مقاصد الشريعة

اللذات والأفراح في أصول الفقه ومقاصد الشريعة

منذ القرن السادس الهجري على الأقل، شرع الأصوليون في استعمال مفاهيم جديدة ذات مضامين حِسِّية ونفسية معًا؛ من أجلِ صقل تعريف المصلحة. ومن هذه المفاهيم التي استعملوها: اللذة، والفرح، أو ما يساوي السَّعادة، والألم والغَمُّ، أو ما يساوي التعاسة. وسعوا لتوظيف تلك المفاهيم في إزاحة ما يحيط بمعنى المصلحة من التجريد والإطلاق والعمومية المفرطة. بقلم: إبراهيم البيومي غانم

الاجتهاد: يتوهَّمُ كثيرٌ، من الذين لا يعلمون، أن الاقتراب من الشريعة وأحكامها يعني الابتعادَ عن اللذَّات والأفْراح، أو يعني الابتعاد عما يجلب السعادة والسرور من المصالح المادية والمنافع الدنيوية. ويصور لهم خيالهم أن معنى الشريعة مرادف لمعنى القيود، وأن الالتزام بها يعني الحرمان من الأفراح ومتعِ الدنيا ومباهجها كرهًا، أو الزهد فيها طوعًا.

وصدق من قال: “لا عبرة بالتوهم”؛ إذ ما أبعد ما يقوله أولئك المتوهمون عن حقيقة رعاية الشريعة وأحكامها للَّذات والأفراح وما يؤدي إليها، وما أكثر حضها وحثها على تجنب الأحزان والآلام والغموم وما يؤدي إليها.

وهذه الألفاظ التي تصور السعادة والفرح واللذة، ونقيضتها التعاسة والألم والغم، ليست من عندي، وإنما هي من صلب النصوص الأصولية الفقهية والمقاصدية التي نجدها في كتب الراسخين في العلم من قدماء العلماء ومحدثيهم، وغالبًا ما نجدها عندهم في معرض كلامهم عن مفهوم المصلحة.

تندرجُ المصلحةُ في الحقل الدلالي اللغوي لكلمة الصلاح. ويسوِّي اللغويونَ المصلحة بالصلاح، ويجعلونها مقابل المفسدة. والمصلحة هي المنفعة والفائدة، وهي المناسب أيضًا. وتوردُ معاجمُ العربية تفاصيل أخرى كثيرة لا تكاد تخرج عما أوجَزْتُه هنا.

وقد وردت مادة (ص.ل.ح) ومشتقاتها في القرآن الكريم في مواضع كثيرة. وتنبسط مواضع ورودها في آياته من سورة البقرة إلى سورة العصر؛ وهذا يؤشر على أهميتها في النص والتطبيق معًا.

وكما لم يرد في القرآن لفظُ مصلحة على وزن مَفْعَلةٍ، كذلك لم يرد في الأحاديث النبوية. والذي حدث هو أن قدماءَ العلماء اشتقوا من الصلاح والاستصلاح مفهوم المصلحة، بمعنى الفائدة أو المنفعة المادية أو المعنوية، وكان ذلك بدءًا من القرن الثاني الهجري، وقالوا إن الاستصلاح في اللغة هو طلب المصلحة، وإن المصلحة هي أثر الاستصلاح. وقد أحال قدماء العلماء ومحدثوهم مهمة تحقيق المصالح العامة التي لا يختص بها فرد واحد إلى ولي الأمر.

وكان الإمام مالك بن أنس (ت 179هــ) هو أول من استعمل صيغة المصلحة في أرجح الأقوال، واعتبر أن المصلحة المرسلة أصلٌ خامسٌ من أصول الفقه، يضاف إلى: القرآن، والسنة، والإجماع، والقياس. ولا يعني هذا أن مراعاةَ المصلحةِ بهذا المعنى (المادي والمعنوي)، أو بهذا المعنى الأصولي، كانت غائبة عن اجتهادات الذين سبقوا الإمام مالك – رضي الله عنه – وإنما قصدنا أنه هو الذي أصَّلها وعدَّها من مصادر أدلة الأحكام في الفقه الإسلامي.

وبدخول المصلحة في الحقل الدلالي الأصولي بعمومه، أعني أصول الفقه، ومقاصد الشريعة؛ دخلت أغلبيةُ المعاني المرتبطة بكلمة المصلحة في نطاقِ مفهوم اللذة أو الفَرْحَة، كما دخلت أغلبية المعاني المرتبطة بكلمة المفسدة في نطاق مفهوم الألمِ، أو الغَمِّ. ومن عادة الأصوليين أنهم يضعونَ المعنى في مرتبةٍ متقدمةٍ على اللفظ.

