الاجتهاد: ما هي الخصوصية والميزة التي تجعل من الشريعة الإسلامية وبرغم جدلية النص الثابت والواقع المتغير ـ شريعة جامعة وشاملة لابعاد التغير الزمني والحضاري والاجتماعي، وعلى كافة المستويات التي تلبي طموح البشرية وآمالها. وإذا كان السر يعود إلى ان جزء ـ غير قليل ـ من الشريعة الإسلامية يعبر عنه بالأحكام المتحركة والمتطورة مع تطور الزمن وحركته،فماذا يراد من تلك الحركية الخطابية التي تختص بجانب خطير من الأحكام الشرعية؟ بقلم: فارس عبد المجيد
بسم الله الرحمن الرحيم.
يجمع النقاد والمفكرون الإسلاميون على ان الشريعة الإسلامية الخاتمة جائت شاملة وجامعة ومستوعبة لكل نواحي الحياة، جاءت فوق الحدود والحواجز الزمانية، فهي من خالق الزمان والمكان وتشرف على الزمان والمكان، مما أدت هذه الحقيقة إلى التعاطي مع الشريعة الإسلامية بنمط خاص باعتبارها الجسر الوحيد الذي يمده الله بينه وبين عباده، بعدما ارتفعت كافة الجسور من مسيحية أو يهودية… بين السماء والأرض وظهر خواء وضحالة الجسور الأرضية البشرية، التي صاغتها وانتجتها العقلية الأرضية المتمثلة بالمذاهب الوضعية القديمة والحديثة.
وثمة اختلاف للإسلاميين من بعد ذلك في تقديم تفسير لهذه الشمولية، شمولية نصوص الشريعة الإسلامية وجامعيتها لكل أبعاد الحياة وعلى مر العصور والأزمان، الشمولية التي تجعل من الشريعة الإسلامية، فريدة في نوعها بعيدة عن عقول البشرية ومخيلتهم الأرضية. وهذا الخلاف والاختلاف يرجع ـ بالتحليل ـ إلى ما يسمى بجدلية النص الثابت والواقع المتغير المتطور.
فكيف يتسنى للنص الثابت والذي نزل قبل 1400 عام في دائرة ظروف وشروط خاصة ان يتسوعب الواقع المتغير الذي لايكاد يستقر على صورة وهيئة واحدة.
في سبيل تقديم تفسير لهذه الظاهرة، ذهب «الدكتور عبد الرحمن بدوي» (1) إلى ان السر في تلك الحيوية المستوعبة للتغيرات والتطورات الزمانية والحضارية، يكمن في تعدد وتنوع أبعاد الدين أو الشريعة التي يصلح كل بعد من ابعاده وكل زاوية من زواياه لجيل ولزمان معين حيث يفهم كل جماعة وبمستوى الثقافة والبيئة الاجتماعية والعالم من حولهم، جانباً من جوانبها المتعددة والمتنوعة وقد تفاعل مع هذا القول بمستوى التاييد ـ الدكتور علي شريعتي في المحاضرة التي ألقاها في كلية النفط بعبادان.
وثمة نظرية أخرى ترى ان اللغز يكمن في إطار مقولة ان روح الشريعة الإسلامية بسبب النمو والتطور تبقى حية وخالدة ومستوعبة لآفاق الحياة (2).
وبعد التتبع نلاحظ ان ثمة اتفاق نسبي ينصب في القول ان تفسير الظاهرة يعود إلى ان الشريعة الإسلامية تتوفر على أحكام متغيرة ومتطورة لمواكبة المسيرة البشرية تستمد وجودها من أحكام أخرى إلى جنبها تسعى أحكام ثابتة لا تتغير ولا تتبدل (3).
وهذا الاتفاق بطيعة الحال لم يسلم عن خلاف واختلاف يسير في تفسير كل من الثابت والمتغير وخلاف عن علاقة منطقة الفراغ بالأحكام الولائية التي تركت للحاكم الشرعي ان يملئها.
إذن ماهي الخصوصية والميزة التي تجعل من الشريعة الإسلامية وبرغم جدلية النص الثابت والواقع المتغير ـ شريعة جامعة وشاملة لابعاد التغير الزمني والحضاري والاجتماعي، وعلى كافة المستويات التي تلبي طموح البشرية وآمالها.
