في ١١ كانون الاول المنصرم، نشر الدكتور هشام داود (الباحث في الانثروبولوجيا السياسية في المركز الوطني الفرنسي للبحوث العلمية)، مقالا يتناول فيه العلاقة بين الحاضرة الدينية الاولى في العراق (النجف) والحراك الاحتجاجي الشبابي وما تحمله من جديد سوسيولوجيا وسياسيا. ولاهمية النجف ومرجعيتها في الحياة السياسية العراقية وفي المنطقة، تعيد شبكة ناس نيوز نشر مقالة الدكتور هشام داود.
كُتبت في الآونة الأخيرة أبحاث ودراسات حول الحركات الاحتجاجية التي هزت العديد من المجتمعات في العالم، إن كانت في هونغ كونغ أو تشيلي أو الجزائر أو الاكوادور مرورا بلبنان ثم العراق. تم تشخيص العديد من الظواهر المشتركة بينها، مثلما نجد العديد من نقاط الاختلاف. الآراء في المنطقة العربية تتراوح بين من يراها امتدادا للربيع العربي (او انها حركة تصحيحية لها)، وبين من يحللها جيو – ستراتيجيا كونها ازمة نفوذ ايراني داخل فضائه الشيعي الاقليمي (العراق ولبنان). ونادرا ما توقف عندها خارج العراق كحركة مجتمعية بملامح محلية، وتجليات سياسية وسوسيولوجية، يحمل بعضها الجديد نظريا.
دون شك، يتقاسم المجتمع العراقي العديد من النقاط المشتركة مع تلك المجتمعات المنتفضة في العالم، كما يتميز عنها ايضا بخصوصيته وأشكال تعبيره، بل حتى بخطابه داخل رقعته الجغراقية الواحدة. اولى هذه الخصوصيات التي تميز حراكها المجتمعي الحالي تكمن في ملامحها الوطنية الجامعة، من شعارات واهداف (حكومة انتقالية مكونة من مستقلين ومستقلات نزيهين، قانون انتخابي منصف، هيئة مستقلة للانتخابات من خارج نظام المحاصصة، انتخابات مبكرة، تفعيل قانون الاحزاب، الخ)، إلا أن ديناميكيتها ما زالت محصورة مكانيا في الوسط والجنوب العراقي (بل حتى في احياء معينة من العاصمة بغداد). هذا التباين يفسره الموروث السياسي الحديث وحدة الصراعات الاجتماعية وتراتبيتها، فضلا عن الحضور الاقليمي والدولي الذي بات مذلا.
انطلاقا من هذه المعاينة الاولية، حاولنا هذه المرة تحليل جزء من الحراك الجماهيري العراقي من البوابة النجفية، عبر المعاينة والاصغاء للفاعلين الميدانيين الشباب. لماذا التوقف عند النجف، تلك الحاضرة الدينية ذات الملامح الخاصة ؟
1- رغم أن النجف تُعرف حتى اليوم بالمدينة “المصدرة للعمائم ومستقبلة للجثث”، الا انها اكتسبت في العقود الماضية خبرة كبيرة في ادراة الاحتجاج والتنظيم المدني، والجدل السياسي والغنى الأممي بفعل طابعها الكوزموبوليتي. وللنجف ايضا تراث للحوار والجدل والانفتاح الفكري رغم الصورة المحافظة المهيمنة عليها. فيها كُتب “تنبيه الامة وتنزيه الملة” للشيح ميرزا النائيني (ببعده المؤسساتي الحداثوي)، مثلما كُتب في ذات النجف، عقود بعد، “الجمهورية الاسلامية” لروح الله الخميني الذي نظّر فيه لنموذج سياسي صارم بانغلاقه على التعديدية السياسية والمجتمعية.
2- رغم الجو الثقافي المحافظ للمدينة، إلا أن نسيجها الاجتماعي متأثر بالحركة المدنيّة الشبابية، فشبكات التواصل الاجتماعي حاضرة ومؤثرة على التحشيد وبلورة الأفكار، وبالتالي فاعلة في توجيه الساحة مطلبيا (شيء مما يذهب اليه المفكر ايمانوئيل كاستل في كتاباته عن الشبكات الاجتماعية ودورها في اعادة صياغة المجتمع).
