الاجتهاد: إن من المؤسف جداً إن عدداً كبيراً من المسلمين في الداخل والخارج الذين يسمون أنفسهم بالمثقفين والمفكرين يخشون من إقامة النظام الإسلامي في البلاد الإسلامية.
و منشأ هذا التخوف أمران:
الأول: الجهل بالإسلام و نظامه الإنساني.
الثاني: الإعلام المضلل والدعايات الفارغة من الغرب والشرق التي تصب على محاربة الإسلام، واتصافه بالتطرف والتحجر و الأحكام المضادة للحرية وحقوق الإنسان، فإن لذلك دوراً بارزاً وهاماً في هذا التخوّف، وتأثيراً كبيراً في النفوس غير المزودة و المجهزة بالقيم و المثل الدينية و الإنسانية.
أما تخوّف الغرب من الإسلام فله مبرر لأنهم يخافون من النظام الإسلامي و قيمه الإنسانية و الأخلاقية و الاجتماعية و الفردية و العائلية و قوة نفوذه و انتشاره في العالم و تبلور نظامه الإنساني في كل يوم لا سيما بين الشباب و الشابات في الدول الإسلامية و غير الإسلامية و لهذا ينقل و يسمع أن عدداً كبيراً من الشباب و الشابات في الدول الغربية و غيرها ينتحلون الدين الإسلامي على أنه دين الحضارة و العدل و المساواة، مع قلة معرفتهم به و عدم اطلاعهم إلا على بعض القيم و المثل الإنسانية كالنظام العائلي الموجود بين المسلمين فإنه منهار و متفكك في المجتمع الغربي، حيث نرى و نتعايش الاجتماع العائلي بين الآباء و الأمهات و الأبناء و البنات و الأحفاد على سفرة واحدة في كل يوم عدة مرات و هذه الظاهرة مفقودة في حياتهم اليومية، و كذا كثير من الظواهر الإيجابية من الأخلاقية و الاجتماعية و العبادية و غيرها.
و من هنا كان هؤلاء يشعرون بأن الإسلام خطر عليهم و لذلك قاموا بالإعلام المضلل و الدعايات الفارغة على الإسلام بذرائع مختلفة،
(تارة) بذريعة أن الدين الإسلامي يروج للتطرف و الإرهاب، (و أخرى) إن الدين الإسلامي ضد الحرية و الديمقراطية، (و ثالثة) إن الدين الإسلامي ضد حقوق الإنسان و هذه الدعايات كلها دعايات مغرضة و فارغة لا يمت إلى الإسلام بصلة، و لا واقع موضوع لها.
أما الذريعة الأولى:
فلأن الدين الإسلامي دين سلم و عدل و إنسانية و رأفة و رحمة و ضد التطرف و الإرهاب بكل أشكاله و أنواعه و أنه دين يستنكر قتل الأبرياء بأشد الاستنكار حيث جعله أكبر جريمة في تاريخ البشرية بنص قوله تعالى: مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً، وَ مَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً فالإسلام جعل قتل نفس واحدة بريئة بمثابة قتل الناس جميعاً و هو أكبر جريمة في عالم الإنسانية كما أنه جعل إحياء نفس واحدة بمثابة إحياء الناس جميعاً و هو أكبر خدمة في عالم البشرية، بل الإسلام قد حرّم مثلة جسد الإنسان حتى في ساحة الحرب مع العدو، و هذا هو الإسلام.
و أما الذريعة الثانية:
فلأن الإسلام قد أعطى الحرية للأفراد في كافة نواحي حياتهم بشكل متزن معتدل بحيث لا تؤدي الحرية إلى زعزعة العدالة الاجتماعية و التوازن بين طبقات الأمة، لأنهم أحرار في ممارسة النشاطات الاقتصادية بكافة أنواعها غير النشاطات المحذورة المعيقة في الإسلام و أحرار في ممارسة النشاطات الثقافية و الترفيهية و غيرهما في الحدود المسموح بها شرعاً و أحرار في التعبير عن آرائهم شريطة أن لا يكون كذباً و إيذاء للآخرين و تضييعاً لحقوقهم.
و بكلمة إن الإنسان لا يمكن أن يبقى مطلق العنان يفعل ما يشاء و يترك ما يشاء و إلا لزم الهرج و المرج بل لا يمكن الحياة حينئذٍ على سطح الكرة الأرضية لأن القوي يأكل الضعيف، فإذن لا بد من وضع حد لاطلاق عنانه، و لهذا قام العقلاء بوضع حدود له من جانبهم. و أما الشريعة الإسلامية فقد قيدت إطلاق عنان الإنسان بخطوط عريضة و هي إن الإنسان حر في سطح الكرة الأرضية بكافة ممارساته و تصرفاته في الحدود المسموح بها شرعاً لا مطلقاً و الهدف من وراء هذا التقييد و التحديد أمران:
الأول/ إن الإنسان حيث أنه أشرف مخلوقاته من جهة أنه تعالى أوهب العقل له فلا بد من الحفاظ على مكانته و كرامته و شرفه و لا يمكن الحفاظ عليها إلا بتقييد إطلاق عنانه بالحدود المسموح بها شرعاً و إلا فهو إنسان ساقط في المجتمع و لا قيمة له.
الثاني/ إن الإسلام قد أهتم في تحقيق العدالة الاجتماعية و التوازن بين طبقات الأمة و لا يمكن تحقيق هذا المبدأ إلا بتقييد حرية الإنسان بحدود لا تزعزع هذا المبدأ و لا تضر بحقوق الآخرين و تتناسب مع الحدود العقلائية و الإنسانية.
