الاجتهاد: لا شك أن واقعة الغدير، تشكل منعطفا هاما وحيويا في التجربة التاريخية الإسلامية.. لأن هذه الواقعة بمتوالياتها السياسية والاجتماعية والثقافية، صبغت الحياة الإسلامية، وألقت بحمولتها القيمية والسياسية والاجتماعية على كل أطوار الحياة الإسلامية بعد رحيل الرسول الأعظم (ص) إلى الرفيق الأعلى..
ولا ريب أن هذه الواقعة الذي يجمع المسلمون على حدوثها، ويختلفون في تفسيرها ومآلاتها، طرحت جملة من الأسئلة الهامة والمح ورية في حياة المسلمين.. ولعل من أهم هذه الأسئلة، هو سؤال الدولة، شرعيتها، آليات انتقال السلطة فيها، وموقع المجتمع بكل فعالياته وقواه فيها..
وهذه الورقة تنطلق من واقعة الغدير لتطرح سؤال الدولة في التجربة التاريخية الإسلامية فيها على ضوء هدى وتعاليم وتوجيهات الرسول الأكرم (ص) في يوم الغدير، وكذلك تعاليم الإمام علي عليه السلام في مرحلة الخلفاء وفي عهده الميمون..
وحين البحث التاريخي في التجربة الإسلامية التاريخية، نكتشف أن الدين الإسلامي بكل قيمه وتشريعاته، لم يحدد شكلا محددا للدولة والسلطة، وإنما حدد مجموعة من القيم والمبادئ الدستورية والسياسية ينبغي أن تسود وتتحكم في مؤسسة الدولة بصرف النظر عن شكلها ومسماها. فالدولة ضرورة من ضرورات الاجتماع الإنساني، إذ تتحمل مسؤوليات ومهام كبرى في مسيرة المجتمع، ولكن الإسلام لم يحدد شكلا خاصا للدولة.
ولعل في إشارة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام إلى أنه [لا بد للناس من أمير بر أو فاجر] تأكيد على هذه الحقيقة التاريخية والإنسانية. “فقد تعامل الإمام علي مع الدولة كضرورة، أما منشأ ضرورتها فهو الانتظام والنظام العام، الأمن والفيء، أي الإنسان والعمران، بما يقتضي ذلك من إطلاق حرية التملك المضبوطة بالشريعة، حتى لا تتفاقم الفوارق الطبقية، ويستولي الجور على الأغلبية الساحقة من الناس، فتعم الفوضى، ويخرج الجياع شاهرين على الناس سيوفهم ونعود إلى المأثور (سلطان غشوم خير من فتنة تدوم)..
إذن فالدولة ضرورة اجتماع، يقتضيها الاجتماع ويبنيها، لا تبنيه، وإن كانت بعد أن يبنيها تعود لتسهم في إعادة بنائه وتجديده، يجددها ويتجدد بها، وتجدده وتتجدد به. والضرورة في قواعد السلوك إنما تقدر بظروفها ومقاديرها، فإذا كانت الظروف متغيرة، أي تغيّر وعي الاجتماع لذاته وعلائقه، وتغير وعي الفرد لموقعه في المجتمع ومسؤولياته وحقوقه وواجباته، وتبعا لذلك تغيرت الأدوار، فلا بد أن تتغير الدولة شكلا، وأداءً، ودورا، ومصدر شرعية، وآليات تحقيق، طبقا للتغيرات الحاصلة في بنيان المجتمع ” (1).
فالمهم في مؤسسة الدولة، ليس شكلها، وإنما القيم الأساسية التي تحتضنها، والمبادئ الأساسية التي تعمل على تنفيذها وتحقيقها في الواقع الخارجي.
فالمطلوب دينيا أن تلتزم مؤسسة الدولة بقيم ومبادئ ووظائف، وشكل الدولة ومسمياتها المتعددة، هي خاضعة لظروف الزمان والمكان وتحولات المرحلة، وما هو الإطار الأنسب للوفاء بتلك القيم والمبادئ الأساسية. فـ “لا وصفة دينية ملزمة للدولة، وطالما أن شأن الدين، بما هو معرفة وسلوك وثقافة وقيم وعلائق وتقوى، هو أداء الدولة، أي عدالتها، وطالما أن العدالة من دون حرية هي جور آخر،
فالمستبد العادل تلفيق بين مفهومين متناقضين لا يجتمعان أبدا ولا يرتفعان، أي إما مستبد وإما عادل، وطالما أن الحرية من دون عدالة ليست حرية، بل فوضى حاضنة لتوائم أو ضرائر من الاستبدادات المدمرة، فإن الديمقراطية لا بمعناها السياسي الصرف وحده، بل وبمدلولها الواسع، الذي يمتد إلى الشأن الاجتماعي والرعائي والتنموي الشامل، هي التي تجمع الحرية إلى العدالة في بنية مدنية، كمفهومين متشارطين تعريفا وتحقيقا، إلى حد دخول كل منهما في تعريف الآخر ” (2).
