الشهيد الثاني

الشيخ زين الدين المعروف بـ”الشهيد الثاني” رمزٌ للوحدة بين المسلمين

الاجتهاد: لم يكن الشيخ زين الدين المعروف بابن الحاجة النحاريري، الشهير ب “الشهيد الثاني” بالعالم المتزمِّت، المعقَّد، الذي يحصر جلّ اهتمامه في تكفير الآخرين وتضليلهم، بل انطلق(ر) يجمع العلم من كلّ حدب وصوب، ثمّ يقيسه بالموازين الشرعيّة الصحيحة، فما وافقها أخذ به، وما خالفها ضرب به عرض الجدار، مع حفظ كامل الاحترام واللياقة في التعامل مع أصحاب تلك الآراء. فهو داعية وحدةٍ إسلاميّةٍ وتعايشٍ إسلاميٍّ، رغم كل الخلافات العَقْديّة والاجتهاديّة.  بقلم الشيخ محمد دهيني 

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على سيِّدنا محمّدٍ، وعلى آله الطيِّبين الطاهرين، وأصحابه المنتَجَبين، وعلى جميع الأنبياء والمرسلين.

الهويّة، الولادة، والشهادة

هو «الشيخ زين الدين بن نور الدين علي بن أحمد بن محمد بن علي بن جمال الدين بن تقي بن صالح بن مشرف العامليّ الشاميّ الطلوسيّ الجبعيّ، المعروف بابن الحاجة النحاريري، الشهير بالشهيد الثاني.

ولد في 13 شوال سنة 911هـ، كما نقله ابن العودي عنه، يوم الثلاثاء. واستشهد يوم الجمعة في شهر رجب سنة 966هـ، كما في نقد الرجال أو 965هـ، كما عن خط ولده الشيخ حسن، وعمره 54 أو 55 سنة.

وعن تاريخ جهان آرا الفارسيّ أنه استشهد يوم الخميس سنة 965هـ، في العشر الأواسط من السنة المذكورة، انتهى. وكانت شهادته قتلاً في طريق إسلامبول، عند قرية تسمى «بايزيد»، فحمل رأسه إلى إسلامبول([1]).

مسيرته العلميّة

«افتتح الشيخ الشهيد الثاني (ر) حياته العلميّة بحفظ كتاب الله العزيز، وقد ختمه سنة 920هـ، وهو في سنّ التاسعة من عمره، وذاك دليلُ موهبةٍ وبراعةٍ وذكاءٍ. ثم اشتغل بعد ذلك بدراسة العربيّة والفقه على يد والده. وكان من جملة ما قرأه عليه «النافع (مختصر الشرائع)»، و«اللمعة الدمشقية». وما أن بلغ الرابعة عشرة من عمره (925هـ) حتّى توفّي والده، فارتحل في طلب العلم، فقضى 8 سنوات في ميس (925هـ…933هـ)، فقرأ على الشيخ علي بن عبد العالي «شرائع الإسلام»، و«الإرشاد»، وأكثر «القواعد»، ثمّ انتقل إلى كرك نوح لفترة لا تزيد عن سنة واحدة (7 أشهر)، وعاد بعد ذلك إلى جبع موطنه الأصليّ، وبقي فيها من 934هـ إلى 937هـ، مشتغلاً بالمطالعة والمذاكرة.

وغادر جبع إلى دمشق الشام (937هـ…938هـ) (لمدّة سنة واحدة)، فدرس فيها القراءات، والحكمة، والطبّ. وعاد إلى جبع من 938هـ…941هـ (3 سنوات فقط).

ثّم ارتحل إلى مصر وأقام فيها ما يقارب السنة والنصف (18شهراً ويومين) (942هـ…943هـ)، وقد درس عند كبار علماء السنّة آنذاك (16 شيخاً)، فدرس عند الحنفيّ (صحيحا البخاريّ ومسلم)، والشافعيّ (الفقه والأصول)، والحنبليّ (صحيحا البخاريّ ومسلم) والمالكيّ (التفسير)، وقد درس في مصر أيضاً العقائد، والهندسة، والهيئة، والمنطق، والمعاني، والنحو، والقراءات.

