الضمان في الفقه الإسلامي

الضمان في الفقه الإسلامي وأهمية منفعته على الفرد والمجتمع.. علي عبدالحكيم الصافي

الاجتهاد: تبرز أهمية الفقه الإسلامي بأصالة مبادئه وقدرتها على احتواء حاجات الناس في مختلف عصورهم وبيئاتهم(1)؛ لما بُنيت عليه قواعد العامة من فكرة المصلحة والعدل.

وقد أدرك كبار علماء القانون بعض ذلك، فأقرّوا في مؤتمر القانون الدولي المنعقد في لاهاي عام ۱۹۳۷ الفقه الإسلامي مصدراً من مصادر التشريع.

وبعد هذا الاعتراف نشطت المقارنة بين الفقه الإسلامي والقانون الوضعي في البلاد الإسلامية وانتهت إلى أنّ قسماً مما تبنّاه القانون من نظريات لم تبلغ في الرقيّ ما يشاكلها في الفقه الإسلامي، أو بلغته بعد زمن بعيد: کمبدأ الرضائية في العقود، ونظرية البطلان ونظرية السبب، والمسؤولية التعاقدية، وغيرها.

وقد عقد الدكتور السنهوري مقارنة بين الفقهين: الإسلامي والغربي في كتابه (مصادر الحق)، فقال فيما يخص نظرية البطلان في الفقه الإسلامي: إنها أوسع نطاقاً من نظيرتها في الفقه الغربي، فهي تمتدّ إلى آفاق أبعد(2).

وقال في موضع آخر: إنّها تعتبر أرقي في الصناعة من نظيرتها في الفقه الغربي(3).

وفي مجالات ما يسمى بالمسؤولية التعاقدية، وهي تقابل ضمان العقد فيما يقول المقارنون(4).

يقول الدكتور حسن الخطيب: ويظهر لنا أن فقهاء الشريعة الإسلامية قد طبّقوا نظرية العلامة Demogue قبل أن تتولّد أحرف هذه النظرية الخاصة، بالتفرقة بين الالتزامات التعاقدية المتعلقة بالوسائل، والالتزامات المتعلقة بالنتائج(5).

ولعل كلمة (ضمان) في تعبير الفقه الإسلامي هي أدقّ فيما تعنيه من الناحية المالية من تعبير (المسؤولية التعاقدية)، لما يبرز في كلمة (مسؤولية) من الجزاء المترتّب من عدم تنفيذ القوانين العامة. وقد فضَّل قسم من الفقهاء الغربيين – أمثال سنكتليت – الالتزام بهذه التفرقة.

وأهمية الضمان تتجلى في كونه وسيلةً لتحقيق عدة غایات تعود منفعتها على الفرد والمجتمع، وتتّصل بمجموعها بالنواحي الاقتصادية والاجتماعية والنفسيّة، كما تتصل بالجوانب الأخروية.

ففيما يتصل بالناحية الاقتصادية – وهو أول ما يسبق إلى الذهن من تلك الغايات – هو ضمان ما يأكل الإنسان من مال الغير بالباطل، وإقامة التوازن الاقتصادي بين ما يعطي ويأخذ في معاملاته، وذلك واضح في كل موارد الضمان، وقد أشرنا إلى بعض مجالاته قريبا.

وإذا تجاوزنا الغاية الاقتصادية إلى غيرها من الغايات، فالضمان وسيلة تولد الاطمئنان لدى الإنسان بما تحفظه من حقوقه، وتنمي فيه صفة الإقدام على وضع ماله بيد الآخرين والثقة بهم في الوفاء، وناهيك بمصير حياة – وخاصة في المعاملات التجارية – تُجرَّد منها هاتان الصفتان: صفة العطاء أو الوفاء.