وكان الاجتهادُ الفقهي قد درج إلى ما قبل الإمام الغزالي (ت 505هـ) على المقابلة بين المصلحة؛ جلبًا وحفظًا، والمفسدة؛ درءًا ودفعًا. وأكَّدَ المجتهدون أن المصلحةَ كما تتحققُ بتحصيل شيءٍ محمود يجلب الفرح، فإنها تتحققُ أيضًا بدرْءِ شيء مرذول يجلب الغم. وكان من النادر ألا يتناول بعضُ علماء الأصول موضوع المصلحة، بحجة أنه ليس من أصول مذهبه، ومنهم مثلًا: محمد بن عبد الحميد الأسمندي الحنفي (ت 552هـ)، في كتابه: “بذل النظر في الأصول”

كان الإنجاز الكبير للإمام أبي حامد الغزالي في هذا الباب هو أنه أحدثَ نقلةً نوعيةً في مسار الدرسين الأصولي والمقاصدي المتعلقين بمفهوم المصلحة؛ إذ خلَّصها من محبس ثنائية “درء المفسدة وجلب المصلحة” الذي درج عليه المجتهدون من قبله. وأكد أن معيارَ المصلحة هو المحافظة على مقصودِ الشرع من الخلق. قال رحمه الله:

ومقصودُ الشرع من الخلق خمسة، وهو أن يحفظَ عليهم دينهم ونفسهم وعقلهم ونسلهم ومالهم. فكلُّ ما يتضمنُ حفظ هذه الأصول الخمسة فهو مصلحة، وكل ما يفوت هذه الأصول فهو مفسدة ودفعها مصلحة. وهذه الأصول الخمسة حفظها واقعٌ في رُتبةِ الضرورات، فهي أقوى المراتب في المصالح[1].

وأكثر ما يميز هذه مفهوم الضرورات بهذا المعنى؛ هو أنها أقرب للملاحظة والقياس والمتابعة الميدانية؛ إذا قارنَّاها بثنائية الدرء والجلب التي تتسمُ بدرجة أعلى من العمومية والتجريد.

ومنذ القرن السادس الهجري على الأقل، شرع الأصوليون في استعمال مفاهيم جديدة ذات مضامين حِسِّية ونفسية معًا؛ من أجلِ صقل تعريف المصلحة. ومن هذه المفاهيم التي استعملوها: اللذة، والفرح، أو ما يساوي السَّعادة، والألم والغَمُّ، أو ما يساوي التعاسة. وسعوا لتوظيف تلك المفاهيم في إزاحة ما يحيط بمعنى المصلحة من التجريد والإطلاق والعمومية المفرطة.

قال الفخرُ الرازي (ت 606هـ):

المصلحةُ لا معنى لها إلا اللذةُ، أو ما يكون وسيلةً إليها، والمفسدةُ لا معنى لها إلا الألمُ، أو ما يكون وسيلةً إليه[2].

وقال الفخر الرازي أيضًا:

إن المصلحةَ هي الوصف الذي يتضمن صلاحًا. ثم قد يكون عقليًّا، وشرعيًّا، ودينيًّا، ودنيويًّا. ثم قد يكون مصلحةً بذاته وأوصافه؛ كوجود الشمس والقمر والكواكب، وقد يكون مصلحةً بمعنى اشتماله على أوصافٍ تدعو إلى ترتيب ما كان صلاحًا عليه.

والمصلحة الشرعية هي الوصف الذي يتضمن في نفسه، أو بواسطةٍ، حصولَ مقصودٍ من مقاصد الشرع، دينيًّا كان ذلك المقصود، أو دنيويًّا. ونريد بمقصود الشرع ما دلت الدلائل الشرعية على وجوب تحصيله، والسعي في رعايته، والاعتناء بحفظه (….) وذلك كمصلحة حفظ النفوس، والعقول، والفروج، والأموال، والأعراض[3].

وقال شيخ الإسلام العز بن عبد السلام (ت 660هـ) :
المصالح أربعة أنواع: اللذات وأسبابها، والأفراح وأسبابها، وهي منقسمة إلى دنيوية وأخروية.[4]

وتعمقَ الشاطبي (ت 790هـ) في تأصيل مفهومي المصلحة والمفسدة من جهتي الوجودِ وتعلقِ الخطاب الشرعي بهما، ومما قاله أنَّ: المصالحَ المبثوثة في هذه الدارِ يُنظرُ إليها من جهتين: جهة مواقع الوجود، وجهة تعلق الخطاب الشرعي بها. فأما النظر الأول فإن المصالح الدنيوية من حيث هي موجودة لا يتخلص كونها مصالح محضة.