وانطلق من مصر نحو الحجاز؛ للحجّ والعمرة والزيارة (943هـ).

وعاد إلى جبع من944هـ، «وفيها ابتدأ أمره في الاجتهاد. قال ابن العودي: أخبرني قدس الله لطيفه، وكان في منزلي بجزين، متخفّياً من الأعداء، ليلة الاثنين 11 صفر سنة 965هـ، أن ابتداء أمره في الاجتهاد كان سنة 944هـ، وأن ظهور اجتهاده وانتشاره كان في سنة 948هـ، فيكون عمره لمّا اجتهد 33 سنة، وكان في ابتداء أمره يبالغ في الكتمان»([2]).

ولم يغادر الشيخ الشهيد الثاني جبع إلاّ إلى العراق (946هـ)؛ للزيارة، والملفت أنّه لم يذكر في ترجمة نفسه أنّه التقى خلالها بأحدٍ من علماء النجف الأشرف.

غير أنّ السيّد محسن الأمين(ر) قال في «أعيان الشيعة»: «واجتمع عليه مدّة وجوده هناك فضلاء العراق، وكان منهم السيد شرف الدين السماك العجميّ، أحد تلامذة المرحوم الشيخ علي بن عبد العالي الكركيّ، وأخذ عليه العهد عند قبر الإمام أمير المؤمنين(ع) إلا ما أخبره إن كان مجتهداً، وأقسم له أنه لا يريد بذلك إلاّ وجه الله سبحانه، ثم بعد رجوعه إلى البلاد جاءه منه سؤالات ومباحث وإيرادات، وأجابه عنها بما يقتضيه الحال، وحقق فيها المقال، ورجع الشيخ إلى وطنه في جبع في تلك السنة وأقام فيه إلى سنة 948هـ»([3]).

وفي سنة 948هـ خرج إلى القدس، حيث التقى بالشيخ شمس الدين بن أبي اللطف المقدسيّ، وقرأ عليه بعض صحيح الإمام البخاريّ، وبعض صحيح مسلم، وأجازه إجازةً عامّةً، ثم رجع إلى الوطن الأول المتقدِّم (جبع)، وأقام به إلى أواخر سنة 951هـ، مشتغلاً بمطالعة العلم ومذاكرته مستفرغاً وسعه في ذلك.

وفي آخر 951هـ خرج إلى جهة الروم، مروراً بدمشق، فحلب، وصولاً إلى القسطنطنية، حيث بذل له قاضي العسكر ما يختاره في الشام أو حلب، فاختار المدرسة النوريّة في بعلبك، فكتب له بها السلطان براءةً.

ثمّ عاد إلى وطنه الأصليّ جبع، ولكن بعد أن عرّج على العراق للزيارة. والملفت أيضاً أنّه لم يتعرّض في ترجمة نفسه إلى لقياه مع أحد من علماء النجف الأشرف، أو غيرها. ووصل إلى جبع 953هـ. ثمّ أقام ببعلبك (المدرسة النوريّة) يدرّس في المذاهب الخمسة وكثير من الفنون، وصاحب أهلها ـ على اختلاف آرائهم ـ أحسن صحبة، وعاشرهم أحسن عشرة، وكانت أياماً ميمونةً، وأوقاتاً بهجةً، ما رأى أصحابه في الأعصار مثلها.

