الاجتهاد: بدأت الكتابة عن تاريخ الفقه عند إخواننا السنّة سنة 1340هـ ـ 1921م، بينما بدأت عند الشيعة سنة1329هـ.ش ـ 1950م. وكذلك بلغ مجموع الكتب والمقدّمات والمداخل للموضوع سبعة وستّين عنواناً: خمسة وثلاثون منها للسنّة، واثنان وثلاثون للشيعة. بقلم: الشيخ علي حسن خازم(*)
تأريخ تاريخ الفقه: «تاريخ الفقه» و«تاريخ التشريع» اسمان نوعيّان أو موضوعيّان أخذا بالانتشار بعد عقدين من بداية القرن العشرين، وأربعة عقود على القرن الثالث عشر للهجرة النبويّة. والإضافة على أحدهما تحسينيّة لا تخرجه في مضمونه عن تقصّي نفس المسائل، وإنْ أعطت الاسم صفة العَلَمية.
فهناك سبعة كتب باسم تاريخ الفقه الإسلامي، وعشرة باسم تاريخ التشريع الإسلامي، على الأقلّ في الجدول الذي هيّأته للاستفادة في هذا البحث، عدا ما ورد بإضافة عليهما. هذا عند إخواننا السنّة. وقد صدر أوّلها عام 1340هـ ـ 1921م في بداية تفكُّك السلطنة العثمانية، وهو كتاب الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي، للحجوي الثعالبي.
وقد وضعت هذه الكتب للتدريس في كلّيات الشريعة والحقوق في البلدان الإسلامية. وهو أمر يمكن استقراؤه من مقدّمات بعضها، أو من تراجم بعض مؤلِّفيها، أو بنصّ المؤلِّف على ذلك.
إن حداثة التسمية لا تدلّ على حدوث كامل مباحث هذا «الفن» أو «العلم»، لكنها تدلّ على حدوث تأليف يجمع بين متفرّقات كانت تحت عناوين أخرى مستقلّة، عالجها الفقهاء والمؤرِّخون في كتبهم، ككتب الرجال، والطبقات، إلخ.
وكان الباعث المذكور (التدريس) جانباً شكليّاً أطلق معه أفقاً واسعاً يتعلَّق بالمضمون، الذي وضع لأول مرة على طاولة التشريح في الفقه السنّي بشكلٍ خاصّ.
وفي بداية العقد الأخير من القرن العشرين، أي بعد سبعة عقود على البداية، يرى الدكتور عمر سليمان الأشقر أنّ «البحث في تاريخ الفقه أصبح علماً يريد المصنِّفون فيه معرفة أحوال التشريع في عصر الرسالة وما بعده من العصور، من حيث تعيين الأزمنة التي أنشئ فيها، ومصادره، وطرقه، وسلطته، وما طرأ عليها، وعن أحوال المجتهدين، وما كان لهم من شأن في التشريع».
وليس في تناول الاختلاف في التعريف بينه وبين كتّاب آخرين فائدة كثيرة في هذا المقال، ولا في مناقشة كونه أصبح علماً كذلك. وما يهمّنا هنا هو ما اتَّفق عليه الباحثون في هذا المجال بأنْ ساروا في تتبُّع حركة التشريع، وما أنتجته عبر التاريخ، وما يتعلَّق بهما.
أما الاختلاف في سير البحث فسنلاحظه من خلال تتبُّع المؤلَّفات المذكورة. وإن الكثرة الغالبة منها اتَّجهت لدراسة العملية التشريعية بما يعنيه ذلك من جعل علوم الحديث، والرجال، وعلوم القرآن الكريم، وأصول الفقه، في أساس البحث التاريخي، وتقسيم الأدوار والعصور والمدارس الفقهية.
وقد ندر مَنْ تعقَّب بالدراسة تاريخ نشوء الأحكام الفقهية كنتيجة من زمن النبيّ| فما بعد على أساسٍ واحد. وقد وجدنا من المصنِّفين مَنْ التزم خطأً ثالثاً، باعتماد طريقة العرض المقارن للأحكام الفقهية ـ قديماً وحديثاً ـ، سواء مع الاستدلال أو بعرض الفتاوى المجرَّدة عن الدليل. كما وجد مَنْ تعرَّض لمسألة مفردة، أو عددٍ محدود من المسائل.
