الاجتهاد: ثم سافرت إلى مصر، وبقيت فيها زهاء ثلاثة أشهر كنت فيها ملازماً لعلماء الأزهر، والحضور في حوزة درسهم المناقشة معهم وكان أكثر اختصاصي بشيخ الأزهر الشيخ سليم البشري(شيخ جامع الأزهر من فقهاء المالكية) وأكثر منه ملازمتي لمفتي الحقانية العالم الشيخ محمد بخيت المطيعي( مفتي الديار المصرية سنة 1333 – 1339هـ) وكان عالماً نحريراً .
وقفت * على أوراق بخط الإمام الشيخ محمد الحسين آل كاشف الغطاء (قده) في خزانة مخطوطات مكتبته العامة لمؤسسها والده. وقد ذكر شيئا عن رحلته إلى مصر مع تأبينه للعلامة الشيخ المطيعي وإليك ما نصه :
(قال الله تعالى في محكم كتابه الحكيم: (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا ۚ وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ ۚ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ)[الرعد: 41].
ورد في صحيح التفاسير أن المراد بنقص الأرض من أطرافها، نبض علمائها من الأطراف. نعم والأطراف منازل الأشراف فكأن العلماء للبلاد سياجها الرصين، وسورها الحصين، يحفظون الأمم من المهالك، ويسلكون بهم أقوم المسالك. هبطت مصر القاهرة أوائل سنة إحدى وثلاثين بعد الألف وثلاثمائة هجرية (۱۳۳۱ه).
ومكثت زهاء ثلاثة أشهر وكانت جل غايتي من النزوع إليها، والوفود عليها، ملاقاة كبار رجالاتها، وعيون علمائها، من علماء الأزهر أو غيرهم. وكنت آنست في تلك المعالم تارة فقلت لعلي أحصل منها على قبس أو أجد على النار هدی.
وكانت مشيخة الأزهر يومئذ للطيب الذكر المرحوم الشيخ سليم البشري. وكان شيخا هرما يظهر أنه كان قد بلغ من العمر عتيا، حضرت حوزة درسه صباحا في بعض أروقة الأزهر فجاء وبيده أحد جزئي صحيح مسلم فقرأ حديثين أو ثلاث، وشرح بعض جمل الحديث شرحا بسيطا غير مبسوط فوجدت سلامة وسلاسة وبساطة، وبركة، ولم أجد غورا وتحقيقا، وعمقا وتدقيقا، فأردشدت إلى فقيدنا العظيم الراحل إلى جوار ربه العلامة الشيخ محمد بخيت المطيعي – أفاض الله عليه سحب رضوانه – وكان يومئذ مفتي الحقانية فزرته أول زيارة في ادارته الرسمية ضحي ووقفت على مواقيت دروسه زمانا ومكانا، فحضرت حوزة تدريسه في جامع رأس سيدنا الحسين – سلام الله عليه – وكان يدرس في أصول الفقه في بعض مسائل العام والخاص .
فآنست منه علمأ جما وشعرت بأن هذا هو بغيتي المقصودة، وضالتي المنشودة، وكان يصلي المغرب في رواق من الأزهر ثم يعلو المنبر ويباحث في تفسير كتاب الله العزيز فحضرت أيضا في هذه الحوزة وكان محل البحث في آواخر البقرة في قوله تعالى : (يمحق الله الربوا ويربي الصدقات والله لا يجب كل كفار أثني. [البقرة : ۲۷6)
فزدت أعجابا به وعزمت على ملازمته ووجدته (تمرة الغراب). فلم أفارق هذين الدرسین طول تلك المدة التي أقمت فيها بتلك البلاد، وكنت كثيرا ما أناقشه أثناء البحث، وأطيل المجادلة معه فيصغي إلى استماع كلامي أحسن الإصغاء، ويتلقاني مجادلا برحابة صدر، وطلاقة وجه، إلى أن يدفع الشبهة، ويزيح العلة، ويقتلع جراثيم الإشكال، وكانت التلامذة تشرأب أعناقها إلى حيث تسمع لحنا غير معروف، وترى زيا غير مألوف، وطريقة في المباحثة عندهم غیر متعارفة .