مدنية الحقل السياسي:
فالجوهر أن تكون الدولة بكل مسئوليها ومؤسساتها، نتاج الحرية والشورى والعقد الاجتماعي المستند إلى حرية الاختيار ورضا الجماعة. فالدولة ليست خارجة عن قيم الإسلام الكبرى كالعدالة والحرية والمساواة، بل هي تجسيد لهما. وانحراف الدولة في مراحل مديدة من التجربة التاريخية الإسلامية عن هذه القيم، لا يشرع للدولة الاستبدادية، ولا يؤسس للنموذج السلطاني الذي لا صلات حقيقية له بالاجتماع الإسلامي. بل على العكس تماما.
حيث أن الانحراف التاريخي، يحملنا مسؤولية تاريخية باتجاه تظهير قيم الإسلام الأساسية في السياسية والحكم، وممارسة القطيعة المعرفية والسلوكية مع كل أشكال الاستئثار بالقرار والاستفراد بالحكم.
فالإسلام في كل تشريعاته وأحكامه، يستند إلى الرضا وحرية الاختيار، وليس من المعقول أن يبني نظامه السياسي بعيدا عن مقتضيات الحرية والشورى والعدالة. فكما أن العقود المالية والاقتصادية في الرؤية الإسلامية قائمة على رضا الطرفين، كذلك هو نظام الحكم. فهو يستند في شرعيته ومشروعيته على بعدين أساسيين وهما:
1- انسجام كل الممارسات والخطوات مع هدي الإسلام واختياراته الكبرى.
2- قبول الأمة وانتخابها للحكومة والنظام السياسي.
فالشرعية لا تتأسس فقط من جراء انسجام القائمين على المشروع مع الإسلام ورؤيته في الحكم والسياسة، وإنما من الضروري وذلك من أجل اكتمال نصاب الشرعية من أن الأمة بكل مكوناتها وشرائحها هي التي تختار وتنتخب بشكل حر شكل الحكومة ومشروع النظام السياسي.
فأنظمة الحكم التي تستند على الاستئثار والاستفراد والإكراه، ليست منسجمة وقيم الإسلام السياسية، حتى لو تجلببت بجلباب الإسلام. فلا يمكن أن يتأسس نظام حكم على الإكراه ونربطه بالإسلام. صحيح أن التجارب التاريخية للمسلمين، تثبت ذلك. بمعنى أن هناك أنظمة ادعت الإسلام والالتزام به، وأقامت نظامها وسلطانها على الاستبداد والإكراه.
ولكن حين التأمل في قيم الإسلام وتشريعاته، نجد أن هذه القيم والتشريعات، تؤسس لرؤية سياسية مغايرة، رؤية سياسية للحكم والسياسة قائمة في كل أطوارها ومراحلها على الحرية والعدالة والشورى.
من هنا فإننا نستطيع القول: أن الدولة في الرؤية السياسية الإسلامية، ليست دولة الاستبداد والإكراه في كل مراحلها. في مرحلة التأسيس والبناء، وفي مرحلة الإدارة والتسيير، هي دولة المجتمع والأمة باختياراتها وتوجهاتها وقيمها. فلا شرعية لدولة أو لنظام حكم سياسي، لم يصل إلى سدة الحكم باختيار الأمة. فالأمة هي صانعة الحكم، وأي تجربة سياسية بعيدة عن هذا المعيار، فهي لا تنسجم بمقدار ذلك البعد مع قيم الإسلام في الحكم والسياسة.
فـ “الفكر الإسلامي يؤسس مشروعه السياسي على الأسس الثلاثة التالية: فهو يغرس الشعور الحر في نفس الفرد بما يمنعه من الوقوع في هاوية العبودية، كما يزرع الشعور نفسه في نفس الحاكمين بما يمنع الوقوع في هاوية الاستعباد، ثم يأتي بعد ذلك دور المؤسسات السياسية والدستورية كنتيجة شكلية، لذلك الشعور، مع ما يستتبع ذلك من وسط ثقافي مستنير، ووسط اقتصادي متوازن ” (3).
ومن خلال هذا الشعور الحساس، يتأسس الضمير الإسلامي الجماعي، الذي يدافع عن قيم الإسلام الكبرى، ويكون حارسا على تنفيذها ومراقبا مسئولا على النخبة السياسية وأداءها العام.
ومؤسسة الدولة وهي تمارس، وظائفها وأدوارها، فإنها تمارسها بوصفها مؤتمنة ووكيلة عن الأمة للقيام بها، وليس بوصفها ممثلة للحق الإلهي.
فالدولة حاجة اجتماعية وضرورة سياسية وحضارية، وكل وظائفها وأدوارها ومسؤولياتها، لا تخرج عن نطاق خدمة المجتمع والأمة من موقع المسؤولية والسلطة. والدولة أو السلطة تستمد مشروعية بقاءها واستمرارها من قدرتها على الوفاء بحاجات الناس وتطلعاتهم المتعددة.
فهي معنية بأمن الناس الأمني والسياسي والاقتصادي والاجتماعي، وأي تراجع عن هذه المسؤوليات، يضر بشرعية السلطة، وبمدى قبول الناس بها. فالأمة أو المجتمع هو الحاضن الأكبر لمؤسسة الدولة، لأنها إحدى مؤسساته التي أنيطت بها مسؤوليات محددة ووظائف معينة. وإذا لم تستطع القيام بهذه المسؤوليات والوظائف، فإن المجتمع وعبر وسائل ديمقراطية – سلمية يختار فريقا آخر أكثر تأهيلا وقدرة على تنفيذ تلك المسؤوليات.