قال ابن العودي: كنت في خدمته تلك الأيام، ولا أنسى وهو في أعلى مقام، ومرجع الأنام، وملاذ الخاصّ والعامّ، ومفتي كلّ فرقة بما يوافق مذهبها، ويدرس في المذاهب كتبها، وكان له في المسجد الأعظم بها درس مضافاً إلى ما ذكر، وصار أهل البلد كلّهم في انقياده، ومن وراء مراده، بقلوب مخلصة في الوداد، وحسن الإقبال والاعتقاد، وقام سوق العلم بها على طبق المراد، ورجعت إليه الفضلاء من أقاصي البلاد، انتهى. ثمّ عاد إلى جبع وبقي إلى 955هـ، مشتغلاً بالدرس والتصنيف»([4]).

همّةٌ ونشاطٌ

يلاحظ المتتبِّع لسيرته أنّه كان عالي الهمّة ذكيّاً بارعاً، فتراه يقضي في هذا البلد فترة دراسيّة وجيزة، وإذا به في نهاية المطاف ينال كميّةً كبيرةً من الدروس في مختلف الاختصاصات، ما يعني همّة ونشاطاً متميّزين، بخلاف الشائع بين الطلبة في عصرنا.

وينعكس هذا النشاط أيضاً على حركة عطائه العلميّ، فيحصى له 79 مؤلَّفاً، وهو عدد لا يستهان به بلحاظ ذلك الزمان.

كما ينعكس ذلك في كثرة أسفاره في طلب العلم والاطّلاع والمعرفة.

مع القرآن دائماً

ويلاحظ المتتبِّع لسيرته أيضاً أنّه كان يأنس بالقرآن، ويركن إليه كثيراً، فلطالما كان يلجأ إلى التفؤُّل به، واستكشاف المخبوء من المستقبل من خلاله، ولكن بشكل شخصيّ، وليس عبر الواسطة، كما هو المعروف والشائع هذه الأيّام.

رَوْحٌ وريحانٌ

امتلك الشيخ الشهيد الثاني (ر) نفساً ذوّاقةً، تعشق الجمال، وتأنس به، وترتاح إليه، وهذا ما أكسبه شفافيّةً فائقةً، وحسّاً مرهَفاً.

قال(ر)، يصف وادياً مرّوا فيه في طريقهم إلى القسطنطينية: «ومن غريب ما رأيناه في الطريق بعد مفارقتنا أماسية بأيام أننا مررنا بوادٍ عظيمٍ لم نرَ أحسن منه، وليس فيه عمارة، طوله مسيرة يوم تقريباً، وفيه من سائر الفواكه والثمار بغير مالك، بل هو نبات من الله سبحانه، كغيره من الأشجار البرّيّة، وكذا فيه معظم أنواع المشمومات العطرة والأزهار الأرجة. ومما رأينا فيه: الجوز، والرمان، والبندق، والعنب، والعناب، والتفاح، وأنواع من الخوخ، وأنواع من الكمثري، والزعرور، والقراصيا، حتى أن بعض أشجار القراصيا بقدر شجر الجوز الكبير، بغير حرث ولا سقي، وفيه البرباريس بكثرة.

ورأينا من المشمومات الورد الأبيض، والأحمر، والأصفر، والياسمين الأصفر، والبلسان، والزيزفون، والبان، وكان ذلك الوقت أوان زهرها، وفيه من الأشجار الجيدة العظيمة شجر الصنوبر، والدلب، والصفصاف، والسنديان، والملول، وشجر البلوط، وهذه الأشجار كلّها مختلطة بعضها ببعض، ورأينا فيه أنواعاً كثيرة من الفواكه قد انعقد حبّها ولا نعرف أسماءها، ولا رأيناها قبل ذلك اليوم أبداً. ثم سرنا عنه أيّاماً، وهي من أعجب ما رأينا من أرض الله تعالى، وأحسنها، وأكثرها فاكهة، مجتمعة بعضها ببعض، كأنّها حدائق منضورة بالغرس، لا يدخل بينها أجنبيّ، وفيها أشجار عظيمة طولاً وعرضاً، وربما بلغ طولها مائتي شبر فصاعداً، ودور بعضها يبلغ ثلاثين شبراً فصاعداً، ومررنا في جملة هذا السير على مدن حسنة وقرى جيّدة»([5]).

