خاص الاجتهاد: بعد أن تفضل في الجزء الأول من حواره المميز مع موقع الاجتهاد عن مواقف السيد الخوئي “ره” حول الثورة الإسلامية الإيرانية وحزب البعث والانتفاضة الشعبانية العراقية، تعرض الأستاذ الدكتور محمد جواد جاسم الجزائري في الجزء الثاني من حواره لأحد أعلام النجف الأشرف الفيلسوف المنسي والفقيه المجدد آية الله الشيخ عبد الكريم الزنجاني “ره” صاحب المواقف الإصلاحية والخطبة النارية في القدس الشريف.
وفي ذكرى ولادة الشيخ عبد الكريم الزنجاني (الثامن من شهر رمضان المبارك 1304هـ) نقدم لكم القسم الثاني والأخير من الحوار
قد كتبتم عن الشيخ عبد الكريم الزنجاني، وهو من أعلام النجف، ولكنّه غير مشهور، كتابا بعنوان ” الشيخ عبد الكريم الزنجاني دراسة تاريخية 1886- 1968 م” ما هو سبب تأليف هذا الكتاب ؟
أما الدافع الثاني فتمثل بالرغبة في الوقوف على حقيقة حجم مكونات نتاجه الفكري كماً ونوعاً، وإلى أي مدى احتوي أموراً تجديدية و انفتاحاً على مستجدات العصر يومئذ، في مرحلة أقل ما يقال عنها مرحلة انبثاق الأيدلوجيات المعاصرة و الصراعات المحتدمة بين التيارات المتناقضة من ليبرالية و أخرى يسارية وثالثة قومية و رابعة دينية، فورة فكرية سياسية أثرت بعمق واضح في الساحة العراقية .
وكمن السبب الثالث في اختيار الموضوع البحث، طموحي في كشف النقاب عن حجم وسعة المهمة المعرفية والعلمية والدور الإصلاحي الذي اضطلع فيه الشيخ عبدالكريم الزنجاني خلال سني حياته، ولاسيما فيما يتعلق بمنهجه وجهوده في التقريب بين المذاهب” و”الوحدة الإسلامية”، منهجا اقتضى منه القيام بعدة سفرات إلى مدن عربية وإسلامية خلال النصف الأول من القرن العشرين.
فضلا عما قدح في ذهني أثناء قراءتي الأولية حول موضوع بحثي هذا أسئلة عديدة متنوعة، كان من بين أبرزها : ما الأسس و القنوات الفكرية و العقائدية التي أثرت بتكونات الشيخ عبد الكريم الزنجاني معرفة و فكراً ؟ ما هي حقيقة الآراء المتناقضة حوله؟ هل كان لأفكاره تأثيراً إقليمياً و دولياً؟ هل كان فقيهاً تجديدية فحسب ؟ أم فقيهاً مفكراً إصلاحياً ؟ هذه الأسئلة وسواها ألفت دافعة رابعة للاضطلاع بمهمة دراسة الموضوع.
بالمناسبة تفضلوا قليلاً حول سيرة الشيخ الزنجاني”ره”
ولد الشيخ عبد الكريم الزنجاني عام 1304 ق الموافق عام 1886 م في قرية “باروت” إحدى قرى منطقة زنجان في أسرة عربية، عرف عنها حب العلم وفنون الأدب والفلسفة.
أشارت بعض المصادر أن موطن سكناها كان في النجف الأشرف في محلة العمارة قبل هجرتها إلى إيران عام 1803حيث قرار جده لأبيه في الانتقال إليها بعد ما تعرضت مدن كربلاء المقدسة والنجف الأشرف لغزوات الإخوان وغاراتهم.
احتفت العديد من مدن إيران بمقدم الحجة الشيخ محمد علي لمكانته العلمية ودرايته المعرفية_والشيخ محمد علي هو جد الشيخ الزنجاني لأبيه_ وبعد أداء مراسم زيارة ضريح الإمام علي بن موسى الرضا(ع) شدّ الرحال إلى زنجان استجابة لدعوة أهاليها، متخذاً إياها مقراً لإقلامته، ودار سكنى له، فانتسب إليها، وانتسبت إليه، مدينةٌ أحبّ أهلهُا العلم و العلماء، فهللوا لمقدمه وابتهجوا لسكناه بين ظهرانيهم ابتهاجاً أسرّ قلب ووجدان الشيخ محمد علي، فأجزل ما عنده من علم و محبة، فصار يطلق عليه لقب الشيخ الزنجاني، وبذلك لحق بأسرته هذا اللقب، بل هذا النسب الذي ضاع معه تفاصيل نسبه وانتسابه العربي الأول، أي أنّه يعني أصبح يلقّب بالشيخ الزنجاني، وهو بالأصل رجل عربي، ويقال أنّه من عشيرة ربيعة.
