الاجتهاد

تاريخ مصطلح الاجتهاد / محمد عبدالقادر النجار

الِاجتهاد: لقد مر مصطلح الاجتهاد، الذي هو في اللغة: “بذل الجهد للقيام بعمل ما” بمراحل عديدة وصلت في بعض مراحلها إلى حدِّ التناقض، فقد استعملت هذه الكلمة لأول مرة على الصعيد الفقهي للتعبير بها عن قاعدة من القواعد التي قررتها بعض مدارس الفقه السني وسارت على أساسها وهي القاعدة القائلة : (إن الفقيه إذا أراد أن يستنبط حكماً شرعياً ولم يجد نصاً يدل عليه في الكتاب أو السنة رجع إلى الاجتهاد بدلا عن النص).

والاجتهاد هنا يعني التفكير الشخصي، فالفقيه حيث لا يجد النص يرجع إلى تفكيره الخاص ويستلهمه ويبني على ما يرجع في فكره الشخصي من تشريع، وقد يعبّر عنه بالرأي أيضا.

والاجتهاد بهذا المعنى يعتبر دليلاً من أدلة الفقيه ومصدراً من مصادره، فكما أن الفقيه قد يستند إلى الكتاب أو السنّة ويستدل بهما معاً كذلك يستند في حالات عدم توفر النص إلى الاجتهاد الشخصي ويستدل به .

وقد نادت بهذا المعنى للاجتهاد مدارس كبيرة في الفقه السني، وعلى رأسها مدرسة أبي حنيفة. ولقي في نفس الوقت معارضة شديدة من أئمة أهل البيت “عليهم السلام” والفقهاء الذين ينتسبون إلى مدرستهم.

وحملت كلمة الاجتهاد هذا المعنى من زمن الأئمة “عليهم السلام” إلى القرن السابع الهجري، فالروايات المأثورة عن أئمة أهل البيت “عليهم السلام” تذم الاجتهاد وتريد به ذلك المبدأ الفقهي الذي يتخذ من التفكير الشخصي مصدراً من مصادر الحكم، وقد دخلت الحملة ضد هذا المبدأ الفقهي دور التصنيف في عصر الأئمة أيضاً والرواة الذين حملوا آثارهم، وكانت الحملة تستعمل كلمة الاجتهاد غالباً للتعبير عن ذلك المبدأ وفقا للمصطلح الذي جاء في الروايات،

فقد صنّف عبد الله بن عبد الرحمن الزبيري كتاباً أسماه (الاستفادة في الطعون على الأوائل والرد على أصحاب الاجتهاد والقياس)، وصنَّف هلال بن إبراهيم بن أبي الفتح المدني كتاباً في الموضوع باسم (الرد على من رد آثار الرسول واعتمد على نتائج العقول)،

وصنف في عصر الغيبة الصغرى أو قريباً منه إسماعيل بن علي بن إسحاق بن ابي سهل النوبختي كتاباً في الرد على عيسى بن أبان في الاجتهاد، كما نص على ذلك كله النجاشي صاحب الرجال في ترجمة كل واحد من هؤلاء.

وفي أعقاب الغيبة الصغرى نجد الصدوق في أواسط القرن الرابع يواصل تلك الحملة، ونذكر له على سبيل المثال تعقيبه على قصة موسى والخضر، إذ كتب يقول: «إن موسى مع كمال عقله وفضله ومحله من الله تعالى لم يدرك باستنباطه واستدلاله معنى أفعال الخضر حتى اشتبه عليه وجه الأمر به، فإذا لم بجز لأنبياء الله ورسله القياس والاستدلال والاستخراج كان من دونهم من الأمم أولى بأن لا يجوز لهم ذلك … فإذا لم يصلح موسى للاختبار – مع فضله ومحله – فكيف تصلح الأمة لاختبار الإمام، وكيف يصلحون لاستنباط الأحكام الشرعية واستخراجها بعقولهم الناقصة وآرائهم المتفاوتة(1).