وهذا الكلام يعيدنا إلى ما أشرنا إليه من أنّ جزءاً من مادة الكتابة في تاريخ الفقه والتشريع قد توفَّرت سابقاً في الدراسات الفقهية، وفي كتب تحت عناوين أخرى، ككتب تاريخ الرجال، والطبقات. وبهذا يخرج أكثر ما كتب تحت عنوان تاريخ المذاهب وما قاربه عن موضوعنا؛ لأنها ناظرة إلى المذاهب في بنيتها الكلامية، إلاّ أن يكون ككتاب مقالات الإسلاميين، لأبي الحسن الأشعري، فإنه عرض مسائل في الفقه وأصوله اختلف فيها المسلمون، وبيَّن أوجه الاختلاف فيها، أو جانب الأقوال المختلفة في المسائل الكلامية. ومن ذلك أيضاً كتاب تاريخ المذاهب الإسلامية، للشيخ محمد أبو زهرة.
اختلاف المنهج وأثره في تقسيم أدوار الفقه
أما عن الاختلاف في المنهج بناءً على اختيار التأريخ للفقه أو للتشريع عند مَنْ أسَّس للمسألة بالتفريق بينهما قبل الخوض في البحث والتقصي فيمكن القول: إنه إضافة إلى ما ذكرناه عن سير البحث،إمّا مع الفقه في مصادره وأصوله، أو بإضافة الأحكام الفقهية المقارنة بأدلّتها، أو بمجرّد عرضها بصورة تاريخية، أو بالجمع بينها،
فإنّ بعض الباحثين قد أسَّسوا أيضاً لرؤيتهم لتاريخ الفقه على ضوء نظرتهم إلى الدراسات التاريخيّة عموماً، فكان منهم مَنْ تبنّى النظرة الطبيعية لتفسير التاريخ كأساس منهجه، وهو إنْ لم يصرِّح بتلك النظرة فقد عبَّر عنها بنصّه على تقسيم الفقه إلى أربعة أطوار، كما ذكره الحجوي الثعالبي.
الطور الأوّل: طور الطفولية. وهو أوّل بعثة النبيّ| إلى أن توفي.
الطور الثاني: طور الشباب، وهو من زمن الخلفاء الراشدين إلى آخر القرن الثاني.
الطور الثالث: طور الكهولة. إلى آخر القرن الرابع.
الطور الرابع: طور الشيخوخة. وهو ما بعد القرن الرابع إلى اليوم (1920م).
ويلتقي معه الدكتور محمد يوسف موسى، في كتابه «تاريخ الفكر الإسلامي»، بقوله: «الفقه كائن حيّ، ومن أصدق أمارات الحياة الحركة والنموّ»، ويعتبر «الأدوار التي مرّ بها الفقه: دور النشأة؛ دور الشباب؛ دور النضج والكمال؛ دور التقليد».
وقد وافقهما في ذلك الشيخ عبد الوهّاب خلاف، في خلاصته لتاريخ التشريع الإسلامي، حيث قال: «إنّ التشريع الإسلامي قد مرّ بأطوار ثلاثة في عهود متقاربة، فقد نشأ وتكوّن، ثم نما ونضج، ثم وقف وجمد».
وهذه النزعة تقتضي الانتهاء إلى تلقّي مسيرة الفقه بالقبول على أيّة حال، مما جعل الفقه السنّي مطلع القرن أمام أحد أمرَيْن، أو كلَيْهما:
1ـ الجمود أمام تطوّرات الحياة الاجتماعية، وَلَيّ عنق الموضوعات تحت الأحكام الشرعية المسبقة، كما فعلت السلفيّة.
2ـ استبعاد الفقه الإسلامي عن الحياة التشريعية، كالذي حصل في كثير من الدول الإسلامية.