– متى كان في النجف؟
طبعاً هو تتلمّذ في حوزة زنجان، لكنّه قرر في العام 1908 الانتقال إلى طهران، والتحق بحلقة الدرس الفلسفية للملا علي النوري ثم رجع عام 1909 إلى زنجان، ولكنّه في نفس العام عقد العزم بعد شهرين من رجوعه إلى زنجان الرحيل إلى عاصمة الفكر والعقيدة أي النجف الأشرف، وما أن استقر مقامه فيها حتى التحق بدايةً بحلقات درس الملا محمد كاظم الآخوند، وظلّ مواكباً إياه في الاستمرار بحضورها لدراسة كفاية الاصول مدة عامين تقريبا.
وكان أستاذه الملا قربان علي زنجاني الذي منحه إجازة اجتهاد قبل مجيئه إلى النجف، وبعد وفاة الآخوند عام 1911 انتقل بين حلقات دروس أساطين الحوزة في النجف الأشرف؛ مثل شيخ الشريعة الأصفهاني، والسيد محمد الفيروزآبادي، لكنه أكّد متابعته وحضوره عند السيد محمد كاظم اليزدي متتلمذاً عليه في درس الفقه والأصول، لفت الشيخ عبدالكريم الزنجاني أنظار شيوخه من علماء النجف الأشرف الذين لمسوا فيه الفطنة وحسن التدبّر والسرعة في الاستجابة.
وحاز على ثقة المرجعية فقد أجازه السيد محمد كاظم اليزدي عام 1916 في الاجتهاد، وهو المرجع المعروف عنه في الأوساط الحوزوية حينها بتشدده في منح إجازات الاجتهاد إلا لمن يستحقها بعد اختبار دقيق وتمحيص متأتٍ من طول معاشرة وكثرة محاورة ومذاكرة للكشف عن قدراته، وعزز السيد محمد كاظم اليزدي إجازته هذه بدعوة مقلديه 1918 في رجوعهم إلى الشيخ الزنجاني بالاحتياط بمسائلهم الفقهية.
و لذلك طبع رسالته العملية عام 1919م في عهد اليزدي.
طبعاً من أشهر أساتذته كان الملا قربان علي الزنجاني، والميرزا إبراهيم أبو الفتح الحكم الزنجاني، والميرزا مجيد الحكمي، والسيد حسين بن القدّاد، والشيخ علي النوري، والشيخ محمد كاظم الآخوند، والسيد محمد كاظم اليزدي، وشيخ الشريعة الأصفهاني، ومحمد الفيروزآبادي.
أما أبرز تلاميذ الشيخ الزنجاني فهو السيد أبو القاسم الخوئي، وعندما توفي الشيخ الزنجاني عام 1968مـ قام السيد أبو القاسم الخوئي بالصلاة على جنازته قائلاً هذا وفاءٌ للأستاذية.
فهو عاصر مرجعية السيد أبو الحسن الأصفهاني والسيد الحكيم صحيح؟
عاصر السيد الشاهرودي، والسيد ابوالحسن الأصفهاني، والسيد محسن الحكيم، “قدس سرهم” وتوفي عام 1968 أول مجيء البعثيين.
– وهو كان مرجعاً بجانب هؤلاء المراجع؟
طبعاً، وكان له مقلّدين، وله تلاميذ، ومن أبرز تلاميذه السيد أبو القاسم الخوئي، وإبراهيم الموسوي الزنجاني، والشيخ حسن كاظم علوَش الحلي، والشيخ باقر شريف القرشي، والشيخ عبدالحميد علي مهدي القطيفي الخطي، وغيرهم الكثير.
