الاجتهاد: إن للفقهِ الشيعي ملامح عامة يتميز بها عن سائر المناهج الفقهية، و إليك بيانها: 1- الفقه الشيعي هو حصيلة النصوص الشرعية الواردة في الكتاب والسنة وذلك، لأن الأحاديث الفقهية عند أهل السنة لا تتجاوز عن 500 حدیث يدعمها مراسيل وموقوفات، قال السيد محمد رشيد رضا مؤلف المنار: إن أحاديث أحكام الأصول خمسمائة حديث فعدها أربعة آلاف فيما أذكر(1)، وما يذكره من أربعة آلاف إنما هي موقوفات ومراسيل لا يحتج بها.
وعلى كل تقدير صار ذلك سبباً للجوئهم في استنباط الأحكام إلى غير النصوص، كالقياس والاستحسان وسد الذرائع، وأما الشيعة فبما أنهم أناخوا مطيتهم على باب العترة الطاهرة فتسنّى لهم الوقوف على حجم هائل من الأحاديث النبوية أكثر من غيرهم حتى صار ذلك سبباً لثراء الفقه الشيعي، من غير حاجة إلى العمل بغير النصوص.
۲- قد عرفت أن باب الاجتهاد مفتوح عندهم منذ رحيل النبي “صلى الله عليه وآله وسلم” إلى يومنا هذا ولم يتوقف يوما ما فأدّى إلى نضارة الفقه وتبلوره و إعداده للإجابة على المستجدات الطارئة.
ولا شك أن الحقيقة بنت البحث، والعلم يتكامل إذا دخل حلبة الصراع الفكري، وفقهاء الشيعة بذلوا جهوداً مضنية على هذا الصعبد بغية تنمية الفقه وتكامله فصار فقههم متكامل الجوانب.
٣- إن الاجتهاد عند فقهاء الشيعة ليس اجتهاداً في مذهب خاص وإنّما هو اجتهاد حر موضوعي لا يختص بمذهب دون آخر.
فالمجتهد الحنفي إنّما يجتهد للبحث عن رأي إمامه في المسألة، وهكذا المجتهد الشافعي ولا يخرج عن إطار المذهب وإن تبين أن الحق على خلافه.
وأما الاجتهاد في المذهب الشيعي فليس اجتهاد في مذهب الإمام جعفر الصادق أو غيره من أئمة الشيعة، إذ ليست الأئمة عندهم مجتهدين أو مفتين وإنما هم رواة سنن النّبي “صلى الله عليه وآله وسلم” وعيبة علمه غير مشوب بالخطأ، فالمجتهد الشيعي إنما هو بصدد استنباط الحكم الواقعي الذي نزل به الوحي وبيّنه النبي.
4- المذهب الفقهي يتمتع بالدقة في السنة والدلالة، فربّ رواية يراها الإنسان العادي دليلاً على الحكم الشرعي، ولكنهم بإمعان الدقة، يرونها غير دالة عليه، يعلم ذلك بالرجوع إلى كتبهم الفقهية.
5- الشيعة تستمد اجتهادها من القواعد العامة المسماة بأصول الفقه، وقد تكامل هذا العلم منذ عصر الأئمة إلى يومنا هذا على وجه أوجد فجوة سحيقة بين ما ألّفه علماء السنة في الأصول کالمختصر لابن الحاجب، والمستصفى للغزالي، وما ألفه علماء الشيعة في أصول الفقه في القرنين الأخيرين، وما ذلك إلا نتيجة التعمق في الفواعد الأصولية من خلال فتح باب الاجتهاد.
وحصيلة القول
إن الفقه الشيعي كالفقه السني يسيران جنبا إلى جنب في استنباط الحكم الشرعي مع اختلاف يسير في الطرق والمشارب.
فالأدلة الفقهية عند الشيعة هي الأربعة السالفة الذكر ، وعند السنّة إضافة إلى الكتاب والسنة والإجماع، القياس والاستحسان وسدّ الذرائع.
فنجد أن الفقه الشيعي يتفق في غالب المسائل الفقهية مع أحد المذاهب الأربعة نتيجة اتّفافهم في أصول الاستنباط، وأمامك كتاب الخلاف للشيخ الطوسي (۳۸۵ – 460 هـ) فهو خير شاهد على ما ندّعيه، فإنه فقه مقارن يبحث عن الحكم الشرعي على ضوء المذاهب الخمسة.
نعم ثمة مسائل خلافية انفردت الشيعة بها ونشير إلى بعضها:
1- إن الشيعي يمسح الرجلين في الوضوء والسنّي يغسلها.
۲- إن الشيعي يصلي بلا قبض اليسرى باليمني والسنّي يصلي مع القبض إلا المالكي.
٣- الشيعي بطلق ضريبة الخمس إلى أرباح المكاسب والسنّي يخصصها بالغنائم الحربية.
4 – الشيعي جوّز الوصية للوارث دون السنّي دون السنّي.
5 – السنّي يقول بالعول والتعصيب في الارث دون الشيعي.
وهذا المقدار الضئيل من الاختلافات ليس بشيء أمام الفقه الإسلامي الواسع والذي هو محیط لا يدرك ساحله ولا يضر بالوحدة المنشودة ولا يقطع عرى الأُخوة.
ولو أقيم مؤتمر فقهي حول هذه المسائل التي تفردت بها الشيعة لتجلت الحقيقة بأجلى مظاهرها، وتقاربت الخطى وأخذ الجميع برأي واحدٍ كما صار الحال كذلك في الطلاق ثلاثاً في مجلس واحد، فقد أخذ الفقه المصري في هذه المسألة برأي الشيعة الإمامية من انه يحسب طلاقاً واحداً، لاثلاثاً وصادقت المحاكم المصرية على ذلك.
—–
1 – الوحي المحمدي : 212 ، الطبعة السادسة.
المصدر:كتاب “رسائل ومقالات، الجزء الأول لآية الله الشيخ جعفر السبحاني – الصفحة 72