خاص الاجتهاد: أستاذ الفقه بجامعة المدینة العالمیة الدكتور هشام العربي في حوار مع “موقع الاجتهاد”: ضلال المتطرفين نابع من الجهل بحقيقة الجهاد في الشريعة الإسلامية / خسر المسلمون كثيراً بتقليص دور الفقهاء والمجتهدين / وجود المسلمين في الغرب واقع فرض نفسه.. والاجتهاد الجماعي في الغرب أولى من الاجتهاد الفردي
ما بين التطرف والقتل والإرهاب بذرائع مختلفة والإتكاء على الإسلام في إطلاق هذه الأحكام، وما تبعه من تكفير للمجتمعات الإسلامية بأجمعها، بات لزاماً على رجال الدّين المسلمين والفقهاء والمجتهدين التصدي لتلك الأحكام ومطلقيها من مُدّعي الدين الإسلامي والوقوف بوجههم وضرورة تبيين الحقيقة للمسلمين بعيداً عن الغلو والتطرف وإثارة العواطف.
موقع الاجتهاد التقى أستاذ الفقه وأصوله المساعد بكلية الشريعة وأصول الدين بجامعة نجران الدكتور هشام العربي وحاوره حول التطرف والإرهاب والتكفير وسبل مواجهة هذه الظواهر بالإضافة إلى فقه الأقليات بعد انتشار الإسلام في الدول الغربية وهجرة المسلمين إلى تلك البلاد وحياتهم هناك وما تبعه من ضرورة وجود أحكام شرعية تختصّ بهم دون غيرهم، وكان الحوار التالي:
يقوم المتطرفون بأعمال القتل الجماعي بالإضافة إلى السبي والتعذيب مستندين إلى أحكام شرعية – بحسب قولهم- كيف يمكن دحض هذه الأحكام وإثبات بطلانها، وما هو دور الفقهاء والمجتهدين في هذا الأمر؟
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، ورضي الله عن خلفائه الأربعة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وعن سائر الصحابة وأمهات المؤمنين وآل بيته الطيبين الطاهرين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فمما ابتليت به أمتنا ظهور فئات من المتطرفين فكريا من الذين يجهلون أحكام الشريعة الإسلامية وينصبون أنفسهم مفتين وقضاة ومنفذين في الوقت نفسه، فيجمعون لأنفسهم السلطات الثلاثة التشريعية والقضائية والتنفيذية، ويعملون القتل في المخالفين لهم من المسلمين المسالمين، في الوقت الذي يتركون فيه أعداء الإسلام الحقيقيين.
وهم يجعلون لأنفسهم سلطة الحكم على عقائد الناس بمجرد عدم موافقتهم لهم في هذا الضلال المبين، ويكفرونهم، ويؤسسون على هذا التكفير اعتبار نسائهم سبايا يستحلونهن، بل ويعذبونهم.
وهذا كله ضلال مبين وجهل عريض؛ فالشريعة الإسلامية لم تجعل لأحد وصاية على أحد، وقد قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: ﴿ فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ ﴾ فحصر مهمته في النصح والتذكير؛ فكيف لأحد كائنا من كان أن يحمل الناس على معتقده حملا؛ وإلا عذبهم وقتلهم ؟!
وفي الحقيقة هذا الضلال نابع من الجهل بحقيقة الجهاد في الشريعة الإسلامية؛ فالجهاد إنما شرع للدفاع عن بلاد المسلمين ضد أي عدوان، وشرع لتبليغ دين الله ضد من يمنع وصول كلمة الحق إلى الناس. وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يرسل رسله قبل الغزو للدعوة إلى الإسلام، فإن هم خلوا بينه وبين الناس؛ وإلا قاتلهم.
وحتى في حال قتالهم ما كان يتعرض لدور العبادة، ولا للنساء والشيوخ والأطفال والمسالمين، وما كان يجهز على أحد، ولا يعذب أحدا.
بل إنه صلى الله عليه وسلم كان يأمر أصحابه إذا قتلوا أن يحسنوا القتلة، وإذا ذبحوا أن يحسنوا الذبحة، فأين أولئك الجهال من هذا الهدي الكريم الرحيم ؟!
وفي الحقيقة أولئك النفر هم صنيعة أعداء الإسلام ليكونوا خنجرا في جنبه، وفي الوقت نفسه لتشويه صورته والإساءة إليه، والتذرع بضرب بلاد المسلمين وإصابة الأبرياء بدعوى القضاء على الإرهاب والإرهابيين.
وهنا لابد أن يكون للفقهاء دور في تبصير الجماهير بأحكام الشريعة وبيانها لهم، وتوضيح أن الإسلام لم يأت بتلك الضلالات والجهالات، وأنه بريء منها وممن يصطنعها.
وفي الحقيقة لقد خسر المسلمون كثيرا بتقليص دور الفقهاء والمجتهدين من قبل بعض الحكومات وإغلال أيديهم في تعليم الناس صحيح الأحكام خوفا من الإسلام وشريعته، والشريعة الإسلامية خير لهم لو كانوا يعلمون!.
ولقد كان شأن المسلمين عاليا يوم أن كان حكامهم يقربون الفقهاء ويجالسونهم ويصدرون عنهم.
يطلق المتطرفون أحكامًا عامة بردة كافة المجتمعات الإسلامية وجميع مؤسساتها ويعمل المُضللون على إحداث تفجيرات بتلك الذريعة.. كيف يمكن مواجهة هذه الأحكام ونقضها؟
في الحقيقة هذه القضية متفرعة عما سبق بيانه من تطرف بعض الفئات نتيجة الجهل بأحكام الشريعة، وتنصيب أنفسهم أوصياء على الناس يكفرونهم ويقتلونهم ويستحلون دماءهم وأموالهم ونساءهم.