و”على المعني بشأن السياسة في الدين، أن يوحد النظر إلى سياق البلاء عبر المراحل والانتقال. فسيرة المتدينين وغيرهم من البشر تتعاقب قرونا، قد يتصاعد الأوائل وعيا وتجددا ونهضة إذا استفزهم تحد أصابهم من أمة أرقى منهم أو قوّمهم بعد الضلال والجمود هدي تنزل عليهم من السماء، أو تذكروه بعد غفلة. وقد يخلف قرن يتم البناء بعد تأسيسه السالف ثم يعقب قرن عاطل لا يجتهد تعويلا على التراث المنقول ولا يجتهد توكلا على الفخر والكسب الموروث.
وهكذا تتداول الأيام بالأمم. وهي سنة كان واقعها ظاهرا في تاريخ المسلمين، ولاسيما في سيرتهم، سكونا خاملا بعد حركة حية، وجبروتا مطلقا بعد شورى حرة، وشتات ذليل بعد وحدة عزيزة. وفي دراسة تلك السياقات المتداولة عبرة لتقدير عوامل الانحطاط عن المثال، ولتخطيط حركة جديدة نحو نهضة بعد وهدة، ولتدبير اتصال مراحل المستقبل تعاليا مستمرا ونزوعا دؤوبا نحو المثال لا تصيبه العلة المعهود من طروء العجز والخرف والتقادم عند الخالفين ” (4).
فوعينا وإرادتنا الرشيدة، هي القادرة على إنهاء تأثير حقب الانحطاط السياسي والحضاري على واقعنا وراهننا. وإننا بمقدورنا من خلال الوعي والإرادة الجماعيتين، من وقف الانحدار وإنهاء مسلسل التراجع والاستبداد في الحقل السياسي لحياة المسلمين.
الإسلام ونظام الحكم:
لعلنا لا نأت بجديد حين القول: أن قيم الإسلام السياسية، لا تؤسس لنظام حكم ثيوقراطي، وإنما هي تدعو وتحث على تأسيس حكم منبثق من جسم الأمة، ويكون تعبيرا عن حاجاتها وتطلعاتها، ويمارس دوره ووظائفه بوصفها جهازا مدنيا، لا يمتلك إلا السلطة المخولة لهم من الأمة، وهي التي تراقب أداءهم، وهي التي تقرر استمرارهم أو إعفاءهم من هذه المسؤولية الكبرى.
فالحكم وممارسته ليس غاية في ذاته، بل هو وسيلة لإنفاذ تشريعات السماء، وتوفير حاجات ومتطلبات الناس. إذ يقول تبارك وتعالى [ وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك فإن تولوا فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم وإن كثيرا من الناس لفاسقون] (5).
وقال عز من قائل [ويقولون آمنا بالله وبالرسول وأطعنا ثم يتولى فريق منهم من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين * وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون * وإن يكن لهم الحق يأتوا إليه مذعنين * أفي قلوبهم مرض أم ارتابوا أم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله بل أولئك هم الظالمون * إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون] (6).
لهذا نجد أن الرسول الأكرم (ص)، لم يخرج عن نطاق البلاغ والتعليم والتزكية. وإن نظام السياسة والتدبير، لا يدار بالقهر والاستئثار والاستفراد والإكراه، بل بالحرية والشورى ومشاركة الجميع في صناعة حاضرهم وصياغة مستقبلهم.
فشرعية الحكم الحقيقية في أنه يحكم بالعدل والقسط بين الناس، وحين يخرج الحكم عن مقتضيات العدل والقسط في ممارسة الإدارة والحكم، تنتهي شرعيته، ويتحول إلى حكم مستبد وظالم. يقول تبارك وتعالى [سماعون للكذب أكّالون للسحت فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئا وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط إن الله يحب المقسطين] (7).
” فمن هدي الإسلام أن يؤسس الحكم على عقد مواطنة ونظام سلطان، وأن تسود للأفراد حرمات وحريات ومساواة أساسية كيفما اختلفوا أفذاذا وجماعات، وألا يتولى أحد السلطة العليا عنوة بل بخيار الرعية انتخابا حرا عدلا، وأن تكون قرارات الأمر العام الكبرى عن شورى بإجماع أو رأي غالب،
وأن تتفاصل تناظيم السلطة وتتكامل وتتوازن وتتضابط تقاسما للسلطة لا احتكارا، وأن يكون الأصل في العلاقات الدولية السلام أو الدفاع عند العدوان، تلك أحكام إسلامية، كلها معروف مقبول في ميزان الإنسانية كافة مبادئ عليا لازمة لا سبيل في دولة للشذوذ عن بعضها من بعض الرعية، لاسيما أنها تؤسس على الحرية والشورى والعدالة وفيها بوح رأي للملل والطوائف، فإن تجمع أهل ملة في إقليم تباح لهم قسمة من السلطات كلها في سلطان الدولة ” (8).