شوقٌ وحنينٌ

عن أمير المؤمنين عليّ(ع) أنّه قال: «عمرت البلدان بحبّ الأوطان»([6]). وعنه(ع): «من كرم المرء بكاه على ما مضى من زمانه، وحنينه إلى أوطانه، وحفظه قديم إخوانه»([7]).

وقد تميَّز الشيخ الشهيد الثاني(ر) بهذا الحنين الملتهب إلى الوطن، فلا تراه يغادر بلده إلى غيره لفترات وجيزة، حتّى يعود إليه، فيمكث فيه ثلاث سنوات أو أربع، ثمّ يخرج لعلمٍ أو حجٍّ أو زيارةٍ.

دقّةٌ واهتمامٌ

امتاز الشيخ الشهيد الثاني (ر) بدقّة متناهية في حركاته وتصرّفاته، واهتمام منقطع النظير بمسؤوليّاته الحياتيّة والعلميّة والدينيّة، فيتابع ذلك كلّه بنفسه. ومن ذلك تحقيقه في حال القبلة في المشهد العلويّ المبارك في النجف الأشرف، فلم يعتمد على شياع أو شهرة، بل إجماع، وإنّما انطلق بنفسه ليحقِّق، ويدقِّق، ويعدِّل القبلة إلى وجهتها الصحيحة.

«قال ابن العودي: ممّا أخبرني به من الكرامات بعد رجوعه من هذه الزيارة في صفر سنة 956هـ أنه لما حرَّر الاجتهاد في قبلة العراق، وحقَّق حالها، واعتبر محراب جامع الكوفة الذي صلّى فيه أمير المؤمنين(ع)،

ووجد محراب حضرته المقدسة مخالفاً لمحراب الجامع، وأقام البرهان على ذلك، وصلّى فيه منحرفاً نحو المغرب، كما يقتضيه الحال، وقرَّر ما أدّى إليه اجتهاده في ذلك المجال، وسلَّم طلبة العلم ذلك لما اتّضح لهم الأمر، وتخلَّف رجل عن التسليم أعجميّ، يقال له: الشيخ موسى، وانقطع عن ملاقاته؛ لأجل ذلك، ثلاثة أيام،

وأنكر عليه غاية الإنكار؛ لما قد تردَّد إلى تلك الحضرة من الفضلاء الأعيان على تطاول الزمان، خصوصاً الشيخ علي الكركيّ المحقِّق الثاني، وغيره من الأفاضل الذين عاصرهم هؤلاء الجماعة، وهذا هو الموجب لنفوره عمّا حقَّقه الشيخ (قدّس سرّه)،

فلما انقطع الرجل المذكور عنه هذه المدة رأى النبيّ(ص) في منامه، وأنه دخل إلى الحضرة المشرَّفة، وصلى بالجماعة على السمت الذي صلّى عليه الشيخ، منحرفاً كانحرافه، فانحرف معه أناس، وتخلَّف آخرون، فلما فرغ النبيّ(ص) من الصلاة التفت إلى الجماعة،

وقال: كلّ مَنْ صلّى ولم ينحرف كما انحرفت فصلاته باطلة، فلما انتبه الشيخ موسى طفق يسعى إلى شيخنا (قدّس سرّه)، وجعل يقبِّل يديه، ويعتذر إليه من الجفاء والإنكار والتشكيك في أمره، فتعجَّب شيخنا من ذلك، وسأله عن السبب، فقصَّ عليه الرؤيا كما ذكر»([8]).

