الاجتهاد: نتناول في هذا البحث الأسلوب الاجتهادي للفقيه المتبحِّر والعالم العظيم البروجردي رحمة الله عليه، والذي يعدّ من مفاخر حوزة الاجتهاد الشيعية، وذلك حسب ما جاء على لسان تلامذته الذين لمع نجمهم على يديه. نتقدَّم بالشكر الجزيل من المرجع الديني الشيخ لطف الله صافي الكلبايكاني ؛ الذي تجشَّم عناء المشاركة في هذا البحث.
السؤال الأول هو: يقال: إنّ البروجردي يعتبر دليل الانسداد قد وُجِدَ من الناحية التاريخية دليلاً على حجّية خبر الواحد. وهذا خلاف الذين يعتبرون أنّ الدليل على الحجّية مطلق الظنّ. فالرجاء بيان الأمر حول هذا الموضوع.
آية الله صافي الكلبايكاني: أحد أساليب الأستاذ الأعظم البروجردي رحمة الله عليه التحقيقيّة أنّه كان يقوم بتحقيق البحوث العلمية جذرياً، ويبحث في تطوّر أيّ مسألة وإنْ كان قد تمّ خلال عدّة قرون. في دليل الانسداد استعمل كذلك نفس الأسلوب من البحث، وفي النتيجة توصّل إلى الدليل الذي أثبت به في آخر الأمر حجّية خبر الواحد. إلى هنا نلاحظ أنّه قد عدل عن الأصل الذي أقيم لحجية مطلق الظنّ.
لذلك في مجلس درسه، الذي تشرّفت بتدوين تقريراته، نرى أنّه قد عنون دليل الانسداد بفصلين: الأول: بيَّن فيه البحث على مسلك المتأخرين عن زمن الخوانساري، وعلى الخصوص الشيخ الأنصاري والمحقّق الخراساني. وقد استوفاه ضمن خمس مقدّمات، ومن ثم تعرّض إلى أجوبتهم؛ الثاني: تعرض فيه إلى مسلك المحقّقين الذين تناولوا هذا الدليل قبل المحقّق الخوانساري.
ومن خلال كلماته بيَّن المقدمات التي لم يقوموا بذكرها، وفي النهاية أثبت حجّية خبر الواحد، لا حجية مطلق الظن. وممّا بيَّنه في هذا الدليل التقرير التالي: بمقتضى آية النفر وأمثالها من الآيات الأخرى ـ كآية الكتمان ـ، وبحسب أخبار تعليم وتعلم الأحكام الكثيرة والاستفتاءات والقضاء والواجب، وحيث إنه لا يوجد مَنْ هو مطلق العنان في أمور الدنيا والآخرة، ولأنّ الشارع المقدَّس لا يرضى أيضاً بزوال ثمرات كل تلك الأحكام التي في الكتاب والسنّة، والتي قد تمّ ذكرها في أبواب كثيرة، لذا فإنّ المقصود من هذه الأحكام هي التي تتدخّل في جميع أمور الناس المعاشية والمعادية، وهي أيضاً ملاكٌ وميزان من أجل رفع الخلافات وفضّ الخصومات وحفظ الأنظمة وغيرها من الأمور الأخرى.
فمن أجل أن لا يُنْقَض غرضها التي أنزلت من أجله، وأن لا يكون تنزيل الكتاب وإرسال الرسل دون أدنى فائدة، ولكي تبقى هذه الثمرات محفوظة، وتصل إلى البشرية على مرّ العصور والقرون، ويكون تعلّمها وتعليمها واجب، ويعدّ كتمانها من المحرَّمات، فإذا كان باب العلم بهذه الأحكام مسدوداً، والطرق اليقينية إليه كذلك، أو يجب أن نقول: إنه لا يجوز الاكتفاء بالأحكام المعلومة والمسلَّم بها، والتي دلَّت بصريح الآيات والروايات على ديمومة وبقاء الدين الإسلامي إلى يوم القيامة،
لذا فإنّ الاكتفاء بهذا المقدار القليل، إذا لم نقُلْ: إنه منتهٍ بزوال جميع الثمرات المستفادة من الأحكام، فقطعاً إنّ أغلبها سوف يزول مع مرور الزمان، أو نقول: إن هذه الأحكام يجب أن تحرز من الطرق الظنّية المتعارف عليها ـ وليس من الطرق غير الظنية كالقياس ـ؛ لدوران الأمر بين الأخذ بالطريق الظنّي المتعارف ومتابعة الظنّ أو متابعة الوهم، ولا شكّ في كون العقل قاطعاً بحجّية الظنّ الحاصل من الطريق المتعارف، وإمضاء الشارع هذه الطريقة.