الدولة في الإسلام دينية أم مدنية:
إن التأمل في طبيعة الوظائف التي تقوم بها الدولة في الرؤية الإسلامية، يجعلنا نعتقد بشكل لا لبس فيه، أن الدولة في الإسلام هي دولة مدنية وليست ثيوقراطية. وأن المهام والوظائف الملقاة عليها وظائف مدنية. ولعل من الأخطاء الشائعة في الكثير من الدراسات والأبحاث السياسية التي تتعلق بفقه الدولة في المنظور الإسلامي، هو عملية الخلط التاريخي بين وظائف الرسول (ص) أو الإمام (ع) ووظائف الدولة كمؤسسة جامعة وحاضنة لكل التعبيرات والمكونات.
فالرسول (ص) وهو على رأس الدولة في التجربة التاريخية، كان يقوم بوظائف وأدوار بوصفه رسولا ونبيا، وليس بوصفه رئيس الدولة. عملية الخلط على هذين الصعيدين، هو الذي أربك الرؤية تجاه مفهوم الدولة في التجربة التاريخية الإسلامية.
وحتى تتضح رؤيتنا في هذا السياق، من الضروري أن نحدد وظائف الدولة كمؤسسة وهياكل إدارية بعيدا عن المهام والوظائف الدعوية والدينية والأخلاقية التي كان يقوم بها الرسول (ص) بوصفه رسولا ونبيا. “والقرآن لا يصف دولة، بل وصف مجتمعا.
وإذا ما كان القرآن أفقه الفقه والفقيه، فلا يجوز للأخير أن يتخطاه، أي أنه ليس من شأنه أن يصف شكل الدولة ولا طريقة تشكلها، بل يصف عدلها وجورها فيحث على العدل ويحرض ضد الجور، حتى إذا ما بلغ الجور مستوى نوعيا، اندكّ الفقيه في الاجتماع وفي الطبقة السياسية المعترضة، ليعملوا معا على التغيير، على موجب العدل والعدالة والتقدم، والحرية شرط الشروط.
وهنا يمارس الفقيه دوره في الصف الأول كفرد مواطن مدني. وفي الأساس الفلسفي للمسألة أن الاجتماع، بما هو متحدات ثقافية يدخل الدين في أساسها ثابت، بينما الدولة متغير، والمتغير محفوظ في الثابت منهجيا، كما أن الثابت محفوظ في المتغير، ولكن من دون مشروع محدد سلفا، لأن الدولة كضرورة اجتماع مفهوم متحرك تقدر بظروفها ” (9).
إننا نعتقد أن وظائف الدولة (أية دولة) بعيدا عن مضمونها الأيدلوجي ورسالتها العقدية هي:
1-حفظ الثغور والحدود ومنع أية محاولة للتعدي والعدوان. وإن أي خلل على هذا الصعيد يعد تهاونا من مؤسسة الدولة.
فالأهداف الحقيقية والمطلوبة من مؤسسة الدولة، بصرف النظر عن أيدلوجيتها ومتبنياتها العقدية والفكرية، هي حفظ الأمن وتوفير الاستقرار والسلام وإقامة العدل وحفظ حقوق الأفراد وحرياتهم وضمان التقدم الاقتصادي، وتوفير الفرص للجميع بلا تمييز ومحاباة وحماية المستقبل للأجيال المقبلة. فصد العدوان بكل أشكاله، هو من المهام والوظائف الأساسية للدولة، وأي تقصير لها في هذا السياق تحاسب عليه.
2-حفظ المصالح العامة: فمؤسسة الدولة لا يمكنها تعميق شرعيتها في الفضاء الاجتماعي، بدون سعيها المتواصل لحفظ مصالح شعبها العامة. والدولة التي تفرط بمصالح شعبها تفقد شرعيتها الاجتماعية ولا تلتزم بوظائفها الرئيسية. فكل التصرفات والممارسات الداخلية والخارجية، التي تقوم بها الدولة ينبغي أن تكون في نطاق حفظ مصالح المجتمع المتعددة.
3-تحقيق العدالة: في المجتمع الإنساني حيث تتضارب الإرادات وتتعدد الميولات وتتراكم نزعات السيطرة والهيمنة، تكون من وظائف الدولة الكبرى تحقيق العدالة في المجتمع، سواء في الفرص التي تتيحها لشعبها، أو في توزيع الثروات والإمكانات، أو في مشروعات البناء والتنمية. فالدولة كمؤسسة معنية بإنجاز مفهوم العدالة في حياة مجتمعها.
“فبيان الأحكام الشرعية من شؤون الإفتاء وهي وظيفة الفقهاء، وليس للحكومة أن تمنع من توفرت فيه شرائط الإفتاء من بيان الأحكام الشرعية وتعليمها، وليس لها – أيضا – المنع من أن يرجع المواطنون إلى الفقهاء لأخذ الفتيا، وإن اختلفت الآراء الفقهية، ما لم تكن ثمة مصلحة تقتضي أن يكون الاجتهاد موحدا.
كما في مجالات السياسية والاقتصاد والجهاد، فيكون الاجتهاد المتبع إما اجتهاد الحاكم إن كان مجتهدا، أو يختار اجتهادا من بين الاجتهادات، فيكون هو الملزم. لكن مع ذلك لا يمنع ذلك الفقهاء الآخرين من إبداء رأيهم المخالف، لأن توحيد الاجتهاد يقتصر على مجال العمل والتنفيذ.