كما أنه – أعلى الله مقامه – آنس بي أكثر من أنسي به، وتعطف على أكثر من تعلقي به، وكان يصلي العشاء في الأزهر بعد درس التفسير، ويخرج فتحف الطلاب به، بين سائل ومستشكل، وفي أثناء محاورته لهم يقف وسط الشارع ويلتفت إلى خلفه ويسأل الطلاب این الشيخ البغدادي؟
فيجیئني بعضهم ويقول: أن الأستاذ يدعوك فأسرع إليه، وهو واقف ينتظر فيضع يده في يدي ويمضي كل ليلة إلى زيارة بعض أصدقائه من بيوتات مصر من علمائها، وأعيانها فيجلس هناك أكثر من ساعة ويجلسني إلى جنبه، ويشرب كوبا من الحليب المغلي مع قليل من (البسكوت) وهذا كان عشاؤه، ويقتصر في الليل والنهار على أكلة واحدة.
وأهدي لي من مؤلفاته المطبوعة جملة كثيرة، وأهديث له مؤلفي المشهور (الدين والإسلام) فاعجب به وكتب عليه تقریضا بديعا ، وهو بخطه ، وكان خطه على العادة الغالبة في العلماء سیما في العصور الغابرة من عدم الجودة.
وأردت السفر يوم العاشر من ربيع الأول فألزمني بالبقاء؛ لحضور المولود النبوي ليلة الثانية عشر في العباسية، واستصحبني معه ليلا إلى الفسطاط المعد للخديوي وهو يومئذ عباس حلمي، وأجلسني إلى جنبه وهو قريب من الخديوي إلى تمام قراءة المولود ثم قمنا إلى محل المائدة وكان في كل محاضراته، ومجالسه، ومحاوراته على شدة وقاره وسكينته وما يتراءى من تجهم وقطوبة، يتدفق علمأ ، ويتفجر ينبوعا، ويسمو في كل موضوع يطرقه حقه، ويشارك في أكثر العلوم سيما العلوم الإسلامية كالفقه، والأصول، والتفسير، والحديث، وفلسفة التاريخ، فكان يتمثل لي به علماء القرون الوسطى كالزمخشري، والرازي، والبيضاوي، واضرابهم من ذوي الإحاطة الواسعة، والتحقيق العميق، وبعد الغور، ودقة النظر، مع رزانة ومتانة، وسجاحة خلق ووداعة
شيم علی الحسب الأغر دلائل
والقصارى، اني خرجت من مصر وأنا ثلج الفؤاد، ساكن النفس بان في السويدا رجالا، ولله في المسلمين كنوزا، هي للإسلام ملاجيء ومعاقل، يلجا إليها عند الشدائد، ويفزع إليها عند الفزع، ولم تزل في نفسي تلك الثقة والطمأنينة كالوادع المطمئن بذخيرته، ولم أزل أتعرف من الواردین سلامته، وأتنسم أخباره، ولم أكن مسبوقا بنبأ فقده، حتى أتاني کتاب من لجنة تأبينه موشحة بخط أخي في الله العارف المتأله السيد محمد الغنيمي التفتازاني – حفظه الله – فصفقت باحدى يدي على الأخرى صفقة المغبون، وقلت – إنا لله وإنا إليه راجعون- قد خسر الإسلام ذلك الكنز الثمين، وأنهد ذلك المعقل الحصين.
الدهر أخسر والمکارم صفقة
من أن يعيش لها الهمام الأورع
رفع الله درجاته ، وأجزل له الجزاء، وجعل لنا في بقية علماء المسلمين أحسن العزاء، وجمعنا الله وإياهم في مستقر رحمته مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين، والصديقين، وحسن أولئك رفيقا ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
والسلام عليكم أيها الأعلام الأفاضل ورحمة الله وبركاته .
من محمد الحسين آل كاشف الغطاء
* أمير الشيخ شريف الشيخ محمد الحسين آل كاشف الغطاء
المصدر: كتاب” عقود حياتي” للعلامة للشيخ محمد الحسين آل كاشف الغطاء – الصفحة 96