– هل كان له مواقف اجتماعية وسياسية؟
نعم لديه مواقف اجتماعية وسياسية، وقد ساهم في التقريب بين المذاهب، حيث ذهب إلى الأزهر عام 1936مـ والتقى بالشيخ مصطفى المراغي شيخ الأزهر، وقد كرّمه شيخ الأزهر، وكانت له مقولة أنّنا عندما نكرّم الشيخ الزنجاني فهذا يعني أنّنا نكرم النجف ومدفنها الشريف، و عندما ذهب إلى كليّة الآداب التي كان عميدها طه حسين _طبعاً بالمناسية الشيخ الزنجاني كان متأثراً بفلسفة ابن سينا، ولديه كتابات في الفلسفة، ومنها كتابه “دروس في الفلسفة”، وكتابه “محاضرات في الفلسفة” ولديه كتاب عن ابن سينا وكتاب عن الكندي_ فألقى محاضرةً فلسفيةً في الأزهر، وكان طه حسين ينصت إلى كلمة الشيخ الزنجاني، وبعد انتهاء كلمته تحدث طه حسين وقال: عندما سمعت الزنجاني نسيت نفسي، وكأنّي في عالم غير هذا العالم، وكأنّ ابن سينا حيّ يخطب، قودوني إليه، فأخذ يده وقبّلها، وقال: إنها أول وآخر يد أقبّلها.
وله مواقف في مؤتمر دمشق الأول في عام 1938 حيث خطب في الجامع الأموي، وأكمل خطبة الإمام زين العابدين في الجامع الأموي، وقد فضح بني أمية، وذهب إلى بيت المقدس، وألقى خطبة في تل أبيب.
و له مواقف إصلاحية في مجال الإصلاح الإجتماعي، وله مواقف سياسية، وله كثير من المواقف المؤثرة، ووجدته يتحدث في الفكر الاقتصادي من خلال كتابه “الفقه الأرقى في شرح العروة الوثقى” الذي طبع عام 1913 فقد نظّر فيه للاقتصاد الإسلامي؛ وقد تحدث عن حقيقة أسس علم الاقتصاد، وانتقد علم الاقتصاد الحديث؛ طبعاً من خلال منطلقات بنائه الفكري والعقائدي،
فعلى سبيل المثال لا الحصر أشار إلى ما سمّاه انحراف بعض المتأخرين في تحديد أغراض علم الاقتصاد؛ فأسموه علم الثروة، و عرّفوه بأنه الحصول على الثروة والانتفاع بها، وأصبحت الغاية في العلم هي الحصول على الثروة في ذاتها؛ الأمر الذي أدّى حسب اعتقاده إلى فهم خاطئ عنه في كونه معنياً بجلب الثروة و الغنى فحسب، وهذا خلاف الواقع والحقيقة، لأنّ الاقتصاد _وحسب تعبيره_ يحتّم على الفرد أن يفكر في منفعة نفسه بشرط أن لا يضر غيره، والمنفعة بهذا الشرط هي صورة عملية للعدل، والعدل صورة أخلاقية للمنفعة، والمنفعة والأخلاق حسب ما يُرى طرفا معادلةٍ ينتجان دافعاً لحب العمل والآخر معنيٌ بالتآزر الاجتماعي، فأشار إلى أنّ علم الاقتصاد قرر أنّ الحاجة هي منشأ الفعالية البشرية.
– هل هناك مواقف سياسية للشيخ عبدالكريم الزنجاني في العراق؟
طبعاً عنده مواقف کثيرة في العراق، فقد كان عنده موقف قوي تجاه الشوعية والفكر الشيوعي، وكان هذا الموقف نابعا من قلقه العميق إزاء انتشارها في الساحة العراقية بين صفوف الشباب المسلم، حتّى أنّه في عام 1950 بات خمسون بالمئة تقريبا من الشباب العراقي منتمين للحزب الشيوعي.
أعرب الشيخ الزنجاني عن مخاطر ما سيُحدِثه انتشار الشوعية من تغييرات اجتماعية واقتصادية وسياسية، لذلك عندما سُئل عن الشيوعية أجاب: إنّ الفكر الشيوعي يناقض الأديان، ويناقض الإسلام وسائر الأديان، والنقيضان لا يجتمعان.