وربما يختزن هذا الرأي – ضمنا- قدرا كبيرا من إعطاء حرية التعليم في الدولة الإسلامية، إذ في الوقت الذي لم يكن فيه الحق للدولة الإسلامية أن تحتكر التعليم الديني، فربما من الأولى عدم إعطاء الحق لها في احتكار التعليم غير الديني، ما لم يكن يتعارض مع النظام العام في الدولة الإسلامية، ولكن ذكر الشهيد الصدر في (فلسفتنا): إن الدين باعتباره يؤمن بقيادة معصومة مسددة من الله، فهو يوكل أمر تربية الإنسانية وتنمية الميول المعنوية فيها إلى هذه القيادة وفروعها. ولا نعرف ما إذا كان هذا يعني احتكار الحكومة التعليم.
وكذلك القضاء، فليس من مهمات الحكومة بوصفها حكومة، لأنه لا يثبت للحاكم لمجرد كونه حاكما، بل يثبت لمن نصّت الشريعة عليه نصا خاصا، وهم الفقهاء. فإن كان الحاكم فقيها جاز له القضاء، ولكنه لا يمنع غيره من الفقهاء من القضاء، ما لم يكن ثمة مصلحة تقضي بتوحيد القضاء على اجتهاد معين، فمن كان من الفقهاء مصوبا لهذا الاجتهاد فهو يقضي وفقا له بلا إشكال، و إلا قضى بالوكالة عن المجتهد الذي يصوب أو يرتأي الاجتهاد المذكور ” (10).
ويتضح من خلال الوظائف المذكورة أعلاه، أن وظيفة الدولة الأساسية وظيفة مدنية، تستهدف المساهمة في تأمين حاجات المجتمع الضرورية، والعمل على خلق فرص التقدم وأسباب التطور في المجتمع.
مكونات الدولة المدنية:
من البديهي القول: إن الدولة كمفهوم هو من المفاهيم الوضعية ” والذي تبلور عبر إسهام أجيال متلاحقة من المفكرين والسياسيين. وقد وضعه البشر من أجل بناء جهاز ينظم حياتهم الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والمدنية والسياسية ” (11).
وبالتالي فإن الدولة في مفهومها ووظائفها ومهامها وهياكلها الإدارية والعملية، هي دولة مدنية. أي أن هناك قيم كبرى ومبادئ عليا في الدين الإسلامي، الدولة كجهاز معنية بهذه القيم. ولكن الكيفية التي تحقق بها الدولة هذه القيم، هي كيفية إنسانية مدنية. فكل الإبداعات والمبتكرات والمنجزات الإنسانية والحضارية، التي تفضي إلى الاقتراب والالتزام بمقتضيات هذه القيم هي محل احترام وتقدير.
وإن التفكير في النصوص الإسلامية السياسية، والتي تتعلق بشؤون الحكم والإدارة، وكذلك في التجربة الإسلامية النبوية، يجعلنا نعتقد وبشكل لا لبس فيه أن الدولة المدنية التي يرسي دعائمها ومكوناتها الإسلام، ليس ادعاءً، وإنما لها مكونات أساسية، هي التي تحدد صدق مقولة الدولة المدنية من عدمها. وهذه المكونات هي كالتالي:
1-التعاقد: إن مفهوم الدولة في الرؤية والتجربة الإسلاميتين، هي دولة تعاقدية، وتنبثق هذه الإرادة التعاقدية من خلال جهد حر وواعي بين الحاكم ومكونات المجتمع الأخرى. فالدولة ليست دولة غلبة وإكراه وانقلاب عسكري أو إلغاء لموقع الناس ورضاهم من إدارة شؤون الدولة والسياسة.
فالدولة في الرؤية الإسلامية الحضارية، وفي كل مراحلها، وفي كل مستوياتها ومؤسساتها، هي دولة تعاقدية، بحيث ينوب أهل الدولة ووفق انتخاب واختيار حر، عن المجتمع في إدارة شؤونه المختلفة. فالدولة ليست بديلا عن المجتمع والأمة، وإنما هي وعاء إرادته القانونية والسياسية، والفضاء السياسي الذي يدير الشؤون العامة للأمة.
لهذا يقول الإمام علي) عليه السلام [ألا وإن لكم عندي أن لا أحتجز دونكم سرا إلا في حرب ولا أطوي دونكم أمرا إلا في حكم].
وبفعل الصيغة التعاقدية، تترتب حقوق ومسؤوليات كحق الشورى وحق الاختيار وحق المراقبة والمحاسبة ونصح القادة والاهتمام بالأمور العامة للمسلمين وما أشبه ذلك..
والحق السياسي هو الذي يهيئ للمواطنين جميعا المشاركة في اختيار الحاكم والطبقة السياسية الحاكمة ومراقبتهم ومحاسبتهم وتقويمهم وفقا لأنظمة الدستور ومواثيق العلاقة بين الحاكم والمحكومين، وذلك عن طريق إبداء الرأي وإعطاء المشورة للحاكم، إما مباشرة، أو عن طريق فرد آخر ينيبه عنه.
