الاجتهاد: يصادف اليوم الأحد، الذكرى السنوية الواحدة والستون لاندلاع انتفاضة 15 خرداد (التي صادفت آنذاك في 5 حزيران/يونيو 1963)، والتي انطلقت من مدينة قم المقدسة احتجاجا على اعتقال جلاوزة نظام الشاه البائد للإمام الخميني (رض).
واندلعت انتفاضة الخامس عشر من خرداد أثر اعتقال الإمام الخميني (رض) بعد خطبته العارمة ضد نظام الشاه في يوم عاشوراء بالمدرسة الفيضية في قم المقدسة، اندلعت في قم وطهران وورامين ومدن إيران الأخرى واتسعت أبعاد هذه الانتفاضة بشكل اضطر معه نظام الشاه إلى استدعاء الدبابات والمدرعات وتعبئة القوات المسلحة كلها لسحق الانتفاضة وقتل الشعب، هذه الانتفاضة اصبحت بداية لنهضة الإمام الخميني (رض) العامة ضد نظام الشاه وجرائم أميركا في إيران، وغدت مبدأ تاريخ الثورة الإسلامية.
وفي ما يلي يروي قائد الثورة الإسلامية الإمام الخامنئي “دام ظله” ملامح من نهضة الشعب الإيرني في تلك الفترة، في مراسم الذكرى 24 لارتحال الإمام الخميني في حرم الإمام (قده) (6/4/2013).
نهضة الشعب الإيراني قبل حادثة 15 “خُرداد”
مع أن ذكرى الإمام ما تزال حاضرة بين آحاد الشعب الإيراني. إلّا أنّ يوم 14 خُرداد/ 4حزيران، هو مظهر عشق الشعب الإيراني للإمام العظيم.
مسألة 15 “خُرداد”، مسألة مهمة، ومرحلة مهمة. وسأتحدث عنها بشكل مختصر كي نصل إلى موضوعنا الأساسي واللازم. ليس الخامس عشر من “خرداد” بداية النهضة الكبرى لرجال الدين والشعب.
فقبل 15 “خُرداد”، وقعت حوادث مهمة في عام 1962 وأوائل عام 1963، ففي 22 آذار 1963، وقعت حادثة مدرسة الفيضيّة، حيث ضُرب وجُرح طلاب العلوم الدينية ووُجهت الإهانات إلى المرجع المُعظم المرحوم “آية الله الكلبيكاني”. وقبل ذلك التاريخ، أواخر عام 1962، حدثت المظاهرات الشعبية في سوق “بازار طهران”، ووُجهت هناك أيضاً الإهانات للمرجع المُعظم المرحوم آية الله “الحاج السيد أحمد الخوانساري”.
كلُّ هذه الاحداث تُشير إلى أنّ نهضة رجال الدين، كانت قد بدأت عام 1962 ووصلت إلى أوجها وذروتها عام 1963، بشكل حدا بشرطة “جهاز جبار” والأجهزة الأمنية الأخرى إلى استخدام العنف مع العلماء والطلبة، وحتى مع مراجع التقليد. لكن تبقى حادثة 15 “خُرداد” مرحلة مهمة جداً. ذلك أنّ الحادثة التي جرت في 15 “خُرداد”/ 5 حزيران 1963، قد أظهرت مدى تلاحُم الشعب مع رجال الدين في تلك المرحلة الخطرة والحسّاسة.
إنتفاضة 15 خرداد / 5 حزيران ذروة النهضة
في عاشوراء ذلك العام – يوم 3 حزيران- ألقى الإمام العظيم خطاباً تاريخياً ومصيرياً في المدرسة الفيضية. بعدها، أُلقي القبض على الإمام. وفي 15 “خرداد”/ 5 حزيران تحركت في “طهران”، بشكل رئيسي، وفي “قُم” وغيرهما من البلدات الإيرانية الأخرى، جموع غفيرة من الناس، فأقدَمَ النظام الطاغوتي بكلّ مكوناته، بجيشه، بشرطته، وأجهزته الأمنية، على قمع هذه الحركة الشعبية.
فقد حدثت انتفاضة شعبية في 15″خرداد”، دلت على وجود لُحمة متينة بين أفراد الشعب الإيراني ورجال الدين والمرجعية الدينية، المُتمظهرة في شخص الإمام العظيم.
