، دارالرضي – قم/بدون تاریخ، 468:2. الحموي البغدادي، یاقوت، معجم البلدان، دارصادر – بیروت/ ۱۹۹۵م،36:1.
(2) أنظر: موسوي بجنوردي و دیگران، محمد کاظم، دایرة المعارف اسلامی، مرکز دایرة المعارف بزرگ اسلامي – طهران/1383ه.ش، ذیل واژه “بريد”. [باللغة الفارسية] (۳) الزمخشري، محمود بن عمر، الفائق في غريب الحديث، دار الكتب العلمية – بيروت، ط 1/ 1417 هـ 83:1.
(4) السكّة: الموضع الذي يسكنه الفُيُوج المرتَّبون من رباط أو قبّة أو بيت أو نحو ذلك. والفُيُوج: جمع، مفرده الفيج. وهو: المسرع في مشيه يحمل الأخبار من بلد إلى بلد [المصدر السابق].
(5) اليعقوبي، أحمد بن أبي يعقوب، البلدان (ترجمه)، بیروت، دار الكتب العلمية – بيروت/ 1422هـ 249.
(6) الزمخشري. الفائق في غريب الحديث 83:1.
(7) ننبّه على أنّ الأزمنة والتواريخ المثبّتة في هذه الدراسة إنّما بحسب التقويم الإيراني أي: (الهجري الشمسي)، و قد حوّلناها إلى التاريخ الهجري القمري.
(8) الموافق الثاني عشر من دي، وهو الشهر العاشر من السنة الإيرانية 1394هـ.ش.
(9) من عام 1435هـ الموافق للأوّل من فروردین، وهو الشهر الأول من السنة الإيرانية .
(10) من عام 1435هـ الموافق الأول من تير، وهو الشهر الرابع من السنة الإيرانية.
(11) من عام 1436 هـ الموافق الأوّل من دي، وهو الشهر العاشر من السنة الإيرانية.
(12) النساء: 101.
(13) الموافق للسابع عشر من آذر، وهو الشهر التاسع من السنة الإيرانية 1394هـ.ش.
(14) الموافق للأوّل من دي، وهو الشهر العاشر من السنة الإيرانية 1393هـ.ش،
(15) مدينة “دلگان” إحدى المدن التابعة لمدينة “إيران شهر” في الجنوب الغربي لمحافظة سیستان وبلوشستان.
(16) الموافق للسادس عشر من آذر، وهو الشهر التاسع من السنة الإيرانية 1394هـ.ش.
(17) حجج الإسلام السادة هاشم نيازي، محمد رحماني زروندي، رضا مختاری، سیدکاظم علوي، أمير بهاء الدين علائی نجاد، حجة الله شاکري.
(18) الموافق السابع عشر من آذر، وهو الشهر التاسع من السنة الإيرانية 1394هـ.ش.
(19) النساء 101.
(20) الموافق للثاني عشر من دي، وهو الشهر العاشر من السنة الإيرانية 1393هـ.ش.
(21) الموافق للسابع عشر من آذر، وهو الشهر التاسع من السنة الإيرانية 1394 هـ.ش.
(22) البلاذري أنساب الأشراف، 1: 156. المفيد، الإرشاد،2: 36. ابن الأثير، الكامل في التاريخ، 4: 20. أبو مخنف الكوفي، لوط بن يحيى، وقعة الطف، المصحح: اليوسفي الغروي، جامعه مدرسین – قم/ 1417هـ: 85 و 86.
(23) الطبري، تاريخ الأمم والملوك 5 . البلاذري، أنساب الأشراف، 1: 160.
(24) الموافق للسابع عشر من شهریور – وهو الشهر السادس من السنة الإيرانية – من عام 1359هـ.ش.
(25) ابن طاووس، الملهوف (اللهوف): 126، العلامة المجلسي، بحار الأنوار، 366:46 و 367.
بلاغة الحسين “عليه السلام” ، 63، طبعة النجف. لواعج الأشجان: 72، طبعة النجف. القمّي، عبّاس، سفينة البحار: 397. الدربندي. أسرار الشهادة: 189، الطبعة القديمة. الأربلي، كشف الغمة، 2: 203. إحقاق الحق، 11: 599. المقرّم، مقتل الحسين: 166. ابن نما، مثير الأحزان: 41. الخارزمي، مقتل الخارزمي: 5/2. الأزرقي، تاريخ مكة، 2: 150.
(26) الطبري، تاريخ الأمم والملوك، 6: 294.
(27) البلاذري، أنساب الأشراف، 3: 167- 168. تاریخ طبري، 4: 298. تنقیح المقال، 1: 453 – 452.
(۲۸) البلاذری، أنساب الأشراف، 2: 473. دينوري: 249 – 250.
(29) القصص: 21.
(30) ابن طاووس. الملهوف (اللهوف): 30. العلامة المجلسي، بحارالأنوار، 44: 312. عاملي،محسن الأمين (1996م) لواعج الأشجان في مقتل الحسين عليه السلام بيروت: دار الأمير. 1: 595.
(31) الزهري. محمد بن سعد بن منيع. الطبقات الكبير، الناشر: مكتبة الخانجي – القاهرة/ 1421هـ ، 6: 432 .
(32) أبو مخنّف الكوفي، وقعة الطف: 93.
(33) الدينوري. الأخبار الطوال، 245. البلاذری، انساب الأشراف، 3: 167.
(34) المفيد، الإرشاد 2: 70 – 71. الطبري، تاريخ الأمم والملوك، 4: 297. ابن طاووس، الملهوف (اللهوف) : 135.
(35) حجة الإسلام مهدي بیشوایي وحجة الإسلام السيد محمود الطباطبائي (مؤلف کتاب دانشنامه امام حسین “عليه السلام” تاریخ 97/3/8.()

مصدر المقال: العدد السادس من مجلة الاستنباط

مجلة الاستنباط

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Slider by webdesign

Clicky