1-المشاركة:
لعل من الفروقات الأساسية والجوهرية بين الدول الشمولية والاستبدادية، والدول الديمقراطية والمدنية، هو أن الدول الشمولية مغلقة على فئة قليلة من الناس، هي التي تدير شؤونها وتتحكم في مسيرتها ومصيرها، بينما الدول الديمقراطية، هي دول مفتوحة لكل الطاقات والكفاءات للمساهمة في الإدارة والبناء.
لهذا فإن الدول الاستبدادية، تحارب مبدأ ومشروع المشاركة، وتلغي كل مضمونه الدستوري والسياسي. بينما الدول الديمقراطية تحض وتحث المواطنين على المزيد من الحضور والمشاركة في الشأن العام. والرؤية الإسلامية السياسية، تعتبر كل المواطنين معنيين بشكل أو بآخر بالشأن السياسي والعام، وتحث الجميع على تحمل المسؤولية والمشاركة في الشؤون السياسية والعامة.
لهذا نجد الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام يدعو الناس للمشاركة في الشؤون العامة. إذ يقول [فلا تكفوا عن مقالة بحق، أو مشورة بعدل، فإني لست في نفسي بفوق أن أخطئ، ولا آمن ذلك فعلي، إلا أن يكفي الله من نفسي ما هو أملك به مني فإنما أنا وأنتم عبيد مملوكون لرب لا رب غيره، يملك منا ما لا نملك من أنفسنا].
ويعظم الدين الإسلامي من شأن إبداء الرأي وحرية التعبير، إذ جاء في الحديث الشريف [من قتل دون حقه فهو شهيد، ومن مات دون مظلمة فهو شهيد، ومن مات دون كلمة الحق فهو شهيد، وأفضل من ذلك كلمة حق عند إمام جائر].
ولا ريب أن تعميق خيار المشاركة الشعبية في الحياة السياسية ومؤسسات الدولة، هو الذي يحول دون تغولها وغطرستها وخروجها عن مقتضيات دورها الحضاري المأمول. فلا دولة مدنية ودستورية، بدون مشاركة الشعب على نحو دستوري وقانوني في شؤون الدولة والسياسة.
لهذا فإن من المكونات الأساسية للدولة المدنية، في كل التجارب السياسية، هو في مدى مساهمة ومشاركة المواطنين الحقيقية والفعلية في شؤون الحياة السياسية ومؤسسات الدولة المختلفة. ومبدأ المشاركة الشعبية في الحياة العامة، ليس شعارا يرفع، أو يافطة تعلق، وإنما هو حقائق مجتمعية ودستورية ومؤسسية، تكفل هذا الحق وتفسح المجال للجميع للمشاركة عبر أطر وأقنية دستورية. لذلك فإن شرط المشاركة الفعلية هو الحرية والديمقراطية.
فلا مشاركة بدون ديمقراطية، ولا خيار ولا حياة ديمقراطية حقيقية في أي تجربة، بدون مشاركة شعبية – مؤسسية في الحياة العامة.
لذلك فإن “الحرية ليست هواما ليبراليا كما يتخيلها السذج من الحداثيين الحالمين بفراديس أرضية أو بديمقراطيات مثالية. هذه أكبر عملية خداع مارسها وما يزال المثقفون العرب والغربيون في ما يخص تحديث المجتمعات العربية وتطورها. ذلك إن الذي يمارس حريته هو الذي يجترح قدرته ويمارس سلطته وفاعليته، بما ينتجه من الحقائق أو يخلقه من الوقائع في حقل عمله أو في بيئته وعالمه. ومن لا سلطة له لا حرية له.
لذا فالحرية عمل نقدي متواصل على الذات، يتغير به المرء عما هو عليه، بالكد والجهد، أو المراس والخبرة، أو السبق والتجاوز أو الصرف والتحول، مما يجعل إرادة الحرية مشروعا هو دوما قيد التحقق بقدر ما يشكل صيرورة متواصلة من البناء وإعادة البناء ” (12).
2- المراقبة والمحاسبة:
لا يكفي لاستقامة الدولة والتزامها بالدستور، أن تكون منطلقاتها النظرية والأيدلوجية صحيحة. ومع أهمية المنطلقات وضرورة سلامتها وصوابيتها، إلا أنها بوحدها، لا يمكن أن تعصم الدولة أو المسئولين فيها من الخطأ والزلل والانحراف. لهذا فإن الأمر بحاجة إلى مراقبة مؤسسية وشعبية، وذلك لضمان سلامة المسيرة، والتزام كل المسئولين بالدستور ومقتضيات العدالة والمساواة.
والتعويل على الضوابط الأخلاقية والنوازع الدينية للمسئول فقط، لا يحول دون الانحراف السياسي والسلوكي. لذلك ومع كل الشروط والمتطلبات الدينية والأخلاقية التي ينبغي أن تتوفر في المسئولين، إلا أن مؤسسة الدولة بكل مستوياتها، بحاجة إلى جهاز رقابي مؤسسي وشعبي، يقوم بمراقبة الأداء وتقويم السياسات وتصحيح الاعوجاج، وتطوير الأعمال والممارسات.
لهذا نجد أن الإمام علي عليه السلام يطلب من الناس نصحه ومراقبته. إذ يقول [فلا تكلموني بما تكلم به الجبابرة، ولا تتحفظوا مني بما يتحفظ به عند أهل البادرة، ولا تخالطوني بالمصانعة، ولا تظنوا بي استثقالا في حق قيل لي] (13).