حادثة 15 “خُرداد” : دعم الشعب الحازم لمرجعيته الدينية
المهم هنا، أنّ هذه اللحمة هي الضامن لتقدُّم النهضة، ووصولها إلى الذروة والانتصار. في أي مكان يحدث حراك ما، نهضة ما، مستندة إلى الشعب فيجاريها، ستستمر وتدوم. لكن إن لم يلتحم الشعب مع ذلك الحراك المعارض، فسوف يفشل. كالأحداث التي جرت بعد “المشروطية” في إيران
. فقد بدأ نضالٌ، من قبل اليساريين والوطنيين لكن مصير كل هؤلاء، وعلى مدى تاريخ النهضات في إيران، كان الفشل والهزيمة، ذلك أن الشعب لم يكن معهم. عندما ينزل الشعب إلى الساح، فيدعم نهضة ما، بمشاعره وفكره ومشاركته، عندها ستستمر هذه النهضة ويُكتب لها النجاح. هذا ما أظهرته حادثة 15 “خُرداد”، لقد أظهرت بأنّ الشعب يدعم رجال الدين.
فبإلقاء القبض على الإمام العظيم، جرت انتفاضة كُبرى في طهران وفي بعض المدن الإيرانية الأخرى، دفعت الجهاز الأمني إلى التدخل وقمع الانتفاضة بعنف شديد، فقتل عدد غير مُحددٍ- عدد كبير جداً- من الناس وصُبغت شوارع طهران بدماء عباد الله والمؤمنين وشباب هذا الشعب الأبطال.
حادثة 15 “خرداد” : خذلان الداخل وصمت الخارج
في 15 “خرداد”، ظهر وجهه الدكتاتور الخشن (العنيف)، ووجه النظام الطاغوتي عديم الرحمة بكل وضوح. لكن هناك نقاط أخرى في حادثة 15 “خرداد”- وعلى شبابنا، وشعبنا العزيز أن يلتفت إليها، فهي مهمة – وهي أنّ أيّ من المنظمات العالمية، وما يُسمى بمنظمة حقوق الإنسان، لم تحرك ساكناً أمام االمجازر الوحشية التي جرت دون شفقة أو رحمة في “طهران”، وفي غيرها من المناطق الإيرانية الأخرى.
لم يعترض أحد، وبقي الشعب ورجال الدين وحدهم في الساح. حتى أنّ الماركسيين والدول الإشتراكية واليساريين، أدانوا تحركات الخامس عشر من “خرداد” الشعبية، ووصموها بالإقطاعية، والوطنيون الذين كانوا ينادون للنضال، أدانوا هذه الحركة وقالوا أنّها حركة عمياء بلا هدف، حركة مُتطرفة.
ففي كل مكان يطلب الناس فيه الرخاء والراحة، ولا يشقون لأنفسهم مكاناً في ساح الكفاح، ولا يتقبلون خوض المخاطر، تراهم يتهمون المؤمنين والمناضلين بالتشدد والتطرف. قالوا هؤلاء متطرفون، وأنّ حركتهم حركة متطرفة. بقي الإمام وبدعم من هذا الشعب، وحيداً في الساح. لكنه ظهر للناس كافةً وللتاريخ، وبكلّ ما للكلمة من معنى، كقائد سماوي ومعنوي، قاطع ومصمم.
” أصول ” قيادة الإمام الخميني
تجلت ثلاث عقائد في إمامنا العظيم، مدّته بالقاطعية، بالشجاعة والصمود: إيمانه بالله، إيمانه بالناس وإيمانه بذاته. وقد ظهرت العقائد الثلاث تلك بمعناها الحقيقي في وجود الإمام، في قرارات الإمام، وفي جميع حركات الإمام. كان الإمام يتحدث إلى الناس من القلب إلى القلب، وكان الناس بدورهم، وبكلّ وجودهم، يقولون له: “لبيك”، فنزلوا إلى وسط الساح، وصمدوا بكل شهامة، وكانت الحركة التي لم يُنظر إليها بعين الرأفة، من أيّ بقعة من بقاع الدنيا، ولم تُمدّ لها أيّ يدٍ للمساعدة، تسير تدريجياً نحو الانتصار، ولقد انتصرت في النهاية.
