الاجتهاد: يُعد محدث الطائفة وجمال الملة والدين، فخر العلماء المحققين، آية الله العظمى الشيخ حسين آل عصفور ت 1216 هـ – قدس سره – «والذي تمر علينا في هذه الأيام ذكرى شهادته.» من المجددين للمذهب الإمامي على رأس الألف والمائتين كما ذكر ذلك العلامة البلادي في أنوار البدرين.
وحركة التجديد في المذهب الشيعي أفصحت عنها مجموعة من الروايات الصريحة منها:
1. عن الإمام الصادق – – عن رسول الله – ﷺ – قال: ”يحمل هذا الدين في كل قرن عدول ينفون عنه تأويل المبطلين“.
2. وقال الشيخ البهائي: ”إن من خواص الشيعة أن لهم على رأس كل مائة سنة من يجدد مذهبهم وكان مجدده على رأس المائتين علي بن موسى الرضا – – وعلى رأس المائة الثالثة محمد بن يعقوب وعلى المائة الرابعة علي بن الحسين المرتجى“
ولم يكن الدور الذي قام به هذا العالم الكبير دوراً عادياً في تاريخ الفقه الشيعي، بل كان دوراً منفرداً في ملامحه وطبيعته ومراحله أعطى للفقه الشيعي نمواً وعمقاً وانتعاشاً تجلى في ابتكاراته العلمية التي طفحت بها استدلالاته الدقيقة وفي سعة تحليله وتقريره للمباني وإحاطته بالأدلة وتبحره في علم الحديث واستدار له الشيء الكثير مما لم يعثر عليه من تقدمه في قوة الاستقصاء والاستقراء والتتبع.
وللتوضيح نقول: أنه لابد أن يملك الفقيه ذوقاً فقهياً سليماً خالياً من التعقيد بعيداً عن التكلف مسترسلاً في فهم الحكم الشرعي، فإن الذوق الشخصي والنظرة العامة التي تتكون لدى الفقيه عن الفقه تؤثر كثيراً في فهمه للأدلة والقواعد ويسمى عادة هذا الذوق بالشم الفقهي. ولا يستغني الفقيه عن هذا الشم الفقهي أو الذوق الفقهي في الاستنباط مهما بلغ علمه بالأصول والقواعد.
ويتكون لدى الفقيه هذا الحس من الإطلاع الواسع على الكتب الفقهية القديمة والمعاصرة ودراسة القرآن والحديث بإمعان ومحاولة تكوين نظرة عامة عن روح هذا الفقه واتجاهه العام.
ومن الطبيعي أن الفقيه لا يتيسر له أن يبلغ هذا المبلغ من العلم والفقاهة دون أن يُمضي أمداً طويلاً في الدراسة والقراءة والتطبيق والمناقشة والإطلاع على الموسوعات القرآنية والحديثية والفقهية لمختلف طبقات المفسرين والمحدثين والفقهاء.
وتاتي حركة التجديد في مدى سعة واحاطة الفقيه في عملية الاستنباط في الفقه الإسلامي التي هي من أهم دوافع التجديد وهي إحدى المؤشرات على دعوة الإسلام لتجديد الفكر الديني وإحيائه من خلال فهم النصوص الإسلامية ودراسة المتغيرات في المفاهيم العامة مع الحفاظ على الثوابت وعدم المساس بجوهرها وقداستها والتعدي على أصولها المقدسة.
وإذا أردنا أن نُدلل على مدى سعة أفق ومكانة الشيخ العلمية في تاريخ الفقه الشيعي فهناك أكثر من شاهد:
1. اختصاصه بعمه فقيه الطائفة الشيخ يوسف آل عصفور البحراني: حيث لازم دروسه كلها وخصوصاً فيزمان اشتهاره وزعامته للطائفة وتصديه للتدريس في كربلاء المقدسة حتى أجازه بإجازة كبيرة اسماها ”لؤلؤة البحرين“ وأوصاه أن يتم الحدائق الناضرة وبالفعل أتمها على نفس النهج والقوة والمتانة العلمية.
ولقد شكلت مدرسة الشيخ يوسف البحراني اتجاهاً خاصاً في بلورة الفقه الاسلامي الذي ينتمي روحا ونصا لمدرسة اهل البيت . بعيدا عن الاتجاهات التي اخذت منحاً مغايرا في عملية الاستنباط والاجتهاد وبذلك يكون المحقق البحراني هو المؤسس لمدرسة البحرين الفقهية التي وضع ملامح منهجها العلمي وخطوطها العريضة في المقدمات الاثنتي عشرة التي قدمها لكتابه «الحدائق الناضرة» واكمل هذاالدور من بعده ابن اخيه، مرجع البحرين وماجورها العلامة الشيخ حسين حيث اعطى هو وعمه المحقق الشيخ يوسف منحا خاصا للهيكلية العلمية الفقهية لهذه المدرسة التي يحلُو لي ان اسميها «بالمدرسة البحرانية».
