الاجتهاد: الملخص: تعرَّض الكاتبُ باختصارٍ إلى موقعِ المرجعيَّة الشَّريفة، وما تتحمَّله من مسؤوليات جمة وأدوار مختلفة، ثم إلى ما حاوله الأعداء من طمس هذه الأدوار، ومنها الدور الجهادي، مستعرضاً ثلاثة أساليب من أساليب الأعداء في محاربة المرجعية، ذاكراً خلال البحث مجموعة كثيرة من الشخصيات المرجعية والعلمائية.
المرجعية موقعُ قوَّةٍ وصمَّامِ أمانٍ
إنَّ منصبَ المرجعية ليس مقاماً تشريفياً وإنَّما هو موقع مسؤوليةٍ، وتكليف يتعاظمان على عاتقٍ من يتبوَّأه المسؤوليات الجسام المتمثِّلة:
أولاً: في بيان الحكم الشرعي لعامَّة المكلَّفين والتي تشكِّل بطبيعتها عملية مضنيةً مجهدة لما تحتاجه عملية الاستنباط من مراحل ومتابعة.
ثانياً: مسؤولية تحصين الأمَّة على المستويات المتعدِّدة؛ عقائدياً، وثقافياً، وفكرياً، وأخلاقياً، مع الالتفات إلى حجم الفرقِ، ومحدوديَّة ما يمتلكه المرجع من أدوات، ووسائل لتحصين الأمَّة في مقابل ما تمتلكه الأطراف الأخرى من وسائل وأدوات ضخمة.
ولقد أسهمت المرجعية في هذا المجال بأدوارٍ أساسية مع ما يتناسب وضرورة ظروف كلِّ مرحلة من التعهُّد بإرسال المبلغين، والمرشدين، وتوفير الإمكانيات لهم، وفتح المكاتب العامَّة، وطباعة الكتب الدِّينية التَّوجيهية، كما نشهد هذا النَّوع من المشاريع في أنشطة المراجع العظام، كالسِّيد أبي الحسن الأصفهاني، والسّيد محسن الحكيم، والسِّيد حسين البروجردي، والإمام الخوئي، والإمام الخميني، والسِّيد السيستاني وغيرهم من المراجع رحم الله الماضين منهم وأيَّد الباقين.
ثالثاً: بناء الشَّخصيات العلمائية من خلال عملية التَّدريس التي يتولَّاها المرجع إلى نهاية عمرِه، والتي يعدُّ من خلالها عشرات المجتهدين والعلماء الذين يأخذون دورهم في الحياة الدِّينية والاجتماعية من مواقع مختلفة.
رابعاً: رعاية الشَّأن العام المتعلِّق بالإسلام والمسلمين من خلال متابعة الأحداث، وإصدار البيانات، واتّخاذ المواقف التي تمليها الظُّروف القائمة.
خامساً: الدُّور الاجتماعي المتمثِّل في استقبال المؤمنين، وقضاء حوائجهم، وحلِّ خلافاتهم، والاستماع إلى شكاواهم، ولو من خلال الإيعاز إلى بعض مساعديهم أو من يثقون به من النَّاس للقيام بتلك المهمَّات.
كما أنَّ المرجعية تأخذ قداستَها في نفوس النَّاس من خلال ما تمثِّلُه من امتدادٍ لخطِّ الإمامة الكبرى، وكون المرجع نائباً عن الإمام المعصوم، ولذلك فمن الواجب على القواعد الشَّعبية، والجماهير المسلمة أن تحفظ للمرجعية مكانتها، وأن توليها حقَّها من القداسة والاحترام، وأن تمتلك الوعي تجاه الاتِّهامات الفارغة التي يُطلِقها البعض على المراجع بين وقتٍ وآخر، أو النَّقد العشوائي الذي يكون عن دواعي وأغراض سيِّئة.
وممَّا يؤسف في هذا المجال أنَّه رغم الدَّور الكبير الذي تقوم به المرجعية في صون معالم الشَّريعة، والذَّود عنها، وحياطتها من الأخطار، وما يمثِّله ذلك من حقيقة ناصعة لا تقبل أيَّ شكٍّ، برهن عليها تاريخهم النقيُّ، والبعيد عن التأثُّر بالأهواء الشَّخصية، والمطامح الدنيوية، إلا أنَّ هناك من يتفاعل مع تلك التُّهم أو الانتقادات التي لا تصدر إلا من جاهلٍ بتاريخ المرجعية المشرق، لضرب مقام المرجعية وزلزلة موقعيتها وإحداث الفتنة في أوساط النَّاس.