سأبين قليلاً، العقائد الثلاث التي آمن بها الإمام، فهي أمور مهمة، إن وَجَدت لها مكاناً في قلوبنا، فستنير درب مسيرتنا.
1 ــ إيمانه بالله
بالنسبة إلى إيمانه بالله، كان الإمام مصداق الآية الشريفة: (الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ). (حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) لقد أدى الإمام هذا الأمر بكل وجوده، وآمن به من كل قلبه، كان الإمام يثق بالله المتعال، ويُوقن بوعد الله، فكان يتحرك، ويعمل ويتكلم ويُقَدِم في سبيل الله. ويعلم أن (إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ). وعد الله لا بُدّ مفعول، وأنّ الله لا يُخلف الميعاد.
2 ــ إيمانه بالناس
بالنسبة لإيمانه بالناس، فقد كان الإمام العظيم، يعرف الشعب الإيراني بكل ما للكلمة من معنى. لقد آمن الإمام، بأنّ هذا الشعب، شعب عميق الإيمان، ذكي وشجاع، وإذا ظَهَرَ بينهم قادة لائقين، فإن هذا الشعب سيتوهج كالشمس في مختلف المجالات. لقد آمن الإمام بهذا.
وإذا ظَهَرَ في يوم ما رجل غير كُفء، كالشاه “سلطان حسين”، الذي جعل الشعب الإيراني يتقوقع على ذاته، فسيظهر في يوم آخر رجلٌ شجاعٌ كـ”نادر قُلي” – بدون تلك الألقاب والعناوين – بين أفراد الشعب، ويتولى قيادتهم بكل شجاعة، عندها سيتمكن هذا الشعب من توسيع ميادين إفتخاراته، من نيودلهي إلى البحر الأسود. لقد رأى الإمام هذا في التاريخ، وشهد نظائره، كما أنّه آمن بهذا الأمر. كان يعرف الشعب الإيراني، ويثق به.
لقد جعل الإمام الخميني إيمان هذا العشب العميق والراسخ، الذي كان مخفياً تحت طبقات طمي المتهافتين على الدنيا، يَتَفتح. وأثار حفيظة الناس الدينية، فأصبح الشعب الإيراني مِثالاً للاستقامة والبصيرة. كان الشعب في نظر الإمام، هو الأعز وعدو الشعب هو الأبغض. كما تلاحظون، فإن الإمام لم يقعد لحظة واحدة عن مقارعة المُتسلطين، والسبب الرئيسي، أنّ المُتسلطين هم أعداء سعادة الناس، والإمام عدوٌ لعدو الشعب.
3 ــ إيمانه بذاته ( ثقته بنفسه )
الإيمان بالذات – الثقة بالنفس – لقد علّم الإمام الشعب الإيراني معنى “نحن قادرون”. وقبل أن يُلقن الإمام الشعب الإيراني ويعلمهم “نحن قادرون”، كان قد أحياها في داخله، وقد أظهر وأبرز، اعتقاده بقدراته الشخصية بالمعنى الحقيقي للكلمة. في عاشوراء 1963، هدّد الإمام، وعلى الرغم من غربته، وسط طلاب وأهالي قم في المدرسة الفيضية، “محمد رضا شاه”، الذي كان وبالاتكاء على أمريكا والقوى الخارجية، يحكم البلاد بلا قيد أو شرط أو وازع، قائلاً “إذا فعلت كذا، وإن اكملت على هذا المنوال، فسأطلب من الشعب الإيراني أن يطردك من إيران”.
من الذي قال هذا؟ قاله رجل دين، يعيش في “قم”، لا يملك السلاح، ولا العتاد، ولا المال، ولا الدعم الدولي. مستنداً فقط إلى إيمانه بالله وثقته بنفسه، على أنّه قادر على الصمود في هذا الساح. وفي ذلك اليوم الذي عاد فيه الإمام من منفاه، هدد حكومة “بختيار” في خطابه في “جنة الزهراء (ع)”، وقال بالصوت الملآن: “سأصفع وجه حكومة “بختيار”، وسأعيّن الحكومة”. هذه هي الثقة بالذات.