وإذا كان السر يعود إلى ان جزء ـ غير قليل ـ من الشريعة الإسلامية يعبر عنه بالأحكام المتحركة والمتطورة مع تطور الزمن وحركته، فماذا يراد من تلك الحركية الخطابية التي تختص بجانب خطير من الأحكام الشرعية؟
يستوقفنا هذا اللغز للإجابة عليه ابتداء من التوفر على رؤية عن طبيعة الشمولية وآفاقها ومدياتها، ومروراً بدليل الشمولية وانتهاء باستعراض النظريات ونقدها ان كان ثمة ثغرة في جسمها، ثم اختيار ما يتناسب منها مع طبيعة الشمولية وآفاقها.
آفاق الشمولية وطبيعتها :
بعد استذكار كل خصيصة من خصائص الإسلام العامة، تستوقفنا مكونات وروافد الإسلام النبوية لدراستها بالطريقة الربطية ليتلاشى في ضوئه مجمل الاشكاليات التي يصوغها بين الحين والآخر رجال من داخل المنظومة الفكرية الإسلامية المتغربة أو من خارجها.
وتأتي أهمية النظرة الربطية لمكونات الإسلام وروافده من خلال ضرورة متابعة كل خصيصة من الخصائص ودراستها في محلها المناسب، حيث تسبقها خصيصة وترافقها أخرى وتلحقها ثالثة.
فدراسة الشمولية. وبالطريقة الربطية، تحتاج إلى شيء من دراسة خصيصة الإلهية والخاتمية والعالمية ونحو ذلك من الخصائص التي تلتقي بمجموعها ـ في المحصلة الأخيرة ـ لتكون لنا صورة عن خصيصة الشمولية.
فالشمولية، وبناء علي هذه النظرة الربطية، تعبير عن تزاوج الخصائص الأساسية للإسلام، وعليه من يرى ان الشمولية جزء لا ينفك عن الشريعة الإسلامية وكمسلمة لا تقبل الشك والترديد لابد ان يكون قد توفر على رؤية ولو اجمالية عن الروافد التي تلتقي لتكون الصورة النهائية عن الإسلام الكامل المتصف بالشمولية والحركة الديناميكية.
هذا من جانب ومن جانب وزاوية أخرى يمكن القول ان خصائص من قبيل الإلهية والخاتمية والعالمية ولواقعية… لا تنتج، بطبيعة الحال، وبعد التلاقي والتزاوج إلا شريعة شاملة وجامعة لكل نواحي الحياة.
بعد هذه الرؤية عن طبيعة الشمولية اذن ماهي آفاق الشمولية ودائرتها ؟ فهل تعني الشمولية استيعاب الجانب الفردي والاجتماعي من حياة الإنسان؟ ام انها تعني استيعاب حالات شخصية الإنسان وابعاده من مادية ومعنوية وروحية واخلاقية قيمية ونحو ذلك ؟ أم يراد منها انها تمتد أفقياً وعمودياً، تتمتد افقيا لتغطي آفاق وحقول متنوعة كالمجال الاقتصادي والسياسي والاجتماعي والسيكيولوجي والابستمولوجي والى غيره من المجالات الكثيرة والمتنوعة.
وتمتد ثمة امتداد جذري آخر في عمق كل حقل ومجال من المجالات التي أشرنا إليها لتعطي كل حقل حقه ولتتعمق في كل حقل ومجال. فعندما تتغلغل في المجال الاقتصادي مثلاً.
نلاحظ انها كمذهب اقتصادي متكامل تغطي كل آفاق الاقتصاد واجزائه المتنوعة من عرض وطلب وملكية وحق و… وما نراه يتناسب مع الشمولية الشرعية للإسلام ـ بعد النظرة الربطية التي تقدم الكلام عنها ـ انها تشمل جميع هذه الآفاق وغيرها كثير.
ومن المحالات التطبيقية الطريفة في هذا المجال، ان بعض الفقهاء حاول ان يؤسس لفقه عبر عنه بفقه الفضاء يتبنى أبحاث طريفة ترتبط بالفضاء من قبيل بحث اتجاه القبلة لمن على أرض القمر أو على غيره من الكرات السماوية.
فهل يصلي المكلف هناك كيفما شاء وباتجاه أي جهة شاء ؟ ام يستقبل الأرض ؟ وإذا كان المطلوب استقبال الأرض كيف يتم ذلك وهل يتولد عن ذلك مشقة على المكلف هناك باعتبار تغير اتجاه القبلة باستمرار بناء على الحركة الوضعية والحركة الانتقالية لكل من الأرض والقمر.
