الاجتهاد: عندما نقرأ التاريخ نجد أمراً يثير عند الكثيرين تساؤلاً، وهو: إن التاريخ لم يحدثنا عن أخذ النبي(ص) لخمس أرباح المكاسب من أحد، كما أن الأئمة المعصومين(ع) الذين جاءوا من بعده، كأمير المؤمنين(ع) والحسنين(ع)، والإمام زين العابدين(ع)، لم يأخذوا الخمس في أرباح المكاسب من أحد من المسلمين، وهذا يجعلنا نتساءل عن كيفية تشريع هذا الحق وثبوته، بل ربما قام البعض بالتشكيك في وجوب الخمس في هذا الشيء بسبب ما قلناه.
لقد تضمنت الشريعة الإسلامية موارد مالية أشير لها في مطاوي الفقه الإسلامي، وتعرض لها الفقهاء ضمن كتبهم الفقهية، ولا بأس بإشارة إجمالية لتلك الموارد المالية، والإحاطة بها، وسوف نقصر البحث على الإشارة لبعض منها:
الأول: الزكاة:
وهي ضريـبة مالية تجب في سبعة أشياء:
1-الأنعام، وهي: الإبل، والبقر والغنم.
2-النقدين، وهما: الذهب، والفضة.
3-الغلات، وهي: الحنطة والشعير والتمر والزبـيب.
الثاني: زكاة الفطرة:
وتسمى بزكاة الأبدان، وهي: التي تجب على كل مسلم في عيد الفطر، ومقدارها محدد في الكتب الفقهية.
الثالث: المظالم:
وهو ما يتعلق بذمة الإنسان بتعدٍ أو تفريط أو إتلاف في مال الغير إذا لم يعرف صاحبها، فيحوزها الحاكم الشرعي ويصرفها في المصارف المقرر لها.
الرابع: الصدقات:
وهي تلك الأموال التي يدفعها الإنسان تقرباً منه إلى الله سبحانه وتعالى، وراجياً منه المثوبة وحسن الجزاء على عمله هذا، وهي لا تقدر بمقدار محدد، ولا تجب في فترة زمنية محددة، بل هي من المستحبات المؤكدة، ولها أوقات يتأكد الاستحباب فيها بشكل أكثر.
الخامس: الخُمس:
وهو من الفرائض المهمة التي افترضها الله سبحانه وتعالى على عباده فريضة الخمس، وهي أحد الفرائض التي بني عليها الإسلام، لما لها من دور مهم في حركة تداول المال وتحقيق التكافل الاجتماعي وتنميته.
مصطلح الخمس:
ومصطلح (الخمس) مأخوذ من النسبة العددية(1/5)، وهو اسم للمقدار الذي يؤخذ من كل مال تعلق به هذا الواجب، فمن ملك عشرة أثواب يؤخذ منها ثوبان، ومن ملك ألف ريال يؤخذ منها مائتان، وهكذا الحال في جميع أصناف وأنواع الأموال.
شرطية القربة في الخمس:
هذا ولما كان الخمس عبادة من العبادات، اعتبر فيه كبقية العبادات الأخرى نية التقرب إلى الله سبحانه وتعالى ليتحقق بذلك براءة الذمة والفراغ من التكليف عند دفعه.
حكم منكر الخمس:
لا شك في أن وجوب الخمس كوجوب أي أمر من التكاليف الإلهية كالصلاة مثلاً، وهو من الضروريات التي يحكم بكفر منكر وجوبه، لأنه قد يرجع إنكاره إلى إنكار الرسالة المحمدية.
وجوب الخمس:
هذا وقد دلّ القرآن الكريم والنصوص الواردة عن طريق المعصومين(ع) على وجوب الخمس.
فمن القرآن الكريم، قوله تعالى:- ( واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل فريضة من الله إن كنتم ءامنـتم بالله)[o1]
حيث دلت على تشريع فريضة الخمس في الغنائم، وأنه يقسم إلى ستة أسمهم. وهذا مما يتفق عليه الفريقان من المسلمين شيعة وسنة.
نعم وقع الخلاف بين الفريقين في ما هو المراد من (الغنائم) في الآية الشريفة، هل هو خصوص الغنائم الحربية، كما أختار ذلك أبناء العامة، أو هو مطلق الفوائد، كما عليه جمهور الشيعة الإمامية؟…
عندما نراجع كلمات أهل اللغة، نجد أنهم يقررون أن كلمة الغنيمة تعني مطلق الفائدة، وهذا يعني صحة مقالة الشيعة الإمامية.
كما أننا عندما نتـتبع موارد استعمالات هذه الكلمة، نجد أنها تفيد معنى مطلق الفائدة، ولا تختص بخصوص الغنيمة الحربية.
هذا كله مع ما هو الوارد عندنا من عدل القرآن الكريم، أعني الثقل الثاني وهم الأئمة المعصومين(ع)، حيث ورد عنهم(ع) تفسير الغنيمة في الآية الشريفة، بمطلق الفائدة.