ولا يخفى عليك أن تَعَلُّم الأحكام وتعليمها بالطريق المعروف، والقول والإفتاء به، ليس قولاً بغير علم، فهو العلم المأثور الذي أُطلق عليه العلم في الكتاب والسنّة، كقوله تعالى: ﴿أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ﴾. ومع هذا البيان لا حاجة إلى المقدّمة الأولى والثالثة والرابعة والخامسة، ويثبت به حجّية الخبر والظنّ الحاصل منه؛ لأنه هو الطريق المتعارف عليه في عصر النبيّ والأئمةعليهم السلام إلى زماننا هذا.
ولا يشمل الدليل إلاّ الطريق المتعارف، فلا حاجة في إخراج مثل القياس عن شموله له إلى الاستدلال؛ لأنّه ليس من تلك الطرق. وبالجملة فإنّ بين هذا البيان وبيان المحقّقين العظام الذين عنونوا دليل الانسداد بعد المحقِّق الخوانساري اختلافاتٌ كثيرة، قد أوردتُها في تقريرات بحث الأستاذ الأعظم.
_ البروجردي كان محيطاً بأقوال أئمّة العامة، وآراء الصحابة؛ وذلك لاعتقاده أنّه في حالة عدم أخذ العلم من بيئة صدور الرواية فإنّ البحث والفهم الكامل لها لا يكون ميسَّراً، ولا يستفاد إلاّ من المعنى الظاهري لألفاظها. فهل كان هذا الأسلوب من ابتكاراته؟ وما مدى تأثير الإحاطة بفقه العامّة ومعرفة بيئة صدور الرواية في الاجتهاد؟
آية الله صافي الكلبايكاني: من دون شك إنّ الاطّلاع على الفتاوى وأقوال الصحابة والتابعين من علماء العامّة له تأثيرٌ كبير في الفهم والاستفادة الصحيحين من المجموعات الروائية، وكذلك على ما لعلمائهم من وجهات نظر حول هذه الأقوال، وكذلك في فهم جهة صدور تلك الروايات المؤثِّرة.
وعليه في كلّ مكان، وفي كلّ رواية من المحتمل أنّها لا تتضمّن أقوال أهل البيت عليهم السلام ، أو جهة صدورها غير معروفة، يصبح من الضروري الاطلاع على هذه الفتاوى والأقوال. وهذا هو العلم الذي كان قدماء الفقهاء متبحِّرين فيه، وكانوا يولونه أهمّية كبيرة.
وإثر هذا قام الشيخ الطوسي& بتأليف كتابٍ ليس له نظير في هذا المجال، أسماه الخلاف، وكان للعلاّمة الحلّي كتاب باسم تذكرة الفقهاء. وفي هذا العصر المتأخِّر لم يعُدْ هذا العلم متداولاً في المحافل العلمية وجلسات الدرس والبحث، أو قلما يتطرق إلى بحثه، وأصبح متروكاً تقريباً.
نفس كتاب الخلاف هذا لم يكن في متناول اليد، وكان متروكاً غير متداول. والبروجردي هو مَنْ أمر بطباعته ونشره، وقد شُرِعَ بتداوله من جديد. كان& محيطاً إحاطة عجيبة بأقوال الصحابة وعلماء الإسلام من كلّ الفِرَق. وقد اتّضحت أهمية هذا العلم، وحاجة الفقهاء إليه، بحيث إن كتاب الخلاف بعد الطبعة الأولى والثانية، التي طُبعت بأمر منه، أُعيدت طباعته عدّة مرات. الثمرة الأخرى التي تجنى من دراسة هذا العلم هي أنّه بمقارنة فقه أهل البيت عليهم السلام مع فقه الآخرين يتبيَّن قوّة فقه أهل البيت عليهم السلام ، واستقامته، وابتناؤه على الكتاب والسنّة.