وكذلك بحث التربة وجواز الصلاة على تربة القمر أو عدم ذلك ؟ وهل قول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم جعلت لي الأرض مسجدا وطهوراً يختص بتربة الأرض التي نسكن عليها أم تشمل تربة القمر مثلاً… والى غير ذلك من الأبحاث الطريفة التي ترتبط بالفضاء (4).
فهذا التشريع السماوي يمتد مع الإنسان في كل حالاته وظروفه من شخصية واجتماعية ويعبر الحدود والحواجز الزمانية والمكانية هذا وقد جاءت الخطوط الكبرى للإسلام نتيجة إشراف… إشراف يطل على الزمان وعلى المكان… إشراف هو فوق زمان الإنسان وفوق مكانه…إشراف يرى بداية الشيء ونهايته يراه كله… جاءت هذه الخطوط من صانع الزمان والمكان… من مدرك مطلق هذين البعدين… من الله الذي وسع كل شيء علماً !! (5).
دليل الشمولية :
الكتاب والسنة والعقل تمثل ثلاث محطات رئيسية يمكن ان نقف عندها ـ باختصار ـ باعتبارها شواخص على صحة مقولة الشمولية التي نحن بصدد الحديث عنها.
في المحطة الأولى تستوقفنا مساحة واسعة من الآيات التي لها نحو دلالة لا تقبل الشك والترديد على شمولية النظام الإسلامي لإبعاد الحياة وإنحائه.
يقول تعالى : ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ﴾ (6). وقوله تعالى : ﴿مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ﴾(7). ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا﴾(8). وعند انتقالنا إلى المحطة الثانية نلاحظ الروايات الكثيرة التي جاءت بصيغ وعبارات مختلفة تصب في نفس الهدف.
في تفسير العياشي عن عبد الله بن وليد قال : قال أبو عبد الله عليه السلام قال الله لموسى : وكتبنا لـه في الألواح من كل شيء فعلنا انه لم يكتب لموسى الشيء كله وقال لعيسى : «لا بين لكم بعض الذي تختلفون فيه» وقال الله لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم «وجئنا بك شهيدا على هؤلاء ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء»(9).
وفي عيون الأخبار بإسناده إلى عبد العزيز بن مسلم عن أبي الحسن الرضا عليه السلام قال يا عبد العزيز جهل القوم وخدعوا عن أديانهم، ان الله تعالى لم يقبض نبيه صلى الله عليه وآله وسلم حتى اكمل لـه الدين وأنزل عليه القرآن وفيه تفصيل كل شيء بين فيه الحلال والحرام والحدود والأحكام وجميع ما يحتاج إليه كملاً فقال عز وجل : ﴿مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ﴾(10).
وعن الإمام الباقر عليه السلام قولـه : ان الله لم يدع شيئاً تحتاج إليه الأمة إلى يوم القيامة إلا أنزله في كتابه، وبنيه لرسوله، وجعل لكل شيء حدا وجعل عليه دليلا يدل عليه (11).
وأما الدليل العقلي فيمكن صياغته بالإنحاء التالية :
1 ـ عبر المساحات الشاسعة التي أتيح للإسلام ان يتحرك خلالها في تاريخه الطويل يتأكد وبكل سهولة على ان الإسلام، وبعد أن تغلغل في الأبعاد المختلفة من الحياة، يغطي الأفاق والمساحات الإنسانية من فردية واجتماعية وروحية أو جسدية ونحو ذلك وهذا الدليل الذي يحكي عن أجواء وظروف مورس فيه استنطاق الحكم الشرعي من الممكن ان يعتبر أفضل سبيل للتأكد.
الثابت والمتحرك :
لو خرجنا عن المنظومة الفكرية الإسلامية التي تنظر إلى أجزاء الإسلام وخصائصه نظرة ربطية تتكامل من خلالها الصورة النهائية للإسلام إلى المنظومة الفكرية المتغربة التي تنقل نظريات وأفكار الغير إلى أرضنا ومنظومتنا من دون مناسبة، نلاحظ انهم اعتادوا ان ينظروا إلى الإسلام كما ينظروا إلى المسيحية واليهودية، كدين سماوي جاء لمعالجة مشاكل الإنسانية قبل 1400 سنة وهو لا يصلح حلاً لمشاكله في هذا العصر نظراً لتباعد الفترة بيننا وبين عصر النزول فالإسلام، والقول لبعض المتغربين، تبلور بنمط وشكل خاص لظروف مر وقتها ولا نتوقع منه هداية البشرية إلى ما فيه الخير والصلاح وحل مشاكلها كأي نظام اخر في هذا العصر، عصر التطور العلمي والتكنولوجي فعليه ـ والقول لهم ـ نحن نحتاج إلى تأطير جسر أخر ـ كيفما كان حاله من شمولية النظام الإسلامي واستيعابه لكل مراحل الحياة.