وفي أواخر القرن الرابع يأتي الشيخ المفيد فيسير على نفس الخط ويهجم على الاجتهاد، وهو يعبر بهذه الكلمة عن ذلك المبدأ الفقهي الآنف الذكر ويكتب كتاباً في ذلك باسم (النقض علی ابن الجنيد في اجتهاد الراي).

ونجد المصطلح نفسه لدى السيد المرتضى في أوائل القرن الخامس، إذ كنب في الذريعة بذم الاجتهاد ويقول: «إن الاجتهاد باطل، وإن الإمامية لا يجوز عندهم العمل بالظن ولا الرأي ولا الاجتهاد».

وكتب في كتابه الفقهي (الانتصار) معرِّضاً بابن الجنيد – قائلاً: «إنما عوّل ابن الجنيد في هذه المسألة على ضرب من الراي والاجتهاد وخطأه ظاهر”،

وقال في مسألة مسح الرجلين في فصل الطهارة من كتاب الانتصار: “إنا لا نرى الاجتهاد ولا نقول به».

واستمر هذا الاصطلاح في كلمة الاجتهاد بعد ذلك أيضا فالشيخ الطوسي الذي توفي في اواسط القرن الخامس يكتب في كتاب العدّة قائلا: «أما القياس والاجتهاد فعندنا أنهما ليسا بدليلين، بل محظور في الشريعة استعمالهما).

وفي أواخر القرن السادس يستعرض ابن إدريس في مسألة تعارض البينتين من كتابه السرائر عدداً من المرجحات لإحدى البينتين على الأخرى ثم يعقّب ذلك قائلاً : “ولا ترجیح بغير ذلك عند اصحابنا، والقياس والاستحسان والاجتهاد باطل عندنا”.

وهكذا تدل هذه النصوص بتعاقبها التاريخي المتتابع على أن كلمة الاجتهاد كانت تعبيرا عن ذلك المبدأ الفقهي المتقدم إلى أوائل القرن السابع، وعلى هذا الأساس اكتسبت الكلمة لوناً مقيتاً وطابعاً من الكراهية والاشمئزاز في الذهنية الفقهية الإمامية نتيجة لمعارضة ذلك المبدأ والإيمان ببطلانه.

ولكن كلمة الاجتهاد تطورت بعد ذلك في مصطلح فقهائنا ولا يوجد لدينا الآن نص شيعي يعكس هذا التطور أقدم تاريخاً من كتاب المعارج للمحقق الحلي المتوفى سنة (676هـ)، إذ كتب المحقق تحت عنوان حقيقة الاجتهاد قائلا:

«وهو في عرف الفقهاء بذل الجهد في استخراج الأحكام الشرعية، وبهذا الاعتبار يكون استخراج الأحكام من أدلة الشرع اجتهاداً، لأنها تبتني على اعتبارات نظرية ليست مستفادة من ظواهر النصوص في الأكثر، سواء كان ذلك الدليل قياساً أو غيره، فيكون القياس على هذا التقرير أحد أقسام الاجتهاد.

فإن قيل : يلزم – على هذا – أن يكون الإمامية من أهل الاجتهاد. قلنا: الأمر كذلك لكن فيه إيهام من حيث إن القياس من جملة الاجتهاد، فإذا استثني القياس كنا من أهل الاجتهاد في تحصيل الأحكام بالطرق النظرية التي ليس أحدها القياس».

ويلاحظ على هذا النص بوضوح أن كلمة الاِجتهاد كانت لا تزال في الذهنية الأساسية مثقلة بتبعة المصطلح الأول، ولهذا يلمح النص إلى أن هناك من يتحرج من هذا الوصف ويثقل عليه أن يسمي فقهاء الإمامية مجتهدين.

