كيف يؤسّس علم الكلام؛ (الذي يبحث عن خصوصية معينة وهي علاقة الإنسان بربه)، للعلوم الأخرى؟ ما ذا يحتاج علم الكلام حتى يكون قاعدة و منطلقا للعلوم الأخرى؟ كيف تنظر علم الكلام إلى الإنسان؟ ما هو رأي المدرسة المادية بالنسبة إلى الإنسان؟ أسئلة يجيب عنها سماحة الأستاذ السيد منير الخباز في هذا البحث الذي قدمه في جامعة الإمام الصادق ع في ايران.
خاص الاجتهاد: يطرح سماحة العلامة السيد منير الخباز في هذا البحث وهو “تأثير علم الكلام الإسلامي على العلوم الإنسانية المختلفة” ثلاثة محاور رئيسة.
المحور الاول: ما هو تأثير النتائج و الأفكار التي قررها علم الكلام على العلوم الأخرى؟
المحور الثاني: الركائز الأربع لكل فكر أو منهج إيدئولوجي يُخطّط لبناء الحياة وإقامة الحضارة.
المحور الثالث: إقامة أمثلة لتأثير علم الكلام على علمي القانون و علم النفس.
المحور الأول
عندما نريد أن نتحدث عن تأثير علم الكلام فليس المقصود بعلم الكلام مبادئ الاستدلال في علم الكلام، كمبدأ العلية أو امتناع التناقض أو امتناع الدور أو التسلسل فإن هذه مبادئ عامة لاتختص بعلم الكلام، و إنما المقصود النتائج و الأفكار التي قررها علم الكلام ما هو تأثيرها على العلوم الأخرى؟
سواء كانت هذه النتائج نظرية أم عملية، عقليةً أم نقليةً. مثلا: من النتائج و المقررات في علم الكلام التي تعتمد على الدليل العلقي؛ الحقيقة المطلقة، حقيقة الإرادة الإلهية، حقيقة القضاء و القدر.
و من المقررات العملية: مسألة الحسن و القبح العقليان و ما يتفرع عليه من قاعدة اللطف المقوِّم و المقرّب وما يتفرّع على قاعدة اللّطف المقوّم و المقرِّب من ضرورة العدل، النبوة و الإمامة.
كما أن هناك مقررات نقلية، أي تبنّيها علم الكلام اعتماداً على النقل و ليس اعتمادا على العقل . تقسيم العوالم إلى عالم الملك و الملكوت و عالم الخلق و عالم الأمر، حقيقة النفس البشرية، حقيقة الحياة بمختلف جوانبها، كل هذه المقرارات عقليةً أم نقلية نظريةً أم عملية هي التي نبحث عن تأثيرها في العلوم الأخرى و مدى اعتماد العلوم الأخرى على هذه النتائج و المقررات.
المحور الثاني
كل فكر إيدئولوجي كل منهج إيدئولوجي يُخطّط لبناء الحياة و يخطط لإقامة الحضارة لا بد أن يرتكز على ركائز أربع:
الركيزة الأولى: بناء النفس كما أشار إليه القرآن الكريم: ” إنّ اللهَ لا يُغَيّرُ ما بقوم حتّى يغيّروا ما بأَنفُسِهِم “.
الركيزة الثانية: فاعلية القانون أن يكون هناك قانونُ فاعل. إن الله يأمر بالعدل، و إذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل.
الركيزة الثالثة: الإرادة الاجتماعية: ولتَكُن مِنكُم أمة يَدعُونَ إلى الخيرِ و يَأمرُونَ بالمعروفِ و يَنْهَونَ عنِ المُنكَرِ “.
الركيزة الرابعة: المذهب الاقتصادي: لابد لكل منهج إيدئولوجي من مذهب اقتصادي يرتكز عليه في بناء الحياة وفي بناء الحضارة كما أشار القرآن الكريم: ” و لاتُؤتُوا السُّفهاء أَموالَكُم التّي جعل اللهُ لكُم قِياماً “.
بعد هذا نقول: هل علم الكلام مثل هذه العلوم ؟ علم النفس! علم القانون! علم الاجتماع! علم الاقتصاد! .