ثمة مراجعة تاريخية للأمم السابقة تؤكد على ان الله تبارك وتعالى لم يدع أمة من الأمم إلا وأرسل لها رسولها وتشريعها الخاص سواء تفاعلت معه بالشكل المطلوب أو لم تتفاعل… وهذا السير التاريخي يؤكد على ان الشريعة الأخيرة وبمقتضى الحكمة والرحمة الإلهية الجارية في خلقه تقتضي وعلى المنوال نفسه واستكمالاً للمشوار ان تتوفر الشريعة الإسلامية على الميزة والخصوصية التي تجعل فيها القدرة على الاستيعاب الحضاري والزمني الذي يتلاشى في ضوئه كل المحددات الزمانية والمكانية وغير ذلك.
وأخيراً : إذا كان الإسلام دين أريد لـه هداية البشرية حتى قيام الساعة فهل يجوز ان يكون كما هو حال من سبقه ـ مقطعياً مرحلياً ينتهي أمده بانتهاء الفترة التي نزل فيها. يؤدي دور الوسيط بين الأرض والسماء من جهة ويواكب المسيرة البشرية والواقع المتطور من جهة أخرى. لو استعرنا لهم ـ من الشريعة ـ مثالاً لتأييد الفكرة نأخذ قضية الرق وأحكامها الخاصة الجزئية التي اجتازتها الحضارة الإنسانية في هذا العصر ـ عصر الاختراعات والاكتشافات عصر الكمبيوتر والانترنيت.
هذا وقد أثرنا إلى ان الشريعة الإسلامية التي ترفدها السماء بهالة من القدسية الإلهية والواقعية والخاتمية والعالمية… والشمولية أدى إلى ان يجمع المفكرين والنقاد الإسلاميين بل وغير الإسلاميين من أمثال رونيه دافيد (12) ـ وغيره كثير ـ على حركية الشريعة الإسلامية وشموليتها ومواكبتها مع المسيرة والتطور البشري.
وقد أشرنا إلى مجمل نظرية الدكتور البدوي التي جاءت كتفسير أو حل لاشكالية النص الجامد والواقع المتحول.
وكاستعادة لما ذكرناه نبدأ من قول البدوي حيث يقول : بعدما يستعرض الآثار السلبية للدين الذي يبني جميع حقائقه ومعانيه من كلمات واضحة ومباشرة، وذات بعد واحد وبسيط… «لابد ان يختار الدين لغة لبيان معاني فلسفته بحيث تكون هذه اللغة متعددة الجوانب ومتعددة الابعاد والزوايا، لكي يصلح كل بعد من تلك الابعاد لجيل معين، ويفهم كل جماعة جانباً من تلك الجوانب فإذا كانت لغة الدين ذات بعد واحد، فانه يكون مفهوماً لجماعة معينة ويكون لسائر الجماعات بلا قيمة…» (13).
ويضيف لذلك كتأييد الدكتور علي شريعتي بقوله فان الدين باعتباره نازلا لمختلف الفئات ولجميع الأجيال فيجب ان تكون لغته رمزية…(14).
بعد ان اتضحت فكرة رمزية الدين وضبابيته بحسب تعبير علي شريعتي نستدرك ان هذه الكفرة وعلى الرغم من طرافتها لا تنهض بتفسير الأحكام والمفاهيم والقيم غير الضبابية ـ التي لم يتغير فهمنا عنها منذ نزولها وحتى يومنا هذا وكأنها تحمل زاوية وبعد واحد ومن ثم لا ننظر إليها إلا من خلال ذلك البعد الواحد الواضح.