طبعاً في البداية طلبوا منه أن يُصدر فتوى ضد الشوعية؛ فقال: أخاف أن يُقتَل الشيعة باسم الشيوعية، بعد ذلك أصدر هذه الفتوى التي تقول: الفكر الشيوعي يناقض الإسلام وسائر الأديان والنقيضان لا يجتمعان. (واتقوا فتنةً لا تصيبنّ الذين ظلموا منكم خاصّة واعلموا أنّ الله شديد العقاب).
ولكن نعم نقل عنه أنّه قال: السياسة جمرة نارٍ أُحسّها و لا ألمسها. و كان عنده بطبيعة الحال مواقف من التطورات المحلية، واهتم حقيقة بالقضية الفلسطينية منذ ثلاثينيات القرن العشرين عندما شدّ الرحال عام 1936 إلى فلسطين، وتحديداً إلى معقل من معاقل الحركة الصهيونية آنئذٍ في تل أبيب، رغم محاولات مفتي الديار الفلسطينية أمين الحسيني منعه من سفره المحفوف بالمخاطر وخوفاً على حياته من غلاة التطرف الصهيوني، بيد أنّ الشيخ عبد الكريم الزنجاني أصرّ على المضي قُدم متحدياً زعماء الحركة الصهيونية في تل أبيب.
وحال وصوله توجّه مع كوكب الرجال الفكر والسياسة العرب في فلسطين إلى منطقة الساحل في تل أبيب واحتشد في مكان اجتماعه جماهير كثيرة من الصهاينة ومتطرفي اليهود، فألقى فيهم خطبة إرتجالية حملت مضامينها رفضاً للاستعمار الصهيوني كما أسماه، وشجب تغنيهم بأحلام الوطني القومي و ذكر بأنّ اليهودية دين لا قومية، مشيراً إلى أن قسماً غير قليل من اليهود المتصهينين قد جاؤوا من مختلف أصقاع الأرض حاملين لجنسيات بلادهم الأصلية كيهود ألمانيا، موضحاً للمحتشدين أن الحركة الصهيونية هي حركة رأسمالية اتفقت مع المصلحة الاستعمارية،مشيراً إلى أنّ الأخيرين وجدا في مصلحتهم إبقاء حياة الحركة الصهيونية العنصرية عليلة يُستغلّ وجودها لتحقيق مآربهم السياسية.
ولفت الأنظار إلى دور اللوبي اليهودي في الولايات المتحدة الأمريكية، وما يشكّله من ثقل مادّي ومعنوي في ما يصب لصالح حركة الاستيطان كما أسماها الاستعمار الصهيوني في فلسطين.
كما ألقى في العاشرة من كانون أول عام 1963م خطبة أخرى مماثلة في القدس الشريف حيث المسجد الأقصى حملت عنوان “الخطبة النارية” هاجم فيها الحركة الصهيونية هجوماً عنيفاً في القدس، وعدّهم عصابة بشرية غايتها النهب و الاغتصاب من دون أيّة مراعاة للأنظمة الإنسانية الاجتماعية والألفة البشرية.
– أي أنّه كان مناضلا ومجابها لإسرائيل؟
نعم كان مجابها للصهاينة في عقر دارهم؛ حتى هُدّد بالقتل، وفي الثالث من شباط عام 1946م أصدر فتوى نصّت على تحريم بيع الأراضي في فلسطين للصهاينة، لأنّه كان يعرف ماذا سيجري فيما بعد.
– أستاذنا هل هناك في الختام موقف خاص تريدون أن تشيروا إليه يكون مسك ختام حوارنا الشيّق معكم؟
كمسكٍ لختام حوارنا سأنقل لك نصا مما سطّره الشيخ محمد جواد مغنية في وصف الشيخ الزنجاني، يقول: لقد بلغت شهرة الشيخ عبد الكريم الزنجاني حداً أصبح التعريف به من الفضول، فقد نال من عظمة العلم، ودقة الفكر، وبلاغة الخطاب، وسموّ الغاية، ما حمل المفتى الأكبر وشيخ الأزهر والدكتور طه حسين وفريد وجدي و الغلائيني و الأتاسي ومحمد كرد علي و أمثال هؤلاء على أن يحنوا رؤوسهم له إجلالاً وتعظيماً.