فلا يمكن أن تبنى ديمقراطية، أو تسود قيم العدالة والمساواة في أي مجتمع، بدون مراقبة ومحاسبة ونقد للأداء والسياسات العامة. فالمحاسبة والرقابة الدستورية، هي بوابة التصحيح، وهي سبيل التطوير والتحديث. وحتى لا تكون هذه المسألة خاضعة للميولات والاعتبارات السياسية الضيقة، نحن بحاجة إلى مؤسسة رقابية مستقلة تقوم بدورها الرقابي والمحاسبي بمهنية تامة.
ولقد أبدعت الأنظمة السياسية الديمقراطية الحديثة، الكثير من الأطر المحاسبية والرقابية، التي تضبط نزعات الدولة في التفرد والاستئثار، وتحول دون التلاعب بالثروات العامة. ولا أرى موانع دينية أو اجتماعية أو سياسية، تحول دون الاستفادة من هذه الإبداعات الإنسانية والحضارية، التي ساهمت بشكل كبير في تطوير أداء الدولة، وحدت من ظاهرة الفساد في مؤسساتها المختلفة.
والتوجيهات الدينية تحث على أخذ الحكمة بكل تجلياتها، من الإنسان بصرف النظر عن منابته الأيدلوجية والحضارية. ويشير إلى هذه المسألة المرحوم الشيخ محمد مهدي شمس الدين بقوله: ” لنأخذ الإنجاز العلمي في الحضارة الغربية إنه ليس شرا وإن كنا نتحفظ على الخلفية الفلسفية لبعض العلوم الإنسانية أو النتائج الوظيفية لبعض العلوم الفيزيائية والبيولوجية.
كالأبحاث الجينية التي تهدف إلى استنساخ البشر – أو الأبحاث الذرية الهادفة إلى أغراض التدمير – أو صناعة الأسلحة الجرثومية التي أنتجت اختلال البيئة وتلويث الطبيعة.
إن إنجازات حضارية كبرى في الغرب ينبغي التعامل معها إيجابيا: الجانب التنظيمي والخدماتي في المدنية الغربية، الإنجازات الفنية والإبداعية. يجب أن نتجنب الأحكام الإطلاقية، علينا أو عليهم أو على أية حضارة أخرى. الموقف الإطلاقي ليس موقفا قرآنيا. الموقف القرآني موقف نقدي وليس موقف إدانة. والموقف النقدي موقف انتقائي.
إن الله سبحانه وتعالى مدح الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه. لم يقل يتبعون (حسنهم). يوجد سيئ ويوجد أسوأ. يوجد حسن ويوجد أحسن. والقول هنا هو القول المطلق، هو التعبير الشفهي والإنجاز العلمي، والممارسة والشكل التنظيمي. إننا نختار الشورى كفلسفة حكم، ونختار آليات الديمقراطية كأدوات وأجهزة ومؤسسات. إن الديمقراطية هي أحسن القول الغربي من الناحية التنظيمية للمجتمع ومن ناحية إدارة عملية تداول السلطة وانتقالها ” (14).
فتطوير مؤسسة الدولة، وضبط نزعاتها في الهيمنة والإلغاء، بحاجة إلى تطوير العمل الرقابي في مؤسسة الدولة و في المجتمع. وبدون الرقابة الفعالة، ستعشعش الطفيليات وتنمو السلوكيات والممارسات المنحرفة. لهذا كله: فإن التحديث السياسي في مؤسسة الدولة، لا يتم مهما كانت الدوافع والشعارات، إلا ببناء مؤسسة رقابية، ترصد بدقة الواقع، وتحاسب بشكل قانوني كل من يتورط بالفساد بكل صوره وأشكاله. ولا بد أن نتذكر باستمرار ” أن التنظيم الدنيوي أساس متين لاستقامة نظام الدين ” (15).
3- التداول والانتقال السلمي للسلطة:
الانتخاب وحرية الاختيار من قبل أبناء الشعب، هو الطريق للوصول إلى سدة المسؤولية والحكم في الدولة المدنية. لذلك فإن التداول السلمي للسلطة والمسؤوليات العامة، من الأركان الأساسية للدولة المدنية. فالدولة التي تغيب فيها أطر وعمليات التداول السلمي للسلطة والمسؤوليات العامة، هي دولة شمولية، حتى لو ادعت الديمقراطية والانفتاح. لأنه لا يمكن أن تكون هناك ديمقراطية، بدون تداول سلمي للسلطة.
فالمؤشر الحقيقي لديمقراطية أية دولة، هو في حقيقة التداول السياسي للحكم والسلطة. فالمسؤوليات السياسية للدولة بكل مستوياتها ودوائرها، ليست حكرا على فئة أو طبقة، وإنما هي مجال مفتوح لكل الطاقات والكفاءات الوطنية. والطريقة الوحيدة التي تحسم حالة التنافس بين الأفراد والمجموعات السياسية على هذا الصعيد هي صناديق الاقتراع. فكل القوى والتعبيرات السياسية في الأمة والمجتمع، لها الحق في إدارة شؤون المجتمع والوصول إلى الحكم.