هذا فضلا عما يترتب على مثل هذه المقولة من نتيجة سلبية تتمثل في القول : ان الشريعة الإسلامية غامضة ومبهمة أو ضبابية ورمزية ولا تتمتع بثبات في الفهم والمضمون. ولكن وفي التحليل النهائي لفكرته الرمزية في الدين نحتم بالتذكير إنها تختص بجزء يسير ـ من النصوص العلمية أو الفلسفية ـ ان صح التعبير ـ وذلك بعد ما اتضح انها لا تصلح تفسيرا للتشريع أو الأخلاق والقيم ـ غير الضبابية ـ فهي تختص بجزء يسير من بعض النصوص من نظير قولـه تعالى : ﴿وَالسَّمَاء بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ﴾(15).
فهذه الآية تصلح لزمان نزولها لتلك العقلية البدائية وعلى الرغم من ذلك تصلح لعصرنا هذا وللحظة هذه تصلح لعقلية وثقافة القرن العشرين التي قد تؤمن بأحدث نظرية في علم الفلك التي ترى : «ان الكون يتسع بالتسلسل الدائم، وان كل مجاميع النجوم والأجرام والأجسام الفلكية تتباعد بسرعة مدهشة، بعضها عن بعض، ثم بدأت الحركة والحرارة وبقدر العلماء ان هذا الكون قد وجد نتيجة «الانفجار» فوق العادة وقع منذ 000/000/000/ 50 سنة» (16).
اذن هذه الآية ـ العلمية ـ تصلح للماضي والحاضر والمستقبل وهذا هو الأعجاز القرآني حيث يصلح لكل الظروف والبيئات والثقافات وهو فوق الحدود الزمانية والمكانية لأنه ـ وكما أشرنا ـ من خالق الزمان والمكان والمشرف عليهما.
ثاني ما أشرنا إليه كان يتمثل في مقولة ان الشريعة الإسلامية أو ان روح الشريعة الإسلامية ـ بالأحرى، بالتطور والنمو تبقى نابضة بالحياة والديناميكية الحركية.
سنترك هذه المقولة ومناقشتها إلى ان ننتهي من نظرية الثابت والمتغير لما تتداخل النظريتين في النتيجة بعض التداخل.
وقد أشرنا إلى ان جمع ـ غير قليل ـ من مفكرينا يرى ان اللغز يكمن في التفريق بين الأحكام الثابتة غير المرنة والأحكام المتغيرة والمرنة والمتحركة. على انهم اختلفوا ثمة اختلاف نسبي وجزئي في تفسير وتحليل كل من الثابت والمتغير واختلافاً أخراً في مجل منطقة الفراغ والنسبة بينها وبين الأحكام الولائية التي تركت للحاكم الشرعية ان يملئها.
لنبدأ بالقول ان مهدي مهريزي يرى ان هذه الرؤية أقدم أطروحة في مضمار التوفيق بين الشريعة الإسلامية والعالم الإنساني المتحول (17) وكأول تعبير عن هذه الصيغة ـ والقول للمهريزي ـ إنّما جاء في كلام ابن القيم (691 ـ 751 هـ) في كتاب «إغاثة اللهفان حيث يقول هناك :
«الأحكام نوعان : نوع لا يتغير عن حالة واحدة هو عليها، لا بحسب الأزمنة ولا الأمكنة، ولا اجتهاد الأئمة كوجوب الواجبات وتحريم المحرمات والحدود المقدرة بالشرع على الجرائم ونحو ذلك، فهذا لا يتطرق إليه تغيير ولا اجتهاد يخالف ما وضع عليه.
والنوع الثاني : ما يتغير بحسب اقتضاء المصلحة لـه زماناً ومكاناً وحالاً كمقادير التعزيرات وأجناسها وصفاتها، فإن الشارع ينوع فيها حسب المصلحة..، وهذا باب واسع اشتبه على كثير من الناس الأحكام الثابتة اللازمة التي لا تتغير، بالتعزيرات التابعة للمصالح وجودا وعدما (18).
في كتابه الإسلام ومتطلبات التغيير الاجتماعي تعرض السيد العلامة محمد حسين الطباطبائي لقضية كيفية تلبية الإسلام لا حتياجات كل عصر ومرحلة وانتهى إلى ان الإسلام وبحكم كونه نظاماً عالمياً لا يختص بجماعة ولا بزمان ومكان محددين تنقسم احكامه إلى قسمين متميزين هما الأحكام الثابتة والأحكام المتغيرة وفي معرض تفسيره لكل من القسمين عاد يقول : «أن الأحكام الثابتة، هي التي ترتبط بالطبيعة الإنسانية وبالتكوين الإنساني ولا تختص بزمان أو مكان معينين ولا بجنس ولون خاصين».