_ مع ما كان يملكه من تسلُّط على الأصول، وما كان له من ابتكارات في ذلك المجال أيضاً، إلاّ أنّه كان قليلاً ما يتمسّك بالأصول في مقام الاستنباط. فهل نرى ذلك الأسلوب موجوداً عند بعض طلابه؟ وما السبب في ذلك؟
آية الله صافي الكلبايكاني: كما هو معلوم، كان& قليلاً جدّاً ما يتمسّك بالأصول العملية. والسبب في الاستغناء عنها راجعٌ إلى تخصُّصه الكامل في فهم الروايات، ودقّته المتناهية في التعامل معها، وما كان له من ذوق حسن في رفع التعارض بين الأخبار المتعارضة. وفي نفس الوقت كان يؤكِّد على دراسة علم الأصول، واحتياج الفقيه إليه، والدليل على ذلك الحاشية المفصَّلة والدقيقة والعميقة التي كتبها على كفاية أستاذه.
_ هل بالإمكان القول: إن النمط الذي اتّخذه البروجردي في الاجتهاد ـ كالهيمنة على الفقه، والتعامل مع الأصول بصورةٍ أقلّ ـ أنتج لديه وثوقاً أكثر في تحصيل حكم الشارع؟
آية الله صافي الكلبايكاني: إنّ النمط الذي اتّخذه في الفقه والاستنباط، والدخول والخروج من المسائل، كان محلّ اطمئنان حتماً. فالإحاطة بإسناد الروايات، والرجال، والطبقات، والإحاطة بأقوال العامّة والخاصّة، وعلى الخصوص القدماء منهم، والدقّة في مضامين الروايات، وحتّى في تعدادها، كما في الباب الذي في الوسائل، ويشتمل على عشرين حديثاً، وقد أرجعه إلى عدّة أحاديث، فمن الملاحظ أنّ النمط الذي قد اتّخذه كان ممتازاً.
فقد أصبح كتابٌ مثل مفتاح الكرامة، الذي قلّما كان يُرْجَعُ إليه؛ بفضل النمط الذي اتّخذه في التدريس، والعناية في بحث وتحقيق أقوال الفقهاء الشيعة، وعلى الخصوص القدماء منهم، أصبح ذلك الكتاب متداولاً بين المدرِّسين، وفي الحوزة العلمية، ومادّة للمراجعة.
_ ما هي الفوائد المترتِّبة على التصنيف الذي قام به في فهم الروايات، وتشخيصه للصحيح والسقيم منها؟ وهل هناك من فقهاء الشيعة مَنْ قام بتصنيف الرجال بنفس الأسلوب الذي اتَّبعه؟ وهل أنّه قد اقتبس هذا الأسلوب من العامة أم هو من ابتكاراته؟
آية الله صافي الكلبايكاني: من الواضح أنّ علم طبقات الرجال والرواة له دخلٌ في تعيين صحّة وسقم الأحاديث. أحياناً نرى حديثاً معنعناً أو متّصل الإسناد بسندٍ ظاهر، ولكنْ عن طريق علم الطبقات يتّضح عدم اتّصال بعض إسناده، فيصبح مكانه خانة الأحاديث المرسلة. بالإضافة إلى ذلك كلّ الأحاديث موصولة الإسناد مع أنّها معنعنة في الظاهر لكنّ هذا لا ينفي احتمال سقوط وحذف بعض أسانيدها، ومن ثم إرسالها.
ومن خلال علم الطبقات يتّضح عدم إرسالها، وليس هناك من حاجة إلى إعمال الأصول الظنّية، مثل: أصل عدم الخطأ والاشتباه؛ وأصل عدم الحذف.
وأما هل يوجد من فقهاء الشيعة من صنَّف الرجال بهذا الأسلوب قبل ذلك الرجل العظيم؟ فليس لي أيّ علم بذلك. كما أن وجود مثل هذا الأسلوب في الجملة في فقه العامّة ليس بدليلٍ على أنه قد اقتبسه منهم؛ وذلك أنّ هذا الفكر يعدّ ابتكاراً، ويأتي تلقائياً للشخص المتتبِّع للروايات والأسانيد، كالسيد البروجردي.
المصدر : نصوص معاصرة
ترجمة: كاظم خلف العزاوي