علم الكلام هو علم يبحث عن خصوصية معينة و هي علاقة الإنسان بربه، أم أن علم الكلام ليس صنفاً و علماً من العلوم؟ علم الكلام يطرح نفسه أنه القاعدة، لا أنه صنف من العلوم. علم الكلام يطرح نفسه أنه هو المُنطَلَق للعلوم الأخرى، وعليه تبتني العلوم ، وعليه تستند الفنون الاخرى، لا أنه صنف من الأصناف و علم من العلوم يختص بزاوية معينة.
لذلك نحن نطرح هذا السؤال: كيف يؤسّس علم الكلام للعلوم الأخرى؟ كيف يؤسس علم الكلام لعلم القانون؟ لعلم النفس ؟ لعلم الاجتماع ؟
من هنا نقول أن هناك قواعد ثلاث التي يعتبرها علم الكلام منطلقات لأي علم من العلوم:
القاعدة الأولى: الحقيقة المطلقة.
القاعدة الثانية ثنائية الوجود مادي و مجرد.
القاعدة الثالثة خلافة الإنسان في الأرض
عندما نأتي إلى القاعدة الأولى، علم الكلام يقرر ان الحقيقة مطلقة و ليست نسبية و لا بد أن يكون هذا أصلاً مُسلّماً تبتني عليه العلوم المختلفة .
هناك من يرى أن الحقيقة نسبية وبناء على نسبية الحقيقة لا يمكن أن ندعي لعلم أنه منطلق للعلوم الأخرى. لأنه لا توجد حقيقة مطلقة.
إذن حتى يكون علم الكلام قاعدة و منطلقا للعلوم الأخرى لابد أن نؤمن بالحقيقة المطلقة. بمجرد أن نرى نسبية الحقيقة، يزول دور علم الكلام وتزول هيمنة علم الكلام ويصبح كأي نظرية تحاول أن تقتنص شيئاً من الحقيقة. فلا بد من البناء على الحقيقة المطلقة حتى يكون علم الكلام منطلقاً للعلوم.
لذلك نقول فرق بين نسبية الحقيقة ونسبية الإدراك. هناك خلطٌ بين الأمرين، الإدراك النسبي أم الحقيقة نفسها، فليست أمراً نسبياً. هل أن الأرض كروية أم لا؟ هذا ليس أمرا نسبياً. هل هناك قوى أربع تحكم الوجود؟ القوة الجاذبية، القوة الكهرومغناطيسية ، القوة النووية الشديدة، القوة النووية الضعيفة، هل هذه القوى الأربع تحكم الكون أم لا ؟ ليس أمرا نسبياً، إما الجواب نعم إما لا.
و أيضا لابد أن نفرق بين الحقائق المشككة و الحقائق البسيطة. هناك حقائق مشككة يتصور فيها النسبية؛ مثلاً معرفة الله تبارك و تعالى، معرفة الله حقيقة ذات درجات و ذات مراتب، لذلك يمكن أن يتفاوت إدراك البشر في نيلها و معرفتها. بعضهم يدرك درجة منها، وبعضهم يدرك درجة أكبر لأن الحقيقة نفسها مشككة، أما إذا كانت الحقيقة بسيطة، هل نزل الوحي على النبي محمد (ص) أم لم ينزل؟ هذه ليست حقيقة مشككة. هل أن الإمامة ثابتة لأمير المؤمنين علي ( ع) أم لا ؟ هذه ليست حقيقة مشككة.
إذن لابد أن نفرق، و هذا أصل مسلم في علم الكلام بين الحقيقة المطلقة والحقيقة النسبية، ليس عندنا حقيقة نسبية. عندنا نسبية الإدراك، لا نسبية الحقيقة. و نسبية الإدراك مجالها الحقائق المشككة، لا الحقائق البسيطة، فإن الحقائق البسيطة لا يحصل فيها نسبية الإدراك، فضلاً عن أن تكون الحقيقة نفسها نسبية. فهذا أصل مسلم في علم الكلام.
القاعدة الثانية: مسألة ثنائية الوجود
نحن نعتقد أن الوجود مزدوج بين عنصرين: مادي و مجرد، و مُنطلق هذه الثنائية؛ هي النفس. النفس مفتاح الوجود. إذا أدركنا أن انفسنا تعيش عنصرين؛ مجرداً و مادياً، كان ذلك مفتاحاً لإدراك أن الوجود كله على هذين العنصرين المادي والمجرد.