2. ترك ثلاث دورات علمية في الفقه الإستدلالي: أ. الأنوار اللوامع في شرح مفاتيح الشرائع. ب. الرواشح السبحانية في شرح الكفاية الخرسانية. ج. السوانح النظرية في شرح البداية الحرية.
وفي كل دورة منها تجد تجدداً في افق تفكيره وحركته العلمية واستظهاره للنصوص ومدى قدرته على محاكمة الادلة ومعالجتها.
3. قوة الحافظة التي كان يتمتع بها: ومما يدل على ذلك إملاؤه كتاب النفحة القدسية في ثلاثة أيام على تلامذته من دون سبق ترتيب أو تبويب وقد تعرض لامتحانات من جمع من الفضلاء مراراً لاستكشاف دقة حفظه وعجيب أمره فوجدوا أنه لايسقط كلمة ولا حرفاً.
وكذلك قصته مع السيد محمد الصنديد القطيفي والتي ذكرها صاحب أنوار البدرين الشيخ البلادي: كان يضرب به المثل في قوة الحافظة، حدّثني الشيخ ناصر بن أحمد بن نصر الله القطيفي عمن يثق به أن المترجم أتى بلاد القطيف في سفر حج بيت الله وزيارة النبي وآل بيته «صلوات الله عليهم»، فرأى عند السيد محمد الصنديد كتابًا في الحديث، فطلب منه إعارته لينسخه في سفره، فأبى خوفًا من ضياعه لأنه ليس له نسخة ثانية،
فبقى الكتاب عند الشيخ أيامًا يسيرة مدةمكوثهم في القطيف ثم أعطاه الكتاب وسافر، فلما قضى مناسك حجه وزيارته، رجع مارًّا ببلاد القطيف، فلما اجتمع بالسيّد طلب منه بأن يأتيه بذلك الكتاب، فأتى به إليه فاستخرج نسخة جديدة ليقابله عليه، فقال له السيد: هل وجدت نسخة ونقلته؟ فقال: لا، ولكني تتبّعته وقمت بحفظه وكتبته على حفظي بأبوابه وترتيبه وأسانيده، فتعجّب السيّد والحاضرون جميعًا، وقابلوا النسخة بالكتاب فلم تختلف عنه إلا يسيرًا لا يذكر.
4. جرأته العلمية في تبنيه لمجموعة من المسائل والنظريات العلمية التي تخالف المشهور والإجماع: وماذلك إلاّ دلالة على علو فضله ومكانته العلمية بحيث لا يخشى أن يتجاهر بأراءه ونظرياته وهذا لا يتأتى لكثير من العلماء ولولا ضيق المجال لذكرنا بعض هذه الآراء الفقهية الكثيرة.
ومن الشواهد على ذلك أيضاً تقدير العلماء والفقهاء لمكانته واحترامهم لمقامه ويتجلى ذلك في قصته مع السيد مهدي بحر العلوم:
ذكر العلامة الشيخ باقر آل عصفور: ”أن العلامة الشيخ حسين سافر إلى العتبات المقدسة في العراق لزيارة الأئمة المعصومين وبعد ان انتهى من زيارة سيد الشهداء – – في كربلاء قصد النجف الأشرف لزيارة مرقد الإمام علي – – وقبل وصوله إلى مدينة النجف أعلن آية الله العظمى سيد الطائفة السيد مهدي بحر العلوم – قدس سره – في النجف تعطيل الدرس الذي كان يلقيه على تلامذته وطلب منهم أن يذهبوا إلى منطقة «خان الربع» بين طريق النجف وكربلاء من أجل استقبال علامة البحرين الشيخ حسين آل عصفور البحراني ولكن العلماء استغربوا من إخبار السيد بحر العلوم بمجيء الشيخ ولم تكن تلك الأيام برقيات ولا بريد والاستغراب الآخر الذي استولى عليهم هو وقوف السيد بكل عظمته على رجليه طيلة الاستقبال الحار الذي أبداه لمكانة العلامة الشيخ حسين آل عصفور في منزله في النجف الأشرف،
حيث كان واقفاً على قدميه يستقبل العلماء الذين يدخلون لزيارة الشيخ حسين ولم يجلس مع كونه طاعناً في السن إلاّ أن الشيخ لما وجد هذا الاحترام البليغ والمكلف وهذا التواضع الرفيع من قبل مرجع الطائفة والذي اشتهر بلقاءاته مع صاحب الزمان عجل الله تعالى فرجه الشريف أخذ يلح على السيد بتقليل التكليف على نفسه ولكن السيد أجابه هكذا أمرني مولاي أمير المؤمنين – – الذي أخبرني بقدومك وأمرني باستقبالك وهو الذي طلب مني الوقوف على قدمي لاستقبال ضيوفك“. «الدرة لأحكام الحره». الشيخ باقر العصفور.