وأما الدعوى التي تمسك بها الخصم، وهي أن سياق الآية الشريفة يستلزم اختصاص الغنيمة فيها بخصوص الغنيمة الحربية، لأن الآية المباركة قد وقعت في سياق الآيات التي تـتحدث عن غزوة بدر، فتكون مختصة بغنيمة الحرب.
فيمكن دفعها بسهولة، ذلك أن القرآن الكريم، وإن كان الجامع له بهذه الكيفية هو النبي(ص) قبل أن يرحل عن الدنيا، وأنه(ص) هو الذي نظمه بهذه الكيفية بأمر من الله سبحانه وتعالى، لكننا لا نحرز أن هذه الآية قد نزلت في سياق هذه الآيات المباركة، ولا علم لنا بذلك.
على أنه لو سلمنا بأنها وقعت في سياق هذه الآيات، فإن السياق يكون قرينة تمنع من العموم وتثبت الاختصاص في الموارد التي لا يكون هناك ما يدل على العموم، وقد عرفت مما تقدم وجود ما يدل على العموم، فلا مجال لقبول السياق.
ويترتب على ما ذكرنا ثبوت الخمس في مطلق الفائدة، وهو الذي يعبر عنه بفاضل المؤونة، أو ما يفضل من أرباح المكاسب.
وبناءاً على هذا لن نحتاج دليلاً آخر إلى إثبات وجوب الخمس، بل ستكفينا الآية الشريفة مؤونة ذلك.
سؤال وجواب:
عندما نقرأ التاريخ نجد أمراً يثير عند الكثيرين تساؤلاً، وهو:
إن التاريخ لم يحدثنا عن أخذ النبي(ص) لخمس أرباح المكاسب من أحد، كما أن الأئمة المعصومين(ع) الذين جاءوا من بعده، كأمير المؤمنين(ع) والحسنين(ع)، والإمام زين العابدين(ع)، لم يأخذوا الخمس في أرباح المكاسب من أحد من المسلمين، وهذا يجعلنا نتساءل عن كيفية تشريع هذا الحق وثبوته، بل ربما قام البعض بالتشكيك في وجوب الخمس في هذا الشيء بسبب ما قلناه.
لكننا نجيب عن هذا التساؤل بعدة أجوبة:
الأول: تدريجية تبليغ الأحكام عن عصر التشريع، فإن الأحكام الشرعية وإن كانت كلها مشرعة من قبل الله سبحانه وتعالى، لكنه لم يتحقق تبليغهها كلها إلى الأمة، بل هناك تدرج في تبليغها للأمة بحسب ما تقتضيه المصالح الموجود لإبراز كل حكم من الأحكام، ولهذا لا زالت هناك أحكام محفوظة عند الإمام صاحب الزمان(عج) بعدُ لم تبلغ إلى الأمة.
ووجوب الخمس في أرباح المكاسب من قبيل هذه الأمور حيث أنه ربما كان الوضع المالي والاقتصادي للأمة الإسلامية في تلك الفترة لا يساعد على تبليغ هذا الحكم، لكون أكثر المسلمين المهاجرين للمدينة المنورة، وكذا الأنصار يعيشون حالة من الفقر.
الثاني: إن الخمس ملك للنبي(ص) ولأقربائه من بني هاشم، فهو يشبه الملك الشخصي، فأعرض النبي(ص) عن أخذه، لمصلحة أرتاها مثل كونه عملاً قد يوجب له التهمة، ويتنافى ومكانته وقدسيته عند المسلمين.
الثالث: لقد تظافرت الروايات على أن الرسول الأكرم(ص) كان يطلب في رسائله إلى قبائل مسلمة نائية عن المدينة دفع الخمس، ونكتفي بذكر واحدة منها، وهي:
لما قدم وفد عبد القيس على رسول الله(ص) وقالوا: إن بيننا وبينك المشركين، وأنّا لا نصل إليك إلا في أشهر الحرم، فمرنا بجمل من الأمر، إن عملنا به دخلنا الجنة وندعوا إليها من وراءنا. فقال(ص): آمركم بأربع وأنهاكم عن أربع: آمركم بالإيمان بالله وهل تدرون ما الإيمان بالله؟ شهادة أن لا إله إلا الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وتعطوا الخمس من المغنم[o2] .
ومن الواضح أن النبي(ص) لا يطلب من بني عبد القيس أن يدفعوا إليه غتائم الحرب، لأنهم لا يستطيعون الخروج من حيهم في غير الأشهر الحرم خوفاً من المشركين.
وعلى هذا يكون المراد من المغنم هو معناه الحقيقي وهو ما يفوز به الإنسان ويحصل عليه من ربح وفائدة، فتدل على المطلوب.
الهوامش
[o1]سورة الأنفال الآية رقم 41.
[o2]صحيح البخاري ج 9 ص 160، باب والله خلقكم وما تعملون من كتاب التوحيد، وغير ذلك الموارد، سنن النسائي ج 2 ص 333، مسند أحمد ج 3 ص 318.