لذلك يقول القرآن الكريم: ” سَنُريهِم آياتِنا في الآفاقِ و في أنفسِهم “. النفس مفتاح رؤية الوجود كله. إذا أدركنا ما تمتزج به النفس من عنصرين: العنصر المادي والعنصر المجرد، أدركنا أن الوجود كهذه الشاشة التي نراها من خلالها أنفسنا، و في الأرضِ آياتٌ لِلمُوقِنينَ و في أنفُسِكُم أَفلا تُبصِرُون”.
لذلك يقرر علم الكلام أن النفس جوهر مجردٌ يدير هذا الجسد، إدارة التدبير والتّصرف و هذا الجوهر المجرّد يعتمد على عدم قبول التغير وعدم قبول الانقسام. كل مادي يخضع لهاتين الميزتين: قبول التغير و قبول الانقسام.
لا يوجد مادي إلا و هو يخضع لتغير الهوية، عبر الحركة الجوهرية في صميم وجود هذا المادي، بينما النفس الإنسانية لاتقبَل تغير الهوية هي هوية واحدة.
كل مادي يقبل الانقسام ولو انقسام وهمي؛ إلى يمين،شمال،فوق،تحت،ظاهر،باطن، إلا النفس الإنسانية، فإنها لاتقبل الانقسام.
من هنا نستكشف أن النفس ثنائي مجرد ومادي ما لم نؤمن بثنائية الوجود، لا يمكن أن يكون لعلم الكلام تأثير و تأسيس للعلوم الأخرى. فمن الأسس التي يؤسس علم الكلام فيها للعلوم الأخرى، هي هذه القاعدة، قاعدة ثنائية الوجود.
القاعدة الثالثة: خلافة الإنسان
ليس الإنسان أصيلاً في الكون، بل هو مجرد وكيل و ليس أصيل. هنا تختلف المدرسة المادية عن المدرسة الدينية، بجميع الأديان وبجميع الملل. المدرسة المادية ترى أن الإنسان أصيلٌ، لذلك الإنسان هو الذي يخطط، والإنسان هو الذي يسنّ القوانين، الإنسان هو الذي يبني الحضارة بعقله، بمفرده.
بينما بالمدرسة الدينية (علم الكلام) يقول؛ الإنسان وكيل وليس أصيل. الإنسان مجرد خليفة لايمكن للعقل البشري المحدود أن يخطط لحضارة دائمة. لا يمكن للعقل البشري المحدود أن يخطط لقوانين مستمرة. العقل ابن بيئته. العقل ابن زمانه، والعقل ابن ثقافته الاجتماعية. لا يمكن للعقل أن يتجرد من بيئته الثقافية، لا يمكن للعقل أن يتجرد من مجتمعه الذي غذّاه.
لذلك لا يمكن للعقل أن يسن قوانين تصلح لكل زمن ولكل حضارة ولكل مجتمع، و هذا يعني أن الإنسان وكيل وليس أصيلا، خليفة وليس مؤسسا، يقول القران: ” إني جاعلٌ في الأرضِ خليفةً قالُوا أَتَجعَلُ فيها مَن يُفسِدُ فيها و يَسفِكُ الدِّماءَ و نحنُ نُسَبِحُ بِحمدِكَ و نُقَدِّسُ لَكَ ” ” إنا جعلناكَ في الأَرضِ خليفةً.
بعد هذه القواعدِ الثلاثِ، يظهر لنا تأثير علم الكلام في العلوم الأخرى من خلال هذه القواعد الثلاث.
المحور الثالث
في المحور الثالث نتعرض لأمثلة:
تأثير علم الكلام على علم القانون
تأثير علم الكلام على علم النفس
مثلاً: نأتي لتأثير علم الكلام على علم القانون من خلال ما يتحدث عنه علماء الكلام عن فلسفة الحقوق،لائحة الحقوق.
هناك سؤال مطروح في علم القانون في جنب و باب فلسفة الحقوق:
من هو المخول أن يضع الحقوق ؟ من الذي له الحق أن يقرر الحقوق ؟ من ؟
نحن نقول هناك عدة مبررات تبرهن لنا أن المدرسة المادية عاجزة عن وضع لائحة الحقوق العامة والدائمية،
المدرسة التي تستطيع وضع لائحة حقوق دائمة ومستمرة هي المدرسة الدينية، والمدرسة المادية قاصرة و عاجزة عن أن تضع لائحة حقوق دائمة.