احترام المذاهب الإسلاميّة الأخرى

لم يكن الشيخ الشهيد(ر) بالعالم المتزمِّت، المعقَّد، الذي يحصر جلّ اهتمامه في تكفير الآخرين وتضليلهم، بل انطلق(ر) يجمع العلم من كلّ حدب وصوب، ثمّ يقيسه بالموازين الشرعيّة الصحيحة، فما وافقها أخذ به، وما خالفها ضرب به عرض الجدار، مع حفظ كامل الاحترام واللياقة في التعامل مع أصحاب تلك الآراء. فهو داعية وحدةٍ إسلاميّةٍ وتعايشٍ إسلاميٍّ، رغم كل الخلافات العَقْديّة والاجتهاديّة.

ومن هنا تلمَّذ(ر) على أيدي جملةٍ كبيرةٍ من علماء أهل السنّة، «وهم 19 شخصاً:

واحد بدمشق هو شمس الدين بن طولون الدمشقي الحنفيّ، وأجيز منه برواية الصحيحين، ورواية كلّ ما يجوز له روايته في شهر ربيع الأول سنة 942هـ. قال ابن العودي: وكنتُ إذ ذاك في خدمته أسمع الدرس، وأجاز لي الشيخ المذكور الصحيحين.

وواحد بغزة، وهو الشيخ محيي الدين عبد القادر بن أبي الخير الغزي، يروي عنه إجازة.

وواحد ببيت المقدس، وهو الشيخ شمس الدين بن أبي اللطف المقدسيّ، وأجازه إجازة عامّة.

وستة عشر بمصر، وهم: الشيخ شهاب الدين أحمد الرملي، قال: قرأت عليه، وأجازني إجازة عامة ممّا يجوز له روايته سنة 943هـ؛ الملا حسين الجرجانيّ؛ الملا محمد الإسترآباديّ؛ الملا محمد الجيلانيّ (ويمكن كون الثلاثة من أصحابنا)؛ الشيخ شهاب الدين بن النجار الحنبليّ؛ الشيخ أبو الحسن البكريّ؛ الشيخ زين الدين الجرمي المالكيّ؛ الشيخ ناصر الدين الملقانيّ المالكيّ؛ الشيخ ناصر الدين الطبلاوي الشافعيّ؛ الشيخ شمس الدين محمد النحاس؛ الشيخ عبد الحميد السمنهودي؛ الشيخ شمس الدين محمد بن عبد القادر الفرضيّ الشافعيّ؛ الشيخ عميرة؛ الشيخ شهاب الدين بن عبد الحق؛ الشيخ شهاب الدين البلقيني؛ الشيخ شمس الدين الديروطي»([9]).

ولم يرَ في ذلك ما يضيره، أو يحطّ من قدره، أو يقلِّل من شأنه، وصفاء فكره، وخلوص عقيدته. بل إنّ من الملفت للنظر أنّه لم يرَ أنّه قد نال ملكة الاجتهاد حتّى أتمّ دراسته عند أهل السنّة، أي في سنة 944هـ. وهذا هو المجتهد حقّاً، يطّلع على أفكار وعلوم الجميع، ثمّ يستخلص منها ما يراه صحيحاً.

ولم يكن هذا التقارب بينه وبين أهل السنّة مرحليّاً أو نفعيّاً، بل كان تقارباً صادقاً، عن قناعة وإيمان وصفاء. وهذا ما ظهر جليّاً حين اختار المدرسة النوريّة في بعلبك مقرّاً له، فأقام فيها يدرّس في المذاهب الخمسة كتبها، ويفتي كلّ فرقة بما يوافق مذهبها. وصاحب أهلها ـ على اختلاف آرائهم ـ أحسن صحبة، وعاشرهم أحسن عشرة، وكانت أياماً ميمونةً، وأوقاتاً بهجة، ما رأى أصحابه في الأعصار مثلها.

مع الحقّ ولو كان مرّاً

ومع كلّ هذا التقارب والتعايش مع أهل السنّة لم يقع الشيخ الشهيد(ر) في دائرة الخوف والخشية والمحاباة، بل بقي ثابتاً على مواقفه العقائديّة والفقهيّة، وإنْ كانت قاسيةً في حقّهم.