والتنافس السياسي – السلمي والديمقراطي، هو الذي يثري الحياة السياسية والوطنية، وهو الذي يمد مؤسسة الدولة بالكثير من الطاقات والقدرات، القادرة على إثراء الواقع السياسي والاجتماعي. فانتقال السلطة وتداولها بوسائل سلمية – ديمقراطية، يضمن استقرارا وتطويرا في آن.
مما يجعل مؤسسات الدولة فاعلة ودينامية وبعيدة عن كل أشكال الجمود والترهل والتوقف عن التطور والتقدم. فالدول التي تتجمد فيها النخب السياسية السائدة، وتتعامل مع مواقفها ومناصبها وكأنها من الحيازات والأملاك الشخصية، لا يفرقها عنها إلا الموت، فإن هذه الدول ستعاني الكثير على صعيد تراكم الأخطاء والمصالح الخاصة، التي تحول دون ممارسة العمل الإداري والسياسي بما ينسجم ومتطلبات العدالة وخدمة الصالح العام.
وفي المقابل فإن الدول التي تنتقل فيها السلطة بمنافسة سياسية – ديمقراطية، فإنها تعيش على نحو دائم الحيوية والفعالية، وتمنع تراكم قوى تعتني بمصالحها الخاصة والضيقة.
والتقدم نحو الحضارة والتطور الاقتصادي والاجتماعي، هو في حقيقته تقدم باتجاه إقامة دولة مدنية، تكون رافعة حقيقية باتجاه قيم وحقائق الحضارة. لذلك لم تبنى حضارة في ظل دولة مستبدة، متوحشة، معادية لحقوق الإنسان، ولا تلتزم بمقتضيات العدالة العامة. والعلاقة بين الحضارة والدولة المدنية، هي علاقة متداخلة ومتشابكة. فلا تبنى الدولة المدنية إلا بقيم حضارية، كما أن الدولة المدنية ومن خلال مفاعيلها وحقائقها المجتمعية، هي تعمق وتجذر قيم الحضارة في الفضاء الاجتماعي والسياسي.
وخلاصة القول: إن الإسلام في نصوصه التأسيسية وتوجيهاته العامة، لا يعارض ولا يناقض حقائق ومكونات الدولة المدنية. وغياب النموذج التاريخي على هذا الصعيد، لا يعني بأي شكل من الأشكال، معارضة النصوص والتوجيهات الإسلامية للالتزام بكل متطلبات بناء دولة مدنية في الاجتماع الإسلامي المعاصر.
الخاتمة:
إن الكثير من الأزمات والمآزق التي يعانيها اليوم المجال الإسلامي بكل مستوياته، هي من جراء سيادة دولة الاستبداد والإكراه. ولا خيار أمام المسلمين، إذا أرادوا العزة والخروج من مآزق الراهن وأزماته، إلا بذل الجهد المتواصل، من أجل بناء الدولة المدنية، التي تتجاوز نمط الاستبداد في إدارة شؤون الحكم والسلطة، وتتعامل مع جميع المواطنين على حد سواء بصرف النظر عن أصولهم ومنابتهم وقناعاتهم.
إن الدولة المدنية اليوم، والتي تعتمد على قيم الديمقراطية وحقوق الإنسان، هي جسر العبور بالنسبة إلى العالم الإسلامي بأسره نحو الخروج والانعتاق من أزمات الحاضر، وصولا إلى صياغة وبناء مستقبل أفضل للعالم الإسلامي أكثر عدلا وحرية وتسامحا.
…………………………………
الهوامش
1- الإسلام المعاصر والديمقراطية، نخبة من الكتاب، ص 7، مركز دراسات فلسفة الدين، بغداد 2004 م.
2- المصدر السابق، ص 13.
3- حول الخيار الديمقراطي – دراسات نقدية، مجموعة من المؤلفين، ص 134، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت 1994م.
4- السياسة والحكم – النظم السلطانية بين الأصول وسنن الواقع، الدكتور حسن الترابي، ص 15، دار الساقي، بيروت 2003م.
5- القرآن الكريم، سورة المائدة، الآية (49).
6- القرآن الكريم، سورة النور، الآية (47 – 51).
7- القرآن الكريم، سورة المائدة، الآية (42).
8- السياسة والحكم، حسن الترابي، ص 64، مصدر سابق.
9- مجلة حوار العرب – السنة الأولى – العدد (2)، يناير 2005م، دراسة السيد هاني فحص: الدين والدولة إشكالية أم مشكلة.
10- محمد باقر الصدر حياة حافلة، فكر خلاق، السيد محمد الحسيني، ص 326، دار المحجة البيضاء، بيروت 2005م.
11- مجلة حوار العرب، مصدر سابق، ص 51.
12- جريدة الحياة اللندنية بتاريخ 11/ابريل/2005م. – مقال علي حرب بعنوان: الحاجة العالمية للإصلاح: الإصلاح ورهاناته.
13- في ظلال نهج البلاغة، محمد جواد مغنية، الخطبة 216، دار العلم للملايين، الطبعة الثالثة، بيروت 1973م.
14- مجلة منبر الحوار، السنة التاسعة، العدد 34، خريف 1994م.
15- خير الدين التونسي، أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك، ص 106، دار الطليعة، بيروت 1978م.