لماذا؟ نذكر الآن عدة مبررات:
المبرر الأول
النظرية المادية للإنسان: لاحظوا، “فرانسيس فوكوياما” في كتابه “نهاية التاريخ” يقول بالتفسير المادي للحياة، وأن الحياة طبيعة بلا هدف وأن الإنسان جزء من هذه الطبيعة، فالإنسان كُتلةٌ ماديةٌ لا مائز له على بقية الحيوانات إطلاقاً، و إذا لم يوجد فارقٌ جوهري بين الإنسان والحيوانات.
لذلك فوكوياما يطرح هذا السؤال: على أي أساس نقول من حق الإنسان ألا يُقتَل، لكن ليس من حق الحيوان أن لا يُقتَل؟ جميع بني الإنسان يقولون من حقنا أن نأكل لحم الحيوانات، يعني من حقنا أن نفترس الحيوانات ونأكلها عبر ذبح شرعي.
من الذي يقرر هذا الحق؟ من الذي يقرر أن من حق الإنسان أن لا يُفتَرس، بينما ليس من حق الحيوان أن لا يُفتَرس، وليس من حق الحيوان أن لا يُؤكَل؟ لماذا لا نقول من حق الفيروسات الضارة والطفيليات المَعويّة أن تعيش كما يعيش الإنسان ؟ لماذا نقول لا، ليس من حقها أن تبقى ومن حق الإنسان أن يبقى وليس من حق الحيوانات أن تبقى؟
من الذي يقرر الحقوق؟ هذا شاهد على عجز المدرسة المادية عن وضع لائحة حقوق عامة، لأنها لاتؤمن إلا أن الإنسان كتلة مادية لا يمتاز عن غيره من الحيوانات.
الشاهد الثاني أن الإنسان مجموعة انفعالات لا ضابط لها، فرح=غضب ، غضب و هدوء، فرح = حزن قلق = ثبات.
الإنسان مجموعة انفعالات إذا كان الإنسان في المدرسة المادية مجموعة انفعالات لاضابط لها، فكيف يمكن وضع لائحة حقوق عامة تصلح لهذا الإنسان في مختلف انفعالاته و في مختلف حالاته ؟
الشاهد الثالث ذكر “سام هاريس” في كتابه “وهم الإرادة الحرة ” قال: إذا كان الإنسان لا يمتلك إرادة حرة، والإنسان مسيّرة ولا يمتلك إرادة حرة، والإنسان مجبور على أن يخضع لعواطفه ونزواته ولا يمتلك إرادة حرة. إذا لم يمتلك الإنسان إرادة حرة بحسب نظر بعض المدارس المادية، إذن لا يمكن وضع لائحة حقوق عامة، لأن لائحة الحقوق أهم ركائزها أن يمتلك الإنسان إرادة حرة حتى يستطيع تطبيق الحق و تنفيذه على نفسه و غيره. إذن هذه الشواهد تؤكد لنا عجز فلسفة المدرسة المادية عن وضع لائحة حقوق عامة.
المبرر الثاني
أنتم تعرفون أن “روسو” قال: بالإمكان أن يحصل السّلم الاجتماعي وتشيع الحقوق بين البشرية عبر العقل الاجتماعي. لائحة الحقوق عبر العقد الاجتماعي تضمن سِلماً مجتمعياً بلا حاجة إلى تخطيط سماوي وبلا حاجة إلى مصدر آخر.
نأتي إلى ” كريستوفر هيتشنز” و هو يناقش “روسو” في هذه النظرية. يقول: العقد البشري مهما حصل، أي مجتمع يشكل عقد اجتماعي، العقد البشري لن يبقى صامداً، فهو معرّض للانهيار نتيجة النزوات البشرية أو الضغط الحكومي أو الفوضى الشعبية أو الإعلام المضاد، لا يمكن أن يبقى العقد صامداً كي تبتني عليه لائحة الحقوق إلا إذا كان عقداً سماوياً، العقد البشري لايمكن أن يبقى عقداً صامداً، لذلك يحتاج المجتمع البشري إلى لائحة حقوق إلهية و لا يمكن أن يستند إلى لائحة حقوق بشرية.