فها هو يصرّ على اشتراط الإيمان ـ بالمعنى الخاصّ ـ في إمام الجماعة، فيقول: «والثالث: الإيمان، وهو التصديق بالقلب والإقرار باللسان بالأصول الخمسة بالدليل، وإن كان إجماليّاً، ممَّن لا يعرف شرائط الحدّ والبرهان، فإنّ الأدلة التفصيلية والعلم بشرائط إنتاجها ليست من الواجبات العينيّة، بل الكفائيّة، لدفع شبه الخصوم، وقمع المتغلِّب على الدين بالبراهين، وإنما اعتبر الإيمان لأن غير المؤمن ضالّ فاسقٌ؛ لمخالفته طريق الحقّ، المستند إلى التقصير في النظر، فلا يصلح للإمامة»([10]).

وكذا يشترط الإيمان في مستحقّ الزكاة والخمس، فيقول في مبحث مصرف الزكاة: «يشترط في الأصناف السبعة ـ غير المؤلَّفة ـ الإيمان، فلا يُعطى كافرٌ ولا مخالِفٌ للحقّ»([11])، ويقول في مبحث مصرف الخمس: «ويشترط انتساب الثلاثة [أي اليتامى والمساكين وأبناء السبيل] إلى عبد المطّلب…، وإيمانُهم أو حكمُه…»([12]).

وكذا في كيفيّة الصلاة على الميت، حيث قال: «ثم يكبِّر رابعة، ويدعو للميت إنْ كان مؤمناً، وعليه إنْ كان منافقاً. قيل: وهو هنا الناصب، كما يشهد به بعض العبارات والروايات، كرواية عمار…، واختاره في الذكرى. ويحتمل أن يريد به مطلق المخالف للحقّ، وهو اختيار الدروس.

ويشهد له من الأخبار خبر محمد بن مسلم…. ولا منافاة بين الأخبار؛ لاشتراكها في الدعاء على المخالف، وتأكيده على الناصب. وهو الظاهر. وظاهر العبارة كون الدعاء على هذا القسم واجباً.

ويؤيِّده وروده في الأخبار في كيفية الواجب. وفي الذكرى: الظاهر أن الدعاء على هذا القسم غير واجب؛ لأن التكبير عليه أربع، وبها يخرج من الصلاة، وسيأتي ما يدلّ عليه من الأخبار.

ويدعو عقيب الرابعة بدعاء المستضعفين إنْ كان الميت منهم، والمراد بالمستضعف ـ على ما فسَّره في الذكرى ـ مَنْ لا يعرف الحقّ، ولا يعاند فيه، ولا يوالي أحداً بعينه. وحكى عن الغرية أنه يعرف بالولاء، ويتوقّف عن البراء. وقال ابن إدريس: هو مَنْ لا يعرف اختلاف الناس في المذاهب، ولا يبغض أهل الحق على اعتقادهم.

والكلّ متقارب. ودعاء المستضعفين على ما رواه الفضيل بن يسار، عن أبي جعفر(ع): وإن كان منافقاً مستضعفاً فكبِّر، وقل: اللهم اغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك وقهم عذاب الجحيم. وفي هذا الخبر دلالة على أنّ المنافق هو المخالف مطلقاً؛ لوصفه له بكونه قد يكون مستضعفاً، فكيف يختصّ بالناصب. وعلى أن المستضعف لا بدّ أن يكون مخالفاً، فيقرب حينئذ تفسير ابن إدريس.

كما سقط قول بعضهم: إن المراد به مَنْ لا يعرف دلائل اعتقاد الحقّ، وإن اعتقده، فإن الظاهر كون هذا القسم مؤمناً، وإن لم يعرف الدليل التفصيليّ»([13]).