وأمّا إنْ كان ثمة منهج آخر مقابل لأصحاب النزعة الطبيعية فإنني أقدِّر أن الدكتور علي حسن عبد القادر، في كتاب «نظرة عامّة في تاريخ الفقه الإسلامي»، قد كان من روّاده في الساحة السنية، حيث قال في المقدّمة: «إن هذه الأصوات التي تتجاوب اليوم (1941م) داعيةً إلى اتّخاذ تشريع إسلامي هي في الوقع صيحات مبدَّدة في الهواء ما دامت لا تنهض على أسس وطيدة قويمة من البحث في الفقه، وتعرف مشخّصاته على وجه الدقّة والتمحيص، وما كان منه مستعملاً على الحقيقة، وما كان منه عمليّاً واقعياً، وما كان منه خلقيّاً مثالياً، وما كان منه نافذاً، وما كان منه جدليّاً لا يتعدّى الخلاف والمناظرة، ثم تعرف المصادر التي اتّخذها الفقهاء وقتاً بعد وقت، ومكاناً غير مكان، وتمييز الأعراف التي صبغها الفقه بصبغته، فلم يكن الفقه قانوناً طرأ على أرض إسلاميّة، وإنّما كان على الأكثر إسلاماً أثّر على حياة قانونية».
آليّة البحث المطلوبة في التأريخ للفقه الإسلامي
ذكرت عند الكلام على سير البحث بعض الأمثلة، ومؤدّاها أنّ الموضوع قد طرق في بعض جوانبه على أيدي الفقهاء والمؤرِّخين تحت عناوين أخرى، كالفقه المقارن، أو التأريخ لمسألة بعينها من مسائل الفقه.
وبما أنّ الروح العلمية والدقّة تقتضيان أن يتميَّز منهج البحث وخطّته وسيره بالتوافق مع الغرض أو الغاية التي تحكم عمل الباحث؛ لينتج عملاً أقرب إلى الكمال، فهاهنا يمكن الكلام عن نوع من الإجماع أو شبهه عند المؤلِّفين في عنوان تاريخ الفقه أو التشريع (سواء في مرحلة البداية أو ما تلاها) على أنّها ـ أي «الغرض» أو «الغاية» ـ النهوض بالعملية التشريعيّة وإعادتها إلى سلطتها في المجتمعات الإسلاميّة ومواكبتها، انطلاقاً من الإحساس بالعجز الذي انتهى إليه ذلك الكائن الحيّ. فهل وُفِّق هؤلاء لتقديم آليّة البحث على المستوى النظري أو لم يوفَّقوا؟
وهل سعَوْا في تقديم الفقه وتاريخه ضمن الغاية المذكورة، حتّى بدون تنظيرٍ للمسألة؟
الجواب الحاضر بين يديّ الآن أنّ أبرز مَنْ أجاب على سؤالي الأول هو الدكتور علي حسن عبد القادر، سنة 1941م، مستفيداً من محاضرة للمستشرق برجشتريسر بالألمانية، عنوانها «مهمّة الباحثين في الفقه الإسلامي»، حيث اقترح «طريقة في البحث الفقهي تلبي رغبات الباحثين في هذا الصدد،
وذلك بأن تتبَّع المسألة الفقهية تتبُّعاً موضوعيّاً (مقابل الذاتي) تاريخياً في تطوّرها في القرون المتوالية والمدارس الفقهية، بدراسة تحليليّة لأمّهات كتب الفقه، ليس ـ كما هو العادة ـ لمعرفة ما فيها من اختلاف، ولكنْ لمعرفة الأفكار الفقهية المختلفة في هذه الأصول، وتطويرها، وشرحها في ضوء التاريخ، وربط الآراء بعضها ببعض»، ثم يعلّق على نتائج أبحاث المستشرقين، الذين عملوا في مثل دائرة المعارف الإسلامية، بأنّها كانت «غير كاملة، ونابية في بعض الأحيان، إلاّ أنّها كانت نافعة».
وفي رأيي إنّ مَنْ استخدم هذه الطريقة من العلماء المسلمين، كالشيخ علي عبد الرزّاق، أو الشيخ محمود أبو رية، في كتابَيْهما «الإسلام وأصول الحكم» و«أضواء على السنّة المحمدية»، كان «نابياً» و«نافعاً» بالمعنى المذكور. وهذا الكلام له مجالٌ آخر.
أمّا جواب السؤال الثاني فهو بنَعَم على أكثر من صعيد، ودون دخول في تقويم العمل ومداه تفصيلاً؛ فإنّ التشريع المصري، بل الإفتاء كذلك، قد استفادا من الفقه الشيعي وغيره عندما أعادا حركة تاريخ الفقه لتضمّ الفقه الشيعي وغيره، بعدما توقَّف على الحنفي في القضاء، والشافعي في غيره.