واما الأحكام المتغيرة في الإسلام ـ والقول للطباطبائي ـ «تلك الأحكام التي تعتبر بمثابة منطقة فراغ في التشريع على الوالي ان يسدها تبعاً لمتطلبات الظروف الزمانية والمكانية. فتغير الزمان والمكان، يفرض تغيراً في القوانين لجعلها مناسبة للظرف الخاص بها. وهذا التغير، يلبي احتياجات الإنسان المتطورة دون ان يطرأ أي تغير على الأحكام الثابتة في الإسلام» (19).
اذن يذهب العلامة إلى ان دائرة المتغيرات هي من صلاحيات الوالي «الحاكم» في حين حدد آخرون المجالات المتغيرة من خلال الابعاد التالية :
1 ـ التقدم العلمي والتقني الذي تتغير في نطاقه الأدوات والوسائل.
2 ـ صلاحيات الحكومة.
3 ـ لزوم رعاية الأهم والمهم (20).
ولو انتقلنا إلى مفكر آخر من مفكرينا هو السيد الشهيد الصدر فإنا سنجد انه يفسر كل من الأحكام الثابتة والأحكام المرنة بالنحو التالي :
الأحكام تشتمل على قسمين من العناصر.
أحدهما : العناصر الثابتة وهي الأحكام المنصوصة في الكتاب والسنة.
والآخر : العناصر المرنة والمتحركة وهي تلك العناصر التي تستمد ـ على ضوء طبيعة المرحلة في كل ظرف ـ من المؤشرات الإسلامية العامة التي تدخل في نطاق العناصر الثابتة.
وينتهي أخيراً إلى القول ان هناك «في العناصر الثابتة ما يقوم بدور مؤشرات عامة تعتمد كأسس لتحديد العناصر المرنة والمتحركة التي تتطلبها طبيعة المرحلة» (21).
اذن ما يضيفه الشهيد الصدر ـ في هذا المجال ـ ان الاستنباط والاستكمال يقتضي اندماج العناصر المتحركة مع العناصر الثابتة في تركيب واحد تسوده روح واحدة وأهداف مشتركة (22).
اذن نلاحظ في جسم أفكار الشهيد وآثاره انه هو الآخر قد ربط منطقة الفراغ ـ التي تركها التشريع الإسلامي للدولة ان تملئها ـ بحسب تحليل الشهيد ـ في ضوء الظروف المتطورة ـ بمسألة حل جدلية النص الثابت والواقع المتغير فعندما يتساءل في كتابه ـ اقتصادنا – لماذا وضعت منطقة فراغ يجيب ان الفكرة لمنطقة الفراغ تقوم على أساس : ان الإسلام لا يقدم مبادئه التشريعية للحياة الاقتصادية بوصفها علاجا موقوتاً أو تنظيماً مرحلياً… وإنّما يقدمها باعتبارها الصورة النظرية الصالحة لجميع العصور فكان لابد لإعطاء الصورة هذا العموم والاستيعاب ـ ان ينعكس تطور العصور فيها ضمن عنصر متحرك، يمد الصورة بالقدرة على التكيف وفقاً لظروف مختلفة (23).
وثمة رؤية أخرى للدكتور مصطفى البغا (24) ترى ان الأحكام الثابتة هي التي ثبتت بنصوص شرعية قطعية الدلالة من الكتاب والسنة التي لا تتغير ولا تتبدل لأنها ـ والقول للدكتور ـ شرعت لهذا الإنسان ولحقيقته وذاتيته والإنسان لا يتغير ـ ومن باب المثال يستعرض الدكتور مساحة تحريم الخمر والزنا ونحو ذلك ثم ينتقل إلى الأحكام المتغيرة مشيرا إلى انها «التي قامت على المصلحة أو التي قامت على العرف »
وبعد ذلك ومن باب الاستذكار يصرح ان النص الشرعي أحد أمرين:
نص صريح قطعي الدلالة على مضمونه ـ ثابت لا يتغير ولا يتبدل ونص غير صريح يحتمل التأويل ويحتمل التدقيق ثم يقول : وهذا لا نقول يمكن ان يتغير ولكن يمكن ان نفهمه فهماً جديداً بناء على معطيات الزمان وبناء على المستجدات وهذا من مرونة التشريع الإسلامي… (25). والى مثل هذا القول يذهب الدكتور وهبة الزحيلي (26).