3- النسيج الاجتماعي المديني النجفي غير عشائري، لكنه ذو عصبية مناطقية واضحة، وحضور كبير لعدد من المهاجرين الجدد فيها بكل ما يحملونه من عادات اجتماعية مختلفة ووعي سياسي متمايز. رغم ذلك، بقي جوهر الخطاب الاحتجاجي النجفي نقديا، ولكن بسقف سياسي واقعي وعقلاني تتحكم فيه مصالح وتوازنات الشرائح الاجتماعية المختلفة مع حضور قوي للبيوتات المحلية الكبيرة (البيوتات انثروبولوجيا هي العوائل الممتدة، بذاكرة عميقة، لها من يمثلها في المجتمع المحلي، ويكون لبعضها دور اقتصادي او اجتماعي او حتى سياسي. وبالتالي، نحن نرى فيها اللبنة الأولية للفعل السياسي. وهذا ما يفسر استمراريتة هيكليتها النشطة داخل المجتمع). في المقابل، نرى هيمنة البيوتات الدينية الكبيرة وتلك البنى الجامعة بين التعبير الطقوسي ونشاط السوق، ليخرج من هذا التداخل نمط من النشاط الاقتصادي الذي يشترط ثنائية تلازم الديني بالسياسي، على حد تعبير الانثروبولوجي الفرنسي موريس غودولييه. نحن هنا امام نمط مجتمعي فيه تفلت عملية تراكم رأس المال من دورة الإنتاج الطبيعية لتنتج في التالي فائض القيمة، بل يتحقق تراكم ثروتها عبر توظيف المقدس مركنتليليا ضمن آلية ضبط سياسي وأمني مقنن، مع اعطاء الاسبقية للعلاقة بين السياسي والديني كشرط لانتاج الفائض الاقتصادي الخاص بها.
4- فهم شباب النجف مبكرا (ربما على خلاف آبائهم)، أنه من العبث التصارع مع خصومهم المحافظين على ما هو في السماء، بقدر التركيز على فشل إدارتهم لما هو على الارض، وبالتالي فانهم لم ينجروا حتى الآن الى الاستفزاز، ولم يقعوا في الفخ الذي نصبه لهم خصومهم. فما حصل من حوادث مؤسفة، وعمليات قتل حوالي مرقد السيد محمد باقر الحكيم لم يغير الكثير من المشهد. ربما اهم ما ادركه شباب ما بعد ٢٠٠٣ بتجربتهم الفردية والجمعية أن التوظيف السياسي للاحزاب في الطائفة كان هدفه الاول والاساسي سلبهم حقوق المواطنة والمدنية قبل الانتصار للمذهب. من هنا، أولى حروب الحركة الاحتجاجية الشبابية، مع الفئات المتنفذة، كانت وما زالت حول انتزاع واسترجاع الرموز والهوية الوطنية. بطبيعة الحال، وكبقية العينات البشرية، المجتمع الديني النجفي هو الآخر مقسم، وبالتالي نظرة العامة له ايضا متباينة : بين المتفهم لدور بعض بيوتاته الروحية والعلمية عن تلك التي وظفت السلطة الروحية لاهداف سياسية واقتصادية ومنافع خاصة. لذلك، لا تجد الشبيبة النجفية اليوم تناقضا بين التعبير الديني والمذهبي الفردي ومنهج العديد من الشخصيات الدينية الاساسية في النجف (كآية الله السيستاني)، شرط عرقنة الخطاب اولا واشفاعه بمحتوى مدني ووطني.
5- إحدى أهم النقاط التي تميز النجف عن بقية المحافظات المنتفضة، كونها حافظت على سلمية حركتها الاحتجاجية رغم شدة القمع السلطوي، ووقفت بوجه من حاول ركوب موجة التظاهر، واستخدامها في معارك مشكوك بصدقيتها. هذه النقطة كانت احيانا مصدر جدل وحتى تشكيك من ان المدينة وحوزتها غير متجاوبتين مع المطالب الشبابية التحررية العادلة. في الحقيقة، وقفت النجف مع كافة الحركات المجتمعية والمطلبية شرط تجاوبها مع المؤسساتية واحترام القانون ونبذ العنف، إدراكا منها أن الحروب الاهلية لا تؤدي إلا الى توسيع المقابر الموجودة، سيما مقبرة وادي السلام.