الأمر الثاني
ما الذي يضمن لنا التزام الإنسان بالحقوق في الحالات الحرجة؟ مثلا إنسان فقير، يستطيع أن يؤمِّن لقمة عيشه بالسرقة من دون أن يراه أحد و من دون أن يعاقبه أحد، من الذي يضمن لنا أن هذا الفقير المحتاج يلتزم بعدم السرقة ؟ مادام لا يوجد رقابة، و لا يوجد عقوبة دنيوية من الذي يؤمّن ؟
لو سرنا على طِبق أن الإنسان كتلةٌ بشرية وأن الإنسان كتلةٌ مادية، من الذي يلزم الناس بالالتزام بالحقوق أن من حق الآخرين أن لا يسرقهم، حتى لو تمكّنتَ من سرقتهم، وحتى لو أمنتَ العقوبة، حتى لو لم تخضع للمراقبة، من الذي يلزم الناس بالالتزام بالحقوق مالم يكن هناك عقد سماوي؟ وما لم يكن هناك إيمان بنظرية الخلافة، و أن الإنسان مجرد خليفة ويأخذ النظام من غيره ويأخذ النظام من السماء، لأن الإنسان أصيل هو الذي يحقق هذه الأمور.
بل سلّمنا وفرضنا أن الإنسان يمكن أن يلتزم بالحقوق العامة، كحسن العدل، كحسن الأمانة كحسن الصدق، ما الذي يدفع الإنسان أن يلتزم بالحقوق الخاصة ؟ مثل حق المجتمع في الإيثار، حق المجتمع في التضحية، حق المجتمع في العطاء بلا مقابل، المجتمع يحتاج إلى طبيب يخوض ظروف الأوبئة المضرة مؤثرة المجتمع على نفسه، ما الذي يحفظ الطبيب على هذا الحق الخاص؟ و هو حق الإيثار إذا لم يكن هناك محفّز سماوي إذا لم يكن هناك مدعاة من قبل قانون سماوي يحافظ على ذل.
إذن من خلال ما ذكرناه و هو عجز المدرسة المادية عن وضع لائحة حقوق عامة، نصل إلى مدى تأثير علم الكلام في علم القانون.
علم القانون من أسسه لائحة الحقوق. لائحة الحقوق لا يمكن أن ينتجها القانون البشري، ما لم يستند إلى القانون السماوي، لأن المدرسة المادية عاجزة عن وضع لائحة حقوق عامة للمبررات التي ذكرناها و أشرنا إلى شواهدها.
تأثير علم الكلام على مجال علم النفس خصوصا المدرسة التحليلية في علم النفس.
عندما تنظرون إلى إحصائيات الأمراض تعرفون أن الشرق الذي يضم الدول الإسلامية، مع ما فيه من ظروف اقتصادية متعبة، ومع ما فيه من صراعات ثقيلة مع ذلك، مستوى الأمراض النفسية للغرب المتقدّم تكنولوجياً أكثر بكثير من حجم الأمراض النفسية المتفشيّة في الشرق.
ما هو وجه ذلك؟ لماذا الإحصائيات في كل عام تُقرّر أن الأمراض النفسية المنتشرة عبر الحضارة الغربية المتقدمة تكنولوجياً، أكثر بكثير من الأمراض النفسية المتفشية في الشرق المتخلف تكنولوجيا والمتخلف اقتصاديا المبتلى بالصراعات و الاختلافات، ما هو سر ذلك ؟
من هنا يوجد رابطة بين علم الكلام و المدرسة التحليلية في علم النفس. الرابطة الحاجة إلى الغيب، الحاجة إلى الإيمان بالغيب، الحاجة إلى الإيمان بأن هناك قوة لاحد لعلمها و قدرتها باستطاعتها أن تنتشل هذا الإنسان من أمراضه و أوبئته و جميع مصاعبه. الحاجة للإيمان بالغيب، حاجة ماسة أن تبلورها المدرسة التحليلية في علم النفس و أن تضع لها أُسس و أن تضع لها مظاهر و أن تضع لها مخارج حتى تكون طريقاً لعلاج كثير من الأمراض النفسية من خلال بناء النفس، بعقلها الباطن على الارتباط بالغيب.
تعرفون أن الإنسان مكون من العقل الظاهر والعقل الباطن، الوصول إلى العقل الباطن وتحليل ميوله وتحليل رغباته وتحليل تطلعاته. هذا ما تذهب عليه المدرسة التحليلية في علم النفس كي تكتشف الإنسان من خلال العقل الباطن، العقل الباطن فيه نافذة على الإيمان بالغيب، إذا وصلنا إلى تلك النافذة الموجودة في العقل الباطن وهي إيمان الإنسان بفطرته بعالم الغيب إذا وصلنا إلى تلك النافذة و وضعنا لها المخارج استطعنا أن نعالج كثيرا من الأمراض النفسية المنتشرة.