وشهدت بعض الدول العربية والإسلامية نشوء مجامع وندوات فقهية، كدار التقريب في القاهرة، والمجمع الفقهي لرابطة العالم الإسلامي في جدّة، والندوة الفقهية في الكويت، وغيرها… وهي تنعقد بصورة دوريّة لدراسة الموضوعات الفقهية، والإفتاء في الجديد منها، ومناقشة بعض القديم، وتشترك فيها المذاهب المشهورة، ومنها: الشيعة.
ويمكن اعتبار كتاب «فقه السنّة»، للشيخ سيد سابق، أحد أركان حركة الإخوان المسلمين في مصر والعالم، بمجلداته الثلاثة نموذجاً للتتبُّع التاريخي للمسائل الفقهية. وممّا يؤخَذ ـ سنّياً ـ على الكتاب عدم تقيُّده بمذهبٍ واحد، فيُقال: إنّه لا يصلح للعمل به.
وكذلك كتاب «الخلافة والملك»، للشيخ أبو الأعلى الودودي، الذي تتبَّع فيه مسألة الحكم، وتعرَّض على إثره لحملات تشنيعيّة؛ لتناوله مسألة ملك معاوية، ومُنع طبعه في عدد من الدول الإسلامية.
وهكذا يأتي كتاب الدكتور وهبة الزحيلي «الفقه الإسلامي وأدلّته»، الذي يذكر في مقدّمته اختلاف الفقه الشيعي عن السنّي بسبع عشرة مسألة فقط، ويعرض في مباحثه رأي الإماميّة إلى جانب آراء الفقهاء الآخرين. وقد أثنى على طرح الإمام الخميني (ره) وحدة المسلمين.
أكتفي بهذا المقدار. ويكون قد تبيَّن معنا الداعي الموضوعي للكتابة في هذا الفنّ، بعد الداعي الشكلي (التدريسي) عند إخواننا السنّة، لأسأل ما هو الذي استنفر الشيخ محمد جواد مغنية، والسيد هاشم معروف الحسني، للكتابة في هذا الفنّ مطلع الستينات، غير علمهما ـ في حدود ما توصَّلا إليه من كتبٍ مطبوعة بالعربية ـ بعدم وجود كتاب شيعيّ في هذا المجال؟!
لنحسم بدايةً أنّهما رحمهما الله لم يدقِّقا بصورة بيبليوغرافية بالمكتبة السنّية أو الشيعيّة غير العربية، وهما معذوران في ذلك، فقد وجدت من خلال الجدول الذي أعددتُه بجهدٍ ـ على توفُّر الأدوات ووسائل الاتّصال الميسَّرة ـ أنّه كان ثمّة كتباً لم يتعرَّضا لها، ككتاب الدكتور علي حسن عبد القادر سنّياً، وكتاب الميرزا محمود الشهابي الخراساني، الصادر بالفارسية سنة 1329هـ.ش ـ 1950م، وقد حاز الميرزا شهادة الدكتوراه، وعمل في التدريس الجامعي في جامعة طهران، فأصدر الكتاب المذكور لذلك.
وبهذا لا يكون الشيعة قد تأخَّروا عن أقرانهم في الدولة القائمة على غلبة مذهبهم فيها عن الكتابة المنهجيّة للتدريس في كلّية الحقوق من جهة الداعي الشكلي.
ويبقى الداعي الموضوعي، فهل وُجد عند الشيعة مثله؟
هذا ما يجيب عنه القسم الثاني من البحث.
السيد هاشم معروف الحسني والتأريخ للفقه الجعفري
وددتُ لو تكثَّرت صفحات التقديم الذي وضعه الشيخ محمد جواد مغنية لكتاب «تاريخ الفقه الجعفري»؛ فإنّها كانت أَغْنَت الجانب «التنظيري» أو «التأسيسي» للمادّة، وهي ميزة إيجابية ونافعة في مؤلَّفاته؛ حيث إنّ ندرة من علماء الإماميّة التزموا بها في منشوراتهم، فرأَيْنا أكثرهم خاضوا في البحث على أساس أو على منهج يعرفونه هم، وعليك أنتَ كقارئٍ ملاحقته واستخراجه بعد الانتهاء من القراءة.