وأعني بالمصالح: ما يرجع إلى قيام حياة الإنسان وتمام عيشه، ونيله ما تقتضيه أوصافه الشهوانية والعقلية على الإطلاق، حتى يكون منعمًا على الإطلاق (…) كما أن المفاسد الدنيوية ليست بمفاسد محضة من حيث مواقع الوجود؛ إذ ما من مفسدة تفرض في العادة الجارية، إلا ويقترن بها أو يسبقها أو يتبعها من الرفق واللطف ونيل اللَّذاتِ كثير.[5]

وتوارث العلماءُ مثلَ تلك الاجتهادات منذ القرن التاسع الهجري إلى اليوم، بعضهم يشرحها ويفصل مجملَها، وبعضهم الآخر يوجزها ويجملُ مفصلَها. وجلُّهم لم يُضِف إليها اجتهادات جديدة ذات شأن. وأضحت لدينا تركةٌ كبيرة من الاشتقاقات اللغوية والاصطلاحية لمفهوم المصلحة ولذَّاتها، نجد أغلبَها في كتب أصول الفقه، وفي كتب المقاصد العامة للشريعة أيضًا،

ومنها: المصالح العامة، والكلية، والعاجلة، والآجلة، ومصالح الأحكام، والمصالح التحسينية، والمصالح الجزئية، والمصالح الحاجية، والمصالح الحسِّية، والمصالح الخالصة، والمصالح الراجحة، والمصالح الفاضلة، والمصالح الضرورية، والمصالح القطعية، والمصالح الكفائية، والمصالح المحضة، والمصالح المرجوحة، والمصالح المختلطة، والمصالح المرسلة، والمصالح المركبة، والمصالح المفضولة، والمصالح العينية، والمصالح المعتبرة، والمصالح المعقولة، والمصالح المعنوية، والمصالح المكملة، والمصالح الوهمية، والمصالح الملغاة.

وأنتَ إذا أنْعَمْتَ النظر في تعريفاتِ المصلحة بتفريعاتها المتعددة عند كبار قدماء علماء الأصول المجتهدين من أمثال السالف ذكرهم؛ تأكدَ لك أنهم قصدوا الانتقال من مستوى التعريف الاسمي النظري، إلى مستوى التعريف الإجرائي العملي. والفرق بين هذين المستويين هو أن التعريفَ الاسمي يقف عند حدود المعنى النظري العام، أما التعريف الإجرائي فيأخذ المفهومَ ليضعه في مرمى الملاحظة، ويجعله في متناول يد القياس والتقدير؛ أي إنه يبعدُه عن التجريد والمثال، ويقربُه من التجريب والواقع.

كما أن استعمالهم للمفاهيم ذات المضامين النفسية والحسية مثل: اللذة والألم والفرح والغم، كان موفقًا في الاقتراب من سنن الفطرة التي فطر الله الناس عليها؛ فطلب اللذة وتجنب الألم يُعدُّ من أهم حقائق الفطرة الإنسانية، على نحو ما ذهبوا إليه قديمًا، وهو ما أثبتته دراسات علم النفس الحديث أيضًا.

وبتتبُّعِ التاريخ المعرفي لمفهوم المصلحة يتضحُ أنه لم يمكثْ في حقوله الدلالية اللغوية والأصولية إلا قليلًا حتى دخل في الحقول الدلالية لما سماه قدماء العلماء: “السياسةَ الشرعيةَ”؛ أي إلى ميدان عمل الدولة السلطانية، ومركز اختصاص ولي الأمر في تلك الدولة. وكان دخول المصلحة إلى ميادين “السياسة الشرعية” عبر أبواب كثيرة، كان أهمُّها باب “المقاصد العامة”، وباب أصولي آخر كبير عنوانه: “سدُّ الذرائع وفتحها”.

وفي عملٍ سابق قُمتُ به، اكتشفتُ أن قاعدة “سد الذرائع” كانت وليدةَ القرن الثاني الهجري، وأنها نَمت وترعرعت في القرنين الرابع والخامس، واسْتَدَّ عودها وبسقت أغصانُها في القرنين السابع والثامن، ثم واصلت مسير نموِّها عبر القرون: من التاسع إلى الخامس عشر الهجري؛ حتى تحولت إلى طريقةِ تفكيرٍ، بل أضحت نمط حياة عقلية وسلوكية، تتشكل في ضوئها رؤيةٌ شاملةٌ للعالم، وغلبت سلبياتها منافعها؛ إذ لا يكادُ يفلت منها إلا القليلُ من العلماء المجتهدين. وكانت، ولا زالت، رعايةُ المصلحة في صلب التكوينِ المعرفي لقاعدة سدِّ الذرائع؛ بما أن مقصدها الأساسي هو درء المفسدة أو تجنب الألم، وتحصيل المنفعة أو حصول اللذة والفرح معنويًّا وماديًّا في الحالين.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Slider by webdesign

Clicky