وفي نفس الوقت نراه يصدح بالحقّ ـ حسب نظره الشريف ـ وإنْ كان مخالفاً للمشهور والمتعارف بين الناس، ومخالفاً لما تهواه الأنفس، وتحميه العصبيّات المذهبيّة. ومن ذلك تصريحه بكون الشهادة الثالثة في الأذان بدعةً،

حيث يقول: «اعلم أنّ الأذان الثاني يوم الجمعة بدعة، ويصلي الظهرين بأذان وإقامتين، سواءٌ صلّى في أوّل الوقت أم لا، كيف كان، ولا يقول في خلال الأذان والإقامة: أشهد أنّ عليّاً وليّ الله، وإذا قال: أشهد أنّ محمّداً رسول الله لا يقول: صلّى الله عليه وآله وسلّم؛ لأنّ الأذان المعهود هو مورد النصّ»([14]). ويقول أيضاً: «وأمّا إضافة «أن عليّاً وليّ الله»، و«آل محمد خير البريّة»، ونحو ذلك، فبدعةٌ، وأخبارها موضوعةٌ، وإنْ كانوا خير البريّة؛ إذ ليس الكلام فيه، بل في إدخاله في فصول الأذان المتلقّى من الوحي الإلهيّ، وليس كلّ كلمة يسوغ إدخالها في العبادات الموظَّفة شرعاً»([15]).

شاهدٌ وشهيد

وكما في كلّ زمان، وكما هو ديدن الطغاة والجهلة مع الواعين والمصلحين، لم يرُقْ للسلطة الغاشمة ـ السياسيّة والدينيّة ـ آنذاك أن يلمع نجم الشيخ الشهيد أكثر فأكثر، وأن يصبح ملاذاً لجميع المسلمين، بعيداً عن العصبيّة المذهبيّة، والتشتُّت، والفرقة، فإنّ ذلك يتعارض مع مصالحهم وخططهم السلطويّة الآثمة، تحت شعار: «فرِّقْ تسُدْ»،

فسعى به قاضي صيدا، واسمه معروف، و«كتب القاضي إلى سلطان الروم: إنه قد وُجد ببلاد الشام رجلٌ مبدعٌ، خارجٌ عن المذاهب الأربعة، فأرسل السلطان رجلاً في طلب الشيخ، وقال له: ائتني به حيّاً، حتّى أجمع بينه وبين علماء بلادي، فيبحثوا معه، ويطَّلعوا على مذهبه، ويخبروني، فأحكم عليه بما يقتضيه مذهبي، فجاء الرجل، فأُخبر أن الشيخ توجَّه إلى مكة، فذهب في طلبه، فاجتمع به في طريق مكة، فقال له: تكون معي حتّى نحج بيت الله، ثمّ افعل ما تريد، فرضي بذلك، فلما فرغ من الحجّ، سافر معه إلى بلاد الروم، فلما وصل إليها رآه رجل، فسأله عن الشيخ،

فقال: هذا رجل من علماء الشيعة، أريد أن أوصله إلى السلطان، فقال: أَوَما تخاف أن يخبر السلطان بأنك قد قصَّرت في خدمته، وآذيته، وله هناك أصحاب يساعدونه، فيكون سبباً لهلاكك، بل الرأي أن تقتله،

وتأخذ رأسه إلى السلطان، فقتله في مكان على ساحل البحر، وكان هناك جماعة من التركمان فرأوا في تلك الليلة نوراً ينزل من السماء ويصعد، فدفنوه هناك، وبنوا عليه قبة، وأخذ الرجل رأسه إلى السلطان، فأنكر عليه، وقال: أمرتك أن تأتيني به حيّاً، فقتلته، وسعى السيد عبد الرحيم العباسي، الذي كان الشهيد الثاني قرأ عليه في سفره إلى إسلامبول، في قتل ذلك الرجل، فقتله السلطان.