في تقديم الشيخ مغنية ـ والذي يشكِّل برأيي مقدّمة إضافية وأساسية، لا دعائية، للكتاب الأوّل من كتب السيد هاشم معروف الحسني في التأريخ للفقه الجعفري، والاثنان كانا في صفّ متقدّم واحد ـ نجد أنّه تعرَّض وبدون عنونة للتعريف بالفقه والشريعة، ودلالتهما، والعلاقة بينهما،
ثمّ التعريف بتاريخ علم الفقه، وفائدة الاطلاع عليه، ولمحة سريعة جدّاً عن تاريخ التأريخ، والملاحظة على ما كتب في الموضوع عند إخواننا السنّة، وهو سبب التأليف، ليختم بالإشارة إلى سبق الكتاب عند الشيعة، وأهمّيته، وقدرة الكاتب على معالجة الموضوع. كلّ هذا في ورقتين من أربع صفحات بالقطع العادي.
وتأتي بعدها مقدّمة المؤلِّف الوفي لأخيه صاحب الفكرة في وضع الكتاب لتعطينا صورة عن سبب التأليف المذكور، بتوثيق ما ذكره الشيخ الخضري والدكتور محمد يوسف موسى عن الشيعة والفقه، وأنّ الكتاب هو «الحلقة الأولى، وقد ابتدأتها بآيات الكتاب الكريم التي تناولت تشريع الأحكام، وانتهيت منها في بداية عهد الإمامَيْن الباقر والصادق‘…».
هكذا يُدخِلنا السيد هاشم معروف الحسني إلى عالم جديد فعلاً. فإذا انتهينا من قراءة الكتاب وجدناه قد سار بنا من «الحاجة إلى التشريع» في الفصل الأوّل لينتهي بنا في الفصل الرابع من الكتاب عند عهد التابعين على أساس «استعراض ظروف الشيعة والملابسات التي أحاطت بهم، وعرض عدد من مشاهير فقهائهم، من عهد الصحابة حتّى العصور المتأخِّرة، ونظريّاتهم في الفقه، وما دوَّنوه في العصر الذي بدأ فيه الرواة والفقهاء بالتدوين، وكيف تطوّر وانتقل من دور يغلب فيه التقليد والتبعيّة إلى دور المحاكمة، إلى غير ذلك من المواضيع التي تتّصل بهذا الموضوع مباشرة».
ثم في الحلقة الثانية من تأريخه للفقه، والتي صدرت بعنوان «المبادئ العامّة للفقه الجعفري»، كما اختار الناشر الجديد، وهو دار القلم، بَدَلاً ممّا أراده المؤلّف «الحلقة الثانية من تاريخ الفقه»، يذكر السيد هاشم معروف الحسني في المقدّمة أنّ «مجمل القول: إنّ هذه الحلقة من تاريخ الفقه الجعفري قد استعرضنا فيها تاريخ التشريع من عهد الإمامين الباقر والصادق‘ إلى نهاية القرن الثالث تقريباً، وبحثنا فيها عن مراحل التشريع ونموّه، ومراحل التأليف والتدوين، وأصول الأحكام، ونماذج من الفقه الجعفري، وما يقارنها من فقه المذاهب الإسلامية، وبعض المواضيع الأخرى…»، ليعلمنا في الصفحة 201 بتقسيمه الأدوار الفقه إلى:
الدور الأوّل: من تاريخ وفاة الرسول| إلى نهاية القرن الأوّل.
الدور الثاني: هو الدور الذي قام به الإمامان الباقر والصادق‘.
الدور الثالث: يبتدئ من تاريخ وفاة الإمام جعفر الصادق× إلى العصر الذي غاب فيه الإمام الثاني عشر#.
وفي الحلقة الأولى قد بحثنا مراحل التشريع وتطوّره من تاريخ وفاة الرسول| إلى نهاية القرن الأوّل، ومدى مساهمة التشيُّع فيه.
ثم في الصفحة 234 يقول: «وسنعود إلى هذا الموضوع (دراية الحديث) بصورة أوسع في الحلقة الثالثة، التي وضعنا تصميمها للبحث في تاريخ أصول الفقه الجعفري».
وفي المقدّمة وفي ما قبلها نجد عنده استخدام مصطلح المتقدّمين والمتأخّرين، المستخدَم في الحوزة بأكثر من معنى، دون توضيح لرأيه فيه، وهو نوع من تقسيم مستقلّ للأدوار الفقهيّة، حيث يعبِّر البعض بالمتقدّمين عن الفقهاء المعاصرين للأئمة^، وبالمتأخّرين عن فقهاء الغيبة الكبرى، بينما يعبِّر آخرون بالمتقدّمين عن شيخ الطائفة الطوسي ومَنْ سبقه، وبالمتأخِّرين عمَّنْ جاء بعده.