فالنتيجة إن الدين الإسلامي دين حر شفاف يواكب العلم و الحضارة و التقدم و ينسجم مع متطلبات كل عصر مهما تطور كما إن الحرية في الإسلام تتناسب مع قيم الرجل و مكانته و قيم المرأة و مكانتها في الإسلام لأن المرأة حرة في الحدود المسموح بها شرعاً و لها أن تلعب دوراً هاماً في المجتمع كالرجل و لا فرق بينهما فأي عمل سياسي أو اجتماعي أو ثقافي يجوز للرجل يجوز للمرأة أيضاً شريطة أن تحافظ على كرامتها و شرفها و عفتها و سترها الإسلامي و قيمها الإنسانية و لا تكون مبتذلة حيث لا قيمة للمبتذلات
حتى عند المجتمع العقلائي، لأن حرية المرأة لا تتطلب منها السفور و الابتذال و لا تفرض عليها ذلك. و أما الحرية في الغرب فحيث إنها ليست مبنية على قيم إنسانية و أسس دينية عقلائية. فلهذا وصلت إلى درجة الابتذال و حضيض الحيوانية و خرجت عن الحدود العقلائية و الإنسانية و الأخلاقية بل وصلت إلى درجة يشمئز الإنسان عن ذكر اسمها و يخجل و لكن مع ذلك فهم مصرون على تطبيق هذه الحرية المطلقة و نشرها في الدول الإسلامية و هدفهم من وراء ذلك تهديم الإسلام و تقاليده الإنسانية و ثقافته القيمة المبنية على الأخلاق و الاحترام.
و أما الذريعة الثالثة:
فلأن الدين الإسلامي ليس ضد حقوق الإنسان كيف فان الإسلام قد أهتم بالحفاظ عليها و عدم جواز تفويتها و جعل الغرامة عليها لتحقيق مبدأ العدالة الاجتماعية بين طبقات الأمة و التوازن و لا يمكن تحقيق ذلك إلا بالحفاظ على حقوق الجميع على حد سواء من دون أي تمييز بين فرد و فرد آخر هذا من جانب، و من جانب آخر أنه لا يمكن من منظور الإسلام أن يذهب حق أحد هدراً بل الأمر كذلك من منظور العقلاء أيضاً. و من هنا يرى الإسلام المعادلة بالمثل في الحقوق بين الناس و في الجراحات: النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَ الْعَيْنَ بِالْعَيْنِ … وَ الْأُذُنَ بِالْأُذُنِ و أشار تعالى إلى حكمة هذه المعادلة بقوله عز و جل وَ لَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ و في الأموال المعادلة بالمثل أو القيمة.
و من هنا لو فرض أن شخصاً قام بقلع عين شخص آخر عدوانا و ظلماً و انتهاكاً لحرمته و سلب عنه هذا الحق فقد جعل الله تعالى للمظلوم حق الاقتصاص من الظالم بأن يقوم بقلع عينه و سلب هذا الحق عنه لسببين:
الأول/ إن حق الظالم ليس أولى من حق المظلوم فإذا لم ير الظالم هذا الحق للمظلوم و سلب حقه و انتهك حرمته فقد جعل الله تعالى للمظلوم سلطانا عليه بأن يقوم بالاقتصاص منه بالمقدار الذي ظلمه في حقه لا أكثر و هو مقتضى العدل و الإنصاف و المعادلة بالمثل كما في الآية الكريمة.
الثاني/ إن في ذلك عبرة للظالم و للآخرين معاً بعدم التعدي على حقوق الآخرين و لهذا للقصاص أثر كبير في حفظ التوازن و العدالة الاجتماعية، و لا يمكن تطبيق حقوق الإنسان على الظالم بدعوى أنه لا يجوز الاقتصاص منه لأنه ينافي حقه في بقاء عينه سالمة و ذلك:
أولًا: إن معنى هذا هو ذهاب حق المظلوم هدراً و هو لا يجوز لا شرعاً و لا عقلًا و لا عقلائياً.
و ثانياً: إن تطبيق المنهج الغربي الجديد لحقوق الإنسان على الظالم مكافئة له في مقابل ظلمه و عدوانه و تشويق له فيه و للآخرين معاً، و ترويج للظلم و الطغيان و من الواضح إن ذلك مؤثر في عدم استقرار البلد و الأمن و هذا معنى قوله تعالى: وَ لَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ.
مثلا للإنسان حق البقاء في الحياة و ليس لأحد أن يسلب عنه هذا الحق ظلماً و عدواناً و أما إذا سلبه عنه فقد جعل الله تعالى لوليه سلطاناً عليه بأن يقتص منه، لأن هذا هو مقتضى العدل و الإنصاف، و مقتضى قوله تعالى: (النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَ الْعَيْنَ بِالْعَيْنِ) فمن قتل أحداً ظلماً و جوراً فقد أضاع و هدر حقه في البقاء على قيد الحياة إذ من لم ير هذا الحق للآخر لم يكن هذا الحق ثابتاً له أيضاً و لا يمكن تطبيق حقوق الإنسان على القاتل دون المقتول لأنه مخالف للنظرة الإسلامية و العقلائية معاً و مكافأة له في مقابل ظلمه و عدوانه و تشويقاً له و للآخرين على ذلك مع أن في إجراء القصاص عليه عبرة للناس و تحقيقاً للعدالة و التوازن في الحقوق و الأمن في البلد لأن دم الإنسان لا يذهب هدراً و قد أعترف بذلك كقانون عام في أكثر دول العالم و سيقر العالم بقانون القصاص في المستقبل القريب إذ من يؤيد هذا القانون و يطلب من حكومته تشريعه في ازدياد مستمر.
المصدر: كتاب الأنموذج في منهج الحكومة الإسلامية القائمة على أساس الحاكمية لله تعالى للمرجع الديني آية الله الشيخ محمد إسحاق الفياض