كان الإمام يؤمن بقوته، وبقدراته. وهذا الإيمان بالذات الذي تمثل، في عمل الإمام، في كلام الإمام، قد انتقل إلى الشعب.
الإمام أعاد للشعب الإيراني ثقته بنفسه
أعزائي، لقد قاموا بتلقيننا نحن الشعب الإيراني ولمئة سنة، بأننا غير قادرين. أنتم غير قادرين على إدارة بلادكم، غير قادرين على الوصول إلى العزة، غير قادرين على البناء، غير قادرين على الحركة في ميدان العلم، غير قادرين.. غير قادرين. ونحن صدقناهم.
من أساليب الأعداء المؤثرة، في السيطرة على الشعوب، هي تلقين “غير قادرين”، كي تيأس الشعوب، فيقولون “نحن غير قادرين”. بهذه الخُدعة، تخلّف الشعب الإيراني لمئة عام في ميادين السياسة، العلم، الاقتصاد، وجميع ميادين الحياة.
قَلَبَ الإمام هذه الموازين، فنزع منهم أداة التسلُط هذه، وقال للشعب الإيراني “أنتم قادرون”، أعاد إلينا الشجاعة، القرار، والمنعة. أعاد إلينا الثقة بالنفس، وشعرنا نحن الشعب الإيراني بأننا ، فتحركنا وعملنا. لذا فاز الشعب الإيراني في كافة الميادين -التي سأشير إليها- خلال 30 عاماً المُنصرمة.
عقائد الإمام الثلاث تتجلى في سياساته وأعماله
العقائد الثلاث التي آمن بها الإمام أي الإيمان بالله، الإيمان بالشعب، والإيمان بالذات قد أضحت محور جميع قراراته وإعماله، وجميع سياساته. لقد أعطى هذا الإيمان القُدرة للإمام خلال بدء النهضة، وفي فترة النفي، وأيضاً عندما توجّه إلى “باريس”، وعندما عاد إلى إيران.
لقد أعطت هذه العقائد الثلاث للإمام القدرة على العودة إلى “طهران” في تلك الظروف، وأعطته القوة في أحداث شباط 1978، في الفتن الداخلية، في إعلان الجمهورية الإسلامية، في الصمود العلني في وجه النظام العالمي الجائز، في إعلان “لا شرقية، ولا غربية”، في الحرب المفروضة، في جميع قضايا السنوات العشر المليئة بالأحداث من عمر الإمام. لقد تجلت تلك العقائد الثلاث في الإمام. فكانت مصدر قراراته، أعماله، وسياساته.
لم يلحظ أحدٌ في الإمام، وحتى آخر أيام حياته، أيّ أثرٍ للكآبة والتردد، والتعب والإهمال والاستسلام. يصاب الكثير من ثوار العالم بالتردّد عندما يصلون إلى سنّ الكهولة والشيخوخة. وبالتحفظ على بعض الأمور حتى أنهم يتراجعون عن كلامهم الرئيسي في بعض الأحيان.
إلّا أن كلام الإمام، في سنوات عمره الأخيرة، كان أحياناً أكثر ثوريّة من عام 1963، وأشدّ وأقوى. كان يشيخ لكن قلبه ظلّ شاباً، وروحه طواقة. إنها الاستقامة التي جاءت في القرآن الكريم: (وَإن لو اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُم مَّاء غَدَقًا) وفي آية أخرى: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ).
الإمام يغير روحية الشعب الإيراني
هذه العقائد الثلاث، أبقت الإمام حياً وشاباً، وخلّدت فكر الإمام وطريق الإمام وطريقة الإمام عند هذا الشعب. ومن ثم عمّت هذه العقائد الثلاث شعبنا وشبابنا وجميع أطيافنا. بعثت الأمل والثقة بالنفس والتوكل على الله. لقد حلّت مكان اليأس والظُلمة والتشاؤم. لقد غيّر الشعب الإيراني روحيته، فغيّر الله ما بهم: (إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ). لقد صحح الشعب الإيراني مساره وحركته وحوافزه. فساعدهم الله في ذلك ونصرهم ودعمهم. فماذا كانت النتيجة؟