واما الدكتور البوطي فأنه يلخص القول في ان الثابت هو المرتبط بمصالح ثابتة والمتطور ما ارتبط بمصالح متطورة (27).
ونخرج من كل ما تقدم إلى أن :
التقسيم الثنائي للأحكام الشرعية إلى ثابت ومتغير ـ يجعل من الشريعة الإسلامية مرنة ومتحركة مع التطور الزمني والحضاري. والأحكام الثابتة تقوم بدور مؤشرات عامة تعتمد كأسس لتحديد العناصر المرنة والمتحركة التي تتطلبها طبيعة كل مرحلة وزمن.
ويتضح عبر التأكيد على أهمية الأحكام الولائية خطورة وضرورة وجود الحاكم الإسلامي وبالتالي الحكومة الإسلامية والولاية الدينية والسياسية إذا أريد للأحكام ان لا تبقى كلمات في سطور وتأخذ طريقها إلى الممارسة والفعل.
بيدا ان منطقة الفراغ لا ينحصر إملائها ـ بحسب الظاهر ـ بالحاكم الشرعي لوحده أو للأمة وحدها، بل لكل منهما سهم في ملئها بناء على اللادلة التي تذكر صلاحيات الحاكم من إنها دليل على جواز هذا الحق للحاكم والآية المباركة «وأمرهم شورى بينهم» التي خولت الأمة هذا الحق (28).
وعن مقولة ان روح الشريعة الإسلامية متطور ومتغير تستوقفنا استفهامات من قبيل : ماذا يعني تغير روح الشريعة وتطويرها مع تطور الواقع المتحول فهل يعني ذلك ان الشريعة تتغير بمضمونها وطبيعتها أو تتغير شكلها وهيئتها كلما تغير الفهم ونضج. أو ان المرادذ كما يعبر علي شريعتي ـ ضبابية رمزية وذات أبعاد يصلح كل بعد منه لزمن معين.
وعلى أي حال فنستذكر ونؤكد واقعية وحقيقة تحكم الشريعة بسبب وجود الأحكام الثابتة غير المرنة التي نعتمدها كمؤشرات وأسس لتحديد العناصر المرنة والمتحركة التي تتطلبها طبيعة المرحلة.
تلخيص واستنتاج :
1 ـ جسم المقال من أوله والى آخره جاء كمحاولة أو مقاربات في شمولية النظام الإسلامي وجامعيته لأبعاد الحياة المختلفة على توالي التغير الزمني والحضاري فالشمولية وبهذا المعنى تتداخل مع مقولة خلود الشريعة وقد أشرنا إلى ان مكونات الإسلام وروافده بمجموعها تكون لنا صورة عن الإسلام المتصف بالخصائص العامة الأساسية.
2 ـ وعليه انتهينا إلى ان الشريعة تتكون من التقاء الروافد التي تجتمع لإبراز الصورة النهائية عن الإسلام وأشرنا في جسم المقال ان الدراسة الصحيحة لكل خصيصة تقتضي استيعاب ودراسة الخصائص الأخرى من الإسلام لنتوفر على رؤية ربطية تجعل كل خصيصة في مكانها المناسب حيث تسبقها خصيصة وترافقها أخرى وتلحقها خصيصة ثالثة وهذا هو معنى دراسة الإسلام دراسة ربطية تجعل من الإسلام كلاً واحداً متماسك الأعضاء.
3 ـ وثمة اتفاق في الشمولية والجامعية وثمة اختلاف نسبي في تقديم تفسير للشمولية أشرنا إليه نستذكره ونستذكره ونستذكر التفاسير المتنوعة التي اتسم بعضها بالجزئية من قبيل فكرة الرمزية واختصاصها بجزء يسير من النصوص الإسلامية العلمية أو المفاهيمية واستم بعضها بالغموض من قبيل مقولة تطور الشريعة الإسلامية ونموها نمواً متحولاً وأخيراً اتفاق بعض المفكرين على تبني مقولة ان الإسلام يتوفر على أحكام متحركة ومرنه تستمد على ضوء طبيعة المرحلة في كل ظرف من المؤشرات الإسلامية العامة التي تدخل في نطاق العناصر الثابتة.
4 ـ وبعد استذكار منطقة الفراغ وارتباطها بالحاكم الشرعية وغيره ان يملئها بحسب الظروف وطبيعة المرحلة من حوله، نتوفر على رؤية ـ ولو إجمالية ـ عن خطورة الحاكم الإسلامي والحكومة الإسلامية التي ترك لها ملء الفراغات الهائلة والذي ارتبط بها مصير التشريع الإسلامي المتحرك التي يستمد معالمه من الأحكام الثابتة في جسم الشريعة الإسلامية.