ثم نجد في الكتاب قواعد فقهيّة عامّة، وأحكاماً فقهيّة استدلاليّة مقارنة، ثم يعود ليختم بلمحة عن تاريخ المذاهب الأربعة.
إنّ السيد الحسني يتوسَّع جدّاً هنا بالجمع بين ردّ الشبهات، والعرض، والاستدلال، ونقض آراء الآخرين الفقهية والأصولية، ليأخذ الحجم الأكبر من الكتابة.
وينطلق من عنوان إلى آخر بلا تمهيد، ولا روابط، بغزارة علميّة مبنيّة على استقصاء شبهات المعترضين على الشيعة، ليردّ عليها لا بشكل حاشية أو تعليقة، وإنما ردّاً يشكِّل متناً مستقلاًّ.
بعدما انتهيتُ من قراءة كتابَيْ «تاريخ الفقه الجعفري» و«المبادئ العامّة للفقه الجعفري» وجدتُ نفسي أطرح سؤالاً غريباً: هل كتب السيد هاشم معروف الحسني تاريخاً للفقه الجعفري بالمعنى الذي تقدَّم عند إخواننا السنّة؟
الإجابة تقتضي تلخيصاً سريعاً، وقياساً، واستنتاجاً كذلك، ممّا قرأناه في تأريخ تاريخ الفقه والتشريع عندهم.
أوّلاً: لم توجد المشكلة الشكلية (التدريس الجامعي) عندنا بالشكل الملحّ.
وثانياً: حيث إنّ المشكلة الأساسية عندهم، في بداية القرن (1923م)، كانت ناشئة عن تفكُّك الدولة العثمانية، وانحسار سلطة القضاء، وعمدتها «مجلة الأحكام العدليّة»، واستقلال المفتين في الدول المستقلّة نسبيّاً، فقد وجدوا أنفسهم مطالَبين بفقه فردي، وفقه قضائي ينظِّم حياة الناس والدولة، فهل كان الشيعة كذلك؟
إنّ الحاجة الموضوعيّة لدراسة تاريخ الفقه، والتي تولَّدت عند إخواننا السنّة، كما أشرنا، على ألسنة كبار مشرِّعيهم لم يستشعرها الفقه الجعفري، ولا الملتزمون به؛ لأنهم لم يشعروا أساساً بالانقطاع عن التشريع المستمرّ عبر مراجعهم الدينيّين. نعم، تأخَّر الإحساس بالحاجة إلى فقه الدولة إلى حينه، وها هي الجمهورية الإسلاميّة الإيرانيّة تشهد سيلاً من الأطروحات العلميّة في أكثر من صعيد: قضائي، حكومي، اجتماعي، إلخ.
ومن هنا، وبعد ما تقدّم ذكره تكراراً على لسان السيد الحسني، من صعوبة الكتابة في الموضوع في بداية تأسيسه للكتابة المذكورة، أقول: يمكن الادّعاء على نهج الكتابة التي ذكرناها أنّ كلّ ما كتبه السيد الحسني في الفقه والأصول يقع مادة لتاريخ الفقه الجعفري، وإذا ما فكَّكناه كان تأريخاً لمسائل في الفقه والأصول. وليس هذا بعيبٍ؛ فإنّ من كتب في مسائل علم من العلوم صار جزءاً من تاريخه.
والحال هنا كذلك، فالكتابان لم يتجاوزا مرحلة «التشريع» بالمعنى الخاصّ في مسيرة تأريخ الفقه المستمرّة على أيدي الفقهاء والمجتهدين إلى اليوم. وإنّ السبب الأساس برأيي لجعل ما كتبه السيد الحسني تحت عنوان «مسائل من تاريخ الفقه» هو انخراطه في مشروع الدفاع عن التشيُّع، ووقوعه تحت تأثير الاتّهامات الكثيرة والبالغة الموجّهة إلى التشيُّع في المرحلة التاريخية التي عاشها، والتي لم تتوقَّف، ولمّا كان السيد مطالِعاً متتبِّعاً كان توقُّفه مع المؤلِّفين متكرِّراً، ولذلك تجد الجانب النقدي أو النقضي عنده أعظم حضوراً من الجانب التأسيسي، وإنْ امتلك بكفاءةٍ ناصيته العلميّة.