كما أنَّ أصحابَ الحملات المسعورة ضدَّ المرجعية هم أشخاصٌ مشبوهون من حيث الانتماء والأغراض والأهداف، ولعلَّ هؤلاء يتحرِّكون بدفعٍ من جهات معادية تهدف للنَّيل من المرجعيَّة الدينية، ولكنَّها غير قادرة على مواجهتها بمسمَّياتها الحقيقية، وشخوصها الواقعية، فاتَّخذت هذا السَّبيل؛ وهو تحريك بعض الشَّخصيات السَّاذجة ممَّن لا يحملون صدق الانتماء فيضربون المراجع من خلالهم.
وهنا لا بدَّ من تسجيل كلمةٍ مهمَّة، وهي أنَّ المرجعية تمثِّل موقع قوَّةٍ في واقعنا الإسلامي وقد أدرك أعداء الدِّين وخصومه فاعلية هذه القوَّة ودورها المحوري ومدى تأثيرِها البالغ فجنَّدوا طاقاتِهم وسخَّروا إمكانياتهم، ونوَّعوا من أساليبهم السَّاقطة واستنفروا كلَّ شياطينهم في سبيل إضعاف هذا الموقع وإسقاطه، فعلينا أن نتحلَّى بالمسؤولية، والوعي، لتمييز الدَّعاوى الكاذبة، والتُّهم الزَّائفة، وإفشال المخطَّطات، والمساعي ضدَّ المرجعية المباركة.
طمس المساعي الجهاديَّة
وفي إطار مساعي وأساليب القوى الاستكبارية في إضعاف المرجعيَّة الدِّينيَّة وطمس مساعيها الجهادية نرى أنَّ العالم الإسلامي قد واجه في الفترة بين نهاية القرن الثَّامن عشر وبداية القرن التَّاسع عشر خطرين داهمين:
أحدهما: الاستعمار المتمثِّل في الاحتلال العسكري، والذي امتدَّ على طول الخارطة الإسلامية من طنجا إلى جاكرتا، فكانت هناك هيمنة عسكريَّة على معظم بلدان العالم الإسلامي.
والثَّاني: -وهو أشدُّ من الأوَّل- الغزو الثَّقافي، والمتمثِّل في مصادرة ثقافة ودين أبناء الشُّعوب المسلمة، واستبدال الثَّقافة الإسلامية الأصيلة بالثَّقافة الغربية التَّحررية.
وقد تصدَّى لمحاربة هذين الخطرين خطُّ المرجعيَّة والعلماء، فأدَّى ذلك إلى هزيمة الاستعمار على المستوى الأوَّل -وهو العسكري- فنالت الشُّعوب حريتَها، ونعمت بالاستقلال السِّياسي، وأمَّا مشروع الغزو الثَّقافي، فقد تعثَّر وتصدَّع، وفشلت مساعيه في كثيرٍ من محطاتِه بفضل الوعي لدى المرجعيَّة الدِّينيَّة ومساعيها في مواجهة التَّغريب، فكانت تلك المساعي بمثابة الضَّربات الموجعة للاستعمار من قبل الخطِّ المرجعي والعلمائي، ممَّا تولَّدت عنه روحُ الاستعداء وبقاء الرَّغبة مشتعلة عند الاستعمار في الانتقام من المرجعيَّة الشَّريفة لما يمثلِّه وجودُها من ضمانة استقلال سياسي وفكريٍّ لأبناء الطَّائفة الشَّيعية، بل والأمَّة الإسلامية.
وقد تترجمت تلك الرُّوح العدائية ضمن الأساليب التَّالية:
الأسلوب الأول: (التَّصفيات الجسدية)
كما حصل ذلك للمرحوم الشَّهيد العالم الفقيه السيد حسن المدرِّس؛ حيث سُجِن في (سجن كاشمر) وبعدها سُقي السمَّ ومات شهيداً في الثَّامن والعشرين من شهر رمضان 1356هـ، ثمناً لمواقفه في الدِّفاع عن الدِّين، ورفض الظُّلم والاستبداد، ومحاربة مخطَّطات الغرب الاستعمارية.