وتعني ـ بطبيعة الحال ـ إنكار الحكومة الإسلامية كنظرية وممارسة إهدار للعنصر المتحرك والمرن الذي يجعل من الشرعية الإسلامية شاملة ومستوعبة لكل الظروف والبيئات التي لا تقف عند حدا ومانع، وفي التحليل النهائي فإنها تعني الوقوف دون نمو نصف من التشريع الحيوي في حياة الأمة. وهل تبقى بعد ذلك ثمة إثارات في عدم ضرورة وجود حاكم إسلامي ان على مستوى التنظير أو على مستوى الممارسة.
5 ـ اذن بعد تحليلنا للعناصر التي تكون الشرعية الإسلامية يتضح ان الشريعة الإسلامية يتلاشى في ضوئها ما يسمى بجدلية النص الثابت والواقع المتغير ويتضح ان فاعلية الشريعة على حالها، فثمة فرق بين بقاء الشريعة بنصوصها وألفاظها وبين بقائها على نفس الدرجة من الحركية والديناميكية التي لا تنتهي بانتهاء أمدها وبالتالي تلبي طموح السماء وأغراضها إلى جنب طموح البشرية وآمالهم في الحياة.
6 ـ وما ينبغي استدراكه هو ان أكثر الأقوال لعلها تلتقي في نقطة تربي ان الأحكام المتغيرة تمثل العنصر الحي والحركي من الأحكام الشرعية التي يستمد إطاره من المؤشرات العامة التي نستوحيها من النص الثابت.
ولنختم بالتذكير أخيرا ان قضية شمولية النظام الإسلامي وجامعيته ليست شعارا يرفع أو كلماتاً تُقال من دون دليل عملي ناتج عن الممارسة من حقل التشريع الإسلامي، أو كلام ناشيء من خلال التعاطي والتفاعل التشريعي مع متطلبات العصرنة والتغيير الاجتماعي.
المصادر والمراجع :
1 ـ الإنسان والإسلام د. علي شريعتي ص 6 عن دار سروش للطباعة والنشر.
2 ـ راجع التطور روح الشريعة الإسلامية ـ الأستاذ محمود الشرقاوي ـ المكتبة العصرية.
3 ـ راجع اقتصادنا، الإسلام يقود الحياة، والاجتهاد والحياة.
4 ـ للتعرّف على الفرق بين المذهب الاقتصادي وعلم الاقتصاد راجع اقتصادنا.
5 ـ فقه الفضاء ـ السيد محمد الصدر.
6 ـ مع القرآن في عالمه الرحيب ـ د. عماد الدين خليل ص 163 دار العلم للملايين.
7 ـ سورة النحل : 89.
8 ـ سورة الأنعام : 59.
9 ـ سورة المائدة : 3. 10 ـ تفسير العياشي ج 2 ص 266.
11 ـ تفسير نور الثقلين ج 1 ص 592. 12 ـ الحياة ج 2 ص 132.
13 ـ مدخل إلى فلسفة الفقه ـ مهدي مهريزي ص 64 ـ كتاب قضايا إسلامية معاصرة.
14 ـ الإنسان والإسلام ص 6.
15 ـ ن ـ م.
16 ـ الذاريات 47.
17 ـ الإسلام يتحدى وحيد الدين خان ص 56 ـ دار الجيل المسلم.
18 ـ مدخل إلى فلسفة الفقه ص 52.
19 ـ ن ـ م.
20 ـ الإسلام ومتطلبات التغيير الاجتماعي ص 43 و 45 ـ دار الغدير بيروت.
21 ـ مدخل إلى فلسفة الفقه ص 55.
22 ـ الإسلام يقود الحياة ص 39.
23 ـ ن. م.
24 ـ اقتصادنا ـ الشهيد الصدر ـ مجمع الشهيد الصدر العلمي والثقافي ص 722.
25 ـ الاجتهاد والحياة حوار على الورق ص 59.
26 ـ ن ـ م.
27 ـ ن ـ م.
28 ـ ن ـ م ص 96.
29 ـ فلسفة الفقه ص 87.
30 ـ انظر كتاب التطور روح الشريعة الإسلامية للأستاذ محمود الشرقاوي.
المصدر: المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية قسم المقالات