الاجتهاد: نشأة الصهيونية وتعدد تياراتها: الصهيونية حركة علمانية في الأساس، تأسست في أواخر القرن التاسع عشر على يد مفكرين يهود علمانيين كرد فعل على الاضطهاد القومي الذي تعرض له اليهود في أوروبا.
وبينما كانت الصهيونية تستهدف إقامة وطن قومي لليهود، كان هناك صراع داخلي بين العلمانيين والمتدينين اليهود حول هوية هذا المشروع. المتدينون اليهود رفضوا في البداية دعم المشروع الصهيوني باعتبار أن تأسيس دولة يهودية يجب أن يتم بواسطة “المسيح المنتظر” وليس عبر حركات سياسية علمانية.
اليهود في أوروبا والمرحلتان الرئيسيتان من العداء:
مر اليهود في أوروبا بمرحلتين من العداء عبر التاريخ. المرحلة الأولى هي مرحلة العداء في القرون الوسطى، يوم كانت أوروبا مسيحية، فكان استهداف اليهود مؤسسا على خلفيات دينية. ومع ذلك، فإنهذا العداء والإضطهاد كان من الممكن لليهودي حله والتخلص منه من خلال تغيير دينه واعتناق المسيحية.
أما المرحلة الثانية، فتقع في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، وهي الفترة التي شهدت انحسار المسيحية وتراجعها وصعود التيارات القومية. وهذا المرحلة تعد أصعب وأعقد من المرحلة الأولى؛ لأن استهداف اليهود فيها مؤسس على عداء قومي عرقي، مما جعل إمكانية حل هذا الاستهداف بالنسبة لليهودي مستحيلا؛ فأصبح اليهودي يُولد وتولد معه مشكلته، ولا يمكنه الهروب منها أو معالجتها إذ لا سبيل للمرء أن يغير قوميته وعرقه كما كان في الاستهداف الديني ومعالجته بتغيير الديانة والانخراط في المجتمع الأوروبي.
الخيارات الأربعة لليهود في القرن التاسع عشر:
في القرن التاسع عشر، فكر اليهود في أوروبا في أربعة خيارات رئيسية للتعامل مع وضعهم المتأزم:
1. الاندماج في مجتمعاتهم الأوروبية.
2. الصبر والانتظار حتى تمر العاصفة القومية.
3. الانضمام إلى الحركات التقدمية لتغيير النظام القائم.
4. الهجرة من أوروبا إلى أرض جديدة لتأسيس دولة قومية خاصة بهم.
وبعد أن جربوا الخيارات الثلاثة الأولى دون نجاح واضح، اتجه بعض المفكرين اليهود إلى التفكير في الخيار الرابع، وهو الهجرة وإنشاء وطن قومي لهم. وكان هؤلاء المفكرون علمانيين، وهم الذين طرحوا “أرض فلسطين” كواحدة من الخيارات الممكنة لإقامة دولة يهودية.
الصراع بين العلمانيين والمتدينين في إسرائيل:
من أكبر التحديات التي تواجه المجتمع الإسرائيلي اليوم هو الصراع بين العلمانيين واليهود الحريديم (المتشددين دينياً). المتدينون يعيشون حياة منفصلة من الناحية الثقافية والدينية، ولا يشاركون في الجيش أو الحياة العامة بنفس الطريقة التي يشارك بها العلمانيون. التحدي يكمن في أن المتدينين يشكلون قنبلة ديمغرافية، حيث ينجبون أطفالًا بأعداد كبيرة، في حين أن العلمانيين ينجبون أطفالًا بأعداد أقل. مع ذلك، المتدينون يعتمدون بشكل كبير على الدعم الحكومي دون أن يساهموا بفعالية في المجتمع، مما يؤدي إلى توتر مستمر بين الفئتين.
تيار الصهيونية الدينية:
في الوقت الحاضر، برز في إسرائيل تيار جديد يمزج بين الدين والسياسة، وهو “الصهيونية الدينية”. هذا التيار يسعى إلى إضافة بعد ديني إلى المشروع الصهيوني، مما يجعل من الصهيونية أكثر من مجرد مشروع قومي، بل يربطها بالمفاهيم الدينية اليهودية. وقد أصبح هذا التيار حليفًا قويًا للقوميين اليمنيين في إسرائيل (الليكود) الذي يمثله بنيامين نتنياهو.
الصهيونية الدينية كحل للأزمة الديمغرافية والسياسية:
الصهيونية الدينية هي محاولة لتجاوز التحديات التي تواجه المجتمع الإسرائيلي، خصوصًا مع تزايد أعداد المتدينين. تحاول الصهيونية الدينية إدماج المتدينين ضمن المشروع الصهيوني، بحيث يصبحون جزءًا فعالًا في بناء الدولة دون أن يتخلوا عن هويتهم الدينية. الهدف هو تقليل التوتر بين العلمانيين والمتدينين وضمان بقاء إسرائيل كدولة قومية يهودية متماسكة.
بناء عى كل ما تقدم، يمكننا فهم أن الصراع بين العلمانيين والمتدينين يمثل تحديًا كبيرًا لإسرائيل دولةً وشعباً، وأن الصهيونية الدينية تمثل محاولة جديدة للتوفيق بين الدين والسياسة في إسرائيل، أي أنها مسعى لإيجاد حل يمكّن المجتمع الإسرائيلي من التعايش بين فئاته المختلفة، ولكن هذا التعايش الداخلي يخلق أزمة على مستوى خارجي، وهو السياسات المتطرفة في التعاطي مع الملفات الخارجية، وخصوصا الأمنيّة والحقوقية منها، سواء المتعلقة بالفلسطينيين أو عموم المنطقة. وكلما توغلت الصهيونية الدينية وازداد تحالفها رسوخا مع القوميين اليمنيين زادت نسبة المخاطر على إسرائيل وأمنها. وهذا ما نشهده في الفترة الحاضرة مع صعود نتنياهو.