ولكن المحقق الحلي لم ينحرج عن اسم الاِجتهاد بعد أن طوره أو تطور في عرف الفقهاء تطويراً يتفق مع مناهج الاستنباط في الفقه الإمامي، إذ بينما كان الاِجتهاد مصدراً للفقيه يصدر عنه ودليلاً يستدل به كما يصدر عن آية أو رواية، أصبح في المصطلح الجديد يعبر عن الجهد الذي يبذله الفقيه في استخراج الحكم الشرعي من أدلته ومصادره، فلم يعد مصدراً من مصادر الاستنباط ، بل هو عملية استنباط الحكم من مصادره التي يمارسها الفقيه.

والفرق بين المعنيين جوهري للغاية، إذ كان على الفقيه – على أساس المصطلح الأول للاجتهاد – أن يستنبط من تفكيره الشخصي وذوقه الخاص في حالة عدم توفر النص، فإذا قيل له : ما هو دليلك ومصدر حكمك هذا؟ استدل بالاجتهاد وقال: الدليل هو اجتهادي وتفكيري الخاص.

وأما المصطلح الجديد فهو لا يسمح للفقيه أن يبرر أي حكم من الأحكام بالاجتهاد؛ لأن الاجتهاد بالمعنى الثاني ليس مصدراً للحكم بل هو عملية استنباط الأحكام من مصادرها، فإذا قال الفقيه (هذا اجتهادي) كان معناه أن هذا هو ما استنبطه من المصادر والأدلة، فمن حقنا أن نسأله ونطلب منه أن يدلنا على تلك المصادر والأدلة التي استنبط الحكم منها.

وقد مرّ هذا المعنى الجديد لكلمة الاِجتهاد بتطور أيضا، فقد حدده المحقق الحلي في نطاق عمليات الاستنباط التي لا تستند إلى ظواهر النصوص، فكل عملية استنباط لا تستند إلى ظواهر النصوص تسمي اجتهاداً دون ما يستند إلى تلك الظواهر.

ولعل الدافع إلى هذا التحديد أن استنباط الحكم من ظاهر النص ليس فيه كثير جهد أو عناءً علمياً ليسمى اجتهاداً .

ثم اتسع نطاق الاِجتهاد بعد ذلك فاصبح يشمل عملية استنباط الحكم من ظاهر النص ايضاً؛ لأن الأصوليين بعد هذا لاحظوا بحق أن عملية استنباط الحكم من ظاهر النص تستبطن كثيراً من الجهد العلمي في سبيل معرفة الظهور وتحديده وإثبات حجية الظهور العرفي.

ولم يقف توسع الاِجتهاد كمصطلح عند هذا الحد، بل شمل في تطور حدیث عملية الاستنباط بكل ألوانها، فدخلت في الاِجتهاد كل عملية يمارسها الفقيه لتحديد الموقف العملي تجاه الشريعة عن طريق إقامة الدليل على الحكم الشرعي أو على تعيين الموقف العملي مباشرة.

وهكذا أصبح الاِجتهاد يرادف عملية الاستنباط (2). “فعملية الاستنباط إذن ليست جائزة فحسب، بل من الضروري أن تمارس. وهذه الضرورة تنبع من واقع تبعية الإنسان للشريعة،والنزاع في ذلك على مستوى النزاع في البديهيات(3).

 

الهوامش

1- الصدوق، أبو جعفر محمد بن علي، علل الشرائع، ج۱: 62، منشورات المكتبة الحيدرية، 1966م.

2- الصدر: محمد باقر، دروس في علم الأصول، الحلقة الأولى: 45 – 51، دار الكتب اللبناني، بيروت ط 2، 1986م، بتصرف قليل.

3 – الصدر، محمد باقر، المعالم الجديدة للأصول: 23، مكتبة النجاح، ط 2 ،1975م.

 

المصدر: كتاب ” المساحة المفتوحة في التشريع الإسلامي” للمؤلف: محمد عبدالقادر النجار – الصفحة 47

 

قراءة وتحميل الكتاب

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Slider by webdesign

Clicky