والضمان أيضاً وسيلة يدرأ بها وقوع المشكلة ويزيلها إن وقعت، فإذا كان للمال – وهو محلّ الضمان – وظيفة اجتماعية، فالضمان يحول بين أن يبغي أحد على مال أحد، ويحدّد سلوك القائمين بتلك الوظيفة؛ لئلا يتعسّفوا في استعمال حقوقهم، كما يردّ آثار بعض الأعمال السيئّة على أصحابها ممّا هو واضح في جملة من الخيارات، کالعيب والغبن والتغرير، وحتى الحالات الاستثنائية التي يرفع فيها الحظر لاعتبارات خاصّة نجد أساس الضمان لا يمسّه هذا الاستثناء، فإذا جاز للمضطر أكل مال الغير بدون رضاه، فإن ذلك لا يعني إضاعة المال وعدم ضمانه.

ومن الواضح أن الضمان وسيلة تمنع وجود تلك النزاعات أو تزيلها، وبذلك يدرأ خطر العداوة والبغضاء وما يعكسانه من آثار سيئة على المجتمع.

ومن غابات الضمان وأهميّته ما هو أبعد وأسمى ممّا تقدّم، فقد تمحّضت غاية قسم منه في رضا الرب، و تجاوزت آثاره إلى الحياة الأخرى في نیل ثواب أو رفع عقاب، ويتمثّل ذلك فيما سارع به الإمام علي “عليه السلام” لضمان الدين عن الميت، وفي قول النبي “صلى الله عليه وآله وسلم” له: « جزاك الله خيرا عن الإسلام وفكّ رهانك كما فككت رهان أخيك»(6).

فالضمان إذن وسيلة لتحقيق غايات سامية هي فيما بين العبد وربّه، وفيما يتّصل بخلق الإنسان واقتصاده وبقيّة روابطه، وبقدر تعلّق الشخص بأبعاد هذه الغايات ينتظمه سلوك يقيم به العدل، ويضفي عليه الخير والطمأنينة.

 

الهوامش

1- البيئة: الحالة

2- مصادر الحق 4 : 124.

3- المصدر السابق: 186.

4- أنظر مصادر الحق 6 : 138 للدكتور السنهوري ط ۳، 1968. مصادر الالتزام 1 : 401 و 407 للدكتور عبد المجيد الحكيم، ط ۲، ۱۹6۳. نطاق المسؤولية المدنية التقصيرية والمسؤولية التعاقدية للدكتور حسن الخطيب مطبعة حداد. ۱۹6۸. ومع أنهم قابلوا بين التعبيرين: ضمان العقد والمسؤولية التعاقدية – ولسنا بصدد بيان المفارقات بينهما في أصول الأحكام ومجالاتها ونتائجها – إلا أن ما يمكن أن نشير إليه هو ما قاله الدكتور السنهوري في بيان تحديد الضرر في الفقهين: ففي الفقه الغربي يعوّض عن كل ضرر مادي أو أدبي، وفي الضرر المادي يعوّض عن كلّ ما يحمله الدائن من خسارة وما فاته من ربح… أما في الفقه الإسلامي فإنه يشترط في الضمان أن يكون المضمون مالاً متقوماً في ذاته، وأن توجد المماثلة بينه وبين المال الذي يعطي بدلًا عنه، فلا تعويض عن المنافع ولا عن العمل، إلا في استثناءات محدودة. ومن باب أولى لا تعويض عن أيّة خسارة تحمّلها الدائن، أو عن أي ربح فاته.. مصادر الحق 6 : 168.

5- نطاق المسؤولية المدنية التقصيرية والمسؤولية التعاقدية للخطيب: 40.

6- سنن الدار قطني 3: 75. نيل الأوطار 5 : 252، مصابيح السنّة 2 : 12. 

 

المصدر: مقدمة كتاب الضمان في الفقه الإسلامي؛ دراسة مقارنة لأسبابه ومجالاته في العقود – للشيخ علي عبدالحكيم الصافي.

تحميل الكتاب

الضمان في الفقه الإسلامي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Slider by webdesign

Clicky