ونظير ما حدث للشَّهيد الشَّيخ فضل الله النوري الذي انتهت به مواقفُه في الدِّفاع عن حقوق المستضعفين ومواجهة أذناب المستعمرين إلى إعدامه شنقاً. وكما جرى للشَّهيد السَّيد نصر الله المستنبط من قتله مسموماً على أيدي جلاوزة النَّظام البعثي بسبب معارضته للحزب البعثي، وتحذير النَّاس منه عبر التعريف بخطره ومقاصده السَّيئة. وكما نُقل في شأن الشَّيخ محمَّد كاظم الخراساني حيث توفي في ظروف غامضة بعد أن جهَّز جيشاً لإخراج الرُّوس من مناطق إيران المحتلَّة كالقوقاز.
الأسلوب الثَّاني: (النَّفي والتَّهجير)
لم يتحمَّل المستعمرون ولا أذنابهم كلمة الحقِّ التي كانت تمثِّل الأسلوب الوحيد لدى العلماء في مواجهة المستعمرين، فاستعملوا معهم أسلوب النَّفي والتَّهجير، والسِّجن ضمن أساليبهم لإخراس ألسنة العلماء وفي سبيل الضَّغط عليهم للسُّكوت، وكم من عشرات العلماء تمَّ نفيُهم عن أوطانهم، وما سوف نذكره من الأمثلة لا يعدو كونه نموذجاً يسيراً من الأمثلة المتعدِّدة التي يطفح بها تاريخ المقاومة للمرجعيَّة المباركة.
ومن تلك الأمثلة ما فعله رضا بهلوي مع المرجع السِّيد حسن القمي حيث نفاه من مدينة مشهد المقدَّسة إلى العراق، وذلك بعد محاصرة مسجد (كوهرشاد) المتَّصل بحرم الإمام الرِّضاg والذي اعتصم فيه السِّيد القمي اعتراضاً على بعض السِّياسات البهلويَّة المتعلِّقة بالحجاب، والفساد، وتضعيف الدِّين وغيرها، فتمَّ دكُّ المسجد، وقصفه بالمدفعية الثَّقيلة حتى تضرَّرت بعض جدران الحرم الرَّضوي الشَّريف.
وكما تعرَّض فقهاءُ حوزة النَّجف الأشرف للتَّرحيل والنَّفي من أمثال الشَّيخ النائيني، والسيد أبي الحسن الأصفهاني حيث تمَّ نفيهما إلى إيران عند معارضتهما للانتداب البريطاني في زمن الملكية، أو كما جرى للسِّيد الإمام الخميني من نفيه خارج إيران بسبب مقاومته لسياسة وطغيان السُّلطة الحاكمة، وكذلك نفي العشرات من أساتذة الحوزة العلمية في قم المقدسة أيام المواجهة مع الطَّاغوت محمَّد رضا بهلوي.
وقد كان لعلماء أفغانستان النَّصيب الكبير من الظُّلم، والاضطهاد، والنَّفي والقتل إبّان الاحتلال الرُّوسي لأفغانستان في ثمانينات القرن المنصرم، كما وقع ذلك على آية الله السيد علي البهسودي الواعظي من مبرّزي تلامذة السِّيد الخوئي، حيث اختطف من حسينيته التي كان يباشر فيها نشاطه وخفي مصيره لحدِّ الآن.
ولا زال العلماء لحدِّ الآن يُلاحقون ويُهددون بالنَّفي والتَّهجير والتَّصفية الجسدية من قبل السُّلطات الحاكمة بسبب جهادهم على مستوى الموقف والكلمة.
الأسلوب الثَّالث: (تشويه سمعة خطِّ المرجعية وإلصاق التُّهم بها)
ينعكس مدى ما يحمله أعداء الدِّين من سَورة الغضب والحنق على المرجعية لمواقفها الجهادية في التُّهم، ومحاولات التَّزييف والتَّشويه لهذا الخطِّ المبارك، فقد سعى المستعمرون وأذنابهم إلى إلصاق شتَّى التُّهم بمراجعنا العظام؛ تنفيساً عن حقدهم، وفصلاً للأمَّة عن مراجعها، وتضليلاً للرَّأي العام، فقد يتَّهمونهم بالرجعيَّة، ومحاربة أيِّ تطوير وتقدُّم للأمَّة، وأنَّهم السَّبب وراء تخلُّف الأمَّة وعدم نهوضها، ومع الأسف فقد لاقت هذه الأباطيل قبولاً لدى بعض الشَّرائح لعوامل متعدِّدة أهمُّها غياب الوعي السِّياسي الذي سعى المستعمر لتكريسه استغلالاً له في تحقيق مصالحه.