6- ربما للنجف خصوصية أخرى تميزها عن المدن المنتفضة العراقية : ليس فقط تقاسمها النضال من اجل العدالة الاجتماعية، والبحث عن وطن جامع بسردية جديدة، ومواجهة الفساد والزبانية، الخ، بل نلمس أكثر فأكثر لدى شبابها الرغبة بالانفلات من الكبت والاجواء المحافظة الضاغطة. كنا نلمس تصادم رغبات الشباب ليس فقط سياسيا، بل بشان ابسط مظاهر حياتهم اليومية : بين حق البعض المطالبة بحياة عصرية منفتحة على العالم، حياة لا تحرم الموسيقى مثلا، وتشعر بجمالية الالوان، وتكفر المسرح، ولا تلاحق المحتفلين بما هو مفرح من اعياد ومناسبات محلية وبشرية عامة، الخ. مقابل هذا الحق والرغبة الطبيعية للانسان، كنا نجد (حتى عشية الحركات الاجتجاجية الاخيرة) شريحة شبابية نجفية أخرى، متذمرة ايضا من المنظومة السياسية المشوهة، ولكنها تعبر عن وعيها السياسي والمجتمعي برداء ثقافي محلي محافظ، يتحاشى المواجهة المفتوحة خشية التجاوز، حسب تقديرها، على المكان وقدسيته (النجف). الجديد بعد الحركة الاحتجاجية لتشرين الماضي، ان الشباب النجفي بشقيه (الحداثوي والمحافظ) شعروا ان التوازن بين احترام السماء وقدسية المكان وحاجات المجتمع المعاصر الطبيعية، بحسب الوصفة النجفية المتوارثة، قد تم خرقه ليس فقط من قبل الحركات السياسية والبيوتات الدينية التي غالت باستخدام المقدس لمصالحها الانانية، لتنتهي بعملية مصادرة سافرة لكامل التعددية الثقافية والاجتماعية للحاضرة.
7- لا يمكن تصور النجف اليوم من دون ذلك الثالثوت الحاسم : فيه مرقد الامام علي ابن ابي طالب الذي يضفي على المكان قدسيته الدائمة وينتج هوية ذات بعدين : محلي نجفي عراقي من جهة، وهوية عابرة للمكان من جهة اخرى (المدرسة النجفية تصهر كل قاصد لها، لتعيد انتاجه ليصبح جزءا منها مهما كانت هويته الأولى، وبذلك اصبحا الخوئي والسيستاني نجفيان وحاميان لارثها). هناك ايضا الحوزة النجفية التي تستوعب الآلاف من طلاب العلوم الدينية ضمن شبكة مؤثرة جدا في العديد من المجتمعات المحلية. واخيرا هناك السيستاني تحديدا الذي لا نرى له رديف اليوم من حيث الاهمية والتأثير، ليس فقط في واقع المجتمع العراقي بل والعالم الشيعي. لقد ذهب السيستاني في تفهمه ودعمه للتظاهرات السلمية العراقية حدودا لم يجرؤ أي مرجع نجفي آخر الذهاب اليه. فهو يجمع بين منهجية ابن خلدون وتفكيكه لماهية السلطة من جهة، وانحداره الفلسفي من المشروطة المحدّثة للمجتمع ومؤسساته في سياق عمران يبنى بشكل واعي وبقوانين عصرية ووضعية يتصدر فيه قرار الشعب موقعه السيادي (وهذا ما اكد عليه السيستاني مرارا). تبني هذا المنهج الحداثي لا يتم دون ثمن، إذ تعرض، ويتعرض السيستاني لضغوطات، ليست فقط من قبل احزاب ومليشيات وجماعات ما دون الدولة فحسب، كذلك من لدن العديد من الدوائر السياسية والامنية المؤثرة في طهران، بل حتى من بعض رجال الدين داخل الحوزة النجفية ذاتها. وليس غريبا ان نواجه، كباحثين، مشاكل مع دعاة السيستانية أكثر من تبعات خلاف او تفسير متباين مع السيستاني ذاته.
8- المثير أكثر في المجتمع النجفي اليوم هو الموقف المؤيد للطبقة الوسطى وأبنائها المشتركين في الحركات الاحتجاجات، وهذا ما نراه في قيادة طلبة كلية الطب والهندسة والصيدلة للتظاهرات النجفية أكثر من طلبة العلوم الانسانية. هذا لا يلغي السببية الطبقية لهذه الحركة المجتمعية ذات البعد الديمقراطي (الدفاع عن العدالة الاجتماعية، والقانون، والمؤسساتية كونه اساس العمران، الخ). إن ما يحصل في العراق اليوم هي حركة مجتمعية تغييرية ذات طبيعة ديمقراطية، حتى اليوم غير انتقامية، تحاول أن تضع حقوق الإنسان والجماعات في صلب توجهات الدولة القادمة. إنها حركة تعمل من أجل عقد اجتماعي جديد وبناء امة جديدة حسب قيم ورموز ومخيال جديد متقاسم دون تهديم الموروث المؤسساتي القائم (مهما كانت هشاشته).
لذا، فان حركة تشرين الاحتجاجية في العراق هي ربما الأهم من بين كافة الحركات الاجتماعية التي شهدتها البلاد منذ قرابة القرن، وفيها مما يستحق البحث والتفكيك، وهي بالتالي أكبر مختبر للدراسة والتعلم بسماء مفتوح.
نقلا عن صحيفة “العالم الجديد”، نشر لأول مرة في ١١ كانون الاول ٢٠١٩