وهذا كما سبق غير جائز لأحد من الناس، ولم يجعله الله لنبيه المصطفى صلى الله عليه وسلم فضلاً عن غيره.
ولابد من قيام الفقهاء بدورهم في توعية النشء وتبصيرهم بأحكام الدين الصحيحة؛ لئلا يصيروا عرضة لتلك الأفكار المغلوطة.
صحيح إن كثيراٌ من المجتمعات الإسلامية بها الكثير من المخالفات الشرعية، لكن ذلك لا يجيز أبداً لأحد أن يحكم بكفرهم، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق على صحته من حديث ابن عمر رضي الله عنهما مرفوعاً: «أُمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم، إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله تعالى».
والمجتمعات شأنها في ذلك شأن الأفراد؛ فالإنسان المسلم ليس معصوما من الخطأ، وهو لا ينفك عن الذنوب والمعاصي، وهو مأمورٌ بالتوبة دائما وأبدا، وهذا بحكم خلقته وطبيعته، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لَوْلا أنَّكم تُذْنِبُون لذَهَبَ الله بِكُم، وخلق خَلْقا يُذْنِبُون، فيَغْفِرُ لهم».
وبالإضافة لدور الفقهاء فإن للدولة دورا آخر مهما في قمع هؤلاء البغاة والخوارج الجاهلين وإيقافهم وبيان الحق لهم ومعاقبة من تلبس بالجرائم منهم كلٍّ حسب ما اقترف.
ظهر مؤخرًا ما يُعرف بفقه الأقليات.. كيف يمكن أن توضحون هذه الفكرة بعيدًا عن الأفكار المغلوطة، وما دور المجتهدين بهذا الأمر؟
فقه الأقليات يعتبر من أهم المستجدات التي تواجه المجتهدين في العصر الحاضر؛ حيث أصبح الوجود الإسلامي في البلاد غير الإسلامية واقعاً يفرض نفسه على الساحة الفقهية، ويستوجب من المجتهدين والباحثين النظر والاجتهاد في نوازله المتعددة والمستجدة باستمرار، سواء في العبادات أو المعاملات المالية أو ما يتعلق بأحكام الأسرة التي يطلق عليها في كثير من الدول الأحوال الشخصية.
وفي الحقيقة بذل كثير من الفقهاء جهوداً كبيرة في هذا المجال، ولدينا مجامع فقهية في الغرب تقوم على الاجتهاد للنوازل المستجدة لديهم، كمجمع فقهاء الشريعة بأمريكا، والمجلس الأوربي للإفتاء والبحوث.
ولا شك أن الاجتهاد الجماعي هنا أولى من الاجتهاد الفردي؛ لتعقد كثير من النوازل وحاجتها إلى مشاورة وأخذ و رد ونقاش.
ومصطلح الأقليات الإسلامية يشمل المسلمين من أهل البلاد الأصليين ممن دخل في الإسلام، لكنهم يعتبرون أقلية بالنسبة لمواطنيهم الآخرين من غير المسلمين. كما يشمل المسلمين المهاجرين من بلادهم الإسلامية إلى بلاد غير إسلامية للعمل أو للدراسة أو للهجرة أو لغير ذلك من الأسباب المشروعة، وحصلوا على إقامات قانونية بتلك البلاد، وبعضهم قد يحصل على الجنسية ويصير مواطنًا.
فهذه الأقليات الإسلامية تواجهها العديد من المشكلات التي يكون بعضها سياسيّاً من جراء حيف الأكثرية على حقوقهم وعدم رعايتها لخصوصيتهم الدينية، وبعضها اقتصاديّاً لكون أكثرهم من الفقراء وذوي الدخل المحدود، وبعضها ثقافيّاً نتيجة هيمنة الأكثرية على التعليم والإعلام ومراكز التوجيه والحياة العامة.
وكثير من تلك المشكلات لها طابع فقهي؛ نتيجة رغبة تلك الأقليات المسلمة في تلك البلاد في التمسك بهويتها الدينية وعقيدتها الإسلامية وأحكامها الشرعية في العبادات أو المعاملات المالية أو ما يتعلق بالأحوال الشخصية أو الأمور السياسية وغير ذلك، مع خصوصية واقع تلك الأقليات، الذي ينبغي أن يؤخذ في الاعتبار عند النظر والاجتهاد في النوازل الخاصة بهم.
ولذلك ففقه الأقليات فقهٌ خاص ينبغي أن يقوم على اجتهاد قويم يجمع بين مقاصد الشريعة ونصوصها الثابتة، ويراعي ظروف الأقليات الإسلامية وزمانها ومكانها، ومدى حاجتها للتمسك بأحكام الشريعة، مع كونها جزءا من المجتمعات التي تعيش فيها بكل معطياتها وظروفها.
وهو فقه تأصيليٌّ، لا يُقصد منه تسويغ الواقع في البلاد الغربية ولا تبريره، إنما يُقصد منه حفظ الحياة الدينية للأقليات المسلمة، مع مراعاةِ خصوصيتها وجوانبِ الضرورة في حياتها وظروفها، وإعمالِ قواعد الموازنات بين المصالح والمفاسد، ومراعاةِ مقاصد الشريعة عند الاجتهاد لها.
الدكتور هشام العربي
أسـتاذ الفقه وأصوله المساعد بكلية الشريعة وأصول الدين جامعة نجران
عضو الجمعية الفقهية السعودية
محكِّم بعدد من المجلات العلمية المتخصصة
اعداد وتحریر: بهمن دهستاني