انطلق السيد هاشم معروف دون تأسيسٍ نظري لكتابته هذه. وأُقَدِّر أنّه كان لحظة شروعه في الكتابة يضجّ بألمٍ عظيم ممّا يُساء به إلى التشيُّع. ولذلك مضى بعد تردُّد سنتين في المشروع، وضمن تقديره أنْ يوفِّقه الله في مخططٍ رسمه، إمّا في ذهنه أو على ورق لم ينشره.
كما نقلنا كلامه عن وضعه مخطّطاً للبحث في تاريخ أصول الفقه. ويكون له بذلك فضل المشاركة في التأسيس لهذا الفنّ عند المسلمين عموماً، والشيعة خصوصاً.
على أنّ ذلك لا يعفيه من تلقّي ملاحظتنا؛ بقصد خدمة العلم والدين، فإنّ المؤرِّخين للفقه من إخواننا السنّة كانوا ينظرون إلى شيءٍ خارجهم، يصفونه كما يصفون الكائن الحيّ، إلى أنْ عادوا والتحموا به، بينما كان السيد الحسني مجتهداً، وهذا يعني أنّه لا يمكن التفكيك بينه وبين الفقه، بل يمكن القول: إنه؛ وبسبب اندكاكه العملي فيه، لم يلحظ أصل المسألة نظريّاً عند تقسيمه لأدوار الفقه الذي يقع تحت ما ذكرته في كتابي «مدخل إلى علم الفقه عند المسلمين الشيعة».
لكنّه ـ ولله الحمد ـ لم يقحم نفسه حيث اقتحم غيره من العلماء الشيعة، فافترضوا أنّ التأريخ للفقه الجعفري ينبغي أن يلحظ نفس فهارس التأريخ للفقه السنّي، فأدخلونا في متاهة التقسيم إلى أدوار وأعصار بلا تقديم أساس للقسمة، وخلطوا بين الأئمّة والفقهاء.
وهذا لا يعفيه من نقد بسيط كان يمكن له تجاوزه عندما أصرّ على تقسيم مرحلة الأئمّة دون أساس واحد للقسمة، فنظر مرّة إلى الزمن وسلطانه، ومرّة إلى أسلوب عمل الإمام.
وأخيراً، لم يكن السيد الحسني صاحب مشروع سياسي، أو جزءاً من مشروع سياسي، ولا مدرِّساً في كلّية حقوق أو شريعة؛ لينظم كتابته أكاديميّاً، كالسيد محمد تقي الحكيم في محاضراته في تاريخ التشريع الإسلامي، أو الميرزا الشهابي في «أدوار الفقه».
ولذلك جاءت كتابته مساهمة في التأسيس بمسائل في مسار تاريخ الفقه، انتهت على المستوى الشيعيّ مؤخَّراً على يدي الشيخ عبد الهادي الفضلي والشيخ جعفر السبحاني بشبه اكتمال في فهرسة مسائله، ويقبل المناقشة في بعض موارده، بل إنّ الشيخ سالم الصفّار ذهب أبعد من ذلك في تسمية كتابه «تاريخ التشريع المقارن».
وأختم ببعض نتائج الجدول البيبليوغرافي في آخر ما توصَّلتُ إليه:
أوّلاً: بدأت الكتابة عند إخواننا السنّة سنة 1340هـ ـ 1921م، بينما بدأت عند الشيعة سنة 1329هـ.ش ـ 1950م.
ثانياً: بلغ مجموع الكتب والمقدّمات والمداخل للموضوع سبعة وستّين عنواناً: خمسة وثلاثون منها للسنّة، واثنان وثلاثون للشيعة.
وأنهي بأنّه إذا كان التأريخ للفقه أو القانون أَمَّنَ لغيرنا أن يستفيد من هذا الفقه العظيم، الذي أوجدناه في الحياة الاجتماعيّة، فهل لنا أن نستكمل قراءة لتاريخه بوعيٍ يؤمّن حداثة أصيلة تقرِّبنا من الدين الجديد الذي سيأتي به صاحب العصر#؟!
(*) باحثٌ في الحوزة العلميّة. من لبنان.