أذكر الآن عدة نماذج عدة حاجات
حاجة الإنسان إلى الأمن النفسي. تعرفون أن في علم الإدارة نظرية “ماسلو” التي تقرر أن هناك حاجات أولية وحاجات ثانوية. من ضمن هذه الحاجات، حاجة الإنسان إلى الأمن النفسي، لولا الأمن النفسي ما استطاع الإنسان أن يعطي و أن يبدع و الأمن النفسي أهم من الأمن الاجتماعي و الأمن النفسي يركزه و يرسّخه الإيمان بعالم الغيب : ” الَّذينَ آمَنُوا و تَطمَئِنُّ قلوبُهُم بِذكرِ اللهِ ألا بِذكرِ اللهِ تَطمَئنُّ القُلوبُ “
الحاجة الثانية تأثير السنن التشريعيّة على السنن الكونية، كما عبّر السيد الشهيد الصّدر ( قُدِّسَ سِرُّهُ ) بأنَّ هناكَ سنن اجتماعية وهناك أيضا سنن تشريعية وهناك سنن كونية.
لاحظوا المدرسة المادية، تقول لا يوجد سنن غيبية؛ السنن كلها مادية. إذا مرض الإنسان يشرب الدواء إذن ما يشرب الدواء لا يشفى. أصيب بمرض نفسي يراجع طبيباً نفسياً إذا ما راجع الطبيب النفسي لا يشفي؛ المسألة كلها سنن كونية بينما علم الكلام يقرر أن المدرسة السلوكية لعلم النفس كي تنجح، تحتاج أن تعتمد على سنن ملكوتية، كما تعتمد على سنن كونية طبيعية؛ مثل الصدقة، الدعاء، صلة الرحم، برّ الوالدين و الإحسان إلى النّاس، كل هذه السنن الغيبية نحن نعبّر عنها فقهاً، السنن التشريعية و يُعبَّر عنها في علم الكلام السنن الملكوتية. هذه دخيلة في صياغة شخصية الإنسان ، دخيلة في صياغة سلوك الإنسان،
إذا أدخلناها استطعنا أن نضمن إنساناً متوازناً بين رغبته الأنانية في امتلاك الأشياء وبين رغبته الاجتماعية في الإحسان إلى المجتمع و النهوض بهذا المجتمع.
الحاجة الثالثة
من لا يؤمن بعالم الغيب فإنه يؤمن أن الأسباب المادية هي الوحيدة المؤثرة في الكون، فلا ضرورة للإيمان بانتصار الفضيلة. إن القراءة المادية تختلف عن القراءة الإلهية. المادي يرى أنه لا يمكن أن تنتصر فئة على فئة إلا بالأسلحة المادية ما لم تكن كذلك فلا يوجد يوم انتصار و لا يوجد يوم لانتصار الفضيلة
أما المؤمن بالغيب فهو يؤمن أن هناك نصراً للفضيلة و أن الله وعد في محكم كتابه ” كَتَبَ اللهُ لَأَغلِبَنَّ أنا و رُسُلي و العاقبةُ للمُتَّقينَ و نُريدُ أن نَمُنَّ على الّذينَ استُضعِفُوا في الأرضِ أن نجعلَهُم أَئمةً و نجعلَهُم الوارثينَ هو الّذي أرسلَ رسولَهُ بالهُدَى و دينِ الحقِّ لِيُظهرَهُ على الدِّينِ كُلِّه و لَو كَرِهَ المُشركون ” من يؤمن بالغيب يؤمن بأن الفضيلة ستنتصر. يؤمن أن الغيب سينتصر حتماً يوماً من الأيام. و هذا يعطيه تفاؤلاً و تأسيساً للأسباب و بناء عليها، بخلاف من لا يؤمن بالغيب فإنه إذا فقد القوة المادية فقد الطّموح و فقد الأمل و فقد التخطيط، لأنه وكّل كل قواه على الأسباب المادية دون الأسباب الغيبية.
و النتيجة أن للإيمان بالغيب آثاراً نفسية وسلوكية واجتماعية تُحفّزنا على أن قوانين الطبيعة والسنن الاجتماعية ليست عائقاً و لا قاصراً أمام الوصول إلى الأهداف النبيلة.
من هنا نقول: من هنا يتبيّن لنا تأثير علم الكلام في تقريره لعالم الغيب على علم النفس بمدرستيه: التحليلية والسلوكية.