وفي رواية أخرى: إن جماعة من السنّيّين قالوا لرستم باشا الوزير الأعظم للسلطان سليمان ملك الروم: إن الشيخ زين الدين يدّعي الاجتهاد، ويتردَّد إليه كثير من علماء الشيعة، ويقرأون عليه كتب الإمامية، وغرضهم بذلك إشاعة التشيُّع، فأرسل رستم باشا الوزير في طلب الشيخ زين الدين، وكان وقتئذ بمكة المعظمة، فأخذوه من مكة([16])، وذهبوا به إلى إستانبول، فقتلوه فيها، من غير أن يعرضوه على السلطان سليمان، انتهى.

ومهما يكن من أمر فإنّ السبب في شهادته لا يخرج عن التشيُّع»([17]).

رحم الله الشيخ الشهيد، وأسكنه الفسيح من جنّته، فإنّه عاش مجدّاً، مجتهداً، مبلِّغاً رسالة ربِّه، صابراً على الأذى في جنبه، محتسباً الأجر والثواب من عنده، وقضى شهيداً مظلوماً من الأقربين والأبعدين، فحشره الله مع النبيّين والصدّيقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً. وآخرُ دعوانا أن الحمدُ لله ربِّ العالمين.

الهوامش

([1]) السيّد محسن الأمين، أعيان الشيعة 7: 143، تحقيق: حسن الأمين، دار التعارف للمطبوعات، بيروت، 1403هـ ـ 1983م.

([2]) أعيان الشيعة 7: 149.

([3]) أعيان الشيعة 7: 149.

([4]) رسائل الشهيد الثاني (ترجمة الشهيد بقلمه الشريف) 2: 863 ـ 883، تحقيق: مركز الأبحاث والدراسات الإسلاميّة ـ قسم إحياء التراث الإسلاميّ، بوستان كتاب، قم، الطبعة الأولى، 1422هـ ـ 1380هـ. ش.

([5]) رسائل الشهيد الثاني (ترجمة الشهيد بقلمه الشريف) 2: 873 ـ 874.

([6]) ابن شعبة الحرانيّ، تحف العقول عن آل الرسول(ص): 207، تصححي وتعليق: علي أكبر الغفاري، مؤسّسة النشر الإسلامي، قم، الطبعة الثانية، 1404هـ ـ 1363هـ. ش.

([7]) أبو الفتح الكراجكيّ، كنز الفوائد (الطبعة الحجريّة): 34، مكتبة مصطفوي، قم، الطبعة الثانية، 1369هـ. ش؛ أبو الفتح الكراجكيّ، معدن الجواهر ورياضة الخواطر: 50، تحقيق: السيد أحمد الحسيني، الطبعة الثانية، 1394هـ. ش.

([8]) أعيان الشيعة 7: 149.

([9]) أعيان الشيعة 7: 153.

([10]) الشهيد الثاني، روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان 2: 967، تحقيق: مركز الأبحاث والدراسات الإسلاميّة ـ قسم إحياء التراث الإسلاميّ، بوستان كتاب، قم، الطبعة الأولى، 1422هـ ـ 1380هـ. ش.

([11]) الشهيد الثاني، فوائد القواعد: 263، تحقيق: مركز الأبحاث والدراسات الإسلاميّة ـ قسم إحياء التراث الإسلاميّ، مركز النشر التابع لمكتب الإعلام الإسلاميّ.

([12]) فوائد القواعد: 282.

([13]) روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان 2: 816.

([14]) رسائل الشهيد الثاني (ترجمة الشهيد بقلمه الشريف) 2: 1193.

([15]) روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان 2: 646.

([16]) وهي البلدة الحرام، التي يحرم الاعتداء فيها على الحيوان، فضلاً عن بني البشر. وقد أُسِرَ(ر) في المسجد الحرام بعد فراغه من صلاة العصر وهو طائف حول الكعبة وأخرجوه إلى بعض دور مكة وبقي محبوساً هناك شهراً وعشرة أيام.

([17]) أعيان الشيعة 7: 157.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Slider by webdesign

Clicky