ولكن بفضل الصَّحوة الإسلامية التي تنامت ببركات الثَّورة الإسلامية التي فجَّرها الإمامُ الرَّاحل الخميني، وتصاعد تيارها وعت الأمَّة لهذه الأساليب وانكشف خداعها، فالتفَّت الأمَّة حول مراجعها وقياداتها الدِّينية، مؤمنة بأهليَّتها للقيادة واثقة بمدى حرصها على مصالح الأمَّة.
ولم يقتصر سيل الاتِّهامات على مجرَّد تهمة الرَّجعية والتخلُّف إلى التَّهمة بخيانة الوطن والعمالة للأجنبي والمستعمر، وقد لحق المرجعية من ذلك ظلم كبير وأذى واسع كما هو الحال مع مرجع الطائفة الأعلى في زمنه السِّيد محسن الطباطبائي الحكيم، واتهام نجله السِّيد مهدي الحكيم بالعمالة للبريطانيين، وما سبَّبه ذلك من إرباك وتشويش للشَّارع العراقي.
وممَّا يؤسف له ما تكوَّن من فهمٍ مغلوطٍ لدى بعض الكتَّاب والمؤلفين؛ حيث اتَّهموا المرجعية في بعض فصولها الزَّمانية بالعمالة، كما حصل مع الفقيه الكبير السِّيد كاظم الطباطبائي اليزدي حيث اتهموه بأنَّه عميل، وما ذلك إلا لقصورهم، بل تقصيرهم في فهم المناشئ والأسباب، وكذلك المعطيات التي يصوغ الفقيه موقفه في ضوئها وطبقاً لها.
وأمَّا السِّيد الخوئي فقد لحقته اتهامات باطلة نتيجة قصر النظرة وعدم استيعاب طبيعة النَّظام البعثي العدائية، وشراسته، وعدم تكافؤ ميزان القوى بين السُّلطة الصدَّامية والمعارضة الشَّعبية، ممَّا جعل سماحته يؤمن بعدم جدوائية المواجهة مع نظام البعث الدموي، لكنَّه في ذات الوقت قام بمقاطعة النَّظام حتى لا يُضفي عليه الشَّرعيّة والمصداقيّة.
وقد فسَّر البعضُ، وحلَّل ما شاء من تحليلٍ ظالمٍ، وتفسيرٍ باطلٍ لموقف السِّيد الخوئي حيث رُمي بالتَّخاذل، وعدم القدرة على إدارة الحالة السِّياسية، رغم أنَّ المراقب لطبيعة نظام صدام الدموية وطريقة تعامله مع معارضيه يدرك أقربية وصوابية نظرة الإمام الخوئي، وكيفية تعاطيه مع الوضع السِّياسي حينها، وأنَّ في عدم المعارضة المعلنة للنِّظام السِّياسي وقتها استمراراً للخطِّ الحوزويّ، وحفظاً للوجود الدينيّ من الاستئصال والفناء.
وقد برهنت الانتفاضة الشَّعبانية وما لحق الشَّعب العراقي فيها من فضائع الظُّلم وبشاعة الجريمة على عظم شراسة النِّظام البعثي، ومدى وحشيته، واستعداده للقتل والإبادة، حيث امتلأت المقابر الجماعية بجثث القتلى والمعدومين، واستُهدف العلماء ممَّن كان يرجى نفعهم للأمَّة الإسلامية، وتشريد الملايين من أبناء الشَّعب العراقي الذين تناثروا على خارطة العالم، واعتُقل زعيم الحوزة العلمية السِّيد الخوئي، وناله ما ناله من الهتك والتَّضييق.
ولكن برغم هذه الحملة الظَّالمة، والسَّيل المتصاعد من الاتهامات المزوَّرة أثبت تاريخ المرجعية المشرق -ومن خلال المواقف الجهادية البطولية وفصول المحن التي مرَّت بها الأمَّة الإسلامية- زيفَ وبطلان تلك الاتِّهامات، وأدركت معها الأمَّة مدى أهميَّة الموقع المرجعي وضرورة ارتباطها به.
المصدر: العدد 68 من مجلة رسالة القلم